(الصفحة241)
الإنكشاف مفقودة لأجل العمى أو الغيم أو غيرهما ، فلا يشمل صورة النسيان ، فالواجب الرجوع في حكم هذه الصورة إلى القواعد ، وهي تقتضي وجوب الإعادة عليه في الوقت وفي خارجه مطلقاً ، حتّى ما إذا لم يكن مستدبراً للقبلة ، فإنّه لم يأت بما هو المأمور به .
والمفروض أنه لم يتوجه إليه أمر ظاهري حتى يقال بإقتضائه للإجزاء ، فيجب عليه الإعادة كما يدلّ عليه أيضاً حديث لا تعاد على ما عرفت .
هذا كلّه فيما إذا كان الإنحراف كثيراً ، وأمّا إذا كان يسيراً فمقتضى حديث الرفع وإن كان عدم وجوب الإعادة ، بناءً على أنّ المراد برفع النسيان هو رفع حكم كلّ ما صار النسيان سبباً له ، من فعل أو ترك ، فإذا صلّى مع نسيان السورة مثلا فهو يقتضي عدم وجوب الإعادة عليه ، وعدم كون السورة جزءً في حال النسيان ، فما يترتّب على تركها من عدم تحقّق المركّب وعدم الإتيان بالمأمور به ووجوب الإعادة فهو مرفوع ، ولا يلزم من هذا عدم وجوب الإتيان بالصلاة فيما إذا تركها في بعض الوقت سهواً ، لأنّ وجوب الإتيان بها بعده ليس من آثار عدم الإتيان به فيما مضى من الوقت ، بل من آثار بقاء الأمر المتوجه إليه من أول الوقت .
وبالجملة : فمقتضى حديث الرفع وإن كان ذلك إلاّ أنّ حديث لا تعاد يدل على وجوب الإعادة عليه ، وهو مخصّص لحديث الرفع ، لأنّك عرفت أنّ مورده هو الساهي فقط ، ولا يشمل العالم العامد والجاهل . هذا مع قطع النظر عن الأخبار الخاصة الواردة في المسألة ، وأمّا مع ملاحظتها فلا يجب عليه الإعادة لإطلاق موردها على وجه يشمل الناسي ، ولا يختصّ بالمجتهد المخطئ في إجتهاده كما هو ظاهر صحيحتي معاوية بن عمّار وزرارة ، ورواية عمّار الساباطي المتقدّمة(1) .
(1) الوسائل 4 : 314 ، 315 . أبواب القبلة ب10 ح1 و2 و4 .
(الصفحة242)
ثمّ إنّ الصحيحتين تدلاّن بظاهرهما على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة لجميع المكلفين ، في جميع الحالات من العلم والظنّ وغيرهما ، مع أنّ أحداً من الأصحاب لم يعمل على طبقهما ، ولذا لم يعبّر بذلك في مقام تعيين حد القبلة كمعارض لقوله(عليه السلام) في رواية عمّار الساباطي : «إن كان متوجّهاً فيما بين المشرق والمغرب فليحوّل وجهه إلى القبلة ساعة يعلم» فإنّها تدلّ بظاهرها على أنّ القبلة التي لو كان المكلّف عالماً بها لوجب عليه أن يتوجّه نحوها ، أضيق ممّا بين المشرق والمغرب .
فالوجه أن يقال : إنّ المراد منهما أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة في الجملة ، ولو لبعض المكلفين في الحالات ، بأن يقال مثلا : إنّ الإمام(عليه السلام) قال في صحيحة زرارة أنّه لا يصدق عنوان الصلاة على الصلاة التي كانت فاقدة لشرط القبلة ، فصدقها يتوقف على أن يكون المصلّي متوجّهاً إليها ، ثمّ سأل الراوي عن حد القبلة التي لو كان المكلف متوجهاً إليها لصدق على فعله أنّه صلاة فقال(عليه السلام) : «ما بين المشرق والمغرب قبلة» يعني : إنّه إذا تجاوز هذا الحدّ فلا يصدق عنوان الصلاة ، وأمّا صدقها على الصلاة التي كان التوجه فيها إلى ما بين المشرق والمغرب مطلقاً وفي جميع الأحوال فلا يعلم منهما .
وبالجملة : لا يستفاد منهما أنّ ما بينهما قبلة مطلقاً ، بل هي قضيّة مجملة لا تنافي عدم كونه قبلة في بعض الأحوال ، وعلى تقدير كون ظاهرهما ذلك يجب تأويلهما وحملهما على ما ذكرنا ، لما عرفت من كونهما معرضاً عنهما مع ثبوت المعارض لهما ، ويؤيد ذلك أنّ المشهور بل المتفق عليه بين الأصحاب أنّ الإلتفات إلى غير القبلة في أثناء الصلاة مبطل لها(1) ، ومعنى الإلتفات أن ينحرف بوجهه عن القبلة بحيث
(1) النهاية : 64 ; المعتبر 2 : 260 ; روض الجنان : 332 ; الذكرى 3 : 180 ; الروضة البهيّة 1 : 236 ; البيان : 182 ; جامع المقاصد 2 : 347 ; الحدائق 9 : 31 ; مستند الشيعة 7 : 20 .
(الصفحة243)
يرى خلفه .
ومن المعلوم أنّه يتحقق بكون وجهه مواجهاً إلى قريب المشرق والمغرب الذي يصدق عليه إنّه ما بينهما ، فلو كان ما بين المشرق والمغرب قبلة في جميع الحالات لزم عدم بطلان الصلاة في صورة الإنحراف بوجه الإلتفات ، لأنّه لم ينحرف بوجهه عمّا بينهما ، هذا مضافاً إلى سائر الروايات الواردة في حكم المسألة الدالّة على خلاف ذلك ، مثل ما رواه في الجعفريات عن محمّد بن محمّد بن أشعث الكوفي ، عن موسى بن إسماعيل ، عن أبيه ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه(عليهما السلام) : إنّ عليّاً(عليه السلام)كان يقول : «من صلّى لغير القبلة إذا كان بين المشرق والمغرب فلا يعيد»(1) . ورواه السيّد فضل الله الراوندي في النوادر عن عبدالواحد بن إسماعيل عن محمّد بن الحسن التميمي ، عن سهل بن أحمد الديباجي ، عن محمد بن محمد إلى آخر ما ذكر في الطريق(2) الأول ، إلاّ أنّ فيها : «إذا كان إلى المشرق أو المغرب» . والظاهر أنّه من سهو الراوي والصحيح هو الأول .
نعم ، في رواية الكليني عن أبي هاشم الجعفري الواردة في الصلاة على المصلوب ما يدل على ذلك ، حيث قال : سألت الرضا(عليه السلام) عن المصلوب؟ فقال : «أما علمت أنّ جدّي(عليه السلام) صلّى على عمّه؟(3) قلت : أعلم ذلك ولكنّي لا أفهمه مبيناً ، فقال : اُبينه لك ، إن كان وجه المصلوب إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان قفاه إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، فإنّ بين المشرق والمغرب قبلة ، وإن كان منكبه الأيسر إلى القبلة فقم على منكبه الأيمن ، وإن كان منكبه الأيمن إلى القبلة فقم على منكبه الأيسر ، وكيف كان منحرفاً فلا تزايلنّ مناكبه ، وليكن وجهك إلى
(1) الجعفريات : 87 ح295 .
(2) نوادر الراوندي : 155 ح499 ; بحار الأنوار 81 : 69 ح26 .
(3) الظاهر أنّه : زيد بن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) .
(الصفحة244)
ما بين المشرق والمغرب ، ولا تستقبله ولا تستدبره ألبتة . قال أبو هاشم : وقد فهمت إن شاء الله تعالى ، فهمته والله»(1) .
هذا ، ولكن قد عرفت أنّ الأخذ بظاهر مثلها في غاية الإشكال . هذا كلّه إذا كان المراد بالمشرق والمغرب الإعتداليين منهما كما هو المفهوم عند العرف ، وهما منتهى الخط الخارج من طرف اليمين واليسار بالنسبة إلى الشخص المتوجه إلى الجنوب أو الشمال ، وهو ما إذا كان مدار الشمس دائرة المعدّل وما يقاربها من جانب الجنوب أو الشمال ، وأمّا إذا كان المراد بهما كلّ مشرق للشمس أو مغرب لها كما ذكرناه سابقاً ، وعليه يكون المراد بما بينهما هو المقدار الذي لا يصدق على جزء منه أنّه مشرق للشمس أو مغرب لها ولو في يوم ، وهو عبارة عمّا بين مشرق أوّل الجدي ومغربه المساوي لربع الدورة تقريباً ; فالأخذ به أيضاً على الإطلاق مشكل .
فالأوسعية بهذا المقدار ممّا لا يمكن الإلتزام بها ، وكذلك وجوب التوجه إلى عين الكعبة على نحو يخرج من وسط وجه المصلي خط مستقيم واقع عليها ، قام على عدمه سيرة المسلمين من زمان النبيّ والأئمة(عليهم السلام) إلى زماننا هذا ، مع كثرة إبتلاء الناس إلى التوجه إليها في الصلاة وغيرها ، فكيف يمكن أن يكون الناس مأمورين بالتوجه إليها على النحو المذكور ، ولذلك ذهب المتأخرون إلى أنّه لا يعتبر في تحقق الإستقبال عرفاً وقوع الخط الخارج من المستقبِل ـ بالكسر ـ على المستقبَل ـ بالفتح ـ ، وإن اختلفوا في أنّه هل يعتبر ذلك في المحاذاة أو لايعتبر فيها أيضاً .
قال المحقق الهمداني في توجيهه ما ملخّصه : إنّ الإستقبال ممّا يختلف بالنسبة
(1) الكافي 3 : 215 ح2 ، عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 1 : 255 ح8 ، الوسائل 3 : 130 . أبواب صلاة الجنازة باب 35 ح1 .
(الصفحة245)
إلى القريب والبعيد فإنّك إذا استقبلت صفّاً طويلا وكنت قريباً منهم لا تكون مستقبلا إلاّ واحداً منهم ، ولكنّك إذا بعدت عنهم بمقدار كثير على نحو لا تخرج من الخط المستقيم الخارج من موقفك الأول لوجدت نفسك محاذياً لجميعهم ، مع أنّ المحاذاة الحقيقية لا تكون إلا بينك وبين ما كانت أولا ، وكذلك إذا نظرت إلى عين الشمس أو سائر الكواكب لوجدت نفسك محاذياً لها ، وفي مقابل وجهك مع أنّ مساحة الشمس أعظم من مساحة الأرض أضعافاً مضاعفة ، والمحاذاة الحقيقية تكون بينك وبين نقطة صغيرة منها .
وهذا هو المراد ممّا شاع في ألسنتهم من أنّ الشيء كلّما ازداد بعداً إزدادت جهة محاذاته سعةً ، وبه يندفع ما أورده الشيخ القائل بأنّ قبلة البعيد هي عين الحرم على القائلين بأنّ قبلة البعيد هي عين الكعبة ، من لزوم بطلان صلاة بعض الصف الطويل ، لما عرفت من أنّ هذا بالنسبة إلى القريب مسلّم ، وأمّا إذا كان الصف بعيداً فيرى كل من أهل الصف نفسه مستقبلا للكعبة(1) انتهى .
وظاهره أنّ الحاكم باختلاف الاستقبال بالنسبة إلى القريب والبعيد هو الوجدان ، ويمكن أن يكون الوجه فيه ـ أي في حكم الوجدان بذلك ـ أنّ استقبال الإنسان للشيء إنّما يتحقّق بكون وجهه مقابلا ومواجهاً له ، ومن المعلوم أنّ وجه الإنسان يكون محدّباً ، فإنّه يكون ربع الدائرة التي يتشكّل منها رأس الإنسان أو خمسها ، ومن الواضح أنّ الخطوط الخارجة من الشيء المحدّب لا يكون على نحو التوازي ، بل على نحو كلّما كان طولها أزيد كان المقدار الفاصل بينها أكثر .
فإذا كان الإنسان مواجهاً للشيء القريب منه ، يكون تمام الخطوط الخارجة من وجهه واقعة على ذلك الشيء ، وأمّا إذا كان مواجهاً لما هو بعيد منه ، يكون
(1) مصباح الفقيه كتاب الصلاة : 87 .
(الصفحة246)
بعض الخطوط الخارجة واقعاً عليه ، وبعضها الآخر على الأجسام الواقعة في طرف يمين ذلك الشيء أو يساره ; هذا إذا كان المستقبل أشياء متعدّدة ، وأمّا إذا كان شيئاً واحداً كما فيما نحن فيه من مسألة القبلة ، فلا محالة يقع أحد الخطوط الخارجة من أجزاء وجهه على الكعبة ، لأنّك عرفت أنّ الخطوط الخارجة من أجزاء الوجه ليست على نحو التوازي ، والمفروض أنّ الكعبة واقعة في الربع أو الخمس من الدائرة التي تمرّ بالكعبة ، مع أنّ المقدار الفاصل بين منتهى تلك الخطوط لا يزيد على ربع تلك الدائرة ، فعليه يقع أحد الخطوط على الكعبة لا محالة .
ولا يستلزم ذلك جواز الإنحراف إلى ما بين المشرق والمغرب ممّا هو قريب منهما ، بيان توهم الاستلزام : أنّ الخط الخارج من منتهى يسار الوجه أو يمينه لو كان واقعاً على الكعبة مع كونها واقعة في منتهى يمين ذلك المقدار من الدائرة أو يساره يلزم الإنحراف بمقدار الربع أو الخمس . وبيان الدفع ، أنّ الكعبة واقعة في وسط ذلك المقدار ، وعلى فرض وقوع الخطّ الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره عليها لا يلزم الإنحراف بذلك المقدار ، بل يلزم نصفه كما لا يخفى .
هذا ، مضافاً إلى عدم معلومية كفاية الخط الخارج من منتهى يمين الوجه أو يساره ، بل يلزم أن يخرج من وسط الوجه وما يقاربه من جانبيه كالقريب .
ثمّ إنّك عرفت أنّ قبلة البعيد هي الجهة ، وهي كما ذكره المحقق في المعتبر ، السمت الذي فيه الكعبة(1) ، وعرفت أنّ المراد بالسمت إحدى الجهات السّت المتصوّرة بالنسبة إلى كلّ شخص ، وهو ربع الدائرة التي أحاطت به .
ويؤيّده ما دلّ على أنّ ما بين المشرق والمغرب قبلة(2) بالمعنى الذي ذكرناه ،
(1) المعتبر 2 : 65 .
(2) الوسائل 4 : 314 و 315 . أبواب القبلة ب10 وغيره كما تقدّم .
(الصفحة247)
وما دلّ على أنّ مع اشتباه القبلة يجب أن يصلّي إلى أربع جهات(1) ، وما ورد في حرمة إستقبال القبلة واستدبارها في البول والغائط من التعبير بوجوب التشريق أو التغريب(2) .
ويؤيّده أيضاً ما في سؤال بعض الروات ، من مسألة حكم صورة الجهل بالقبلة لأجل عدم ظهور الشمس مع كونه في الفلاة ، أو لأجل كونه في الليل(3) ، فإنّه يشعر بأنّ مع ظهور الشمس لايكون جاهلا بالقبلة ، وما ورد من أنّه لمّا تحوّلت القبلة إلى الكعبة أتى الناس رجلٌ وهم في الصلاة وقد صلّوا ركعتين فقال : إنّه قد صرفت القبلة إلى الكعبة فتحوّلت النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء وصلّوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة(4) ، وغير ذلك من المؤيّدات فتدبّر جيّداً .
المسألة التاسعة : عدم شرطيّة الاستقبال في النوافل
لا إشكال ولا خلاف في عدم شرطية الإستقبال في النوافل في الجملة ، ومستنده أخبار كثيرة :
منها : ما رواه عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي الحسن إنه سأل أبا عبدالله(عليه السلام)عن الرجل يصلّي النوافل في الأمصار وهو على دابته حيثما توجهت به؟ قال : «لابأس»(5) .
(1) الوسائل 4 : 310 ـ 311 . أبواب القبلة ب8 .
(2) التهذيب 1 : 25 ح64 ; الإستبصار 1 : 47 ح130 ; الوسائل 1 : 302 . أبواب أحكام الخلوة ب2 ح5 .
(3) الوسائل 4 : 316 ـ 317 . أبواب القبلة ب11 ح4 و 6 .
(4) التهذيب 2 : 43 ح138 ; ازاحة العلّة : 2 ; بحار الأنوار 84 : 76 ; الوسائل 4 : 297 . أبواب القبلة ب2 ح2 .
(5) الفقيه 1 : 285 ح1298 ; الكافي 3 : 440 ح8 ; التهذيب 3 : 230 ح591 ، وفيهما : نعم لا بأس . الوسائل 4 : 328 . أبواب القبلة ب15 ح1 .
(الصفحة248)
ومنها : ما رواه إبراهيم الكرخي عن أبي عبدالله(عليه السلام) إنه قال له : إنّي أقدر أن أتوجه نحو القبلة في المحمل ، فقال : «هذا الضيق أما لكم في رسول الله(صلى الله عليه وآله)أسوة؟»(1) .
ومنها : صحيحة الحلبي المروية في التهذيب : إنه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن صلاة النافلة على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث كان متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)» . ورواه محمّد بن سنان على ما في الكافي مثله وزاد قلت : على البعير والدابة؟ فقال : «نعم حيث ما كنت متوجّهاً» . قلت : أستقبل القبلة إذا أردت التكبير؟ قال : «لا ، ولكن تكبّر حيث ما كنت متوجهاً ، وكذلك فعل رسول الله(صلى الله عليه وآله)»(2) .
ومنها : صحيحة حمّاد بن عثمان عن أبي الحسن الأوّل(عليه السلام) : في الرجل يصلّي النافلة وهو على دابته في الأمصار قال : «لا بأس»(3) . وهذه الرواية وإن لم يقع فيها التصريح بنفي شرطية الإستقبال في النافلة كبعض الروايات الاُخر ، إلاّ أنّ المتبادر منها إرادة فعلها متوجهاً نحو المقصد أي جهة كان .
ومنها : صحيحة عبدالرحمن بن الحجّاج عن أبي الحسن(عليه السلام) قال : سألته عن صلاة النافلة في الحضر على ظهر الدابة إذا خرجت قريباً من أبيات الكوفة ، أو كنت مستعجلا بالكوفة؟ فقال : «إن كنت مستعجلا لا تقدر على النزول وتخوّفت فوت ذلك إن تركته وأنت راكب فنعم وإلاّ فإنّ صلاتك على الأرض أحبّ إليّ»(4) . وظاهرها جواز الإتيان بالنافلة على ظهر الدابة حيثما توجهت به ، ولكن الأفضل
(1) الفقيه 1 : 285 ح1295 ; التهذيب 3 : 229 ح586 ; الوسائل 4 : 329 . أبواب القبلة ب15 ح2 .
(2) التهذيب 3 : 228 ح581 ; الكافي 3 : 440 ح5 ; الوسائل 4 : 329 ـ 330 . أبواب القبلة ب15 ح6 ـ 7 .
(3) التهذيب 3 : 229 ح589 ; الوسائل 4 : 330 . أبواب القبلة ب15 ح10 .
(4) التهذيب 3 : 232 ح605 ; الوسائل 4 : 331 . أبواب القبلة ب15 ح12 .
(الصفحة249)
إيقاعها على الأرض .
ومنها : ما عن الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر وأبي عبدالله(عليهما السلام) في قوله تعالى : {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله}(1) «إنّها ليست بمنسوخة ، وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر»(2) .
ومنها : ما عن الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في قوله تعالى : {فأينما تولّوا . . .}الآية قال : «هذا في النوافل خاصة في حال السفر ، فأمّا الفرائض فلابد فيها من إستقبال القبلة»(3) .
وغير ذلك ممّا يدل على عدم شرطية الاستقبال في النوافل في حال عدم استقرار المصلّي(4) ، ككونه راكباً على الدابة أو السفينة أو ماشياً في السفر والحضر ، فلا إشكال في هذه الصورة ، إنّما الإشكال فيما لو كان المصلي مستقراً أو أنّه هل تجوز صلاة النافلة مستقراً بلا استقبال إختياراً أم لا؟ قولان :
وقد نسب القول بالعدم إلى المشهور(5) ، وربّما يستدل عليه بعدم معهودية الصلاة مستقراً إلى غير القبلة عند المتشرعة ، بل تكون عندهم من المنكرات وبعدم مشروعيتها ، لكون العبادات توقيفية ، وبإطلاق قوله(صلى الله عليه وآله) : «صلّوا كما رأيتموني أُصلّي»(6) وبقوله(عليه السلام) في صحيحة زرارة : «لا صلاة إلاّ إلى القبلة»(7) وفي
(1) البقرة : 115 .
(2) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
(3) النهاية : 64 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح19 .
(4) الوسائل 4 : 333 ـ 334 . أبواب القبلة ب15 .
(5) الخلاف 1: 399 مسألة 45; شرائع الاسلام 1: 57; الوسيلة: 86; إرشاد الأذهان 1: 244 ; كفاية الاحكام : 15 ; مجمع الفائدة والبرهان 2 : 60 ; مدارك الأحكام 3 : 147 ; بحار الأنوار 81 : 48 ; مستند الشيعة 4 : 304 ـ 305 .
(6) السنن الكبرى 2 : 345 .
(7) الفقيه 1 : 180 ح855 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح2.
(الصفحة250)
صحيحة اُخرى منه : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور والوقت والقبلة والركوع والسجود»(1) .
وربّما يستدل على الأول بأصالة البراءة عن الوجوب ـ أي وجوب الاستقبال ـ وبأصالة العدم ، وبما يدلّ على عدم صلاحية صلاة الفريضة في جوف الكعبة دون النافلة(2) ، فإنّ المترائى منه أنّ عدم الصلاحية في الفريضة إنّما هو لأجل امتناع تحقق شرطها وهو الاستقبال ، والنافلة لمّا لم تكن مشروطة به ، فلم يكن فعلها فيه بغير صالح .
وبما ورد في تفسير قوله تعالى : {فأينما تولّوا فثمّ وجه الله} من أنّها ليست بمنسوخة وأنّها مخصوصة بالنوافل في حال السفر(3) ، فإنّ إطلاقه يشمل النافلة في حال الاستقرار ، والتقييد بحال السفر ليس لأجل اختصاص الحكم به ، بل لأجل غلبة وقوع النوافل في حال السفر إلى غير القبلة ، ولذا لا يكون الاستقبال شرطاً لها في الأمصار أيضاً في حال عدم استقرار المصلي بلا خلاف ; ويؤيده التقابل بين الفريضة ومطلق النافلة فيما حكاه الشيخ في النهاية عن الصادق(عليه السلام) في تفسير ذلك القول(4) كما عرفت .
وأنت خبير بأنّ التمسك بأصالة البراءة مما لا يتم ، لأنّ مدركها إما حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، وإمّا حديث الرفع ونظائره . والأوّل غير جار في المقام لأنّ الكلام في شرطية الاستقبال في النافلة وهي لا يترتّب على تركها عقاب أصلا ، وكذا الثاني لأنّ حديث الرفع مسوق لرفع التضييق ، وهو معدوم في النوافل .
(1) الفقيه 1 : 181 ح857 ; التهذيب 2 : 152 ح597 ; الوسائل 4 : 312 . أبواب القبلة ب9 ح1 .
(2) الوسائل 4 : 337 ـ 338 . أبواب القبلة ب17 ح4 و5 و9 .
(3) مجمع البيان 1 : 228 ; الوسائل 4 : 332 . أبواب القبلة ب15 ح18 .
(4) النهاية : 64 .
(الصفحة251)
وأمّا أصالة العدم فإن كان مرجعها إلى الاستصحاب فلا مجرى لها فيما نحن فيه لعدم وجود الحالة السابقة له ، وإن كان المراد أنّها أصل مستقل برأسه ، ففيه مضافاً إلى عدم الدليل على حجيتها ، أنّها لا تجري في مثل المقام ممّا كان الشك في ثبوت أمر إعتباري ، كالشرطية التي تنتزع من الأمر بالمشروط ، والجزئية التي تنتزع من الأمر بالكل ، بل إنّما تجري فيما لو كان الشك في وجود شيء مستقل .
وأمّا الاستدلال بما يدل على عدم جواز صلاة الفريضة في جوف الكعبة فيرده أنّ الحق جواز ذلك على كراهية ، كما هو مقتضى بعض الروايات الاُخر . وأمّا ما ورد في تفسير قوله تعالى : {فأينما تولّوا . . .} الآية ، فلا يدل على ذلك أصلا لأنه ليس في مقام بيان هذه الجهة كما لا يخفى .
وأمّا ما استدل به على عدم الجواز فعمدته هي صحيحة زرارة الاُولى ، وتقريب دلالتها على ذلك بوجه لا يرد عليه ما أورده بعض الأعاظم(1) ، هو أنّها تدلّ على انتفاء حقيقة الصلاة وماهيتها إذا لم تكن إلى القبلة ، فصدق عنوانها على الصلوات المأتي بها في الخارج بترقّب أنّها صلاة ، يتوقف على كونها إلى القبلة ، فكلّ فرد يؤتى به من أنواع الصلوات الواجبة والمندوبة إلى غير القبلة فهو ليس من أفراد هذا العنوان .
فخرج من ذلك العموم صلاة النافلة ـ مع كون المصلي غير مستقر ـ بالإجماع وبالأخبار الصحيحة المتقدمة(2) ، وبقي الباقي تحته . فما أورد على الاستدلال بها من أنّ خروج الفرد في بعض الأحوال ينافي حجية العام بالنسبة إليه في سائر الأحوال غير وارد ، لأنّ كل ما يؤتى به في الخارج فهو فرد من أفراد طبيعة
(1) كتاب الصلاة للمحقّق الحائري (رحمه الله) : 30 و 34 .
(2) الوسائل 4 : 328 . أبواب القبلة ب15 .
(الصفحة252)
الصلاة ، وليست صلاة النافلة فرداً واحداً خارجاً عن تحت العموم في بعض الأحوال ، بل الصلاة مستقراً فرد مستقل شك في خروجه عن تحت العام ، فيجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة بالنسبة إلى غير الفرد الخارج ، لأنّ الحكم بخروجه يوجب تقييداً زائداً وهو مجاز .
إن قلت : إنّ تقييد المطلق ليس مجازاً حتى لو شك فيه لوجب الرجوع إلى أصالة الحقيقة ، كما قد حقّق ذلك في الاُصول .
قلت : الأمر وإن كان كذلك في مثل قوله : «إن ظاهرت فأعتق رقبة» و «إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة» ، إلاّ أنّه ليس كذلك في مثل المقام لأنّ تقييد النكرة التي وقعت في سياق النفي مناف لما تكون كلمة لا موضوعة له ، لأنّها موضوعة لنفي المدخول فقط فإذا استعملت في نفيه وغيره فقد استعملت في غير الموضوعة له ، فيجب الرجوع لو شك في التقييد في مثله إلى أصالة عدمه وأصالة الحقيقة ، فظهر ممّا ذكرنا صحة التمسك بالرواية ، وأنّ الأقوى ما عليه المشهور .
ثمّ إنك بعدما عرفت جواز الإتيان بالنوافل على الراحلة وغيرها على ما هو مقتضى تلك الأخبار المذكورة ، فاعلم أنّ الأمر في الفريضة يكون كذلك في حال الضرورة ، فيجوز الإتيان بها في حالها على الراحلة وغيرها مع رعاية سائر ما يعتبر فيها بلا خلاف ولا إشكال(1) ; إنّما الخلاف في جواز صلاة النافلة على الراحلة إذا كانت متعلّقة للنذر أو غيره ، وأنّه هل تلحق بصلاة الفريضة حتّى لا يجوز الإتيان بها عليها إلاّ في حال الضرورة ، أو يكون حكمها حكم سائر النوافل التي لم يتعلّق بها نذر أو غيره ، فيجوز إتيانها على الراحلة مطلقاً في حال الضرورة وغيرها؟
(1) الخلاف 1 : 300 مسألة 47 ; تذكرة الفقهاء 3 : 17 مسألة 143 ; كشف اللثام 3 : 159 .
(الصفحة253)
وكذا الإشكال في جواز صلاة الفريضة على الراحلة إذا صارت مستحبة كصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى ، ومنشأ الإشكال في الفرض الأول اختلاف الأخبار .
ففي صحيحة عبدالله بن سنان قال : قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : أيصلّي الرجل شيئاً من الفروض راكباً؟ فقال : «لا إلاّ من ضرورة»(1) .
وفي صحيحة عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : «لا يصلّي على الدابة الفريضة إلاّ مريض يستقبل به القبلة ويجزيه فاتحة الكتاب ، ويضع بوجهه في الفريضة على ما أمكنه من شيء ، ويؤمي في النافلة ايماءً»(2) .
وفي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى(عليه السلام) قال : سألته عن رجل جعل لله عليه أن يصلي كذا وكذا هل يجزيه أن يصلي ذلك على دابته وهو مسافر؟ قال(عليه السلام) : «نعم»(3) .
فمقتضى الصحيحتين الأوّليين عدم جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة إلاّ في حال الضرورة ، بناء على إطلاق لفظ الفريضة وشمولها لما صارت فريضة بالعرض ، ومقتضى الصحيحة الأخيرة هو الجواز مطلقاً في حال الضرورة وغيرها ، فهما مطلقتان من حيث الموضوع ، والأخيرة مطلقة من حيث الحكم ، فيرجع الأمر إلى تقديم أحد الإطلاقين على الآخر .
فقد يقال بتقديم الإطلاق الأوّل وتقييد الثاني بحال الضرورة ، كما ذهب إليه بعض ، وقد يقال بتقييد الأوّل بالفرائض الذاتية وتقديم الثاني كما هو الظاهر ، لأنّ دلالتها على إطلاق الحكم من حيث حال الضرورة وغيره أقوى من دلالتهما على
(1) التهذيب 3 : 308 ح954 ; الوسائل 4 : 326 . أبواب القبلة ب14 ح4 .
(2) التهذيب 3 : 308 ح952 ; الوسائل 4 : 325 . أبواب القبلة ب14 ح1 .
(3) التهذيب 3 : 231 ح596 ; الوسائل 4 : 326 . أبواب القبلة ب14 ح6 .
(الصفحة254)
الإطلاق من حيث شموله للنوافل الذاتية المفروضة بالعرض ، لأنّ تقييدها بحال الضرورة في غاية البعد ، لأنّ الظاهر أنّ عليّ بن جعفر(عليه السلام) كان عالماً بالفرق بين النافلة والفريضة من حيث جواز الإتيان بالاُولى على الراحلة مطلقاً ، وعدم جواز الإتيان بالثانية عليها إلاّ في حال الضرورة .
فسؤاله إنّما هو عن جواز الإتيان بالنافلة المنذورة على الراحلة في حال الإختيار ، لأنّ من المعلوم أنّ ما صار فريضة بالعرض لا يزيد حكمه على المفروض بالذات ، فإذا جاز الإتيان بالثاني في حال الضرورة على الراحلة فالإتيان بالأول عليها في حالها يكون جائزاً بطريق أولى ، فما يتعلّق به الشك والتحير الموجب للسؤال إنّما هو ما ذكرنا من الإتيان بالفريضة بالعرض على الراحلة في حال الإختيار ، فيجب تقييد الروايتين بها . هذا ، مضافاً إلى أنّ مورد الرواية هو ما كان المنذور نافلة دون الأعمّ منها ومن الفريضة كما هو واضح .
ومن المعلوم أنّ الوجوب الآتي من قبل النذر لا يغير المنذور عمّا هو عليه من الحكم ، بل المنذور بعد تعلّق النذر به إنّما يصير ديناً لله على العبد يجب الوفاء به ، ووجوب الوفاء بالشيء لا يغير حكمه ، فإذا كانت صلاة الليل مثلا قبل تعلّق النذر بها ممّا يجوز الإتيان بها على الراحلة ، فبعدما صارت ديناً على العبد ووجب عليه الإتيان بها لا يصير حكمها عدم جواز الإتيان بها على الدابة وغيرها ، كما هو المغروس في أذهان العرف .
ومضافاً إلى أنّ أخذ الفروض في الروايتين الاُوليين متعلّقاً لعدم الجواز ليس من باب مدخلية الفرضية في ذلك الحكم ، بل التعبير بها للإشارة إلى العناوين المفروضة بالذات كما لا يخفى .
ويؤيّد ما ذكرنا ـ من عدم جواز تقييد الأخيرة بحال الضرورة ـ ما دلّ على أنّ
(الصفحة255)
النبي(صلى الله عليه وآله) صلّى صلاة الليل في غزوة تبوك على الراحلة(1) ، مع أنّ مقتضى بعض الروايات أنّها كانت واجبة عليه(صلى الله عليه وآله)(2) .
إن قلت : إنّه لا يدلّ على ما ذكر لأنّها حكاية لفعله(صلى الله عليه وآله) ، ومن المعلوم أنّ الفعل لا إطلاق له ، فلعلّه(صلى الله عليه وآله) كان يصلّي تلك الصلاة على الراحلة للضرورة من مطر أو غيره .
قلت : الحاكي لفعله(صلى الله عليه وآله) هو الإمام(عليه السلام) وغرضه من الحكاية مجرّد بيان الحكم ، وحينئذ فلو كان قيد الضرورة دخيلا فيه ، وكان فعله(صلى الله عليه وآله) في ذلك الحال لوجب عليه البيان ، وحيث لم يبين يعلم منه إطلاق الحكم كما لا يخفى .
وممّا ذكرنا ظهر حكم الفرض الثاني ، وهو الإتيان بالفريضة التي صارت مستحبة بالعرض على الراحلة ، وذلك لأنّك عرفت أنّ ما يدلّ على عدم جواز الإتيان بالفريضة على الراحلة لا دلالة فيها على حكم النافلة المنذورة ، لأنّ أخذ الفريضة فيها للإشارة إلى الطبائع المفروضة بالأصل ، والمفروض أنّ الصلاة المعادة جماعة بعد الإتيان بها فرادى تكون منها ، فلا يجوز فعلها على الراحلة .
هذا تمام الكلام في القبلة .
(1) قرب الإسناد : 32 ح47 وص109 ح389 ; الوسائل 4 : 333 . أبواب القبلة ب15 ح20 و 21 .
(2) التهذيب 2 : 242 ح959 ; الوسائل 4 : 68 . أبواب أعداد الفرائض ب16 ح6 .
(الصفحة256)
(الصفحة257)
المقدمة الرابعة في الستر و الساتر
لا إشكال ولا خلاف في شرطية الستر في الجملة في الصلاة ، والكلام في الستر من جهتين :
الاُولى : في الوجوب النفسيّ الذي يتعلّق به مطلقاً في حال الصلاة وغيره .
الثانية : في شرطيته للصلاة ; ولا يخفى أنّ الكلام في الساتر إنّما هو من حيث الأحكام التي تتعلّق به لا بما هو ساتر ، بل من حيث لبس المصلّي له في حال الصلاة ، وغالب هذه الأحكام راجعة إلى مانعية بعض الأوصاف الموجودة فيه كما سيظهر إن شاء الله تعالى .
أمّا الكلام في الجهة الاُولى من الستر فهو وإن كان غير مرتبط بالمقام ، إلاّ أنّه لا بأس بذكر بعض ما يتعلّق به من الأحكام .
فاعلم أنّه يجب على النساء ستر ما عدا الوجه والكفّين بلا ريب ولا إشكال ، ويحرم على الرجال النظر إلى ما عداهما أيضاً ، إنّما الإشكال والخلاف في أنّه هل
(الصفحة258)
يجب عليهنّ ستر الوجه والكفّين كما هو المشهور بين الخاصّة والعامّة أو لا؟ ومنشأ ذلك اختلاف ما ورد في تفسير قوله تعالى : {ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها}(1).
فعن عبدالله بن مسعود : إنّ المراد بالزينة الظاهرة التي لا يحرم إبدائها هو الثياب(2) ويؤيّده قوله تعالى في ذيل هذه الآية : {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يُخفين من زينتهنّ} أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت ليتبيّن خلخالها ، فيعلم منه أنّ إبداء الزينة المخفية حرام .
وقوله تعالى : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ مسجد}(3) أي خذوا ثيابكم التي تتزيّنون بها عند إرادة الصلاة .
وقوله تعالى : {يا أيُّها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهنّ من جلابيبهنّ . . .}(4) أي قل لهؤلاء ليسترن وجههنّ بإرخاء الجلابيب ، فإنّ الإدناء إذا تعدّيت بـ «على» يكون المراد منها جعل ما تتعلّق به قريباً من المدنى عليه ، كما في قوله : «أدنى عليك ثوبك» إذا كان ثوبها بعيداً منها بحيث يظهر ما تحته ، والجلباب شيء أكبر من الخمار .
وعن عبدالله بن عبّاس : إنّ المراد بالزينة الظاهرة هو الكحل ، والخاتم ، والخدّان ، والخضاب في الكفّ(5) .
وعن ثالث : انّها الوجه والكفّان(6) ، فباختلاف التفاسير إختلف المراد من
(1) النور : 31 .
(2) مجمع البيان 7 : 138 .
(3) الأعراف : 31 .
(4) الأحزاب : 59 .
(5) جامع البيان 10 : 157 ـ 158; الدر المنثور 5 : 41 .
(6) السنن الكبرى 7 : 85 و86 ; التفسير الكبير 8 : 364 .
(الصفحة259)
الآية ، فمن قال بعدم حرمة إظهار الوجه والكفين إعتمد على الأخيرين ، ومن قال بوجوب سترهما استند إلى الأوّل مع سائر ما يؤيّده من الآيات كما عرفت .
ثمّ إنّ قوله تعالى بعد ذلك : {وليضربن بخمرهنّ على جيوبهنّ}(1) لا يدلّ على وجوب ستر الوجه ، لأنّ مقتضاه إنّما هو وجوب جعل طرفي الخمار على الجيب ، وهو ضلع أعلى القميص ليستر ما ظهر من الصدر والعنق ، لأنّ ما يتسترن به في زمان النبيّ(صلى الله عليه وآله) إنّما هو القميص الذي لا يستر صدرهنّ وعنقهنّ ، لكونهنّ يجعلن طرفي الخمار على ظهرهنّ على خلاف وضعه الطبيعي ، ولهذه الجهة فقد يمكن أن يتوهّم أنّ ستر الصدر والعنق غير واجب ، لأنّهما من المواضع الظاهرة ، فلذا قال تعالى : إنّه يجب إرخاء الخمار على الجيب ، وجعله بمقتضى وضعه الطبيعي ليسترهما .
وبالجملة : فيستفاد من هذه الجملة وجوب ستر الصدر والعنق ، ولا يستفاد ستر الوجه أصلا ، لأنّ جعل الخمار على الجيب لا يلازم ستر الوجه أصلا كما هو واضح .
ثمّ إنّ ظاهر قوله تعالى : {ولا يبدين زينتهنّ إلاّ ما ظهر منها} وإن كان هو حرمة إبداء الزينة غير الظاهرة مطلقاً ، إلاّ أنّه يستفاد من قوله تعالى في ذيل الآية : {ولا يبدين زينتهنّ إلاّ لبعولتهنّ . . .} وجوب التستر فيما كانت معرضاً لنظر الأجنبيّ ، سواء كان الناظر موجوداً أو لم يكن ، ولكن كانت في معرض النظر كما لا يخفى . هذا كلّه مقتضى الآيات الواردة في هذا المقام .
وأمّا الروايات فالمحكي عن العلاّمة (رحمه الله) في المنتهى إنّه قال : روي عن النّبيّ(صلى الله عليه وآله)أنّه قال : «المرأة عورة»(2) ، والمفهوم منه عند عرف المتشرّعة وجوب ستر جميع
(1) النور : 31 .
(2) المنتهى 1 : 236 .
(الصفحة260)
البدن ، لأنّ وجوب الستر من أظهر خواصّ المشبّه به وآثاره .
وفي مجمع البيان للطبرسي في ذيل قوله تعالى : {والقواعد من النساء . . .}(1)قال : وقد روي عن النبيّ(صلى الله عليه وآله) أنّه قال : «للزوج ما تحت الدرع وللإبن والأخ ما فوق الدرع ولغير ذي محرم أربعة أثواب : درع وخمار وجلباب وإزار»(2) ، ومعناه أنّه لا يحرم على الزوج النظر إلى ما تحت الدرع ـ وهو القميص ـ ولا يحرم على الزوجة إظهاره ولا يحرم على الإبن والأخ النظر إلى ما فوقه ولا على الاُم والاُخت إظهاره ، ويجب على المرأة أن تستر نفسها عن الأجنبي غير المحرم بأربعة أثواب : درع وهو القميص ، وخمار وهو ما يغطّي رأس المرأة ، وجلباب وهو شيء أكبر من الخمار ، وإزار وهو الذي يستر جميع البدن من الرأس إلى القدمين .
والمقصود من الرواية هو تأكيد وجوب التستّر عليها ، إذ من المعلوم كفاية ستر المرأة جميع بدنها ولو كان بالأخير فقط ، وأيضاً يكفي ستر المرأة نفسها ولو لم يكن بالثوب بل بورق الشجر أو غيره . هذا ، وقد استدل القائلون بوجوب ستر الوجه والكفّين أيضاً على النساء بالرواية الاُولى بناءً على أن يكون المراد بالعورة هي السوأة ، ويكون حملها على المرأة من باب التشبيه البليغ الذي تكون أداة التشبيه فيه محذوفة ، ليعرف ثبوت وجه الشّبه في المشبّه على نحو ثبوته للمشبّه به ، حتّى كأنّ الأوّل يكون من أفراد الثاني ومصاديقه .
ولمّا كان أظهر خواصّ العورة وآثارها هو قبح إظهارها عرفاً وشرعاً ، ووجوب سترها شرعاً لأجل كون إظهارها موجباً لتحريك الشهوات وفعل ما لا ينبغي صدوره ، فبذلك التشبيه البليغ يعلم ثبوت هذا الأثر في المرأة التي هي المشبّه ، لأنّ ظهورها موجب لصدور الأفعال القبيحة الممنوعة عند الشرع .
(1) النور : 60.
(2) مجمع البيان 7 : 155 .
|