(الصفحة61)
ممّا لم يقل به أحد من العامّة ، بل قال أبو حنيفة بأنّهما ثمان ركعات ، أربع قبل الفريضة ، وأربع بعدها ; ومنهم من قال بأنّها ركعتان من قيام(1) . ولعلّه لما ذكرنا قال الشهيد الثاني في الروضة بعد الفتوى بجواز القيام : إنّ الأصل فيهما الجلوس(2) .
ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين القائلين بجواز القيام ، في أنّ ركعتي القيام هل تعدّان أيضاً بركعة أم لا؟ واعترض عليهم كاشف اللّثام(3) بأنّه لا معنى لعدّ الركعتين من قيام بركعة منه ; وهو إشكال جيّد . وحينئذ فيتحقّق التنافي بينه وبين الروايات الكثيرة الدالّة على أنّ مجموع الفرائض والنوافل إحدى وخمسون ركعة ، وقد عرفت تسالم الأصحاب على مضمونها من زمان الإمام الرضا(عليه السلام) ، فلا محيص عمّا ذكرناه .
الأمر الرابع : سقوط الوتيرة في السفر
لا إشكال ولا خلاف في سقوط نافلة الظهرين في السفر ، وعدم سقوط نافلة الصبح والمغرب(4) ، وإنّما الإشكال والخلاف في نافلة العشاء ، أعني الوتيرة ، وأنّه هل تسقط في السفر أم لا؟ المشهور بين الإماميّة سقوطها(5) ، بل ادّعى في السرائر
(1) فتح العزيز 4 : 217 ; المغني لابن قدامة 1 : 798 ; المجموع 4 : 8 ; المعتبر 2 : 12 ; تذكرة الفقهاء 2 : 262 مسألة 3 .
(2) الروضة البهيّة 1 : 169 .
(3) كشف اللثام 3 : 13 .
(4) مفتاح الكرامة 2 : 10 ; جواهر الكلام 7 : 44 ـ 45 ; كشف اللثام 3 : 15 ; مستند الشيعة 5 : 433 .
(5) المقنعة : 91 ; المبسوط 1 : 71 ; المعتبر 2 : 15 ; تذكرة الفقهاء 2 : 272 ; مفتاح الكرامة 2 : 10 ; كشف اللثام 3 : 15 ; جواهر الكلام 7 : 44 ; مستند الشيعة 5 : 433 .
(الصفحة62)
والغنية الإجماع(1) ، وقال الشيخ(قدس سره) وبعض آخر بالثبوت(2) ، ومنشأ الخلاف ، اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب ، ويدلّ على السقوط روايات كثيرة .
منها : رواية عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء إلاّ المغرب ثلاث»(3) . فإنّها تدلّ بإطلاقها على سقوط الوتيرة أيضاً .
ومنها : رواية حذيفة بن منصور عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) أنّهما قالا : «الصلاة في السفر ركعتان ; ليس قبلهما ولا بعدهما شيء»(4) ، ورواية أبي بصير عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء إلاّ المغرب ، فإنّ بعدها أربع ركعات ، لا تدعهنّ في سفر ولا حضر ، وليس عليك قضاء صلاة النهار ، وصلّ صلاة الليل واقضه»(5) .
ومنها : رواية أبي يحيى الحنّاط قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة النافلة بالنهار في السفر؟ فقال : «يا بنيّ! لو صلحت النافلة في السفر تمّت الفريضة»(6) . وموردها وإن كان خصوص صلاة النافلة بالنهار إلاّ أن عموم التعليل الواقع في الجواب يقتضي سقوط نافلة العشاء أيضاً كما هو واضح .
وأمّا ما يدلّ على عدم السقوط ، فرواية الفضل بن شاذان عن الرضا(عليه السلام) في
(1) السرائر 1 : 194 ; الغنية : 106 ـ 107 .
(2) النهاية : 57 ; المهذّب 1 : 68 ; الذكرى 2 : 298 ; الروضة البهيّة 1 : 171 .
(3) التهذيب 2 : 13 ح31 ; الاستبصار 1 : 220 ح778 ; الوسائل 8 : 505 . أبواب صلاة المسافر ب16 ح2 .
(4) التهذيب 2 : 14 ح34 ; المحاسن : 371 ح128 ; الوسائل 8 / 504 . أبواب صلاة المسافر ب16 ح1 .
(5) الكافي 3 : 439 ح3 ; التهذيب 2 : 14 ح36 ; الوسائل 4 : 83 . أبواب أعداد الفرائض ب21 ح7 .
(6) الفقيه 1 : 285 ح293 ; التهذيب 2 : 16 ح44 ; الإستبصار 1 : 221 ح780 ; الوسائل 4 : 82 . أبواب أعداد الفرائض ب21 ح4 .
(الصفحة63)
حديث قال : «وإنّما صارت العتمة مقصورة ، وليس نترك ركعتيها ، لأنّ الركعتين ليستا من الخمسين ، وإنّما هي زيادة في الخمسين تطوّعاً ، ليتمّ بهما بدل كلّ ركعة من الفريضة ركعتان من التطوّع»(1) ; ويشعر بذلك رواية محمّد بن مسلم عن أحدهما(عليهما السلام)قال : سألته عن الصلاة تطوّعاً في السفر؟ قال : «لا تصلِّ قبل الركعتين ولا بعدهما شيئاً نهاراً»(2) .
ولا يخفى أنّ هاتين الروايتين أخصّ من الروايات الدالّة بعمومها على السقوط ، فاللاّزم تخصيصها بهما والقول بسقوط نافلة الصلوات المقصورة في السفر إلاّ الوتيرة ; إلاّ أنّه وقع في طريق رواية فضل بن شاذان ، عبدالواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري ، وعلي بن محمّد بن قتيبة ، ولم يثبت وثاقتهما ، قال المحقّق الأردبيلي : لو لم يكن في المسألة إجماع على السقوط لعملنا على طبق رواية الفضل(3) ، وقال صاحب المدارك : لو لم يكن خلل في سند الحديث لعملنا به(4) .
أقول : لو لم يكن إجماع ولم يكن ضعف في الحديث لكنّا نعمل به ، ثمّ لا يخفى أنّ ضعف الحديث إنّما هو من جهة الواسطتين الموجودتين بين الفضل والصدوق ، وأمّا الفضل فهو من ثقاة الأصحاب وبقي إلى زمان العسكري(عليه السلام) ومات قبل وفاته بسنتين ، وبقائه إلى ذلك الزمان لا يوجب خللا فيما يرويه عن الرضا(عليه السلام) ، لجواز أن يكون قد طال عمره كما لا يخفى .
ثمّ إنّه عدّ في مفتاح الكرامة(5) من جملة الروايات الدالّة على عدم السقوط ما
(1) الفقيه 1 : 290 ح1320 ; علل الشرائع : 267 ، عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 113 ، الوسائل 4 : 95 . أبواب أعداد الفرائض ب29 ح3 .
(2) التهذيب 2 : 14 ح32 ; الوسائل 4 : 81 . أبواب أعداد الفرائض ب21 ح1 .
(3) مجمع الفائدة والبرهان 2 : 8 .
(4) مدارك الاحكام 3 : 27 .
(5) مفتاح الكرامة 2 : 11 .
(الصفحة64)
رواه الصدوق في العيون عن رجاء بن أبي الضحاك الذي صاحب مع الرضا(عليه السلام) من المدينة إلى خراسان ; وقال : إنّ الرواية تدلّ على أنّ الرضا(عليه السلام) كان يصلّي الوتيرة في السفر . وهذا منه عجيب ، لأنّه ليس في الرواية إلاّ أنّه(عليه السلام) كان يأتي بنافلة الظهرين ويصلّي العشاء الآخرة أربع ركعات ويترك الوتيرة(1) . ومن الواضح أن الإتيان بنافلة الظهرين وصلاة العشاء أربع ركعات إنّما هو في موارد قصد الإقامة ، كما هو واضح . فالرواية تدلّ على أنّه كان يترك الوتيرة ولو مع الإتيان بالعشاء أربع ركعات ، وليس فيها من صلاة الوتيرة ـ وأنّه كان يفعلها ـ عين ولا أثر .
الأمر الخامس : هل تسقط الأربع ركعات المزيدة في يوم الجمعة على نافلتها في السفر أم لا؟ فيه وجهان ، الظاهر هو الوجه الأوّل وإن كان يظهر من بعضهم الترديد . والوجه في ذلك أنّها من النوافل الراتبة ، غاية الأمر ثبوتها في خصوص يوم الجمعة ، فيشملها الأخبار الدالّة على سقوط مطلق التطوّع في السفر ، بعد حملها على خصوص الرواتب ، لعدم سقوط غيرها ضرورة .
(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 : 181 ح180 ; الوسائل 4 : 55 . أبواب أعداد الفرائض ب13 ح24 .
(الصفحة65)
أوقات الفرائض
الوقت من الشرائط المعتبرة في الصلوات المفروضة ، واعتباره في الجملة ممّا لا إشكال فيه ، بل هو من ضروريّات الإسلام وعليه اتّفاق قاطبة المسلمين(1) ، وتدل عليه الآيات الشريفة ، منها قوله تعالى : {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً* ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك عسى أن يبعثك ربُّك مقاماً محموداً}(2) والمراد بدلوك الشمس انتقالها عن دائرة نصف النهار ، وبالغسق انتصاف الليل أو سقوط الشفق ، والآية تتضمّن لبيان وقت الصلوات الخمس المفروضة بأجمعها ، أربع منها يستفاد من صدرها ، وواحدة
(1) الخلاف 1 : 255 ; المعتبر 2 : 26 ; تذكرة الفقهاء 2 : 299 ; الذكرى 2 : 319 ; اللمعة والروضة البهيّة 1 : 172 ; جواهر الكلام 7 : 71 ; جامع المقاصد 2 : 11 ; مفتاح الكرامة 2 : 13 ; المجموع 3 : 21 ; بداية المجتهد 1 : 138 .
(2) الاسراء : 78 ـ 79 .
(الصفحة66)
وهي صلاة الصبح من ذيلها ، لأنّها المراد بقوله : وقرآن الفجر ; واطلاقه عليها من باب إطلاق لفظ الجزء وإرادة الكلّ ، ومن هنا قال بعض الحنفيّة : بأن القراءة ركن في الصلاة لتكون من الأجزاء الرئيسة .
ومنها : قوله تعالى : {وسبِّح بحمد ربّك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب}(1){ومن الليل فسبّحه وأدبار السجود}(2) . ومنها قوله عزّوجلّ : {أقم الصلاة طرفي النهار وزُلفاً من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيّئات}(3) ، والمراد من قوله : «طرفي النهار» إمّا صلاة الصبح والعصر ، وإمّا صلاة الصبح والمغرب ، فعلى الأوّل يكون المراد من قوله : «زلفا من الليل» المغرب والعشاء ، وعلى الثاني يكون المراد منه خصوص العشاء .
وحكي عن كنز العرفان(4) أنّه احتمل أن يكون المراد بالطرف الأوّل وقت صلاة الصبح ، وبالطرف الثاني وقت الأربع الاُخر ، وقوله : «زلفا من الليل» ناظر إلى صلاة الليل . ويرد عليه أن الخطاب في الآية وإن كان متوجّهاً إلى النبيّ(صلى الله عليه وآله) ، ولكن المراد بالإقامة ليس مجرّد إتيانه(صلى الله عليه وآله) بها ، بل حمل الناس على إتيانها وبعثهم عليه ، فلا يمكن أن يكون المراد ما يشمل صلاة الليل ، بعد كونها نافلة غير واجبة كما هو واضح .
ومنها : قوله تعالى : {فأقيموا الصلاة إنّ الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}(5) ، يقال : وقته ووقّته ، إذا عين له وقتاً . فالآية ناظرة إلى أصل اعتبار
(1) طه: 130.
(2) ق : 40 .
(3) هود : 114 .
(4) كنز العرفان 1 : 73 .
(5) النساء : 103 .
(الصفحة67)
الوقت في الصلاة . نعم يحتمل أن يكون الموقوت بمعنى المفروض الثابت ، وحينئذ فالآية أجنبيّة عمّا نحن بصدده . . . إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها مشروطية الصلاة بوقت معيّن .
ثم إنّه لا إشكال في أنّ أوقات الفرائض اليوميّة موسّعة ، ولا خلاف فيه من أحد عدى ما حكي عن أبي حنيفة وجماعة(1) ، حيث أنكروا التوسعة بتخيّل استحالتها عقلا ، ولذا ذهب أبو حنيفة إلى اتّصاف الصلاة بالوجوب في آخر الوقت ، لأنّ قبله يجوز تركها إجماعاً .
والغرض الآن ليس البحث في جواز التوسعة وعدمه ، لأنّا أشبعنا الكلام في ذلك في الأصول(2) ; ومجمله ، أنّ متعلّق الوجوب في الواجبات الموسّعة إنّما هو الأمر الكلّي المقيّد بوقت وسيع ، والتخيير بين أجزاء الوقت عقليّ لا شرعيّ ، ففي صلاة الظهر مثلا يكون المأمور بها هي الصلاة المتقيّدة بوقوعها بين الزوال والغروب ، غاية الأمر أنّ لهذه الطبيعة أفراداً ومصاديق متعاقبة ، يتخيّر المكلّف عقلا بين ايجادها في ضمن أيّ فرد شاء منها ، ولازم ذلك اتّصاف كلّ فرد يوجد بالمطلوبية عند المولى ، وبالجملة فالإشكال في جواز التوسعة ممّا لا ينبغي أن يصغى إليه .
(1) المجموع 3 : 47 ; بداية المجتهد 1 : 138 ; المغني لابن قدامة 1 : 414 و 415 ; الشرح الكبير 1 : 464 ; الخلاف 1 : 276 مسألة 18 ; المعتبر 2 : 29 ; تذكرة الفقهاء 2 : 299 .
(2) نهاية الاصول 1 : 233 ، الفصل السابع في الموسّع والمضيّق .
(الصفحة68)
مسائل في تفصيل الأوقات
إذا عرفت ذلك فيقع الكلام في تفصيل الأوقات ، نتعرّض له في ضمن مسائل :
المسألة الأولى : ابتداء وقت الظهرين
قال الله تبارك وتعالى : {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(1) ، ويستفاد منه كما عرفت أوقات الصلوات الأربع ، الظهرين والعشائين ، والمراد بالدلوك هو الزوال ، كما قال به كثير من أهل اللغة(2) ، ويدلّ عليه أيضاً ما رواه زرارة في حديث قال : سألت أبا جعفر(عليه السلام) عمّا فرض الله تعالى من الصلاة؟ فقال : «خمس صلوات في الليل والنهار . فقلت : هل سمّاهنّ الله وبيّنهنّ في كتابه؟ قال : نعم ، قال الله عزّوجلّ لنبيّه : {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}ودلوكها : زوالها ، ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات ـ إلى أن قال : ـ وغسق الليل هو انتصافه»(3) .
وبالجملة : فلا إشكال في أنّ أوّل وقت الظهر هو زوال الشمس ، وما حكي عن ابن عباس من جواز تقديمه على ذلك بقليل ، والإتيان به قرب الزوال للمسافر(4) ، فمردود بالإجماع(5) ومخالفته للكتاب والسنّة(6) ; وقد تواترت الأخبار
(1) الاسراء : 80 .
(2) النهاية لابن الأثير 2 : 130 ; الصحاح 4 : 1584 ; لسان العرب 10 : 427 ، المصباح المنير : 199 .
(3) الكافي 3 : 271 ح1 ; تفسير العياشي 2: 309 ح138 ; الوسائل 4 : 10 . أبواب أعداد الفرائض ب2 ح1 .
(4) المغني لابن قدامة 1 : 441 ; الشرح الكبير 1 : 480 ; تذكرة الفقهاء 2 : 381 .
(5) المجموع 3 : 18 ; المغني لابن قدّامة 1 : 371 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 268 ; الخلاف 1 : 256 ، مسألة 3 ; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 .
(6) سنن الترمذي 1 : 202 ، ح151; صحيح البخاري 1 : 154 ، ب11 ، ح541 ، سنن ابن ماجه 1 : 219 ، ح667 ، صحيح مسلم 5 : 93 ، ب31 ، ح173 .
(الصفحة69)
الدالة على أن أول وقت الظهر هو الزوال ، الظاهرة في عدم جواز الإتيان بصلاة الظهر قبله ، ولا بأس بذكر بعضها فنقول :
منها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «إذا زالت الشمس دخل الوقتان الظهر والعصر ، فإذا غابت الشمس دخل الوقتان المغرب والعشاء الآخرة»(1) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن وقت الظهر والعصر؟ فقال : «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ; إلاّ أنّ هذه ، قبل هذه ثم أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس»(2) .
ومنها : صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام)قال : «صلّى رسول الله(صلى الله عليه وآله)بالناس الظهر والعصر حين زالت الشمس في جماعة من غير علّة»(3) .
ومنها : رواية داود بن فرقد عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات . . .»(4) الحديث .
ومنها : رواية منصور بن يونس عن العبد الصالح(عليه السلام)قال : سمعته يقول : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين»(5) . . . إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المتواترة المذكورة في الوسائل في الباب الرابع من أبواب المواقيت . ويدلّ على ذلك مضافاً إلى ما عرفت ، استقرار طريقة المسلمين على ذلك في جميع الأعصار ، من زمن النبيّ(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا .
(1) الفقيه 1 : 140 ح648 ; التهذيب 2 : 19 ح54 ; الوسائل 4 : 125 . أبواب المواقيت ب4 ح1 .
(2) التهذيب 2 : 24 ح68 وص19 ح51 وص26 ح73 ; الإستبصار 1 : 246 ح881 وص260 ح934 ; الفقيه 1 : 139 ح647 ; الوسائل 4 : 126 . أبواب المواقيت ب4 ح50 .
(3) التهذيب 2 : 19 ح53 ; وفيه : «عن أبي عبدالله(عليه السلام)» ; الوسائل 4 : 126 . أبواب المواقيت ب4 ح6 .
(4) التهذيب 2 : 25 ح70 ; الاستبصار 1 : 261 ح936 ; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح7 .
(5) التهذيب 2 : 244 ح966 ; الاستبصار 1 : 246 ح876 ; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح10 .
(الصفحة70)
وهل المراد بالزوال وصول أوّل جزء من الشمس إلى دائرة نصف النهار ، أو وصول وسطها إليها ، أو وصول آخرها؟ الظاهر هو الثاني ، لأنّ الاعتبار إنّما هو بانتصاف النهار والانتصاف الحقيقيّ لا يحصل إلاّ بوصول وسطها إليها كما لا يخفى .
إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ هنا أخباراً تدلّ بظاهرها على أنّ وقت صلاة الظهر صيرورة الفي قدماً(1) ، وأوّل وقت العصر صيرورته قدمين(2) ; وأخباراً أُخر تدلّ على أنّ أوّل وقت الظهر صيرورة الفي قدمين أو ذراعاً ، وأوّل وقت العصر صيرورته أربعة أقدام أو ذراعين(3) ، والمراد بالقدم سبع الشاخص ، وبالذارع قدمان . ولكنّها لا تصلح أن تعارض مع الأخبار المتقدّمة الدالّة على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال ، لأنّها لا تدلّ على أنّ وقت الظهر لا يدخل إلاّ بعد تحقّق تلك المقادير ، حتّى يجب له انتظار مضيّها ، بحيث لو أتى بها قبلها لكانت باطلة ; بل ظاهرها أنّ اعتبار القدم أو القدمين أونحوهما ، إنّما هو لأجل الإتيان بالنافلة ، واختلافها في المقدار الموضوع للنافلة إنّما هو من جهة اختلاف المتنفّلين في الخفة والبطء والتطويل والتقصير .
وبالجملة : يستفاد من هذه الروايات أنّ وقت فريضة الظهر بالأصل إنّما هو بعد الزوال ، لكن مزاحمة النوافل لها اقتضت ثبوت وقت عرضيّ لها ، وهو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، فلا تنافي الروايات المتقدّمة أصلا . ويشهد لما ذكرنا روايات :
(1) التهذيب 2 : 21 ح59 وص244 ح970 وج3 : 13 ح45 ; الإستبصار 1 : 412 ح1577 وص247 ح884 ، 885 ; الوسائل 4 : 144 ، 145 . أبواب المواقيت ب8 ح11 و 17 .
(2) الفقيه 1 : 140 ح649 ; التهذيب 2 : 255 ح1012 ; الإستبصار 1 : 248 ح892 ; الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح1 و 2 .
(3) التهذيب 2 : 249 ـ 250 ح989 ـ 993 ; الإستبصار 1 : 254 ـ 255 ح912 ـ 916 ; الوسائل 4 : 147 ـ 148 . أبواب المواقيت ب8 ح28 ، 30 .
(الصفحة71)
منها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً قالوا : كنّا نقيس الشمس بالمدينة بالذراع ، فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «ألا أُنبّئكم بأبين من هذا؟ إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر ، إلاّ أنّ بين يديها سبحة ، وذلك إليك إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت»(1) .
ومنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) في حديث قال: «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ جعل ذلك؟ قال : «لمكان النافلة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن يمضي ذراع فإذا بلغ فيؤك ذراعاً من الزوال بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(2) الحديث .
ومنها : صحيحة زرارة أيضاً عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : «أتدري لِمَ جعل الذراع والذراعان؟» قلت : لِمَ؟ قال : «لمكان الفريضة ، لك أن تتنفّل من زوال الشمس إلى أن تبلغ ذراعاً، فإذا بلغت ذراعاً بدأت بالفريضة وتركت النافلة»(3). فإنّ معنى اختصاص البدأة بالفريضة وترك النافلة بما إذا بلغت الذراع أن قبل بلوغها إليه لا يختصّ البدأة بها، بل هما مشتركتان، لاأنّه لا يجوز البدأة بالفريضة أصلا كما لا يخفى.
ومنها : رواية محمّد بن أحمد بن يحيى قال : كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن(عليه السلام) : روي عن آبائك القدم والقدمين والأربع ، والقامة والقامتين ، وظلّ مثلك ، والذراع والذراعين؟ فكتب(عليه السلام) : «لا القدم ولا القدمين ، إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين ، وبين يديها سبحة وهي ثمان ركعات ، فإن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثم صلِّ الظهر ، فإذا فرغت كان بين الظهر والعصر سبحة ، وهي
(1) الكافي 3 : 276 ح4 ; الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
(2) الفقيه 1 : 140 ح653 ; التهذيب 2 : 19 ح55 ; الاستبصار 1 : 258 ح899 ; علل الشرائع 349 ح2 ; الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 .
(3) الكافي 3 : 288 ح1 ; التهذيب 2 : 245 ح974 ; الاستبصار 1 : 249 ح893 ; الوسائل 4 : 146 . أبواب المواقيت ب8 ح20 .
(الصفحة72)
ثمان ركعات ، إن شئت طوّلت وإن شئت قصّرت ، ثمّ صلِّ العصر»(1) . . . إلى غير ذلك من الأخبار ; والمستفاد من مجموعها أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال إلاّ انّ التقدير بتلك المقادير إنّما هو بملاحظة إتيان النافلة قبلها ، لا أنّ وقتها لا يدخل إلاّ بعد قدم أو نحوه كما هو واضح .
وممّا ذكرنا ظهر أنّه لا وجه لحمل الأخبار ـ الدالّة على أنّ الوقت إنّما يدخل بمجرّد الزوال ـ على التقيّة ، بعد كون ذلك مجمعاً عليه ومورداً لاتّفاق المسلمين ، عدى مالك(2) القائل بعدم جواز الإتيان بصلاة الظهر ما لم يصر الفي بقدر شراك النعل . وسيجيء نقل دليله ، كما أنّه لا إشكال فيها من حيث السند بعد كونها متواترةً إجمالا . فالمتعيّن ما ذكرنا في مقام الجمع .
ثمّ إنّه هل يستفاد من الأخبار ـ الدالّة على أنّ وقت الظهر إنّما هو بعد صيرورة الفي قدماً أو قدمين أو ذراعاً ، بعد حملها على ما ذكرنا ـ استحباب تأخير الظهر إلى تلك المقادير أم لا؟ بل كان محطّ النظر فيها هو بيان وقت يشترك فيه الفريضة والنافلة ، ويجوز فيه مزاحمة الثانية للاُولى ، من دون أن يكون لتأخير الفريضة فضل أصلا؟ وعلى التقدير الأوّل فهل يستفاد منها استحباب تأخير الظهر مطلقاً ، ولو لم يكن قاصداً للنافلة ، أو لم تشرع في حقّه لكونه مسافراً ، أو يكون ذلك مختصّاً بمن كان قاصداً للنافلة ومشروعة في حقّه؟ الظاهر أنّ تلك الأخبار مسوقة لمجرّد بيان وقت يمكن أن يزاحم فيه النافلة للفريضة ، من غير دلالة على استحباب تأخير الفريضة مطلقاً ، أو مع الإتيان بالنافلة قبلها ، ولذا صرّح في كثير منها بأنّه إذا مضى هذا المقدار بدأ بالفريضة وترك النافلة(3) ، وحينئذ فما ورد من أنّ «أوّل
(1) التهذيب 2 : 249 ح990 ; الاستبصار 1 : 254 ح913 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب6 ح13 .
(2) المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; المجموع 3 : 24 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
(3) راجع الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 .
(الصفحة73)
الوقت رضوان الله وآخره عفو الله»(1) ، وغيره من الروايات التي تدلّ على استحباب الإتيان بها في أوّل وقتها باق على إطلاقه كما لا يخفى .
ثمّ إنّه حكي عن الفيض في الوافي ، وصاحب المنتقى ، القول بأفضليّة التأخير(2) مطلقاً نظراً إلى أنّ الجمع بين ما دلّ على دخول وقت الظهر بمجرّد الزوال ، وما دل على دخوله بعد ذراع مثلا يقتضي حمل الطائفة الثانية على أفضليّة تأخيرها إلى ذلك المقدار مطلقاً ، سواء أراد الإتيان بالنافلة أم لا ، ويمكن أن يستشهد على هذا الجمع بروايات :
منها : الأخبار الدالّة على أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي الظهر بعد صيرورة الفي ذراعاً ، والعصر بعد صيرورته ذراعين(3) .
ومنها : ما في نهج البلاغة من كتاب عليّ(عليه السلام) إلى اُمرائه المشتمل على قوله : «فصلّوا بالناس الظهر حين تفي الشمس مثل مربض العنز»(4) .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أصوم فلا أُقيل حتّى تزول الشمس ، فإذا زالت الشمس صلّيت نوافلي ثم صلّيت الظهر ، ثمّ صلّيت نوافلي ثم صلّيت العصر ، ثم نمت ، وذلك قبل أن يصلّي الناس ، فقال : «يا زرارة إذا زالت الشمس فقد دخل الوقت ، ولكنّي أُكره لك أن تتّخذه وقتاً دائماً»(5) ، فإنّ زرارة مع فرضه الإتيان بالنوافل ، كره له الإمام(عليه السلام)تعجيل الفريضة .
ومنها : موثقة عبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن أفضل وقت
(1) الفقيه 1 : 140 ح651 ; الوسائل 4 : 123 . أبواب المواقيت ب3 ح16 ; سنن الدارقطني 1 : 201 ح972 ـ 974.
(2) الوافي 7 : 222 ; منتقى الجمان 1 : 401 ـ 411 ; جواهر الكلام 7 : 80 .
(3) الوسائل 4 : 141 . أبواب المواقيت ب8 .
(4) نهج البلاغة . كتاب 52 : 986 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
(5) التهذيب 2 : 247 ح981 ; الاستبصار 1 : 252 ح905 ; الوسائل 4 : 134 . أبواب المواقيت ب5 ح10 .
(الصفحة74)
الظهر؟ قال : «ذراع بعد الزوال» ، قال : قلت : في الشتاء والصيف سواء؟ قال : «نعم»(1) .
ومنها : رواية محمّد بن فرج قال : كتبت أسأله عن أوقات الصلاة؟ فأجاب : «إذا زالت الشمس فصلِّ سبحتك ، وأُحبّ أن يكون فراغك من الفريضة والشمس على قدمين»(2) .
لكن بإزاء هذه الروايات أخبار كثيرة تدلّ على استحباب التعجيل ، وأفضلية أوّل الوقت وحملها على كون المراد بالأوّل أوّل الذراع والذراعين بعيد في الغاية ، لأنّ بعضها بل كثيرها يمنع هذا الحمل ، ولا بأس بنقل بعضها فنقول :
منها : رواية أبي بصير قال : ذكر أبو عبدالله(عليه السلام) أوّل الوقت وفضله ، فقلت : كيف أصنع بالثماني ركعات؟ فقال : «خفّف ما استطعت»(3) .
وأنت خبير بعدم إمكان حمل هذه الرواية على أوّل الذراع مثلا كما هو واضح .
ومنها : رواية زرارة قال : قلت لأبي جعفر(عليه السلام) : أصلحك الله وقت كلّ صلاة أوّل الوقت أفضل أو وسطه أو آخره؟ قال : «أوّله ، إنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال : إنّ الله عزّوجلّ يحبّ من الخير ما يعجّل»(4) .
ومنها : رواية ذريح المحاربي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «سأل أبا عبدالله(عليه السلام)أُناس وأنا حاضر ـ إلى أن قال : ـ فقال بعض القوم : إنّا نصلّي الاُولى إذا كانت على قدمين ، والعصر على أربعة أقدام؟ فقال أبو عبدالله(عليه السلام) : «النصف من ذلك
(1) التهذيب 2 : 249 ح988 ; الاستبصار 1 : 254 ح911 ; الوسائل 4 : 147 أبواب المواقيت ب8 ح25 .
(2) التهذيب 2 : 250 ح991 ; الاستبصار 1 : 255 ح914 ; الوسائل 4 : 148 أبواب المواقيت ب8 ح31 .
(3) التهذيب 2 : 257 ح1019 ; الوسائل 4 : 121 . أبواب المواقيت ب3 ح9 .
(4) الكافي 3 : 274 ح5 ; التهذيب 2 : 40 ح127 ; الإستبصار 1 : 244 ح871 ; الوسائل 4 : 122 . أبواب المواقيت ب3 ح12 .
(الصفحة75)
أحبّ إليّ»(1) .
ومنها : صحيحة الحارث بن المغيرة وعمر بن حنظلة ومنصور بن حازم جميعاً المتقدّمة(2) . ويؤيّد ذلك أنّ المشهور بين الاماميّة عدم استحباب التأخير لذاته ، وما ورد من فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)(3) وأمر علي(عليه السلام)(4) فمحمول على أنّ التأخير انّما كان لملاحظة المأمومين الذين كانوا لا يتركون النوافل ، مع اختلافهم في الخفة والبطء والتطويل والتقصير ، مضافاً إلى موافقة هذه الأخبار للكتاب العزيز في قوله تعالى : {وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم}(5) وقوله تعالى : {واستبقوا الخيرات}(6) إذ لا ريب أنّ الصلاة سيّما الفريضة منها من أهمّ الخيرات وأسباب المغفرة .
ثمّ إنّ بعض الأخبار المتقدّمة يدل على أن أوّل الوقت هو القدمان ، لا كونه هو وقت الفضيلة ، مع أنّه خلاف الضرورة . وبالجملة لا إشكال في أنّ أوّل الوقت أفضل من غيره . ولكن لا يلزم التعرّض لهذه المسألة ، وذكر الأخبار الواردة فيها ، وبيان الجمع بينها بنحو التفصيل ، لأنّه يوجب التطويل .
تتمّة : قد عرفت اتفاق المسلمين على أنّ وقت الظهر يدخل بمجرّد الزوال(7) ، نعم قال مالك : أحبّ تأخيرها حتّى يصير الفي بقدر شراك النعل(8) . ومستنده في ذلك رواية جبرئيل التي رواها العامّة والخاصّة مع اختلاف يسير ، فروى الشافعي
(1) التهذيب 2 : 246 ح978 ; الاستبصار 1 : 249 ح897 ; الوسائل 4 : 146 أبواب المواقيت ب8 ح22 .
(2) الوسائل 4 : 131 . أبواب المواقيت ب5 ح1 .
(3) الوسائل 4 : 140 . أبواب المواقيت ب8 ح3 ، 4 ، 7 ، 10 ، 24 ، 28 .
(4) نهج البلاغة : 986 ، كتاب 52 ; الوسائل 4 : 162 . أبواب المواقيت ب10 ح13 .
(5) آل عمران : 133 .
(6) المائدة : 48 .
(7) الخلاف 1 : 256 مسألة 3 ; بداية المجتهد 1 : 138 ـ 139; المعتبر 2 : 27 ; تذكرة الفقهاء 2 : 300 مسألة 24 .
(8) المجموع 3 : 24 ; المدوّنة الكبرى 1 : 55 ; الخلاف 1 : 256 مسألة 3 .
(الصفحة76)
في كتاب الاُم عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن ابن عباس ، عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) انّه قال : أمّني جبرئيل عند باب البيت في يوم وقد زالت الشمس ، وكان ظلّه بقدر شراك ، وقد أتاني ثانياً حين كان ظلّه بقدر شاخص للعصر ، وأتاني عند غروب الشمس وأمّني للمغرب ، وأتاني عند سقوط الشفق وأمّني صلاة العشاء ، وقد أتاني الصبح وأمّني للصبح ، وأتاني في يوم الثاني وأمّني صلاة الظهر حين كان الظلّ بقدر الشاخص والعصر حين كان مثلين ، والمغرب ما دام الغروب ، والعشاء عند سقوط الشمس أو عند قرب الشفق(1) . ورواها غيره من محدّثي العامّة كأبي داود في سننه(2) مع اختلاف وقد ورد في رواياتنا موضع أمني كلمة أمرني وحكاها في الوسائل في الباب العاشر بطرق أربعة(3) ، لكن فيها بدل المثل والمثلين ، القامة والقامتين ، أو الذراع والذراعين ، أو القدمين وأربعة أقدام . هذا ، ولكن دلالتها على أنّ أوّل الوقت هو ما بعد الزوال إلى المثل مثلا ممنوعة ، فالحقّ هو ما ذهب إليه جميع الإمامية وجمهور العامة ، من أنّ أول الوقت هو بعد الزوال لما عرفت .
المسألة الثانية : آخر وقت الظهر
فنقول : اختلفت الاُمّة في آخر وقت يجوز تأخير الظهر إليه ، فيظهر من العامّة أقوال أربعة ، أحدها : إنّ آخر وقت الظهر هي صيرورة ظلّ كلّ شيء مثله ، حكي ذلك عن الشافعي والأوزاعي والليث بن سعد ، والثوري ، وأحمد ، وغيرهم .
(1) الامّ 1 : 72 .
(2) سنن أبي داود 1 : 107 ح393 ; سنن الترمذي 1 : 200 ح149 .
(3) تهذيب 2 : 252 ـ 253 ح1001 ـ 1004 ; الاستبصار 1 : 257 ـ 258 ح922 ـ 925 ; الوسائل 4 : 157 ـ 158 . أبواب المواقيت ب10 ح5 ـ 7 .
(الصفحة77)
ثانيها : ما حكي عن ابن جرير ، وأبي ثور ، والمزني ، من أن آخر وقت الظهر صيرورة الظلّ مثل الشاخص مع مضيّ مقدار أربع ركعات بعده . ثالثها : ما ذهب إليه أبو حنيفة في الرواية المشهورة ، وهو إنّ آخر وقت الظهر إذا صار ظلّ كلّ شيء مثليه . رابعها : ما حكي عن عطا ، وطاووس ، ومالك ، من امتداد وقت الظهر من حين الزوال إلى غروب الشمس(1) .
ومستند القول الأول رواية جبرئيل المتقدّمة . وكذا القول الثاني ، فإنّ الرواية تدلّ على اشتراك الظهر والعصر في مقدار أربع ركعات ، من أوّل المثل كما لا يخفى . ومستند القول الثالث ، الرواية النبوية التي تدلّ على أنّ مثل المسلمين ومثل أهل الكتابين من قبلهم ، كمثل رجل استأجر أجيراً ، فقال : من يعمل لي من الغداة إلى نصف النهار بقيراط؟ فعملت اليهود ، ثمّ قال : من يعمل لي من الظهر إلى صلاة العصر بقيراط؟ فعملت النصارى ، ثمّ قال : من يعمل لي إلى آخر النهار بقيراطين؟ فعملتم أنتم ، فغضب اليهود والنصارى ، وقالوا : نحن أكثر عملا وأقلّ أجراً . فقال : هل نقصكم من حقّكم شيئاً؟ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء(2) . هذا ولكن لا يخفى قصور الرواية عن الدلالة على مقصود هذا القائل . وأمّا القول الرابع الذي ذهب إليه مالك وغيره فلم يذكر له مستند ، ولعلّه أخذه من الصادق(عليه السلام) لكثرة تشرّفه إليه وارتباطه معه ، ولكنّه أخفاه تقية أو لغيرها .
وأمّا الإمامية ـ رضوان الله عليهم ـ فالمسألة محلّ خلاف بينهم أيضاً ، وأقوالهم ربّما ترتقي إلى عشرة ، كما حكاها في مفتاح الكرامة(3) ، ولكن لا حاجة
(1) الامّ 1 : 72 ; المغني لابن قدامة 1 : 374 ; المجموع 3 : 21 ; أحكام القرآن للجصّاص 2 : 269 ; بداية المجتهد 1 : 138 ـ 139 ; الخلاف 1 : 257 مسألة 4 ; المعتبر 2 : 30 ; تذكرة الفقهاء 2 : 302 مسألة 26 .
(2) صحيح البخاري 4 : 174 ح3459 .
(3) مفتاح الكرامة 2 : 18 .
(الصفحة78)
إلى التطويل بنقل الجميع ، والمهمّ منها أربعة أقوال : أحدها : ما ذهب إليه الشيخ(رحمه الله)في بعض كتبه ، من أنّ آخر وقت المختار إذا صار ظلّ كلّ شيء مثله(1) . ثانيها ، ما ذهب إليه أيضاً في بعض كتبه ، من أن آخره قدمان ، وفي موضع آخر منه أربعة أقدام(2) . ثالثها ، صيرورة الفي بقدر الذراع أو سبعي الشاخص ، حكي هذا القول عن المفيد ، وابن أبي عقيل(3) . رابعها ، بقاء وقته إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار العصر ، وهو اختيار المرتضى ، وابن الجنيد ، وسلاّر ، وابن إدريس ، والعلاّمة(4) وغيرهم . هذا ، ولو قلنا بعدم اختصاص العصر بمقدار الأربع يمتدّ الوقتان إلى الغروب .
ثمّ إنّ كلّ من قال بامتداد وقت الظهر إلى قدر معيّن من المثل أو الذراع أو أربعة أقدام ، قال بأنّ لكلّ صلاة وقتين : فالأوّل للمختار من المكلّفين ، والثاني للمضطر ; هذا ، ولكنّ الظاهر هو القول الأخير ، والأخبار الظاهرة في غيره تحمل على بيان مراتب الفضل ، فوقت الظهر يمتدّ اختياراً إلى أن يبقى إلى الغروب مقدار أداء العصر ، ولكن ذلك إنّما هو وقت الإجزاء ، دون وقت الفضيلة .
فرعان:
وحيث انتهى الكلام إلى هذا المقام ، فينبغي التعرّض لمسألتين مهمّتين جاريتين في غير الظهرين أيضاً فنقول :
(1) المبسوط 1 : 72 .
(2) النهاية : 59 ، 60 .
(3) المقنعة : 92 ; مختلف الشيعة 2 : 11 .
(4) مسائل الناصريّات : 189 مسألة 72 ; المراسم : 62 ; السرائر 1 : 195 ، الغنية : 69 ; الوسيلة : 82 ; الجامع للشرائع : 60 ; ونقله ابن الجنيد في مختلف الشيعة 2 : 9 ; الذكرى 2 : 330 ; جواهر الكلام 7 : 80 ـ 81 ; كشف اللثام 3 : 30 .
(الصفحة79)
الفرع الأوّل : لكلّ صلاة وقتان
إنّه قد اشتهر بينهم أنّ لكلّ صلاة وقتين ، ويشهد بصدقه لسان الأخبار ، ولكنّهم اختلفوا في المراد من ذلك على قولين : أحدهما ، انّ الوقت الأوّل اختياريّ ، والثاني اضطراريّ ، بمعنى عدم جواز التأخير إليه إلاّ لذوي الأعذار . ثانيهما ، إنّ الوقت الأوّل وقت الإجزاء ، والثاني وقت الفضيلة ، وأكثر القدماء كالشيخين وابن أبي عقيل وغيرهم على الأوّل(1) ; وذهب السيّد ، وابن الجنيد ، وجماعة إلى الثاني ، وتبعهم المتأخّرون(2) وهو الأقوى ، ومنشأ الاختلاف بينهم هو اختلاف الأخبار الواردة في الباب ، وأمّا ما يدلّ منها على المذهب المختار فكثيرة :
منها : رواية زرارة عن أبي جعفر(عليه السلام) قال : قال أبو جعفر(عليه السلام) : «أحبّ الوقت إلى الله عزّوجلّ أوّله ، حين يدخل وقت الصلاة فصلِّ الفريضة ، فإن لم تفعل فإنّك في وقت منهما حتّى تغيب الشمس»(3) .
ومنها : رواية عبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام)في قوله تعالى : {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل}(4) قال : «إنّ الله افترض أربع صلوات ، أوّل وقتها زوال الشمس إلى انتصاف الليل ، منها : صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروب الشمس إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ومنها : صلاتان أوّل وقتهما من
(1) المقنعة : 94 ; النهاية : 58 ; المبسوط 1 : 72 ; الكافي في الفقه : 138 ; المهذب 1 : 69 ; ونقله عن ابن أبي عقيل في مختلف الشيعة 2 : 4 .
(2) مسائل الناصريات : 195 ; السرائر 1 : 196 ; المعتبر 2 : 26 ; مختلف الشيعة 2 : 4 ; تذكرة الفقهاء 2 : 30 ; كشف اللثام 3 : 19 ـ 20 ; مدارك الأحكام 3 : 32 ; جامع المقاصد 2 : 11 .
(3) التهذيب 2 : 24 ح69 ; الاستبصار 1 : 260 ح935 ; الوسائل 4 : 119 . أبواب المواقيت ب3 ح5 .
(4) الاسراء : 80 .
(الصفحة80)
غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلاّ أنّ هذه قبل هذه»(1) .
ومنها : رواية داود بن أبي يزيد وهو داود بن فرقد عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الظهر حتّى يمضي مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا مضى ذلك فقد دخل وقت الظهر والعصر حتّى يبقى من الشمس مقدار ما يصلّي المصلّي أربع ركعات ، فإذا بقي مقدار ذلك فقد خرج وقت الظهر وبقي وقت العصر حتّى تغيب الشمس»(2) .
ومنها : ما رواه ابن مسكان عن الحلبي ـ في حديث ـ قال : سألته عن رجل نسي الاُولى والعصر جميعاً ثم ذكر ذلك عند غروب الشمس؟ فقال : «إن كان في وقت لا يخاف فوت إحداهما فليصلِّ الظهر ثم ليصلِّ العصر ، وإن هو خاف أن تفوته فليبدأ بالعصر ، ولا يؤخّرها فتفوته فيكون قد فاتتاه جميعاً ، ولكن يصلّي العصر فيما قد بقي من وقتها ، ثم ليصلِّ الاُولى بعد ذلك على أثرها»(3) .
ومنها : رواية أُخرى لعبيد بن زرارة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن وقت الظهر والعصر؟ فقال : «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً إلاّ أنّ هذه قبل هذه ، ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً حتّى تغيب الشمس»(4) .
ومنها : رواية ثالثة لعبيد بن زرارة عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال : «إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر والعصر جميعاً ثمّ أنت في وقت منهما جميعاً»(5) ، وغير ذلك من
(1) التهذيب 2 : 25 ح72 ; الاستبصار 1 : 261 ح938 ; الوسائل 4 : 157 . أبواب المواقيت ب10 ح4 .
(2) التهذيب 2 : 25 ح70 ; الاستبصار 1 : 261 ح936 ; الوسائل 4 : 127 . أبواب المواقيت ب4 ح7 .
(3) التهذيب 2 : 269 ح 1074 ; الاستبصار 1 : 287 ح1052 ; الوسائل 4 : 129 . أبواب المواقيت ب4 ح18 .
(4) الفقيه 1 : 139 ح647 ; التهذيب 2 : 24 ، 26 ح68 و73 ; وص19 ح51 ; الإستبصار 1 : 246 ح881 وص260 ح934 ; الوسائل 4 : 126 . أبواب المواقيت ب4 ح5 .
(5) الكافي 3 : 276 ذ ح5 ; التهذيب 2 : 26 ح73 ; الوسائل 4 : 130 . أبواب المواقيت ب4 ح22 .
|