تقدم لكم أسمى التهاني والتبريكات بمناسبة يوم عيد الغدير، يوم إكمال الدين وإتمام النعمة، يوم استخلاف أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبٍلَ النبي الأعظم لهداية الناس والولاية من بعده، ونصبه عَلَماً وإماماً للناس، ولنقدّم لكم مقالة في هذا المجال عسى أن تنفعنا وإيّاكم في ديننا ودنيانا بمنّ الله وكرمه، ونسأل الله تعالى أن يبارك هذا اليوم على جميع المسلمين، وأن يرزقهم الأمن والإيمان والرفاهية والرخاء والنجاة من كيد الكافرين والمستكبرين، سيّما الشعب الفلسطيني المظلوم.
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ).
حيث كان الرسول الأعظم صلي ا.. عليه و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستعدّ لوداع الكعبة في آخر زيارة لها وكانت اُمّته بكاملها تستعدّ لتودّع نبيّها الحبيب، وحيث توافد المسلمون زرافات ووحداناً على مكّة، بعد الإعلان عن تلك الحجّة المباركة، ليكونوا في ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر مناسك يقوم بأدائها.
في هذا الزمان وهذا المكان نزلت آية التبليغ، تقول: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ).
فما هو هذا الأمر الذي أنزل الآن إلى النبيّ من ربّه؟
أليس الرسول صلي ا.. عليه و آله قد صدع بالوحي، منذ نزوله في مكّة قبل ثلاث وعشرين عاماً وحتّى اليوم؟ وقد تحمّل في سبيل تبليغ الرسالة من الأذى ما لم يتحمّله نبيٌّ قبله؟
فما هو هذا الأمر الذي تقابل به الرسالة كلّها على عظمتها وثقلها، فلم يكن النبيّ صلي ا.. عليه و آله مبلِّغاً لها إن لم يبلّغ هذا الأمر؟
ثمّ هل في تبليغ هذا الأمر من الخطورة والشرّ والتخوّف على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) من جرّائه ما لم يكن في تبليغ كلّ الرسالة على مخاطرها حتّى احتاج إلى عصمة الله له؟
ومن هم الناس الذين يخاف منهم على الرسول صلي ا.. عليه و آله في هذا الزمان، وهو في مكّة بين أصحابه؟
لم يعهد من التأريخ أن سجّل في حجّة الوداع حدثاً هامّاً، ولا تبليغاً من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمر خطير ـ بعد نزول تلك الآية ـ ليكون تفسيراً عينيّاً لها، وإجابة واضحة لما أُنزل على الرسول صلي ا.. عليه و آله من ربّه، وكُلّف بتلك الشدّة بتبليغه سوى ما صدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الثامن عشر من ذي الحجّة من ذلك العام.
حيث نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الاِْسْلاَمَ دِيناً).
إنّ ذلك اليوم هو يوم الغدير، يوم أعلن البارئ عزّ اسمه فيه عن إكمال الدين وإتمام النعمة، وأفصح عن رضاه بالإسلام ديناً للناس، يوم نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين عليّاً (عليه السلام) خليفةً وإماماً ووليّاً من بعده على المسلمين لاُمور الدنيا والدين.
ومنذ ذلك اليوم، والغدير يحتلّ موقعاً عميقاً في وجدان المسلمين، يختمر في ضمائرهم، ويشكّل ركناً من عقيدتهم، ويشارك في تفسير الكتاب، ورواية الحديث والسنّة، وتكوين الأدب والتراث، ويحدّد معالم من التاريخ والحضارة، ويميّز لجماعات من مسلمي العالم مسيرهم ومصيرهم.
كان يوم الغدير أعظم مجمع على الأرض في الإسلام، حيث كان مفترق قوافل الحجّاج العائدين من آخر حجّة مع آخر رسول، في رجوعهم من حجّة الوداع، حيث اجتمع أكبر عدد من المسلمين المتشوّقين لمسائرة ركب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ، لينالوا من فيض صحبته المباركة في تعظيم شعائر الله في ذلك المنسك التاريخي.
فلمّا شايعوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق العودة خارجاً من مكّة إلى المدينة، جمعهم على مفترق الطرق، قبل تشتّتهم، وخطب في جمعهم الحاشد، مبلِّغاً ما اُنزل إليه من ربِّه ذلك البلاغ الإلهي، الذي لو لم يفعله لم يكن مبلِّغاً لشيء من الرسالة الإسلامية، على عظمتها، وأبعادها، وأتعابها، ومشاقّها، وأهدافها، فذلك البلاغ إذن هو البيان الختامي للرسالة الإسلامية التي صدع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأدائها، فهو جامع لأهمّ ما في تلك الرسالة من مقوّمات الوجود والاستمرار.
ذلك هو بلاغ ولاية الامر، يوم الغدير، في زمانه ومكانه ومحتواه، ولم يكن الغدير مناسبةً مؤقّتةً محدودة، ولا شعلة مؤجّجة تؤول إلى الخمود، ولا شمساً بازغة تصير إلى الأفول، ولا برقاً يتألّق ثمّ ينطفئ فيعقبه ظلام دامس، بل الغدير منطلق لأمواج النور على حياة البشرية، امتداداً للفجر الإسلامي، الذي ليس له ضحى ولا ظهر ولا عصر، ولا ليل.
ولقد أخذ الغدير من اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قسطاً كبيراً في يومه الأوّل، فجابَه به كلّ التهديدات التي كانت تعترضه والتي وعده الله بالعصمة من أصحابها، وتحمّل عناء الموقف، وخطب تلك الخطبة الجامعة الغرّاء في حرّ الهجير، وقام بتتويج الأمير، وأخذ له البيعة من كلّ الحاضرين، وأتمّ الحجّة على الجمع أجمعين.
ثمّ وقع الغدير موقع العناية من علماء الفريقين، ولنكتفي في هذه المقالة بما رواه علماء السنّة في هذا المجال في كتبهم، ثمّ نبحث باختصار في سند حديث الغدير ودلالته بعون الله تعالى.
روى أحمد بن حنبل في مسنده ج4 ص281 الحديث وهذا لفظه، قال البراء: كنّا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فنزلنا بغدير خمّ، فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت شجرتين، فصلّى الظهر وأخذ بيد عليّ (عليه السلام) فقال: ألستم تعلمون أنّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد عليّ (عليه السلام) فقال: مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه اللّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، قال: فلقيه عمر بعد ذلك فقال له: هنيئاً لك يابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة. ثمّ قال أبو عبد الرحمن ـ وهو أحمد بن حنبل ـ: حدّثنا هدبة، وساق السند إلى أن قال: عن البراء بن عازب عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نحوه، وذكر المتّقي أيضاً في كنز العمّال ج6 ص397 مثل حديث أحمد بن حنبل، وقال: أخرجه ابن أبي شيبة، وذكر المحبّ الطبري أيضاً في الرياض النضرة ج2 ص169 مثل حديث أحمد بن حنبل، وقال: أخرجه أحمد في مسنده، وأخرجه في المناقب من حديث عمر، وزاد بعد قوله: «وعادِ من عاداه»: وانصر من نصره، وأحبّ من أحبّه، قال شعبة: أو قال: وابغض مَنْ أبغضه.
روى الحاكم في «مستدرك الصحيحين ج3 ص109 بسنده عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال: لمّا رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حجّة الوداع ونزل «غدير خمّ» أمر بدوحات فقممن، فقال: كأنّي دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تعالى وعترتي، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض، ثمّ قال: إنّ الله عزّوجلّ مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن، ثمّ أخذ بيد عليّ فقال: «مَنْ كنت مولاه فهذا وليّه، اللّهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه».
ثمّ قال الحاكم بعد ذكر الحديث بطوله: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ثمّ قال: شاهده حديث سلمة بن كهيل عن أبي الطفيل أيضاً صحيح على شرطهما، فساق السند وذكر الحديث عنه أيضاً، وروى الحديث بطرق متعدّدة. وكثيرٌ من رواة العامّة وأهل السنّة أيضاً رووا الحديث بطوله منهم: السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل قوله تعالى: (النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، والفخر الرازي في تفسيره الكبير في ذيل قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ)، وأبو نعيم في حلية الأولياء ج5 ص26. والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج8 ص290 وج12 ص343، والنسائي في خصائصه ص21 و22 و23 و25 و26، وابن حجر في الصواعق المحرقة ص25، والمتقي في كنز العمّال ج1 ص48، وابن حجر في الإصابة في موارد متعدّدة منها: ج1، القسم 1، ص319، وج2، القسم 1 ص57، وج3، القسم1 ص29، وج4، القسم 1 ص16، وج4، القسم1 ص14، وج4، القسم 1 ص143 و169 و182 وج7، القسم 1 ص156، وكذلك في أسد الغابة ومشكل الآثار، وفيض القدير، والمجمع للهيثمي وغيرها من الكتب، ومن أراد الأحاديث بطولها فليراجع ما أدرجه العلاّمة الأميني قدّس سرّه الشريف في كتابه الشريف المسمّى بـ «الغدير».
وأمّا شأن نزول آية التبليغ وآية إكمال الدين فلنقتصر في ذلك على روايات رواها أيضاً أهل السنّة في كتبهم.
1 ـ روى الخطيب البغدادي في كتاب تاريخ بغداد ج8 ص290 بسنده عن أبي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستّين شهراً، وهو يوم غدير خمّ لمّا أخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: ألست وليّ المؤمنين؟ قالوا: بلى يارسول الله، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فقال عمر بن الخطّاب: بخٍّ بخٍّ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم، فأنزل الله: «اليوم أكملت لكم دينكم» ثمّ رواه الخطيب بطريق آخر مثله.
2 ـ روى السيوطي في الدرّ المنثور في ذيل تفسير قوله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم» في سورة المائدة، ذكر عن ابن مردويه، وابن عساكر كلاهما عن أبي سعيد الخدري قال: لمّا نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليّاً يوم غدير خم فنادى له بالولاية هبط جبرئيل عليه بهذه الآية: «اليوم أكملت لكم دينكم».
3 ـ وذكر أيضاً عن ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أبي هريرة قال: لمّا كان يوم غدير خمّ وهو يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة قال النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) : من كنت مولاه فعليّ مولاه، فأنزل الله: «اليوم أكملت لكم دينكم».
4 ـ وروى الواحدي في أسباب النزول ص150 والفخر الرازي في تفسيره في ذيل آية التبليغ أيضاً ذلك.
وأمّا سند الرواية فهو في أعلى مرتبة من الصحّة والقوّة، فإنّه حديث متواتر قد رواه أعاظم الصحابة وأجلاّؤهم، منهم: عليّ (عليه السلام) ، وعمّار، وعمر، وسعد، وطلحة، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وأبو أيّوب، وبريدة الأسلمي، وأبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، وحذيفة بن أسيد، وجابر بن عبدالله، وجابر بن سمرة، وابن عبّاس، وابن عمر، وعامر بن ليلى، وحبشي بن جنادة، وجرير البجليّ، وقيس بن ثابت، وسهل بن حُنيف، وخزيمة بن ثابت، وعبيدالله بن ثابت الأنصاري، وثابت بن وديعة الأنصاري، وأبو فضالة الأنصاري، وعبيد بن عازب الأنصاري، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وحبيب بن بديل، وهاشم بن عتبة، وحبّة بن جدين، ويعلى بن مرّة، ويزيد بن شراحبيل الأنصاري، وناجية بن عمرو الخزاعي، وعامر بن عمير، وأيمن بن نابل، وأبو زينب، وعبد الرحمن بن عبد ربّ، وعبد الرحمن بن مدلج، وأبو قدامة الأنصاري، وأبو جنيدة جندع بن عمرو بن مازن، وأبو عمرة بن محصن، ومالك بن الحويرث، وعمارة وعمرو ذي مرّ، و غيرهم خلقٌ كثير ممّن روى حديث الغدير.
وذكر ابن حجر في تهذيب التهذيب ج7 ص337 أسامي جملة من الصحابة ممّن روى حديث الغدير ثمّ قال في الصفحة 329: وقد جمع ابن جرير الطبري حديث الموالاة في مؤلَّف فيه أضعاف من ذكر وصحّحه، ثمّ قال: واعتنى بجمع طرقه أبو العبّاس بن عقدة، فأخرجه من حديث سبعين صحابيّاً أو أكثر.
وقال في فتح الباري ج8 ص76: وأمّا حديث «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه» فقد أخرجه الترمذي والنسائي وهو كثير الطرق جدّاً، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد، وكثير من أسانيدها صحاح وحِسان.
وذكر القندوزي في ينابيع المودّة في الباب الرابع ما يلي: وفي المناقب أخرج محمّد بن جرير الطبري صاحب التاريخ خبر غدير خمّ من خمسة وسبعين طريقاً وأفرد له كتاباً سمّاه كتاب الولاية، ثمّ قال أيضاً: أخرج خبر غدير خمّ أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، وأفرد له كتاباً وسمّاه «الموالاة» وطرقه من مائة وخمسة طريق، ثمّ قال: وحكى العلاّمة عليّ بن موسى بن عليّ بن محمد أبي المعالي الجويني الملقّب بإمام الحرمين ـ استاد أبي حامد الغزالي ـ يتعجّب ويقول: رأيت مجلّداً في بغداد في يد صحّاف فيه روايات خبر غدير خمّ مكتوباً عليه: «المجلّدة الثامنة والعشرون» من طرق قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعليّ مولاه» ويتلوه المجلّدة التاسعة والعشرون، هذا سند الحديث.
وأمّا دلالة الحديث فهي أيضاً في أعلى مراتب الظهور بعد ملاحظة القرائن المحفوفة به الحاليّة والمقاليّة.
توضيحه: أنّ للفظ المولى في اللغة معان متعدّدة، كالمالك، والعبد، والمعتق، والمحبّ، والجار، والحليف، والعصبة، ومنه قوله تعالى: «وإنّي خفت الموالي من ورائي» قيل: سمّوا بذلك لأنّهم يلونه في النسب من الولي وهو القرب.
ومن معانيه أيضاً: «الناصر» قيل: ومنه قوله تعالى: «ذلك بأنّ الله مولى الذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم».
والصديق، قيل: ومنه قوله تعالى: «يوم لا يُغني مولى عن مولى شيئاً» أي صديق عن صديق، إلى غير ذلك.
ومن أكمل معانيه وأتمّها، بل ومن أشهرها وأظهرها هو الأولى بالإنسان من نفسه، فالمولى بهذا المعنى يطلق على كلّ عال ذي مقام شامخ مطاع أمره نافذ حكمه، فتقول له: أنت مولاي، أي أولى بي من نفسي، بل وبهذا المعنى يطلق أيضاً على مالك الرقبة، إذ هو المتصرِّف في أموره وشؤونه.
وبالجملة: المراد بالمولى الواقع في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الغدير ليس إلاّ الأولى بهم من أنفسهم الذي هو عبارة أخرى عن الإمام والأمير، وذلك بشهادة قرائن قطعية نذكرها فيما يلي:
منها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فبعد ما قال أصحابه: بلى، قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، فتفريعه (صلى الله عليه وآله وسلم) قول: من كنت مولاه، على قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم دليل واضح على كون المولى هنا بمعنى الأولى بهم من أنفسهم، وإلاّ لكان قوله: «ألست أولى» لغواً جدّاً، هذا مع أنّ في كثير من طرق الحديث التفريع بالفاء صريحاً، مثل قوله: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه، وهذا أظهر وأصرح في التفريع كما لا يخفى.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض طرق الحديث: إنّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين وأولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا مولاه، يعني عليّاً (عليه السلام) ، فجعل (صلى الله عليه وآله وسلم) كلمة «أولى بهم من أنفسهم» بياناً لقوله: وأنا مولى المؤمنين ومفسِّراً لمعناه، فهذا أيضاً دليل واضح على كون المراد من «مولى» هنا هو أولى بهم من أنفسهم.
ومنها: تصريحه في بعض طرقه بلفظ «أولى به من نفسه» كما في حديث كنز العمّال والهيثمي الذي قال فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) : «من كنت أولى به من نفسه فعليّ وليّه» فإنّ ذلك أيضاً دليل واضح على أنّ المراد من المولى في بقيّة طرق الحديث هو الأولى به من نفسه.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض طرقه الممزوج بحديث الثقلين رواه في كنز العمّال ج1 ص48 ولفظه ما يلي: إنّه لم يعمّر نبيّ إلاّ نصف عمر الذي يليه من قبله، أو قال: إنّي لا أجد لنبيّ إلاّ نصف عمر الذي كان قبله، وانّي يوشك أن أُدعى فأجيب، أو إنّي قد يوشك أن أدعى فأُجيب، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون. فإنّ هذا كلّه من أقوى الأدلّة على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن إلاّ في مقام الوصية والاستخلاف وتعيين الإمام من بعده، كي يأتمّ به الناس ويهتدوا بهداه ويقفوا أثره، ولا يتركهم سدىً أتباع كلّ ناعق، لا بصدد بيان أنّ من كنت محبّه أو ناصره أو نحو ذلك من المعاني فعليّ محبّه وناصره، فإنّ إرادة مثل هذه المعاني ممّا لا يحتاج إلى ذكر قرب موته ودنوّ أجله (صلى الله عليه وآله وسلم) .
ومنها: أنّ فعل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ومجموع ما صدر منه في ذلك اليوم ـ أي يوم غدير خم ـ مع قطع النظر عن كلّ قرينة لفظيّة هو أقوى دليل وأعظم شاهد على أنّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بصدد نصب الإمام والخليفة من بعده، وأنّ المراد من المولى هو الأولى بهم من أنفسهم لا بمعنى آخر.
توضيحه: أنّا إذا تأمّلنا نزوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك الموضع بعد منصرفه من آخر حجّة له في يوم ما أتى عليه ولا على أصحابه أشدّ حرّاً منه ـ كما في رواية الحاكم عن زيد بن أرقم ـ ووقوفه للناس حتّى ردَّ من سبقه، ولحقه من تخلّف ـ كما في رواية النسائي عن سعد ـ حتّى اجتمع إليه الناس جميعاً، وأمر بدوحات عظام فكنس تحتهنّ، ورشّ وظلّل له بثوب ـ كما في أغلب روايات زيد ـ ثمّ عمّم عليّاً (عليه السلام) بما يعتم به الملائكة ـ كما في مسند أبي داود، وكنز العمّال، وأسد الغابة، والرياض النضرة ـ ثمّ أخذ بيد عليّ (عليه السلام) ـ بعدما خطب الناس ونبّههم بقرب موته ودنوّ أجله ـ حتّى رفع عليّاً (عليه السلام) ونظر الراوي إلى آباطهما ـ كما في رواية ابن حجر في الإصابة عن حبّة بن جوين ـ ثمّ نزل: «اليوم أكملت لكم دينكم» بل ونزل قبله: «يا أيّها الرسول بلِّغ ما أُنزل إليك».
إذا تأمّلنا في ذلك كلّه لرأينا أنّ ذلك كلّه ليس إلاّ وصيّة واستخلافاً من النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنّه كان بصدد تعيين الإمام من بعده و تفهيم الناس أنّ المقتدى لهم عليّ (عليه السلام) ، لا أنّ من كنت محبّه أو ناصره فعليّ محبّه وناصره.
وممّا يؤكّد ذلك أيضاً قول أبي بكر وعمر لعليّ (عليه السلام) ـ بعدما سمعا قول النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ: أمسيت يابن أبي طالب مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، أو قول عمر: بخٍّ بخٍّ لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم، أو: هنيئاً لك يابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة، فإنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لم يكن قد أنشأ وأوجد بفعله وقوله ذلك لعليّ (عليه السلام) منصباً جديداً لم يكن ثابتاً له من قبل لما قالا له: أمسيت، أو أصبحت مولى كلّ مؤمن ومؤمنة ونحو ذلك، فإنّ مثل هذا التعبير لا يُقال إلاّ عند حصول منصب جديد حادث، وإلاّ فعليّ (عليه السلام) كان محبّاً لمن كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) محبّاً له، أو ناصراً لمن كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ناصراً له من قبل هذا.
كما يؤيّد كلّ ما ذكرنا إنكار الحارث بن النعمان الفهري على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «إنّك أمرتنا بكذا وكذا فقبلنا، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضّله علينا» وذلك لأنّ النبيّ قد استخلف عليّاً بفعله وقوله ذلك وعيّنه إماماً للناس من بعده، فضاق بذلك صدر الحارث بن النعمان وأمثاله، فاعترض على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال الله تعالى في حقّه (لا ينطق عن الهوى إنّ هو إلاّ وحي يوحى) فأجابه بأنّه من الله، فلم يرَ الحارث بُدّاً إلاّ أن يدعو على نفسه فدعا ونزل العذاب عليه حتّى أهلكه الله، فلو كان مقصود النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هو تبليغ الناس أنّ من كنت محبّه أو ناصره أو نحو ذلك من المعاني التي قدّمناها لم يكن الأمر ذا أهمّية بهذه المثابة حتّى يضيق صدر الحارث بذلك ويدعو على نفسه ويهلكه الله.
وقضية الحارث وهلاكه رواه الشبلنجي في نور الأبصار ص71، والمناوي في فيض القدير ج6 ص217.
والحمد لله أوّلاً وآخراً، جعلنا الله وإيّاكم من شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) والمقتدين بهداه ورزقنا الله شفاعته وشفاعة أولاده المعصومين يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون.