(الصفحة421)
من الإزالة بحيث تبقى مستور العورة ، فإن لم يكن الدم زائداً على مقدار الدرهم فامض في صلاتك ولا إعادة عليك ، ومفهومها إنّه لو كان الدم زائداً على المقدار المذكور فلا يجب عليك المضي ، بل يجب عليك الإعادة .
ثمّ لا يخفى إنّه لا يجوز أن يكون قوله(عليه السلام) : «ما لم يزد» قيداً للجملة الاُولى أيضاً ، إذ ينافيه الأمر بالطرح الدالّ على وجوبه ، كما أنّه بناءً عليه يكون التفصيل بين ما إذا كان عليه ثوب غيره وبين ما إذا لم يكن عليه غيره بلا فائدة ، إذ يكون المدار حينئذ على الزيادة على مقدار الدرهم وعدمها ، ففي الصورة الاُولى تجب عليه الإعادة في الصورتين ، وفي الثانية بالعكس ، فوجب أن تكون قيداً للجملة الثانية فقط .
ثالثها : قوله(عليه السلام) : «وما كان أقلّ من ذلك . . .» ، ظاهرها إنّ الدم إذا كان أقلّ من مقدار الدرهم لا يترتّب عليه أثر ، وسواء فيه الرؤية وعدمها ، وهذه الجملة كالتأكيد للجملة الثانية المقيدة بالقيد المذكور وكالتقييد بالنسبة إلى الجملة الاُولى الدالة على وجوب الطرح ، حيث إنّها تقيدها بما إذا كان الدم أكثر من مقدار الدرهم كما تقدّمت الإشارة إليه .
رابعها : قوله(عليه السلام) : «وإذا كنت قد رأيته . . .» ، المراد إنّه لو كان الدم أكثر من مقدار الدرهم وقد رأيته قبل الشروع في الصلاة وضيّعت غسله ، والمراد به إمّا عدم الغسل أصلا أو الغسل مع عدم المبالاة في إزالة الدم ، وصلّيت فيه صلاة كثيرة فتجب عليك الإعادة ، وقد عرفت أنّ الصلاة في هذه الصورة لا تتحقّق من المكلّف المريد للامتثال العالم بشرطيّة الطهارة ، إلاّ مع نسيان نجاسة الثوب .
فهذه الجملة متعرّضة لحكم النسيان ، ولا دلالة لها على حكم صورة الجهل بالنجاسة أصلا كما لا يخفى ، ومن الواضح أنّه لا دلالة لهذه الجمل الثلاثة الأخيرة على التفصيل المتقدّم .
(الصفحة422)
هذا كلّه بناءً على ما هو الموجود في نسخ الكافي التي بأيدينا(1) وأمّا بناءً على ما رواه الشيخ في التهذيب كما تقدّم ، فالرواية أشبه بكونها صادرة من الإمام(عليه السلام) ، لخلوّها حينئذ عن التكرار ، نعم مدلول الجملة الثانية الواردة فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم يصير حينئذ مخالفاً لما عليه المشهور(2) ، من بطلان الصلاة مع عدم التمكّن من إزالة النجاسة ، كما هو مقتضى أدلّة شرطيّة الطهارة .
فانقدح من جميع ما ذكرنا أنّ الأقوى في مسألة الجهل التفصيل بين ما إذا تبيّن وقوع الصلاة في النجاسة بعد الفراغ عنها فتصحّ ، وبين ما إذا انكشف وقوع بعضها فيها في الأثناء فتبطل ، كما هو مدلول صحيحة زرارة المتقدّمة .
وقد عرفت أنّ الأقوى أيضاً صحة الصلاة فيما إذا احتمل حدوثها بعدها أو في الأثناء ، غاية الأمر إنّه يجب عليه في الصورة الثانية إزالة النجاسة وإتمام الصلاة مع الطهارة ، فيما إذا كان متمكّناً من تحصيلها ، ومع عدم التمكّن تبطل الصلاة وتجب
(1) قال سيّدنا الاُستاذ العلاّمة دام ظلّه: إنّه لا تخلو الرواية المذكورة عن الاضطراب ، بناءً على رواية الكافي ، إذ لابدّ من تقييد الجملة الاُولى بما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم ، كما يدلّ عليه قوله فيما بعد : «وما كان أقلّ من ذلك . . .» ، وحينئذ فيصير مناط الفرق بين الجملة الاُولى الدالة على الأمر بالطرح ، وبين الجملة الثانية الدالة على وجوب المضي في الصلاة وعدم وجوب الإعادة ، هو كون الدم زائداً على مقدار الدرهم في الاُولى ، وكونه أقلّ من ذلك في الثانية ، مع أنّ الظاهر من الرواية هو كون المناط وجدان ثوب آخر في الاُولى ، وعدمه في الثانية .
هذا ، ويمكن أن يقال: إنّ تقييد الجملة الاُولى بالدم المانع وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّه لا يوجب أن يكون مناط الفرق ما ذكره دام ظلّه; إذ فيما إذا كان الدم زائداً على مقدار الدرهم ولم يكن المصلّي واجداً لثوب آخر ، بمعنى أنّه لا يتمكّن من الإزالة ، يكون مفهوم الجملة الثانية بطلان الصلاة ووجوب الإعادة ، مع أنّه لو كان مناط الفرق بين الجملتين ما ذكره الأستاذ ، يلزم صحة الصلاة في الفرض المذكور، وهو خلاف مدلول الرواية كما لا يخفى «منه» .
(2) النهاية: 51 ـ 52; شرائع الإسلام 1: 46; المعتبر 1: 443; مدارك الأحكام 2: 353; مستند الشيعة 4: 270; جواهر الكلام 6: 223; الحدائق 5: 426.
(الصفحة423)
عليه الإعادة في سعة الوقت .
وأمّا مع ضيقه بحيث لم يتمكّن من الإتيان بها في الوقت مع مراعاة شرطيّة الطهارة ، فيجب عليه المضيّ فيها والاتمام من دون إعادة ، لما عرفت ممّا تقدّم أنّ مقتضى التتبّع والاستقراءفي موارد معارضة الوقت مع سائرالشروط،ترجيح مراعاة الوقت على مراعاة سائرالشروط ، ومرجع ذلك إلى سقوط شرطيّتها عند المعارضة مع الوقت . هذا كلّه فيما إذا صلّى في النجاسة مع عدم سبق العلم بها قبل الصلاة .
لو علم المصلّي بنجاسة ثوبه أو بدنه قبل الصلاة ثمّ نسي او اعتقد الخلاف
أمّا إذا علم بنجاسة ثوبه أو بدنه قبلها وصلّى فيها مع النسيان أو اعتقاد الخلاف ، إذ لا تتحقّق الصلاة من العالم بالنجاسة قبلها المريد للامتثال المتوجّه إلى شرطيّة الطهارة إلاّ مع طروّ عارض من النسيان أو الجهل المركّب ، فالمسألة من حيث وجوب الإعادة مطلقاً وعدمه كذلك .
والتفصيل بين الوقت وخارجه محلّ خلاف بين الأصحاب(1)، ومنشؤه اختلاف الأخبار الواردة في حكمها ، فطائفة منها ظاهرة في وجوب الإعادة ، وطائفة اُخرى تدلّ على عدمه ، وواحدة منها ظاهرة الدلالة على التفصيل .
أمّا الطائفة الاُولى فكثيرة :
منها : صحيحة زرارة المتقدّمة ، فإنّ الجواب عن سؤاله الأوّل يدلّ على وجوب غسل الثوب وإعادة الصلاة .
(1) الخلاف 1: 478 مسألة 221; المبسوط 1: 90; المراسم: 89 ـ 91; الوسيلة: 98; المهذّب 1: 153; الغنية: 66; السرائر 1: 183; المعتبر 1: 441; شرائع الإسلام 1: 54; المختصر النافع: 19; تذكرة الفقهاء 2: 490 مسألة 130 وص477 مسألة 126; الذكرى 1: 140; الدورس 1: 127; جامع المقاصد 1: 150; الحدائق 5: 418; مستند الشيعة 4: 255; جواهر الكلام 6: 215; كشف اللثام 1: 449.
(الصفحة424)
ومنها : رواية عبدالله بن سنان المرويّة في الكافي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام)عن رجل أصاب ثوبه جنابة أو دم؟ قال(عليه السلام) : «إن كان علم أنّه أصاب ثوبه جنابة قبل أن يصلّي ثم صلّى فيه ولم يغسله ، فعليه أن يعيد ما صلّى»(1) .
ومنها : رواية ابن مسكان قال : بعثت بمسألة إلى أبي عبدالله(عليه السلام) مع إبراهيم ابن ميمون، قلت : سله عن الرجل يبول فيصيب فخذه قدر نكتة من بوله فيصلّي ويذكر بعد أنّه لم يغسلها؟ قال : «يغسلها ويعيد صلاته». ورواه الكليني من غير تفاوت(2) .
ومنها : رواية سماعة قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يرى بثوبه الدم فينسى أن يغسله حتّى يصلّي؟ قال : يعيد صلاته كي يهتم بالشيء إذا كان في ثوبه، عقوبة لنسيانه»(3) .
وغير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة فيمن نسي الاستنجاء حتى صلّى(4) .
وأمّا الطائفة الثانية فكثيرة أيضاً :
منها : رواية العلاء عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : سألته عن الرجل يصيب ثوبه الشيء ينجّسه فينسى أن يغسله فيصلّي فيه، ثمّ يذكر أنّه لم يكن غسله أيعيد الصلاة؟ قال : لا يعيد، قد مضت الصلاة وكُتبت له»(5) .
ومنها : ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل يتوضّأ وينسى أن
(1) الكافي 3 : 406 ح9; والتهذيب 2 : 359 ح1488; الإستبصار 1: 182 ح636; الوسائل 3 : 475 . أبواب النجاست ب40 ح3.
(2) التهذيب 2: 359 ح1486; الإستبصار 1: 181 ح633; الكافي 3: 406 ح10; الوسائل 3: 480. أبواب النجاسات ب42 ح4.
(3) التهذيب 1: 254 ح738; الإستبصار 1: 182 ح638; الوسائل 3: 480. أبواب النجاسات ب42 ح5 .
(4) راجع الوسائل 1 : 317 . أبواب أحكام الخلوة ب10.
(5) التهذيب 1 : 423 ح1345 وج2 : 360 ح 1492; الاستبصار 1 : 183 ح642; الوسائل 3 : 480 . أبواب النجاسات ب42 ح3 .
(الصفحة425)
يغسل ذكره وقد بال، فقال(عليه السلام) : «يغسل ذكره ولا يعيد الصلاة»(1) .
ومنها : ما رواه عمّار بن موسى قال : سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) يقول : «لو أنّ رجلا نسي أن يستنجي من الغائط حتّى يصلّي لم يعد الصلاة»(2) .
وأمّا الرواية التي يستفاد منها التفصيل وتجعل شاهدة للجمع بين الطائفتين الاُوّليّين ، فهي رواية علي بن مهزيار قال : كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره: أنّه بال في ظلمة الليل وأنّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ أنّه أصابه ولم يره، وأنّه مسحه بخرقة ثم نسي أن يغسله، وتمسّح بدهن فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه، ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب قرأته بخطّه : أمّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللّواتي كنت صلّيتهنّ بذلك الوضوء بعينه ما كان منهنّ في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها، من قِبل أنّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلاّ ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات المكتوبات اللواتي فاتته، لأنّ الثوب خلاف الجسد، فاعمل على ذلك إن شاء الله»(3) .
أقول : لا يخفى أنّ الرواية في كمال الاضطراب من حيث المتن ، بحيث ربّما يحصل الوثوق والاطمئنان بعدم كونها صادرة عن المعصوم(عليه السلام) خصوصاً مع كونها مضمرة، وكون السائل مجهول الحال، وإن كان المظنون صدورها عنه(عليه السلام) باعتبار أنّ عليّ بن مهزيار لا يروي عن غير الامام(عليه السلام) ، ووجه الاضمار أنّه أشار في أوّل كتابه الذي جمع فيه أجوبة مسائل الرجال مع نفس المسائل بأنّ هذه الأجوبة من
(1) التهذيب 1 : 48 ح140 ، الاستبصار 1 : 54 ح157 ; الوسائل 1 : 317 . أبواب أحكام الخلوة ب10 ح2 .
(2) التهذيب 2: 201 ح789 وج1: 49 ح143; الإستبصار 1: 55 ح159; الوسائل 1: 318. أبواب أحكام الخلوة ب10 ح3.
(3) التهذيب 1 : 426 ح1355; الاستبصار 1 : 184 ح643; الوسائل 3 : 479 . أبواب النجاسات ب42 ح1 .
(الصفحة426)
الإمام(عليه السلام) ، لئلا يحتاج إلى ذكر اسمه(عليه السلام) عند كل رواية .
هذا ، ولكن ذلك لا يوجب أزيد من الظنّ بالصدور عنه ، ولا يقاوم الوثوق الحاصل من تشويش العبارة واضطراب المتن ، ووجهه إنّ ذيل الرواية يدلّ على أنّه لو صلّى مع نسيان إزالة النجاسة الحدثيّة بالوضوء أو الغسل ، تكون صلاته فاسدة يجب عليه إعادتها في الوقت وفي خارجه ، وعلّله بكون الثوب خلاف الجسد ، أي النجاسة الخبثيّة تغاير القذارة الحدثيّة ، فإنّه يجب في الثاني الإعادة مطلقاً، ولا يجب في الأوّل إلاّ الإعادة في الوقت خاصة .
مع أنّ مورد الرواية الذي حكم فيه بالتفصيل بين الصلوات الفائت وقتها ، وبين ما كان منها في وقتها ، كما يدلّ عليه قوله: «فإن حقّقت» إلى قوله: «وإن كان جنباً» من قبيل الثاني ، وذلك لأنّ موردها هو ما إذا توضّأ للصلاة مع نجاسة رأسه وكفّيه ووجهه ، وحينئذ فإن قلنا ببطلان ذلك الوضوء ، فيدخل المورد في قوله: «وإن كان جنباً أو صلّى على غير وضوء» فيجب عليه حينئذ الإعادة مطلقاً، وإن لم يكن باطلا ، إمّا لعدم كون المتنجس منجساً أو لحصول الطهارة المعتبرة في صحة الصلاة .
والغسل المعتبر في الوضوء معاً هو صبّ الماء بقصد الوضوء ، فلا تجب عليه الإعادة مطلقاً ، لعدم وقوع صلاته لا في النجاسة الخبثيّة ولا في القذارة الحدثيّة ، إلاّ أن يقال: إنّ ظاهرها نجاسة الوجه والكفّين والرأس ، والأوّلان منها وإن كان يمكن القول بارتفاع نجاستهما بصبّ ماء الوضوء عليهما ، إلاّ أنّ الأخير لا مساس له بأجزاء الوضوء ومحلّه أصلا كما لا يخفى .
فوجوب الإعادة في الوقت دون خارجه إنّما هو لأجل نجاسة البدن المعبّر عنها بنجاسة الثوب في ذيل الرواية . هذا ولكن ظاهر قوله : صلّيتهنّ بذلك الوضوء بعينه أنّ المقتضي لوجوب الاعادة هو الخلل الحاصل في الوضوء
(الصفحة427)
ومن ناحيته .
وكيف كان فالتفصيل بين الوقت وخارجه في مورد الرواية ينافي القاعدة المستفادة من ذيلها ، وهي بطلان الصلاة ووجوب الإعادة إذا صلّى جنباً أو على غير وضوء ، هذا ، مضافاً إلى أنّ التعبير عن النجاسة الخبثيّة بالثوب وعن القذارة الحدثيّة بالجسد كما في قوله : «لأنّ الثوب خلاف الجسد» لا يناسب مقام من كان له أدنى بصيرة بكيفيّة الاستعمالات ، فضلا عن الإمام(عليه السلام) .
فظهر أنّ الرواية وإن كانت ظاهرة في التفصيل إلاّ أنّها ساقطة عن درجة الاعتبار ، ولا يوثق بصدورها عن المعصوم(عليه السلام) ، لما عرفت من اضطراب متنها بحيث لا يمكن الجمع بين ما تدلّ عليه من الأحكام ولو بنحو من التأويل ، فلا تصلح لأن تكون شاهدة للجمع بين الطائفتين المتقدّمتين المتعارضتين ، فالواجب إمّا الجمع بينهما بوجه آخر وإمّا الرجوع إلى المرجّحات .
إذا عرفت ذلك ، فاعلم أنّه قد يقال بإمكان الجمع بينها بحمل ما ظاهره الوجوب على الاستحباب ، لمكان وجود النص على الصحة وعدم وجوب الإعادة ، فما نحن فيه من قبيل تعارض النصّ والظاهر ، فيجب إرجاع الثاني إلى الأوّل ، وفي الحقيقة لا تعارض بينهما بنظر العرف أصلا .
هذا ، ولكن لا يخفى أنّ عدم التعارض ووجوب الحمل فيما اذا ورد الأمر من المولى ثم ورد الإذن في الترك وإن كان مسلّماً كما يشهد به حكم العرف بذلك ، بل قد حقّقنا في الاُصول أنّ ظهور الأمر في الوجوب معلّق على عدم ورود الإذن في الترك ، إلاّ أنّ ذلك فيما إذا كان الأمر مولويّاً مقتضياً لاستحقاق المكلّف العقوبة على تقدير المخالفة ، وصحة عقوبة الأمر على ذلك التقدير ، لا فيما إذا كان إرشادياً كالأوامرالواردة عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) في مقام بيان الأحكام وتبليغها إلى الناس.
توضيح ذلك : انّ الأوامر الصادرة عن النبي(صلى الله عليه وآله) والأئمة(عليهم السلام) على قسمين :
(الصفحة428)
قسم يصدر منهم في مقام إعمال المولويّة والسلطنة على الناس ، كالأوامر الصادرة من الموالي العرفيّة بالنسبة إلى عبيدهم ، ولا إشكال في كون هذا القسم مولويّاً تجب إطاعته ، لكون النبي(صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، كما ورد في الآية الشريفة(1) ، وقسم يصدر منهم في مقام بيان الأحكام وتبيين الحكم الواقعي عند الله ، كالأمر الصادر من المفتي في مقام الإفتاء بل هو عينه ، وكالأمر الصادر من الطبيب المعالج بالنسبة إلى المريض .
ولا إشكال في كون هذا القسم إرشاديّاً ومبيّناً لما هو حكم القضية عند الله لا مولويّاً ، ولذا لا تصحّ منهم المؤاخذة على تقدير المخالفة ، كما لا تصحّ من الطبيب ، فإذا فرض صدور الأمر بإعادة الصلاة في صورة النسيان مثلا منهم كما في المقام فهو إرشاد إلى أنّ الحكم في هذه الصورة عند الله هو بطلان الصلاة ووجوب الإعادة .
كما أنّه لو فرض صدور الحكم بعدم وجوب الإعادة في الصورة المذكورة ، وبالمضيّ وعدم البأس فهو إرشاد إلى صحة الصلاة عند الله، ولا ريب في كونهما على فرض الصدور متعارضين ، فالواجب حينئذ المعاملة مع الأخبار المتقدّمة المتعارضة معاملة الدليلين المتعارضين ، من الرجوع إلى المرجّحات المذكورة في أخبار الترجيح .
فاللازم الأخذ بالروايات الدالة على وجوب الإعادة لتحقّق الشهرة الفتوائيّة على وفاقها ، وقد ذكرنا في محلّه أنّها أوّل المرجّحات ، على ما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة(2) ، لا الشهرة في الرواية ، مضافاً إلى تحقّقها هنا أيضاً كما لايخفى .
(1) الاحزاب : 6 .
(2) الكافي 1 : 54 ح10 وج7: 412 ح5; التهذيب 6 : 218 ح514 وص301 ح845 ; الوسائل 27 : 13 . أبواب صفات القاضي ، ب1 ح4.
(الصفحة429)
وقد تلخّص ممّا ذكرنا أنّه لو صلّى في النجاسة عالماً بالموضوع والحكم وعامداً ، فصلاته فاسدة ، ولو صلّى في النجاسة عالماً بالموضوع دون الحكم فكذلك أيضاً ، لعدم معذوريّة الجاهل بالحكم إلاّ في موارد مخصوصة .
وتوهّم دلالة حديث الرفع(1) على ارتفاع شرطيّة الطهارة عن الجاهل مطلقاً ، مدفوع بما تقدّم في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك من الإشكال في شموله للجاهل بالحكم فراجع .
ولو صلّى في النجاسة عالماً بالحكم دون الموضوع ، فقد تقدّم أنّ الأقوى التفصيل بين ما إذا تبيّن الخلاف في الأثناء ، وبين ما إذا تبيّن بعد الفراغ ، فتجب الإعادة في الأوّل دون الثاني ، لصحيحة زرارة المتقدّمة(2) ، ولو صلّى في النجاسة عالماً بالحكم والموضوع معاً ناسياً غير ذاكر ، فالأقوى وجوب الإعادة عليه مطلقاً ، لما عرفت من دلالة الأخبار عليه وترجيحها على غيرها .
فرع
لو علم بنجاسة شيء فنسي ولاقاه هو أو ثوبه بالرطوبة ، ثم صلّى ثم تذكّر أنّه كان نجساً ، فالظاهر أنّه من باب الجهل بالموضوع ، فلا تجب عليه الإعادة إلاّ فيما إذا تذكّر في الأثناء ، لا من باب النسيان حتّى تجب عليه الإعادة مطلقاً ، وذلك لأنّ ظاهر الأدلة الواردة في حكم الجاهل اطلاق الحكم وشموله لما إذا كان منشأ الجهل هو تعلّق النسيان بنجاسة شيء آخر غير ما صلّى فيه .
كما أنّ ظاهر الأدلة الواردة في حكم الناسي اختصاص الحكم بما إذا علم قبل الصلاة بنجاسة ما صلّى فيه لا بنجاسة شيء آخر ، وبالجملة فمتعلّق النسيان إنّما هو
(1) الخصال: 417 ح9 .
(2) تقدّم : ص416 .
(الصفحة430)
شيء لا يعتبر طهارته في الصلاة ، وأمّا البدن والثوب الذي صلّى فيه فلم يعلم بنجاسة واحد منهما قبل الصلاة ، فهو من أفراد الجهل بالموضوع .
ثمّ إنّ الظاهر أنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا علم قبل تحقّق النسيان بعروض النجاسة له وحصلت الملاقاة بينه وبين البدن أو الثوب بالرطوبة قبله ، وبين ما إذا حصلت الملاقاة بعده ، وذلك لعدم تحقّق العلم بنجاسة بدنه أو ثوبه الذي صلّى فيه في زمان أصلا ، فلا يخرج عن مسألة الجهل .
لو لم يكن للمصلّي إلاّ ثوب واحد نجس
لو لم يكن للمصلّي إلاّ ثوب واحد وكان نجساً ولم يتمكّن من إزالتها عنه وتطهيره ، مع مراعاة الوقت ، فهل تجب عليه الصلاة عرياناً إلاّ مع الاضطرار إلى لبسه لضرر أو حرج ، أو تتخيّر بين الصلاة كذلك وبين الصلاة في الثوب النجس ، أو يجب عليه خصوص الثاني؟ أقوال :
فعن الشيخ في كتبه كالنهاية والمبسوط والخلاف ، والحلي في السرائر ، والمحقّق في الشرائع والنافع ، والعلاّمة في بعض كتبه ، والشهيد هو القول الأوّل(1) . وعن المحقّق في المعتبر والعلاّمة في بعض كتبه هو الثاني(2) ، وعن كاشف اللّثام هو الثالث(3) ، ومنشأ الاختلاف بينهم وجود الأخبار المتعارضة في هذا المقام ، فيظهر من بعضها الأوّل ، ومن بعضها الثالث .
والشيخ حمل الطائفة الثانية الدالة على وجوب الصلاة في الثوب النجس على
(1) النهاية: 55; المبسوط 1: 90; الخلاف 1: 474 مسألة 218; السرائر 1: 186; شرائع الإسلام 1: 54; المختصر النافع: 19; قواعد الأحكام 1: 194; الذكرى 1: 139; الدروس 1: 127.
(2) المعتبر 1: 445 ; المنتهى 1: 182 و 239 .
(3) كشف اللثام 1 : 456 .
(الصفحة431)
صورة الاضطرار إلى لبسه لضرر أو حرج ، قال المحقق في المعتبر ـ بعد نقل فتوى الشيخ وحمل تلك الأخبار على ذلك ـ ما حاصله : إنّ هذا التأويل محلّ نظر ، ولو قيل بالتخيير بينهما لكان حسناً .
أقول : لابدّ أولا من نقل الأخبار الواردة في المقام ثم بيان مقدار دلالتها وثبوت التعارض بينها أو عدمه ، وقد عرفت أنّها على طائفتين :
أمّا الطائفة الاُولى الدالة على وجوب الصلاة عارياً مع عدم الاضطرار :
فمنها : رواية سماعة المرويّة في الكافي قال : سألته عن رجل يكون في فلاة من الأرض وليس عليه إلاّ ثوب واحد وأجنب فيه وليس عنده ماء، كيف يصنع؟ قال : «يتيمّم ويصلّي عرياناً قاعداً يومئ إيماءً»(1)، ورواه الشيخ أيضاً ، إلاّ أنّ المذكور فيما رواه موضع قوله قاعداً ، قائماً(2) .
ومنها : رواية محمّد بن علي الحلبي عن أبي عبدالله(عليه السلام) في رجل أصابته جنابة وهو بالفلاة، وليس عليه إلاّ ثوب واحد، وأصاب ثوبه منيّ قال : «يتيمّم ويطرح ثوبه فيجلس مجتمعاً فيصلّي فيومئ إيماءً»(3) .
وأمّا الطائفة الثانية الدالة بظاهرها على وجوب الصلاة في الثوب النجس ، فمنها : رواية محمد بن علي الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل أجنب في ثوبه وليس معه ثوب غيره؟ قال(عليه السلام) : «يصلّي فيه، فإذا وجد الماء غسله» . قال
(1) الكافي 3 : 396 ح15; التهذيب 2 : 223 ح881 باسناده عن الكليني; الوسائل 3 : 486 . أبواب النجاسات ب46 ح1 .
(2) التهذيب 1: 405 ح1271; الإستبصار 1: 168 ح582، عن غير طريق الكليني; الوسائل 3: 486. أبواب النجاسات ب46 ح3.
(3) التهذيب 1 : 406 ح1278 وج2 / 223 ح882 ; الاستبصار 1 : 168 ح583; الوسائل 3 : 486 . أبواب النجاسات ب46 ح4 .
(الصفحة432)
الصدوق: وفي خبر آخر: «وأعاد الصلاة» . وفي رواية اُخرى له إنّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يكون له الثوب الواحد فيه بول لا يقدر على غسله؟ قال(عليه السلام) : «يصلّي فيه»(1) .
ومنها : ما رواه عبدالرحمن بن أبي عبدالله أنّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يجنب في ثوب ليس معه غيره ولا يقدر على غسله؟ قال(عليه السلام) «يصلّي فيه»(2) .
ومنها : ما رواه الشيخ بإسناده عن عليّ بن جعفر(عليه السلام) عن أخيه موسى(عليه السلام)قال : سألته عن رجل عريان وحضرت الصلاة، فأصاب ثوباً نصفه دم أو كلّه دم يصلّي فيه أو يصلّي عرياناً؟ قال(عليه السلام) : «إن وجد ماءً غسله، وإن لم يجد ماءً صلّى فيه ولم يصلّ عرياناً»(3) .
ومنها : رواية محمّد بن عليّ الحلبي قال : سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الرجل يجنب في الثوب أو يصيبه بول وليس معه ثوب غيره؟ قال(عليه السلام) : «يصلّي فيه إذا اضطر إليه»(4) .
ومنها : ما رواه عمّار الساباطي عن أبي عبدالله(عليه السلام) أنّه سئل عن رجل ليس معه إلاّ ثوب ولا تحلّ الصلاة فيه، وليس يجد ماءً يغسله كيف يصنع؟ قال : يتيمم ويصلّي، فإذا أصاب ماءً غسله وأعاد الصلاة»(5) . وهذا هو الخبر الذي قال
(1) الفقيه 1: 40 ح155 و156 وص160 ح753; الوسائل 3: 484. أبواب النجاسات ب45 ح1 ـ 3.
(2) الفقيه 1: 16 ح754; التهذيب 2: 224 ح885 ; الإستبصار 1: 169 ح586; الوسائل 3: 484، 485. أبواب النجاسات ب45 ح4 و 6 .
(3) الفقيه 1 : 160 ح756; قرب الإسناد: 165 ح704; التهذيب 2 : 224 ح884; الإستبصار 1 : 169 ح585 ; الوسائل 3: 484. أبواب النجاسات ب45 ح5.
(4) التهذيب 2: 224 ح883 ; الإستبصار 1: 169 ح584 ; الوسائل 3: 485. أبواب النجاسات ب45 ح7.
(5) التهذيب 1: 407 ح1279 وج2: 224 ح886; الإستبصار 1: 169 ح587; الوسائل 3: 485. أبواب النجاسات ب45 ح8 .
(الصفحة433)
الصدوق بعد نقل رواية الحلبي : وفي خبر آخر «وأعاد الصلاة» .
ثمّ إنّك قد عرفت أنّ المحقّق في المعتبر(1) جمع بين هذه الأخبار المتعارضة بالحمل على التخيير ، ومعناه تخيير المكلّف بين الصلاة عارياً وبين الصلاة في الثوب النجس ، ولا يخفى أنّ التخيير هنا ليس كالتخيير في الواجب التخييري ، بأن يكون هنا أمر واحد متعلّق بالشيئين على سبيل التخيير ، إذ الأمر فيما نحن فيه دائر بين رعاية شرطيّة الستر أو مانعية النجاسة في المأمور به بالأمر التعييني وهي الصلاة .
وبعبارة اُخرى ، الشك هنا في أنّ متعلّق الأمر التعييني هل يتحقّق في هذه الصورة بمراعاة الشرط أو يتوقف انطباق عنوان الصلاة على المأتي به؟ على أن لا تكون واقعة في النجاسة ، ولو كان ذلك مستلزماً لوقوعها في حال عدم الستر ، ومن هنا يظهر أنّ التخيير بين الصورتين بناءً عليه تخيير عقلي ، إذ لا يخلو إمّا أن يصلّي المكلّف في الثوب النجس ، فيلزم عدم مراعاة مانعية النجاسة ، أو يصلّي عارياً فيلزم عدم مراعاة شرطيّة الستر ، فليس هنا تخيير شرعيّ لكي يحتاج إلى البيان .
ومن المعلوم أنّ القول بالتخيير بناءً عليه يرجع إلى عدم مانعية النجاسة وعدم شرطيّة الستر كما هو واضح ، والظاهر أنّ سؤال الرواة إنّما هو عن تعيين أحدهما ، كما أنّ الجواب في كل واحد من الروايات إنّما يدلّ على تعيين أحد الأمرين .
وبالجملة : فالجمع بين تلك الأخبار بهذا النحو ممّا لا يساعده العرف ، إذ الدليل الدالّ على وجوب الصلاة عارياً وإلقاء الثوب ، والدليل الدالّ على وجوب الصلاة في الثوب النجس ، والنهي عن الصلاة عارياً كما في بعض الروايات المتقدّمة ممّا لا يمكن القول به ، لأنّه لا معارضة بينهما ، مع أنّ مرجع الجمع بالحمل على
(1) المعتبر 1 : 445 .
(الصفحة434)
التخيير إلى كونه جمعاً عرفيّاً ، يوجب خروجهما عن التعارض .
والحقّ إنّه لا محيص عن الجمع بينهما ، لما عرفت من الشيخ من حمل الأخبار الدالة على وجوب الصلاة في الثوب النجس على ما إذا اضطر إلى لبسه لبرد أو وجود ناظر أو غيرهما ، وحمل ما يدلّ على الصلاة عارياً على صورة عدم الاضطرار(1) .
توضيح ذلك ، إنّ السند في بعض الروايات المتقدّمة الدالة على وجوب الصلاة عارياً ينتهي إلى محمّد بن عليّ الحلبي ، كما أنّ السند في بعض الروايات الدالة على وجوب الصلاة في الثوب النجس ينتهي إليه(2) أيضاً ، ومن البعيد إنّه كان قد سأل عن حكم المسألة مرّتين أو مرّات ، بل الظاهر أنّه سأل عن الإمام(عليه السلام)مرّة واحدة وأجابه(عليه السلام) بجواب واحد ، فالتعدّد إنّما نشأ من تعدّد من روى عنه من الرواة .
وحينئذ فالرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه الجنابة مع عدم كونه واجداً لغيره ، ليست مغايرة للرواية المشتملة على حكم من أصاب ثوبه المنفرد البول ، بل الظاهر أنّهما رواية واحدة ، كما يدلّ على ذلك روايته الأخيرة المشتملة على حكم من أصاب ثوبه المنفرد جنابة أو بول .
ولا يخفى أنّ وجوب الصلاة في الثوب النجس قد قيّد في هذه الرواية بما إذا كان المصلّي مضطرّاً إلى لبسه لبرد أو غيره ، إذ ليس المراد من الاضطرار ، الاضطرار الحاصل من قبل الصلاة ، لكونها مشروطة بستر العورة ، إذ كان ذلك مفروض السؤال ، فلا يحتاج إلى التكرار ، فالمراد منه هو الاضطرار الطارئ مع قطع النظر عن اعتبار الستر في صحة الصلاة .
وحينئذ فهذه الرواية تكون شاهدة للجمع بين الروايات التي رواها محمّد بن
(1) الإستبصار 1: 169; الخلاف 1: 476 ذ مسألة 218 .
(2) راجع الوسائل 3 : 484 ـ 487 . أبواب النجاسات ب45 ح1 و 7; وب46 ح4 .
(الصفحة435)
عليّ الحلبي ، التي قد عرفت أنّها رواية واحدة ، ولعلّ الوجه في إطلاق الحكم بوجوب الصلاة عارياً في روايته الاُولى ، هو أنّ مفروض السؤال كون الرجل في فلاة من الأرض; ومن المعلوم انّه لا يضطر الرجل حينئذ إلى لبس الثوب غالباً ، لعدم وجود ناظر فيها كذلك .
فإذا ثبت الجمع بين الروايات التي رواها محمد بن علي الحلبي بهذا النحو ، فيظهر وجه الجمع بين سائر الروايات المتعارضة ، إذ الظاهر أنّ موثّقة سماعة المتقدّمة التي حكم فيها بوجوب الصلاة عرياناً إنّما هي واردة فيما إذا كان الرجل في فلاة من الأرض كبعض روايات الحلبي ، وقد عرفت أنّه في هذه الصورة لا يتحقّق الاضطرار غالباً .
فانقدح أنّ طريق الجمع بين الروايات المتقدّمة المتعارضة بعد التأمّل فيها هو ما اختاره الشيخ في مقام رفع المعارضة بينها ، من وجوب الصلاة عارياً فيما إذا لم يتحقّق الاضطرار إلى لبسه لبرد أو ناظر أو غيرهما ، كما أنّه ممّا ذكرنا من أنّ كثيراً من الروايات الواردة في هذا المقام ينتهي سندها إلى محمّد بن علي الحلبي ، وذلك يدلّ على كونها رواية واحدة ، ظهر أنّه لا مجال لدعوى التواتر أو الاستفاضة ، والتقديم بسببه في إحدى الطائفتين .
ثمّ إنّه قد يستدلّ على وجوب الصلاة في الثوب النجس مطلقاً بوجه عقليّ ، وهو إنّ الطهارة معتبرة فيما يكون ساتراً ، وبعبارة اُخرى يعتبر في صحة الصلاة أمران : ستر العورة ، وكون الساتر فاقداً للنجاسة ، فشرطيّة الستر كالأصل بالنسبة إلى اعتبار الطهارة ، فإذا تعذّر مراعاة وصف الساتر ، فلا يترك لأجله أصل الستر على ما هو مقتضى حكم العقل في كل موصوف وصفة كانا مطلوبين ، وتعذّر مراعاة الوصف وجوابه يظهر ممّا قدّمنا ذكره ، من أنّ الطهارة معتبرة في الساتر لا بما هو ساتر ، بل بما هو لباس للمصلّي .
(الصفحة436)
وبعبارة اُخرى هي معتبرة فيما يلبسه المصلّي سواء كان ساتراً أم لا ، وقد عرفت أيضاً أنّ الطهارة أمر عدمي ، لا معنى لأن تكون شرطاً للصلاة ، بل النجاسة التي هي أمر وجوديّ تكون مانعة عن صحّتها ، فالأمر دائر بين رعاية شرطيّة الستر وبين رعاية مانعية النجاسة ، بترك الصلاة في الثوب النجس .
ومن المعلوم إنّه ليس للعقل سبيل إلى ترجيح أحد الطرفين والحكم بتعيّنه ، فلابدّ من التوقف حتى يعلم ما هو المقدّم في نظر الشارع ، وقد عرفت أنّ مقتضى الجمع بين الأخبار الواردة عن الأئمة(عليهم السلام) هو الحكم بوجوب الصلاة عارياً ، إلاّ فيما إذا اضطر إلى لبس الثوب .
ثمّ إنّه قد يقال بعدم إمكان حمل رواية عليّ بن جعفر(عليه السلام) المتقدّمة ـ الدالة على وجوب الصلاة في الثوب الذي نصفه أو كلّه دم والنهي عن الصلاة عرياناً ـ على صورة الاضطرار إلى لبس ذلك الثوب ، لبرد أو وجود ناظر ، كما حملها الشيخ على ذلك ، ووجهه أنّ موردها ما كان الرجل عرياناً فوجد ثوباً بذلك الوصف ، وظاهرها عدم كونه مضطرّاً إلى لبسه ، والمفروض إنّه قد حكم فيه بوجوب الصلاة في الثوب النجس ، فلا مجال للحمل على صورة الاضطرار .
ولكن فيه مضافاً إلى أنّ هذا الاشكال كما ينافي الحمل على صورة الاضطرار ، والتفصيل بينها وبين غيرها كما اختاره الشيخ(1) ، كذلك ينافي ما استحسنه المحقّق في المعتبر من الحمل على التخيير(2) ، لما عرفت من اشتمالها على النهي عن الصلاة عرياناً .
نعم يناسب القول المستحدث في القرون الأخيرة الذي اختاره كاشف اللّثام ،
(1) المبسوط 1: 90 و 91; الخلاف 1: 474; النهاية: 55 .
(2) المعتبر 1 : 445 .
(الصفحة437)
وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه(1) ، وهو وجوب الصلاة في الثوب النجس مطلقاً ، فيصير مضمون الرواية معرضاً عنه غير معمول به ظاهراً ، بأنّ هذا المعنى لا يوجب صراحة الرواية ونصوصيّتها في غير صورة الاضطرار ، فلا تكون آبية عن حمل الشيخ ، وإن كان حملها على ذلك أبعد من حمل سائر الروايات الدالة على وجوب الصلاة في الثوب النجس كما لا يخفى .
هذا ، ولو فرضنا عدم إمكان الجمع بين تلك الأخبار المتعارضة ، بنحو يخرجها عن التعارض ، فاللازم الرجوع إلى المرجّحات المذكورة في أخبار الترجيح(2) ، وقد قرّرنا في محلّه أنّ أوّلها هي الشهرة في الفتوى ، ولا ريب في أنّها موافقة للروايات الدالة على وجوب الصلاة عرياناً ، كما يدلّ عليه فتوى الشيخ ومن بعده إلى زمان المحقّق .
فالواجب بناءً عليه الأخذ بها أيضاً ، والحكم بوجوب الصلاة عارياً ، وكيفيّة صلاة العاري من حيث القيام أو القعود ، ومن حيث الإيماء أو الركوع والسجود ما عرفت سابقاً فراجع .
لو كان له ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين
لو كان له ثوبان يعلم بنجاسة أحدهما لا على التعيين ، ولم يتمكّن من غسل أحدهما ، فمقتضى القاعدة وجوب الصلاة في كليهما ، لأنّه يتمكّن من مراعاة الستر والطهارة المعتبرة في الثوب بالصلاة في كل منهما مرّة .
غاية الأمر إنّه لا يتمكّن من الامتثال التفصيلي فيسقط ، ولا يجب عليه حينئذ أزيد من الامتثال العلمي الاجمالي ، كما هو الشأن في جميع موارد العلم الاجمالي ،
(1) كشف اللثام 1 : 455; الحدائق 5: 352; مفتاح الكرامة 1: 182; العروة الوثقى 1: 76 مسألة4.
(2) الكافي 1: 67 ح10; وج7: 412 ح7 .
(الصفحة438)
ويدلّ على ذلك مضافاً إلى أنّه مقتضى القاعدة ، كما عرفت ما رواه الصدوق في الصحيح عن صفوان بن يحيى إنّه كتب إلى أبي الحسن(عليه السلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان، فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيّهما هو، وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع؟ قال : «يصلّي فيهما جميعاً»(1) .
هذا ، وصرّح الحلّي في محكيّ السرائر بوجوب الصلاة عارياً على طريقة صلاة العاري ، وزعم أنّه مقتضى الاحتياط ، وسيجيء نقل عبارته ، ويظهر من الشيخ في الخلاف وجود القائل بهذا القول في عصره وقبله(2); كما أنّه يظهر من مسبوطه وجود رواية على هذا المضمون(3)، ولكنّه(قدس سره) أفتى فيهما بوجوب الصلاة فيهما جميعاً .
قال الحلّي في السرائر : وإذا حصل معه ثوبان أحدهما نجس والآخر طاهر ، ولم يتميّز له الطاهر، ولا يتمكّن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا : يصلّي في كل واحد منهما على الانفراد وجوباً ، وقال بعض منهم: ينزعهما ويصلّي عرياناً ، وهذا الذي يقوى في نفسي وبه أفتي ، لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف ، ودليل الاجماع منفي، فإذا كان كذلك فالاحتياط يوجب ما قلناه .
فإن قال قائل : بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، لأنّه إذا صلّى فيهما جميعاً تبيّن وتيقّن بعد فراغه من الصلاتين معاً أنّه قد صلّى في ثوب طاهر .
قلنا : المؤثّرات في وجوه الأفعال تجب أن تكون مقارنة لها لا متأخّرة عنها ، والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة من الصلاتين إنّه نجس ، ولا يعلم إنّه طاهر عند افتتاح كل صلاة ،
(1) الفقيه 1 : 161 ح757; التهذيب 2 : 225 ح887 ; الوسائل 3 : 505 . أبواب النجاسات ب64 ح1 .
(2) الخلاف 1 : 481 .
(3) المبسوط 1 : 91 .
(الصفحة439)
فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلاّ بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة، وهو شاكّ في طهارة ثوبه ، ولا يجز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وأيضاً كون الصلاة واجبة على وجه تقع عليه الصلاة ، فكيف يؤثّر في هذا الوجه ما يأتي بعده ، ومن شأن المؤثّر في وجوه الأفعال أن يكون مقارناً لها لا يتأخّر عنها على ما بيّناه انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه(قدس سره)(1) ، ولا يخفى ما فيه :
أمّا أولا : فلأنّ الظاهر من قوله : ودليل الاجماع منفي ، أنّ الدليل المتصوّر منحصر بالاجماع ، وهو غير موجود في المسألة ، مع أنّ الواضح عدم اختصاص الدليل بالاجماع المفقود فيها ، لما عرفت من دلالة الرواية الصحيحة المتقدّمة على حكم المسألة .
وأمّا ثانياً : فلأنّه لو سلّمنا انحصار الدليل بالاجماع المفقود لعدم حجّية خبر الواحد كما هو مرامه ، فلا نسلّم أنّه بعد فقد الاجماع يجب الرجوع إلى الاحتياط ، فمن المحتمل أن يكون الواجب هو الرجوع إلى أصالة البراءة .
وأمّا ثالثاً : فلأنّه لو سلّمنا أنّ الواجب بعد فقد الاجماع هو الرجوع إلى أصالة الاحتياط ، لكن لا نسلّم أنّ مقتضاها وجوب الصلاة عارياً ، بل الظاهر أنّ الاحتياط يقتضي وجوب الصلاة فيهما جميعاً ، لأنّ ما أجاب به عن قول القائل بأنّ الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، من أنّ المؤثّرات في وجوه الأفعال . . . ، لايخلو من الإشكال .
لأنّه إن أراد بذلك أنّ المؤثّر في صيرورة الصلاة واجدة للمصلحة الموجبة لتعلّق الأمر هي طهارة المصلّي بما يلابسه ، فهو وإن كان مسلّماً ، إلاّ أنّ من الواضح
(1) السرائر 1 : 184 ـ 185 .
(الصفحة440)
عدم كونها متأخّرة عنها بل مقارنة لها ، غاية الأمر أنّ العلم بوقوعها مع الطهارة متأخّر عنها كما لا يخفى .
وإن أراد بذلك أنّ المؤثّر في ذلك هو العلم بوقوع الصلاة مع الطهارة المعتبرة فيها كما يدلّ عليه قوله : والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، فهو وإن كان تحققه موقوفاً على الصلاة في كليهما فيتأخّر تحققه عنها ، إلاّ أنّ الظاهر عدم الدليل على اعتبار العلم بالطهارة ، بل المعتبر نفسها ، وبعبارة اُخرى هي شرط واقعيّ لا علميّ .
وإن أراد بذلك أنّ المؤثّر هو قصد امتثال الأمر المتعلّق بالصلاة مع الطهارة ، لأنّها من الاُمور العباديّة التي يشترط في صحّتها قصد الأمر المتعلّق بها ، وبدونه تكون بلا حسن ومصلحة ، وحينئذ فمع الشك في طهارة الثوب عند الشروع لا يتمشّى منه قصد الامتثال ، لعدم العلم بتعلّق الأمر بالصلاة في هذا الثوب .
ففيه: أنّ الواضح أنّ الداعي له إلى الإتيان بهما جميعاً ليس إلاّ الأمر المتعلّق بالصلاة ، إذ المفروض عدم كونه مرائياً في فعلهما، غاية الأمر إنّه لا يعلم بأنّ الامتثال هل تحقّق بالصلاة التي فعلها أولا أو أنّ المحصل له هو ما أتى به ثانياً ، ولا دليل على اعتبار هذا العلم في تحققه ، بل الظاهر انّه لا فرق في تحقّق الإطاعة بين الامتثال العلمي التفصيلي وبين الامتثال العلمي الاجمالي ، فيما إذا كان متمكّناً من الأوّل أيضاً، لولا أنّ العبادات محتاجة في كيفيّتها إلى ثبوت الإذن من الشارع ، ولم يرد في صورة التمكّن من الامتثال العلمي التفصيلي الإذن ، والتخيير بينه وبين الآخر .
وبالجملة: فقصد الأمر المعتبر في صحة العبادة لا ينحصر تحققه بماإذا علم بالمأمور به تفصيلا كما عرفت ، هذا كلّه فيما إذا تمكّن المكلّف من الصلاة في الثوبين جميعاً ، وقد عرفت أنّ الأقوى وجوبها فيهما .
|