الصفحة 61
غير البالغ حدّ الكر كذلك ـ أي بالنسبة إلى جميع أفراده ـ فلا محالة يقع بينهما التعارض في خصوص مادة الاجتماع ـ وهي الماء القليل الجاري ـ من دون أي تفسير وتعرّض من أحدهما بالنسبة إلى الآخر أصلاً.
ويظهر من الشيخ(قدس سره) في كتاب الطهارة أنّه بعد فرض كون التعارض بينهما بالعموم من وجه يكون الأولى تقييد إطلاقات الجاري حيث قال: «والتقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة بل بنفسه كرّاً قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة فإنّه إخراج للفرد المتعارف، ودعوى أنّ الخارج عن أحد الإطلاقين هو الجاري القليل، ولا يتفاوت الحال بين خروجه عن إطلاقات الجاري أو عن تلك الإطلاقات، مدفوعة بأنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله(عليه السلام) بعد السؤال عن الماء الذي لا ينجّسه شيء: إنّه الكرّ من الماء، وقوله(عليه السلام) : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ونحو ذلك هو مطلق الجاري فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد، وهذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ حدّ الكر كما لا يخفى على المنصف».
وعلّل ذلك ـ أي كون الخارج عن إطلاقات أدلّة الاعتصام هو مطلق الجاري لا خصوص القليل منه ـ في المصباح بأنّ تخصيص المفهوم بما عدا القليل الجاري يستلزم تقييد الماء في منطوق القضية بالراكد، إذ لا يعقل شمول المنطوق لكثير الجاري وعدم شمول المفهوم لقليله لأنّ المفاهيم من قبيل اللبّيات، منشأها الاستلزامات المقحّقة بين المناطق ومفاهيمها فلا يعقل التصرّف فيها ـ ولو بالتخصيص ـ إلاّ بالتصرّف في المنطوق.
أقول: امّا ما ذكره في المصباح تعليلاً لكون الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة هو مطلق الجاري فلم يعلم له وجه إذ ليس المفهوم بحيث لا يجوز التصرّف
الصفحة 62
فيه إلاّ بالتصرّف في المنطوق لأنّه ليس إلاّ ظهوراً للمنطوق ويمكن رفع اليد عنه ـ كلّية أو بالإضافة إلى بعض أفراده ـ ألا ترى انّه لو قيل: أكرم العلماء العدول، الدالّ بمفهومه ـ بناء على ثبوت مفهوم الوصف ـ على عدم وجوب أكرم العالم الفاسق ثمّ ورد: أكرم الفقهاء ـ مثلاً ـ الشامل بإطلاقه لما إذا كان الفقيه فاسقاً، فمجرّد وقوع التعارض بين ذاك المفهوم وهذا المنطوق هل يستلزم أن لا يكون منطوق الأوّل شاملاً للفقيه لتقيّد مفهومه ـ مثلاً ـ بما عدا الفقيه أو لأجل نفس المعارضة ومن المعلوم خلافه.
وامّا ما أفاده الشيخ(قدس سره) من دوران الأمر بين إخراج الفرد النادر وبين إخراج الفرد المتعارف والثاني أبعد من الأوّل. ففيه أنّ مجرّد ذلك لا يوجب الأخذ بإطلاق أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ما لم يكن ذلك مقتضى الجمع العرفي، فإنّ اللاّزم في أمثال هذه الموارد اتباع ما هو المتفاهم عند العرف، وقلّة الأفراد وكثرتها لا توجب مزية لأحدهما على الآخر.
وبالجملة فالظاهر انّه بعد ثبوت المفهوم ـ بمعنى العلّية المنحصرة ـ لتلك الإطلاقات يقع التعارض بينها وبين إطلاقات أدلّة الجاري بالعموم من وجه ولا خصوصية للمقام تقتضي تعين الأخذ بأحد الإطلاقين والتصرّف في الآخر فالواجب الرجوع إلى قواعد باب التعارض فنقول: إن قلنا بدخول هذا القسم من التعارض ـ وهو التعارض بالعموم من وجه ـ في موضوع الأخبار العلاجية، لأنّهما يعدّان بنظر العرف من «المتعارضين» أو «المتخالفين» فالواجب الأخذ بإطلاقات أدلّة الجاري لكونها موافقة لفتوى المشهور ـ وقد ثبت في محلّه انّ أوّل المرجحات هي الشهرة من حيث الفتوى ـ وإن قلنا بخروج مثل المقام عن مورد أخبار العلاج لأنّ المتفاهم من مثل عنوان «المتعارضين» هو ما كان الدليلان متعارضين بتمام
الصفحة 63
مدلولهما، فمقتضى القاعدة التساقط والرجوع إلى عموم النبوي المعروف المتقدّم وهو قوله(صلى الله عليه وآله): «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» ولو نوقش فيه من حيث السند ـ فرضاً ـ فمقتضى القاعدة الرجوع إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها، وبالنتيجة يثبت المطلوب وهو فتوى المشهور.
ثمّ إنّ بعض الأعلام سلك في مقام الجواب عن دليل العلاّمة(قدس سره) طريقاً آخر يرجع حاصله إلى أن صحيح ابن بزيع كالنص في اعتصام المياه التي لها مادّة وأدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة لا تكون بهذه المرتبة فالصحيح يصير قرينة وبياناً وبالإضافة إليها ولا تبقى بينهما معارضة بوجه، ولو بنى على التعارض بأن قطع النظر عن ذيل الصحيح واقتصر على صدره يمكن الاستدلال به أيضاً على طهارة ماء البئر مطلقاً فإنّ النسبة وإن كانت عموماً من وجه إلاّ أنّ الترجيح في مادّة الاجتماع مع الصحيح لأنّ تقديم الآخر يستلزم إلغاء العنوان المأخوذ فيه وهو ماء البئر ضرورة انّه لو اختص اعتصامه بصورة الكثرة لا يبقى لهذا العنوان في دليل الاعتصام موضوعية بوجه ويصبح لغواً غير مؤثِّر وهذا بخلاف التصرّف في الدليل الآخر فإنّه لا يوجب إلاّ تضييق دائرة الانفعال وهو ممّا لا محذور فيه بعد شيوع التخصيص والتقييد كما لا يخفى.
أقول: امّا اقوائية دلالة الصحيحة بحيث تكون كالنصّ فممنوعة جدّاً; لأنّ ظهور تلك الأدلّة في العلّية المنحصرة ـ بناء على ثبوت المفهوم ـ ليس بأضعف من ظهور التعليل في الصحيحة ولم يعلم وجه الاقوائية أصلاً.
وامّا الكلام الأخير فهو وإن كان صحيحاً إلاّ انّه يتمّ بالإضافة إلى عنوان «ماء البئر» المأخوذ في دليل الاعتصام وامّا بالإضافة إلى الماء الجاري الذي هو محلّ البحث فعلاً فلا يتمّ لعدم كونه مأخوذاً بنحو العنوانية في شيء من أدلّة الاعتصام
الصفحة 64
بناء على مسلكه ضرورة انّ عمدة الدليل عنده هي الصحيحة وقد قطع النظر عن ذيلها على ما هو المفروض وصدرها وارد في ماء البئر والروايات الواردة في عنوان الماء الجاري بين ما يكون مشتملاً على الخلل من حيث السند أو الضعف من حيث الدلالة كما في رواية تنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري حيث حكم بكون هذا التنزيل ناظراً إلى الكثرة ومرجعه إلى أنّه لا خصوصية للماء الجاري أصلاً فنسأل عنه ـ حينئذ ـ انّه أي دليل ورد في الماء الجاري وحكم باعتصامه حتى يكون التصرّف فيه موجباً لإلغاء العنوان وهو ممّا لا يمكن حمل كلام الحكيم عليه، نعم هذا الكلام يتمّ بناء على ما ذكرنا من وجود دليل في الماء الجاري حاكم عليه بالاعتصام كرواية التنزيل ونحوها فافهم واغتنم.
المقام الثالث: في حكم النابع الواقف الذي حكم في المتن بلحوقه بالماء الجاري وظاهره انّه خارج عنه موضوعاً مشترك معه في الحكم، والحقّ انّه إن قلنا بكونه من مصاديق الماء الجاري كما نفينا البعد عنه أولاً تبعاً لصاحب المسالك(قدس سره)فاعتصامه مطلقاً ـ قليلاً كان أم كثيراً ـ يصير بلا ريب كسائر أفراد الماء الجاري، وإن قلنا بعدم كونه من مصاديقه كما استظهرناه أخيراً فالدليل على اللحوق الحكمي صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر بالتقريب الذي عرفت في استفادة حكم الماء الجاري منها لعدم اختصاصها به بل يجري في كلّ ماء له مادّة سواء كان التعليل ناظراً إلى الصدر ومتعرّضاً لحكم الدفع أو ناظراً إلى الذيل ومبيّناً لحكم الرفع كما عرفت فبملاحظة الصحيحة يجري حكم الاعتصام في جميع المياه التي كانت لها مادّة سواء كان ماءً جارياً أم لم يكن.
المقام الرابع: في حصول الانفعال للماء الجاري بسبب التغيّر وقد تكلّمنا في هذه المسألة بنحو الكلّية والعموم بحيث يشمل الماء الجاري وغيره ولا حاجة معه
الصفحة 65
إلى الإعادة.
بقي الكلام في هذه المسألة في حكم ماء البئر الذي حكم في المتن بلحوقه بالماء الجاري في الاعتصام مطلقاً ـ كثيراً كان أم قليلاً ـ ونقول: المعروف عند قدماء الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ هو نجاسة ماء البئر وانفعاله بمجرّد الملاقاة مع شيء من النجاسات وإن لم يتغيّر، كما أنّ المعروف المشهور بين المتأخّرين بل المتسالم عليه بينهم هو القول بالطهارة وعدم التنجّس بالملاقاة مع النجس مطلقاً ـ كرّاً كان أم قليلاً ـ ، وقد حكى عن الشيخ حسن البصروي من قدماء الأصحاب التفصيل بين ما إذا كان بالغاً حدّ الكرّ وما إذا لم يبلغ ذلك الحدّ بالحكم بالاعتصام في الأوّل والانفعال في الثاني، ومرجعه إلى أنّه لا خصوصية لعنوان ماء البئر أصلاً بل يجري عليه حكم سائر المياه الراكدة، وحكي عن الجعفي التفصيل بين ما إذا كان ماء البئر بمقدار ذراعين في ذراعين وما إذا كان أقلّ من ذلك باعتصام الأوّل وانفعال الثاني، والظاهر أنّ مرجعه إلى تفصيل البصروي لأنّ الكرّ عند الجعفي عبارة عن المقدار المذكور ـ وهو ذراعان في ذراعين فلا يكون تفصيلاً مغايراً له.
وعمدة أدلّة المتأخّرين الأخبار الكثيرة الدالّة ـ بالصراحة أو الظهور ـ على عدم النجاسة وحيث إنّها كثيرة ودلالة أكثرها صريحة، ومن خلل الحديث جلّها خالية فلا حاجة إلى نقلها لكنّا نقتصر على نقل واحدة منها وهي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المروية بعدّة طرق عن الرضا(عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
ومن الظاهر أنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «واسع» هي الواسعية من الجهة المرتبطة
الصفحة 66
بالإمام(عليه السلام) وهي بيان الحكم الشرعي والطهارة والنجاسة، كما أنّ المراد بقوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» ليس هو نفي الافساد بما يكون في نظر العرف متّصفاً بالفساد بل نفيه بما يرتبط به(عليه السلام) وليس إلاّ الطهارة والنجاسة، وعليه فيمكن أن يكون هذا القول تأكيداً للقول الأوّل ومرجع كليهما إلى اعتصام ماء البئر وعدم تأثّره بملاقاة شيء من النجاسات، ويمكن أن يكون القول الأوّل ناظراً إلى طهارته الأصلية والثاني إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة.
وامّا ما حكي عن الشيخ الطوسي(قدس سره) من أنّ معنى قوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» انّه لا يفسده شيء إفساداً غير قابل للإصلاح والزوال، والبئر تقبل الاصلاح بنزح المقدرات فجوابه ما أفاده المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح من أنّ هذا الكلام لو كان صدر من متكلِّم عادي لأجل تفهيم المعنى المدّعى كان مضحكاً عند أبناء المحاورة فكيف يصدر مثله عن الإمام الذي هو أفصح المتحاورين.
ثمّ إنّ صدر الرواية وحده يكفي في مقام الاستدلال للمتأخّرين لأنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الكرّ والقليل، وامّا التعليل بأنّ له مادّة فلا دخالة له في الاستدلال وإنّما يكون أثره في مورده وهو ماء البئر بيان عدم كون الاعتصام ناشئاً عن الكثرة والكرية فيؤكد إطلاق الصدر بحيث لا يبقى معه مجال لاحتمال مدخلية الكرية في هذا الحكم بناء على رجوع التعليل إلى الصدر وكذا بناء على رجوعه إلى الذيل بالتقريب المتقدّم فنتيجة التعليل إنّما تظهر في مقام المعارضة ولا فائدة له في المقام إلاّ من جهة نفي الاحتمال الناشئ عن دعوى الانصراف كما سيجيء وإلاّ فإطلاق الصدر يثبت الحكم من دون حاجة إلى التعليل.
فانقدح ممّا ذكرنا تمامية الصحيحة من جهة الدلالة، وامّا من جهة السند فقد نوقش فيها بأن إعراض القدماء من الأصحاب عن الرواية مع كونها بمرئى منهم
الصفحة 67
وعدم الفتوى على طبقها يوجب الوهن فيها بل يخرجها عن الحجّية نظراً إلى أنّ عدم الإعراض من شرائط الحجّية، ولكن المناقشة مدفوعة بعدم ثبوت الاعراض إذ لعلّ عدم الفتوى على وفقها كان لأجل ترجيح المعارضات عندهم أو لأجل عدم وضوح دلالتها على الاعتصام عندهم وقد عرفت تفسير الشيخ الطوسي(قدس سره)قوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» بما لا ينافي التأثّر والانفعال فالأعراض غير ثابت والرواية وحدها كافية في إثبات الاعتصام مطلقاً وقد عرفت عدم انحصار دليل المتأخّرين بها والمهمّ في المقام بيان الروايات التي استدلّ بها على النجاسة ليظهر حالها من حيث الدلالة على مطلوبهم ـ أوّلاً ـ ومن حيث صلاحيتها للمعارضة على تقدير تمامية دلالتها ـ ثانياً ـ فنقول:
منها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع أيضاً قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع(عليه السلام) بخطّه في كتابي: ينزح دلاء منها.
وتقريب الاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: انّه لا إشكال في أنّ الأمر بالنزح وإيجابه ليس تعبّدياً بل وجوبه شرطي والأمر به إنّما هو لأن تحصل الطهارة للبئر بسببه فمرجعه إلى توقّف الطهارة الزائلة وعودها على النزح فتدلّ على حصول النجاسة بمجرّد الملاقاة وهو المدعى.
ثانيهما: إقراره(عليه السلام) السائل على قوله: «ما الذي يطهرها...» الظاهر في نجاسة البئر بمجرّد وقوع قطرة أو قطرات من البول أو الدم فيها، والإمام(عليه السلام) لم ينكر عليه ذلك بل أقرّه عليه.
والجواب عنه أوّلاً: انّ الأمر بنزح الدلاء من غير تعيين مقداره قرينة على عدم
الصفحة 68
كون الحكم وجوبياً ضرورة انّ الإجمال ـ على فرض الوجوب ـ غير مناسب لمقام الإمامة ومقام البيان، مع أنّ الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر أصلاً.
وثانياً: انّه يستفاد من تعداد السائل «البعرة» الظاهرة في فضلات البهائم في عداد الأعيان النجسة كالبول والدم أنّ المراد من قوله: «ما الذي يطهّرها» هو الطهارة بمعنى النظافة لا الطهارة في مقابل النجاسة، ومنشأ السؤال احتماله أن يكون في الشرع طريق لرفع هذه المرتبة القليلة من القذارة فالسؤال إنّما وقع عنه لا عن المطهر بمعنى المزيل للنجاسة العارضة بسبب وقوع قطرة من البول أو الدم أو غيرهما كما لا يخفى.
وثالثاً: وهو العمدة انّ هذه الرواية هي بعينها الصحيحة المتقدّمة على نقل المفيد عن ابن قولوله عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا(عليه السلام) فقال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
فإنّ الظاهر خصوصاً مع اتحاد العبارة وحذف مورد السؤال في الأخيرة اتحاد الروايتين بمعنى كونهما مكاتبة واحدة، والمستفاد من الجواب في الأخيرة انّ السؤال إنّما وقع عن نجاسة البئر وطهارته.
وبالجملة ففي المكاتبة إنّما سئل الإمام(عليه السلام) عن شيئين، والسؤال في إحداهما وإن كان غير مذكور إلاّ أنّه ـ مضافاً إلى دلالة الجواب ـ لا ارتباط له بالمقام وعليه فالجمع بين الجوابين اللذين أحدهما صريح في عدم ناسة البئر والآخر ظاهر في وجوب نزح دلاء قرينة على عدم وجوب النزح وكونه مستحبّاً فالرواية ـ حينئذ ـ
الصفحة 69
من أدلّة الطهارة لا النجاسة.
ومنها: رواية عبدالله بن أبي يعفور، وعنبسة بن مصعب عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به فتيمّم بالصعيد فإنّ ربّ الماء ربّ السعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم مائهم.
وتقريب الاستدلال بها أنّ المراد بالإفساد ـ المنهي عنه ـ هو التنجّس كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة، فمدلولها النهي عن وقوع الجنب في البئر لاقتضائه نجاسة البئر ومائه مورد لاحتياج الناس.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ الجنب لا يكون دائماً نجساً بل كثيراً ما يكون بدنه طاهراً خصوصاً في الأزمنة المتقدّمة التي كان الغسل بالماء القليل غالباً ولا محالة كانوا يغسلون أبدانهم قبله و ـ حينئذ ـ فترك الاستفصال دليل على أنّ المراد بالإفساد ليس هو التنجيس ـ انّ ظاهر الرواية دوران الأمر بين الوقوع في البئر والغسل بمائه والصلاة وبين عدم الوقوع فيه والتيمّم بدل الغسل والصلاة مع التيمّم لئلا يلزم إفساد الماء على القوم مع أنّه لو انفعل البئر بمجرّد الوقوع فيه لأجل نجاسة بدن الجنب لامتنع الغسل بمائه لعدم صحّة الغسل بالماء المتنجّس، وعلى فرض الاغتسال يلزم ـ مضافاً إلى بطلانه ـ تنجّس تمام بدنه حتى مواضع التيمّم فيبطل التيمّم أيضاً.
وبعبارة اُخرى مفاد الرواية انّ المنع عن الوقوع في البئر ليس إلاّ لأجل أنّ الوقوع مستلزم لإفساد الماء على القوم بحيث لو لم يكن الوقوع مستلزماً لذلك لكان الواجب الغسل بماء البئر مع أنّه لو قيل بنجاسة البئر لكان الحكم التيمّم لما ذكر من عدم صحّة الغسل المستلزم لعدم صحّة التيمّم أيضاً و ـ حينئذ ـ يندقح أنّ المراد من الإفساد ليس هو التنجيس بل امّا الاستقذار الحاصل للقوم بالنسبة إلى
الصفحة 70
الشرب والاستعمال لأجل اغتسال الجنب منه وامّا اختلاطه بالوحل والكثافة المجتمعة في قعره بسبب الوقوع فيه وهذا بخلاف الصحيحة المتقدّمة فإنّه لا محيص عن أن يكون المراد من الإفساد المنفي فيها هو التنجيس لأنّه مضافاً إلى ظهوره فيه في نفسه وإلى أنّ غيره لا يناسب شأن الإمام(عليه السلام) يكون استثناء صورة التغير والأمر بالنزح من القرائن الواضحة على كون المراد من الإفساد هو التنجيس كما هو ظاهر.
ومنها: حسنة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير قالوا: قلنا له: بئر يتوضّأ منها يجري البول قريباً منها أينجسها؟ قال: فقال: إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شيء، وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها. قال: وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها، وما كان أقلّ من ذلك فلا يتوضّأ منه. قال زرارة: فقلت له: فإن كان مجرى البول يلصقها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس، وإن استقر منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتى يبلغ البئر، وليس على البئر منه بأس فيتوضّأ منه إنّما ذلك إذا استنقع كلّه.
أقول: يحتمل أن يكون المراد من السؤال انّ مجرّد جريان البول قريباً من البئر يوجب تنجّسها ويؤثر في انفعالها بمعنى انّه كما أنّ الوصول والملاقاة موجب لذلك هل يكون التقارب أيضاً مؤثِّراً في الانفعال أم لا؟
ويحتمل أن يكون المراد منه أنّ مجرّد جريان البول في قرب البئر هل يوجب التعدّي والسراية إلى البئر فيؤثر في انفعالها أم لا؟
ويحتمل أن يكون المراد منه انّ جريان البول قريباً من البئر هل يكون أمارة
الصفحة 71
شرعية تعبّدية على نجاسة مائها أم لا؟
والاحتمالات الثلاثة كلّها بعيدة:
أمّا الأوّل فلأنّه من البعيد أن يكون مجرّد تقارب الشيء مع النجاسة مورداً لتوهّم سرايتها إليه وحصول الانفعال له خصوصاً من مثل هؤلاء الثلاثة الذين هم من عظماء الرواة وفقهاء المحدِّثين.
وامّا الثاني فلأنّ شأن الرواة ووظيفتهم في مقام السؤال عن الإمام(عليه السلام) إنّما هو السؤال عمّا يرتبط بشأنه(عليه السلام) ممّا يتعلّق بحكم من الأحكام الإلهية لا السؤال عن الموضوعات الخارجية والاُمور العادية، فالسؤال عن سراية البول وعدمها لا يناسب شأن الراوي خصوصاً إذا كان من أمثال هؤلاء المذكورين.
وامّا الثالث ـ فمضافاً إلى كونه خلاف ظاهر السؤال، فإنّ ظاهره أنّ جريان البول هل يكون مؤثِّراً في نجاسة البئر امّا لكون مجرّد التقارب كذلك وامّا للسراية، لا أنّه امارة على نجاستها واقعاً ـ انّ مضمون الرواية بناءً على هذا الاحتمال ممّا لم يقل به أحد حتى القائلين بنجاسة البئر فهل يرضى أحد ـ ولو كان منهم ـ بالقول بأنّه إذا كانت البئر في أعلى الوادي، والوادي يجري فيه البول من تحتها وكان بينهما أقلّ من ثلاثة أذرع يكون ذلك أمارة شرعية على نجاسة البئر مضافاً إلى أنّ في ذيل الرواية قرائن تدلّ على نفي هذا الاحتمال فتأمّل جيّداً.
فظهر من جميع ذلك انّ الاحتمالات الثلاثة كلّها بعيدة ولا يمكن حمل الرواية على شيء منها.
والذي يقوى في النظر في معنى الرواية أن يقال: إنّ غرض السائلين ومنشأ سؤالهم إنّما هو احتمال أن يكون قرب مجرى البول إلى البئر موجباً لحصول قذارة قليلة وثبوت كراهة ضعيفة، فكما أنّ تقارب شيء مطبوع مشتاق إليه مع القذارات
الصفحة 72
الصورية العرفية يصير موجباً للاستقذار والتنفّر منه بحيث ربّما يزول الاشتياق بالكلّية وتتبدّل المطبوعية إلى التنفّر والانزجار فكذلك كان هذا المعنى موجباً لقياس الشرعيات إلى العرفيات وباعثاً على سؤالهم عن ذلك، وعليه فالمراد بالنجاسة ليس ما يقابل الطهارة بل المراد منها تحقّق القذارة الضعيفة في موارد ثبوتها وـ حينئذ ـ فالرواية غير قابلة للاستناد إليها على النجاسة المصطلحة.
ومنها: الأخبار الكثيرة الواردة في النزح الدالّة على وجوبه، فإنّ حملها على الوجوب التعبّدي ـ مضافاً إلى كونه بعيداً في نفسه ـ مناف لما ورد في بعضها من التعبير بالتطهير بالنزح مثل رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: سألته عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة أو الكلب أو الهرة فقال: يجزيك أن تنزح منها دلاء فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء الله تعالى.
هذا والظاهر انّ النزح ليس بواجب بل مستحبّ والدليل عليه اختلاف هذه الروايات في مقداره في مورد واحد بل الترديد في رواية واحدة بين الأقلّ والأكثر مضافاً إلى القرائن الموجودة في بعضها كالحكم بصحّة الوضوء الواقع قبل النزح وعدم وجوب غسل الثوب المغسول به قبله وعليه فتحمل هذه الأخبار على مرتبة ضعيفة من النجاسة لا تمنع عن شربه ولا عن الوضوء والغسل به ولا ترتفع بغير النزح ولا نحملها على مرتبة قوية من النجاسة كي تمنع عن استعمال الماء مطلقاً.
هذا ولكنّه ربّما يناقش في حمل أخبار النزح على الاستحباب بأنّ مقتضى الصناعة العلمية الأخذ بالأقلّ وحمله على الوجوب إذ لا معارض له في شيء ويحمل المقدار الأكثر على الاستحباب. كما أنّه يناقش في الحمل على المرتبة الضعيفة لأجل القرائن المذكورة بأنّ هذا ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان مع أنّه
الصفحة 73
يستحيل اجتماع الطهارة مع النجاسة ولو بمرتبة ضعيفة منها لأنّهما ضدّان واجتماعهما مستحيل وهل يجتمع البياض مع مرتبة ضعيفة من السواد؟!
وقال بعد ذلك ما ملخّصه: إنّ الصحيح في المقام أن يقال: إنّ الطائفتين من أظهر أنحاء المتعارضين فلا محيص فيهما من الرجوع إلى مرجّحات باب المعارضة فإن قلنا بدلالة الكتاب على طهارة جميع أقسام المياه فالترجيح مع الأخبار الدالّة على طهارة البئر لموافقتها للكتاب وإن لم نقل بذلك للمناقشة في دلالته على الطهارة المصطلحة فلا يكون الترجيح ـ حينئذ ـ إلا مع أخبار الطهارة أيضاً لمخالفتها للعامة لأنّ المذاهب الأربعة وغيرها مطبقة على انفعال ماء البئر بمجرّد الملاقاة فلابدّ من حمل أخبار النجاسة على التقية مع أنّ فيها قرينة على عدم كونها بصدد بيان الحكم الواقعي. وبهذا يشكل الافتاء باستحباب النزح أيضاً إذ بعد الحمل على التقية لم يبق هناك شيء يدلّ على الاستحباب.
أقول: ممّا لا ينبغي من الفقيه الالتزام به طرح الأخبار الكثيرة الواردة في النزح التي بلغت من لاكثرة إلى أن عقد لها صاحب الوسائل أبواباً متعدّدة متكثّرة وكذا حملها على التقية وعدم كونها بصدد بيان الحكم الواقعي فإنّه كيف يمكن طرح هذه الأخبار مع كثرتها المعجبة أو حملها على التقية أو لا يصير ذلك قرينة على عدم كون النزح واجباً خصوصاً بعد عدم تعيين المقدار في بعضها والترديد بين الأقلّ والأكثر في رواية واحدة والمراد من النجاسة الضعيفة ليس هي النجاسة المقابلة للطهارة حتى يستحيل اجتماعها معها بل القذارة التي ترتفع بالنزح وتجتمع مع الطهارة هذا مع قطع النظر عن ملاحظة أخبار الطهارة، وامّا مع ملاحظتها خصوصاً مع صراحة بعضها في الحكم بطهارة البئر كصحيحة ابن بزيع المتقدّمة فهل لا تكون تلك الأخبار قرينة على الحمل على الاستحباب مع أنّ الحمل عليه
الصفحة 74
لا يحتاج إلى كثير مؤونة، مع أنّه لو وصلت النوبة إلى تحقّق المعارضة والرجوع إلى مرجّحات ذلك الباب لكان الترجيح مع أخبار النجاسة لكونها موافقة لفتوى المشهور من القدماء وقد أثبتنا في محلّه أن أوّل المرجّحات هي الشهرة الفتوائية المحقّقة بين القدماء من الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ والظاهر عدم وصول النوبة إلى المعارضة وكون النزح مستحبّاً لا واجباً وبهذا يظهر المناقشة في ادّعاء الشهرة على النجاسة بين القدماء بل الإجماع عليها لأنّ منشأه انّهم ذكروا أخبار النزح في كتبهم وأفتوا بمضمونها فربّما يتوهّم ـ كما توهّم ـ انّ مرادهم نجاسة البئر ووجوب النزح لأجل حصول الطهارة مع أنّه لم يثبت ذلك فإنّه ـ مضافاً إلى أنّه يظهر من بعضهم انّ وجوب النزح لا يكون وجوباً شرطياً بل تعبّدياً لا دلالة فيه على النجاسة بوجه ـ ينفي ذلك أنّ بعضهم قد أورد أخبار الطهارة أيضاً مثل الصدوق(قدس سره)في كتابي «المقنع والهداية» حيث إنّه قد ذكر في ضمن مقادير النزح ما يدلّ على طهارة الثوب المغسول بماء البئر وصحّة الوضوء والصلاة بعد العلم بأنّه كان فيها ميتة، وذكر في الثانية أيضاً ما يدلّ على أنّ البئر واسع لا يفسده شيء.
وبالجملة فلم يثبت الإجماع بل الشهرة على النجاسة، ولو سلم فهو لا يدلّ على طرحهم للأخبار الدالّة على الطهارة، بل لم يكن ذلك إلاّ لاجتهادهم وترجيحهم للأخبار الدالّة على النجاسة والدليل عليه انّهم ربّما التجأوا إلى تأويلها وحملها على خلاف ظاهرها كما عرفت من الشيخ الطوسي(قدس سره) لأرجحية المعارض بنظرهم، فالإجماع على تقدير تحقّقه منشأه الاجتهاد فلا يكشف عن قول المعصوم(عليه السلام) إلا بناء على بعض الوجوه المذكورة لحجّيته وقد حقّق بطلانه في الاُصول.
ثمّ إنّه قد يجمع بين الطائفتين من الأخبار ـ بعد فرض التعارض بينها ـ بحمل الطائفة الاُولى الدالّة على الطهارة على ما إذا كان ماء البئر بالغاً حدّ الكر، وحمل
الصفحة 75
الطائفة الثانية الدالّة على النجاسة على ما إذا لم يبلغ ذلك الحدّ.
وفيه: انّ صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة ـ قد علّل فيها الطهارة بكون البئر له مادّة فهي صريحة في أنّ الموجب لاعتصامها والمانع عن انفعالها إنّما هو كونه له مادّة لا كون مائه بالغاً حدّ الكرّ فلا يمكن حملها على ما إذا كان الماء بالغاً ذلك الحدّ.
وقد يقال: بأنّ الطائفة الأولى منصرفة إلى ما إذا كان الماء كرّاً لكون مياه الآبار غالباً تبلغ حدّ الكرّ فلا تنافي بينها وبين الأدلّة الدالّة على انفعال الماء القليل.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ دعوى الانصراف لا تختص بخصوص الطائفة الاُولى بل تجري في الثانية أيضاً ـ انّه لا تعارض بين الطائفة الاُولى وبين أدلّة انفعال الماء القليل بعدما عرفت من أنّ عمدة هذه الأدلّة هي مفهوم قوله(عليه السلام) : «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شيء» وأنّ القضية الشرطية لا دلالة لها على الحصر أصلاً، فمفادها ليس إلاّ أن الكرية موجبة للاعتصام ولا ينفي الدليل الدالّ على أنّ الماء الذي كانت له مادّة معتصم أيضاً.
مع أنّه يدفع هذين القولين انّه بناء عليهما لا يبقى لعنوان «ماء البئر» موضوعية ضرورة انّ المناط في الاعتصام ـ حينئذ ـ هي الكرية لا كونه ماء البئر مع أنّ العنوان المأخوذ في الدليل هو هذا العنوان فالحمل على صورة تحقّق الكرية مستلزم لإلغاء العنوان رأساً فيلزم حمل كلام الحكيم على اللغوية فتدبّر.
ونختم الكلام في بحث ماء البئر بما أفاده سيّدنا المحقّق الاستاذ الطباطبائي البروجردي ـ قدّس سرّه الشريف ـ دليلاً على القول بطهارة ماء البئر مطلقاً وعدم نجاسته بمجرّد الملاقاة مضافاً إلى الروايات وسائر الأدلّة المعروفة بين المتأخّرين الدالّة على الطهارة بحيث لا يكاد يمكن الخدشة فيها ولذا صار موجباً لانقلاب
الصفحة 76
شهرة النجاسة إلى شهرة الطهارة من زمن محمد بن محمد الجهم ـ استاذ العلاّمة وتلميذ المحقّق وقد قال المحقّق في حقّه وحقّ تلميذه الآخر أب العلاّمة للخواجة نصير الدين الطوسي الذي حضر محفل المحقّق ذات يوم: إنّهما أعلم من اجتمع عنده بالأصولين «أصول الاعتقاد وأصول الفقه» ـ وتبعه العلاّمة في ذلك واستقر عليه رأي من بعده.
وكيف كان فدليل الاستاذ انّه لا إشكال في أنّ فتوى المعصوم(عليه السلام) في ماء البئر امّا النجاسة مطلقاً بسبب مجرّد الملاقاة وامّا الطهارة كذلك من دون أن يكون هناك فصل بين القليل والكثير، وذلك لعدم ذهاب أحد من علمائنا الإمامية ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ إلى التفصيل عدا بعض من لا يُعرف ولا يُعتنى بقوله، وـ حينئذ ـ فالحكم الواقعي امّا النجاسة مطلقاً وامّا الطهارة كذلك، وبعد ورود روايات كثيرة في الكر دالّة على اعتصامه وعدم انفعاله لابدّ من ملاحظة انّ ماء البئر إذا كان كرّاً هل يكون مشمولاً لتلك الروايات أم لا؟ لا مجال لدعوى عدم الشمول لأنّ خصوصية البئر عبارة عن الاشتمال عن المادّة ووقوع الماء في قعر الأرض، ومن المعلوم انّ وقوع الماء في قعر الأرض لا يوجب تبدّل حكم الكر ولا وجه لدعوى انصراف روايات الكر إلى الماء الواقع في سطح الأرض لوضوح انّ المناط هي الكثرة وبلوغ الماء إلى كم خاص ومقدار مخصوص ولا دخالة للظرف والمكان فيه أصلاً، وامّا الاشتمال على المادّة فلو لم يكن موجباً لاسراء حكم الكر إلى القليل من ماء البئر لا يصير موجباً لانفعال الكر من البئر ضرورة، فإذا ثبتت طهارة ماء البئر إذا كان كراً بمقتضى الروايات الواردة فيه تظهر طهارته إذا كان قليلاً أيضاً وذلك لعدم الفصل بين الصورتين كما عرفت.
الصفحة 77
مسألة 9 ـ الراكد المتصل بالجاري حكمه حكم الجاري فالغدير المتّصل بالنهر بساقية ونحوها كالنهر، وكذا أطراف النهروان كان مائها واقفاً1.
1 ـ لا خفاء في أنّ الراكد المتّصل بالجاري يكون حكمه حكم الجاري من جهة الاعتصام وعدم التأثّر بمجرّد الملاقاة وذلك للاتصال بالجاري الذي يكون له مادة فيصدق انّ الراكد أيضاً له مادّة وقد مرّ أنّ المستفاد من صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر انّ كلّ ماء كان له مادّة يكون معتصماً آبياً عن التأثّر والانفعال بنفس الملاقاة لكن مفادها مجرّد الاعتصام فقط، وامّا ترتّب حكم الجاري من غير هذه الجهة ككفاية غسل المتنجّس بالبول مرّة فيه إذا قلنا باختصاص هذا الحكم بالجاري وعدم جريانه في المياه المعتصمة الاُخر فلا دليل عليه بعد عدم صدق عنوان «الماء الجاري» عليه لفرض كونه راكداً واقفاً ولا يتّصف إلاّ بمجرّد الاتصال كما هو ظاهر.
الصفحة 78
مسألة 10 ـ يطهر الجاري وما في حكمه إذا تنجّس بالتغيّر إذا زال تغيّره ولو من قبل نفسه وامتزج بالمعتصم1.
1 ـ في كيفية تطهير الماء الجاري المتغيّر احتمالات أربعة: زوال التغيّر مطلقاً، وزواله مع الاتصال، وزواله مع الامتزاج بما يخرج من المادة، أو مع الاستهلاك أيضاً.
قد يقال ـ كما عن الشهيد(قدس سره) ـ بكفاية زوال التغيّر بأي وجه اتفق، وربما يوجه بأنّ مقتضى صحيحة ابن بزيع المتقدّمة انّ الطهارة متفرّعة على طيب الطعم وذهاب الريح الذي هو عبارة اُخرى عن زوال التغيّر، والأمر بالنزح إنّما هو لأجل كونه سبباً عادياً لزوال التغيّر وإلاّ فليس له خصوصية للعلم بأنّه لو خرج ماء البئر من غير طريق النزح على وجه يزول به التغيّر تترتّب عليه الطهارة بلا ريب.
وبالجملة: فالمستفاد من الرواية انّ تمام المؤثّر في حصول الطهارة إنّما هو طيب الطعم وذهاب الريح على ما هو مقتضى الإطلاق، فلو كان شيء آخر دخيلاً في ترتّب الحكم لوجب على المتكلِّم بيانه، وحيث لم يبين يستكشف عدم مدخلية شيء آخر، وـ حينئذ ـ لو حصل طيب الطعم وذهاب الريح من غير طريق النزح يترتّب عليه الحكم بالطهارة فالمناط هما الوصفان ولا خصوصية لطريقة النزح.
لكنّه أورد على هذا الكلام المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح بما حاصله: انّ التمسّك بالإطلاق لعدم مدخلية شيء في ترتّب الحكم المعلّق عليه إنّما هو بالنسبة إلى القيود التي لو لم يبيّنها المولى لكان نقضاً لغرضه، وفي مثل المقام ممّا يكون المطلق ملازماً للقيد بحيث لا يمكن الانفكاك بينهما فلا يجوز التمسّك بإطلاقه لنفي اعتبار القيد إذ لا يترتّب على عدم البيان نقض للغرض، وـ حينئذ ـ فلا يجوز التمسّك في المقام بإطلاق زوال التغيّر لنفي اعتبار الامتزاج مع كون زوال التغيّر مسبّباً ـ عادةً ـ عن
الصفحة 79
الامتزاج بعد النزح، وبعبارة اُخرى النزح مقدّمة لتحقّق شيئين: الوصفين وحصول الامتزاج وفي الرواية قد اكتفى بذكر الأوّل لكون الثاني ملازماً له عادة.
أقول: يمكن أن يوجه قول الشهيد(قدس سره) بوجه لا يرد عليه شيء وهو أنّ صدر الرواية قد علّق الحكم بالنجاسة فيه على مجرّد تحقّق التغيّر ثمّ ذكر ما يوجب ارتفاعها وهو حصول طيب الطعم وذهاب الريح الذي هو عبارة اُخرى عن زوال التغيّر ـ كما عرفت ـ فمدلولها دوران الطهارة والنجاسة مدار التغيّر وزواله، فالمتبادر منها عند أهل العرف هو كون التغيّر علّة تامّة لحصول النجاسة ترتفع عند زواله، وإن كان المحتمل عند العقل أن يكون التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة لا في عروضها حتى يكون الأمر دائراً مدار وجوده وعدمه ومع هذا الاحتمال لا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاع النجاسة ولكن المتبادر عند العرف من مثل هذا الكلام الذي علّق الحكم فيه على شيء، وارتفاعه على زواله مع احتمال أن لا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاعه، دوران الحكم ـ وجوداً وعدماً ـ مدار وجود ذلك الشيء وعدمه كما لا يخفى.
وبالملة فمفاد صدر الرواية ـ بنظر العرف ـ كون التغيّر علّة تامّة لثبوت النجاسة فترتفع بمجرّد زوالها ولا يتوقّف ارتفاعها على شيء آخر أصلاً، وهذا بناء على رجوع التعليل الواقع في ذيل الرواية إلى صدرها أعني قوله(عليه السلام): «واسع لا يفسده شيء» واضح لا إشكال فيه، وامّا بناء على رجوعه إلى القضية المتصيّدة من ذيل الرواية أعني الطهارة لأنّه لو ألقى هذا الكلام المشتمل على هذه العلّة على العرف لا يفهم منه انّ مجرّد كونه ذا مادّة يوجب التبدّل وحصول وصف الطهارة بل حيث إنّ المادة موجبة لجريان الماء منها بعد النزح تدريجاً يصير الماء طاهراً لحصول الامتزاج مع ما يخرج من المادّة ومن هنا ينقدح النظر فيما أفاده صاحب المصباح(قدس سره)
الصفحة 80
من أنّه لو عاد التعليل إلى تلك القضية المتصيّدة من الفقرة الثانية يمكن التمسّك بها لإثبات انّ مجرّد زوال التغيّر كاف في ارتفاع النجاسة فتدبّر.
نعم ربّما يورد على الاستدلال بالرواية لاستفادة حكم سائر المياه المشتركة مع موردها في ثبوت المادة لها، وتقريبه أن يقال: إنّ التعليل الوارد فيها امّا أن يكون راجعاً إلى صدر الرواية وهو قوله(عليه السلام) : «واسع لا يفسده شيء» وامّا أن يكون راجعاً إلى القضية المطوية في الذيل وهي حدوث الطهارة بعد تحقّق الوصفين وزوال التغيّر، فعلى الأوّل يكون مقتضى التعليل اشتراك ما يكون له المادّة من المياه مع البئر في الحكم المعلّل فقط ـ وهو الاعتصام وعدم التأثّر ـ وعليه فيمكن أن يكون الحكم الثاني المذكور بعده مختصّاً بماء البئر إذ ليس هذا الحكم أيضاً مشتملاً على التعليل حتى يدور مدار العلّة الجارية في غير المورد أيضاً، وعلى الثاني لا دليل على جريان الحكم المذكور في الصدر في غير ماء البئر فلا يمكن استفادة اعتصام الجاري من هذه الرواية كما هو ظاهر.
أقول: يمكن أن يختار كلّ من شقّي الترديد ويحكم بالتعدّي عن مورد الرواية بالنسبة إلى المياه الواجدة للمادّة، امّا بناء على الأوّل فلأنّه وإن كان التعليل إنّما يرجع إلى خصوص الفقرة الاُولى إلا أنّ الأمر بالنزح حتى يحصل الوصفان متفرّع على الحكم المعلّل بذلك التعليل.
وبعبارة اُخرى: وجوب النزح إلى الغاية المذكورة إنّما هو من أحكام الماء المتغيّر الذي له مادّة كما يدلّ على ذلك التفريع فيجري في جميع المياه المتغيّرة التي لها مادّة.
وامّا بناء على الثاني فلأنّه وإن كان التعليل راجعاً إلى ترتّب الطهارة على زوال التغيّر إلاّ أنّ المرتكز في أذهان العرف انّ ما به تحصل الطهارة وترتفع النجاسة لا يمكن أن يكون نجساً في نفسه ومن المعلوم انّ امتزاج الماء الخارج من المادّة
|