في:  
                       
 
 
 

من حياة سماحته قائمة المؤلفات الأحکام و الفتاوى الأسئلة العقائدية نداءات سماحته  الصور  لقاءات و زيارات
المکتبة الفقهية المختصة الصفحة الخاصة المواقع التابعة أخبار المكاتب وعناوينها الدروس المناسبات القرآن والمناجات

<<التالي الفهرس السابق>>


الصفحة 101

هذا مع ثبوت الإطلاق في بعض الروايات الخاصة أيضاً مثل رواية أبي بصير الدالّة على نجاسة الماء الملاقى لما يبلّ ميلاً من الخمر من دون تفصيل بين الصورتين.

التفصيل الثاني ما هو المحكي عن الشيخ الطوسي(قدس سره) وهو الفرق بين ما يدركه الطرف من النجاسة وما لا تدركه العين منها بالانفعال في خصوص الأوّل دون الثاني، والظاهر انّ مستنده في الفرق هي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إنائه هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه، قال: وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا.

بتقريب انّ مورد السؤال هو العلم بإصابة الدم الإناء أي الماء الواقع فيه فملاقاة الماء مع الدم مفروض في مورد السؤال وعليه فالجواب الدالّ على الفرق يرجع إلى التفصيل المدّعى.

لكن في الوسائل بعد نقل الرواية: «الذي يفهم من أوّل الحديث إصابة الدم الاناء والشكّ في إصابة الماء كما يظهر من السؤال والجواب فلا إشكال فيه» ومرجعه إلى أنّ إصابة الإناء الذي يكون بمعنى الظرف معلومة وإصابته إلى الماء زائداً على الاناء مشكوكة فلا مانع من أن تجري فيه قاعدة الطهارة ولا يرتبط بالتفصيل المذكور أصلاً. وقد حكى هذا الحمل عن شيخ الشريعة الاصفهاني(قدس سره) في بحثه، ويؤيّده بل يدلّ عليه ذيل الرواية الدالّة على عدم صلاحية الوضوء من الماء مع العلم بوقوع القطرة فيه، ودعوى احتمال كون المراد هي القطرة البيّنة التي تدركها العين لا الأعمّ منها وممّا لا تدركه واضحة الفساد بل الفرق بين السؤالين إنّما يرجع إلى الشكّ في إصابة الماء في الأوّل والعلم بها في الثاني، كما أن دعوى انّ حمل السؤال

الصفحة 102

الأوّل على الشبهة البدوية التي لا يجب فيها الفحص اتفاقاً ينافي الجواب الظاهر في وجوبه. مدفوعة بمنع ظهور الجواب في الوجوب فلا منافاة، كما أنّ قوله في السؤال: «فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً» لا شهادة فيه بكون محط النظر هو اتّصاف النجس الملاقى بكونه صغيراً بل هذا القول تمهيد لبيان الشكّ في إصابة الماء كما لا يخفى.

وهنا حمل آخر أفاده الشيخ الأعظم الأنصاري(قدس سره) وهو الحمل على صورة العلم الإجمالي وتردّد الإصابة بين أن تكون مضافة إلى الإناء وبين أن تكون مرتبطة بالماء، غاية الأمر عدم تنجّز العلم الإجمالي في مورد السؤال لخروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء لعدم الابتلاء بخارج الاناء نوعاً خصوصاً في مثل الوضوء.

ولكن يبعده مضافاً إلى كونه خلاف ظاهر السؤال ـ انّ دعوى كون الاناء خارجاً عن محلّ الابتلاء ممّا لا يتمّ أصلاً وعدم الابتلاء بخارج الاناء لو فرض تماميته لا ارتباط له بالرواية التي فرض السائل فيها الإصابة إلى الاناء لا إلى خارجه فتدبّر.

ويمكن أن يكون مستند هذا التفصيل دعوى انصراف الأدلّة الدالّة على نجاسة ذلك النجس الملاقي عمّا إذا بلغ في القلّة بمقدار لا يدركه الطرف، ويرد عليه ـ حينئذ ـ انّه إن كان المراد بقوله: «لا يدركه الطرف» هو فرضه كالعدم بالنظر المسامحي العرفي ـ كما يظهر من التمثيل له بـ «رأس الأبر» ـ فيرد عليه منع دعوى الانصراف إذ لا شاهد عليها أصلاً بعد تحقّق النجاسة ووجودها وثبوت الملاقاة كما هو المفروض .

وإن كان المراد به انّه لا يدرك بنظر العرف أصلاً بل الاطلاع عليه يحتاج إلى الوسائل غير العادية فالانصراف مسلم لا ينبغي الارتياب فيه وله نظائر كثيرة

الصفحة 103

كالحكم بطهارة المتنجّس بالدم إذا زالت عينه ولو بقى لونه، فإنّ العقل يحكم بأنّ بقاء اللون كاشف عن بقاء أجزاء الدم لامتناع انتقال العرض ـ كما حقّق في محلّه ـ ومع ذلك فهو بنظر العرف زائل غير باق ولذا يحكم عليه بالطهارة، وكالحكم بطهارة الماء المجاور للميتة الآخذ ريحها بسبب المجاورة فإنّه لا مجال للحكم بنجاسة الماء لأنّه لا يعدّ الريح من أجزاء الميتة عرفاً وإن كان من أجزائها عقلاً ـ كما قرّر في موضعه ـ فعلى هذا التقدير لا مجال لمنع الانصراف إلاّ انّ هذا ليس تفصيلاً في المسألة بعد عدم تحقّق الملاقاة للماء مع النجس بنظر العرف الذي يكون هو الملاك في هذه الأبواب فتدبّر.

التفصيل الثالث ما عرفت نظيره في باب الماء المضاف من أنّه إذا كان جارياً من العالي إلى الأسفل ولاقى أسفله النجاسة تختص بموضع الملاقاة وما دونه ولا تسري إلى الفوق والوجه فيه ـ بعد منع كون اختلاف السطح موجباً لتحقّق التعدّد فلا يشمله أدلّة الانفعال لأنّ موضوعها الماء الواحد وذلك لمنع منافاة الاختلاف مع الوحدة بعد كون الاتصال مساوقاً لها كما قرّر في محلّه ـ انّ الظاهر انصرافها عن هذه الصورة خصوصاً بعد ملاحظة صحّة استعماله للتطهير كما هو المتداول إلى الآن سيما في مثل المدينة المنوّرة التي كان مورد ابتلاء الناس فيها هي المياه القليلة لقلّة الماء الكثير.

وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في عدم شمول تلك الأدلّة لمثل هذه الصورة بعد ملاحظة استعمال الماء القليل في مقام التطهير من زمن النبي(صلى الله عليه وآله) إلى يومنا هذا ولو كان الحكم شاملاً لمثل المقام لما كان يمكن التطهير بالماء القليل بوجه.

ويمكن أن يقال: إنّ الوجه في عدم تنجّس الماء العالي هو أنّ المتفاهم عند العرف من تلك الأدلّة انّ المناط في تنجّس الجزء ـ غير الملاقي ـ هو سراية النجاسة من

الصفحة 104

الجزء الملاقى له، فإنّه لو تنجّس أحد أطراف الثوب لم يحكم بنجاسة سائر الأطراف بخلاف مثل الماء فإنّه بمجرّد نجاسة بعض أجزائه يحكم بنجاسة الجميع، وليس ذلك إلاّ لعدم كون المناط موجوداً في الثاني دون الأوّل.

وبالجملة: فالثوب والماء أمران مشتركان من حيث الوحدة والكثرة، فمن جهة يكون كلّ منهما واحداً، ومن جهة اُخرى يكون كثيراً، فالفرق بينهما من حيث الوحدة والكثرة بدعوى انّ الوجه في عدم نجاسة جميع أطراف الثوب بملاقاة بعضها للنجاسة هو كون كلّ جزء منه موضوعاً مستقلاًّ للطهارة والنجاسة بخلاف الماء لا يعلم له وجه والدعوى ممنوعة جدّاً، بل الفرق بينهما هي سراية النجاسة إلى جميع الأجزاء في الماء دون الثوب وأمثاله.

وربما يورد على هذا القول بأنّه لو كان المناط في النجاسة هو مجرّد السراية يلزم الحكم بطهارة الماء القليل المتساوي أجزائه من حيث السطح إذا لم يتحقّق فيه السراية بنظر العرف أصلاً كما إذا كان طوله كثيراً بحيث لو وقع قذر عرفي في أحد طرفيه لم يستقذر العرف من الطرف الآخر أصلاً.

فاللاّزم ـ على فرض تمامية الايراد ـ أن يقال: إنّ الأمر كذلك لو كانت كيفية التنجيس موكولة إلى نظر العرف ولم يكن للشارع فيها بيان أصلاً ولكن المراجعة إلى الأدلّة والنظر فيها تقتضي خلافه فإنّ قوله(عليه السلام) : «الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء» ظاهر في أنّ الموضوع هو الماء الواحد فيكون الحكم في جانب المفهوم مترتّباً على هذا الموضوع أيضاً، فهذا الدليل بنفسه يدلّ على تنجّس الماء الواحد إذا لاقى بعض أجزائه مع شيء من النجاسات، هذا مضافاً إلى الروايات الكثيرة الدالّة على هذا المعنى، وهو وإن كان مستلزماً للقول بعموم الحكم وشموله لصورة تخالف أجزاء الماء الواحد بالعلو والسفل إلاّ انّك عرفت انصراف الأدلّة عن مثل هذه

الصفحة 105

الصورة وإلاّ لما أمكن التطهير بالماء القليل بوجه.

هذا والحقّ انّ المناط هو مجرّد السراية غاية الأمر انّ تحقّقها لا يكون موكولاً بنظر العرف فانّه لا فرق عنده بين الماء القليل الذي يكون أقلّ من الكرّ بقليل وبين الماء الكر ولا يدرك تحقّقها في الأوّل وعدم تحقّقها بل عدم التأثّر والانفعال في الثاني بل العرف بعدما استفاد من الأدلّة الشرعية انفعال القليل بمجرّد الملاقاة يفهم منها انّ المناط فيه هو تحقّق السراية بعد حصول التأثّر وبعدما رأى عدم نجاسة الثوب الملاقى ببعض أطرافه بجميعها يدرك عدم تحقّقها فيه وخروج مثل المقام عن أدلّة الانفعال لملاحظة العرف صحّة التطهير بالماء القليل من الأزمنة المتقدّمة إلى زماننا هذا، نعم يرد على ما ذكرنا عدم صحّة التعدّي إلى موارد عدم قيام الدليل الشرعي وتوقّف الحكم على وروده مع أنّ مقتضى بعض المباحث السابقة عدم التوقّف فتأمّل جيّداً.

التفصيل الرابع: هو الذي ذهب إليه المحقّق الخراساني صاحب الكفاية(قدس سره)وتبعه على ذلك تلميذه الكبير المحقّق الاصفهاني(قدس سره) في محكي بحثه وهو الفرق في انفعال الماء القليل بين ما إذا كان الملاقى نجساً أو متنجّساً بثبوته في الأّل دون الثاني.

وقد استدلّ على ذلك بأنّ مدرك انفعال الماء القليل بالملاقاة إن كان هو الإجماع فهو غير متحقّق في ملاقاة المتنجّس على نحو يفيد القطع بالحكم ـ كما هو المطلوب في الأدلّة اللبية ـ والمقدار المتيقّن منه هو خصوص ملاقاة الأعيان النجسة.

وإن كان هي الروايات الواردة في تحديد الكر فهي وإن دلّت على انفعال القليل بما لا ينفعل به الكثير إلاّ أنّ مفهومها سلب العموم لا عموم السلب، فمفهومها انّ القليل ينجسه شيء ما فإنّ نقيض السالبة الكلية هي الموجبة الجزئية وليس هذا الشيء هو التغيّر قطعاً لأنّه ينجّس الكثير أيضاً فتعيّن أن يكون هو شيئاً من

الصفحة 106

النجاسات وإذا ثبت منجسية شيء منها ثبت منجسية غيره من الأعيان النجسة، لعدم القول بالفصل، أو لما دلّ من الأخبار الخاصّة على منجسية الأعيان النجسة، وامّا المتنجّسات فلا يستفاد منها انّها كالنجاسات.

وإن كان هو الأخبار الخاصة فموردها خصوص الأعيان النجسة كما أنّها المنسبق من «الشيء» في الأخبار العامّة ولا أقلّ انّها القدر المتيقّن منه، فانقدح انّه لا دليل على انفعال القليل بالمتنجّسات.

والجواب عنه ـ مضافاً إلى أنّ اصطلاح «النجس» و«المتنجّس» وإرادة خصوص الاعيان النجسة من الكلمة الاُولى وغيرها من الأشياء الطاهرة المتأثّرة منها من الكلمة الثانية اصطلاح فقهي حادث ولعلّه لم يوجد في الروايات أصلاً فإنّ المتتبّع فيها لا يرى الفرق بين القسمين فكما يطلق العنوان الأولي وما يرادفه على الأعيان النجسة كذلك يطلق على المتنجّسات من دون فرق فانظر إلى مثل قوله(عليه السلام): «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم انّه قذر» ومن المعلوم انّ الاصطلاح الحادث لا دخالة له في فهم الروايات أصلاً، وإلى انّ نفي الإجماع خلاف إطلاق معاقد الإجماعات المدعاة على الانفعال بل حكي عن جماعة دعوى الإجماع بل الضرورة على تنجيس المتنجّس أيضاً، وإلى ما أفاده في المستمسك من أنّ مقتضى التركيب في نفسه في الروايات الواردة في تحديد الكرّ وإن كان نفي العموم لا عموم النفي إلاّ ورودها مورد بيان حكم النجاسات المختلفة من بول الدواب وولوغ الكلاب واغتسال الجنب ودخول الدجاجة والحمامة وقد وطئت العذرة يوجب ظهورها في المقام في كونه لتعليق الافراد فيشمل المتنجّسات أيضاً.

انّ هنا روايات تدلّ بإطلاقها على الانفعال بملاقاة المتنجّس أيضاً مثل رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر ـ وهي صحيحة ـ قال: سألت أبا الحسن(عليه السلام) عن الرجل

الصفحة 107

يدخل يده في الاناء وهي قذرة قال: يكفي الاناء.

قال في القاموس: كفأه كمنعه كبّه وقلبه. والمراد إراقة الماء التي هي كناية عن التأثّر والانفعال، ومقتضى إطلاق الصحيحة وترك الاستفصال عدم الفرق بين صورة وجود عين النجاسة في اليد وزوالها عنها وعدم غسلها كما لا يخفى.

وموثّقة سماعة عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: إذا أصاب الرجل جنابة فأدخل يده في الاناء فلا بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء من المني.

ومفهومها ثبوت البأس مع إصابة شيء من المني اليد ومقتضى إطلاقه عدم الفرق في صورة الإصابة بين ما إذا كانت عين المني موجودة في اليد وما إذا زالت عينها إلاّ أن يقال بأنّه لا مجال للأخذ بإطلاق المفهوم لعدم ثبوت كونه في مقام البيان لأنّ المتيقّن كون الموثّقة في مقام بيان نفي البأس مع عدم الإصابة وامّا ثبوته معها فيمكن أن لا تكون في مقام بيانها أصلاً.

وموثّقة اُخرى لسماعة قال: سألته عن رجل يمسّ الطست أو الركوة ثمّ يدخل يده في الاناء قبل أن يفرغ على كفيه؟ قال: يهريق من الماء ثلاث جفنات، وإن لم يفعل فلا بأس، وإن كانت إصابته جنابة فأدخل يده في الماء فلا بأس به إن لم يكن أصاب يده شيء من المني وإن كان أصاب يده فأدخل يده في الماء قبل أن يفرغ على كفيه فليهرق الماء كلّه.

ولا يرد على هذه الرواية المناقشة الواردة على سابقتها من عدم كونها في مقام البيان كما هو ظاهر.

وموثّقة أبي بصير ـ المتقدّمة سابقاً ـ عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: سألته عن الجنب يحمل (يجعل خ ل) الركوة أو التور فيدخل اصبعه فيه؟ قال: إن كانت يده قذرة فاهرقه... .

الصفحة 108

وصحيحة شهاب بن عبد ربه عن أبي عبدالله(عليه السلام) في الرجل الجنب يسهو فيغمس يده في الاناء قبل أن يغسلها، انّه لا بأس إذا لم يكن أصاب يده شيء.

وغير ذلك من الروايات التي يمكن التمسّك بإطلاقها لعدم الفرق بين ملاقاة النجس والمتنجّس أصلاً.

نعم هنا بعض الروايات يمكن أن يكون موهماً لخلاف ما ذكر من الإطلاق مثل موثّقة أبي بصير عنهم (عليهم السلام) قال: إذا أدخلت يدك في الاناء قبل أن تغسلها فلا بأس إلاّ أن يكون أصابها قذر بول أو جنابة فإن أدخلت يدك في الماء وفيها شيء من ذلك فاهرق ذلك الماء.

فإنّ مقتضى إطلاق المستثنى في الصدر وإن كان هو ثبوت الباس مع الإصابة سواء بقيت عينها أم زالت إلاّ أنّ التقييد في الذيل بقوله(عليه السلام) : «وفيها شيء من ذلك» الظاهر في بقاء العين وعدم زوالها يوجب تضييق دائرة الانفعال الموجب لاهراق الماء وعدم جواز الاغتسال منه.

ورواية علي بن جعفر ـ المتقدّمة سابقاً ـ عن جنب أصابت يده جنابة من جنابته فمسحها بخرقة ثمّ أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها هل يجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: إن وجد ماءً غيره فلا يجزيه أن يغتسل وإن لم يجد غيره أجزأة.

أقول: امّا رواية علي بن جعفر فقد تقدّم الجواب عن الاستدلال بها سابقاً وهو انّ اشتمالها على التفصيل بين صورتي الاختيار والاضطرار مع عدم التزام أحد من الأصحاب به يوجب شذوذها وعدم جواز الاعتماد عليها أصلاً.

وامّا موثّقة أبي بصير فربما يجاب عنها بأنّ المراد بقوله: «وفيها شيء من ذلك»: «وقد كان فيها...» ولو بقرينة ظهور كون الذيل تصريحاً بمفهوم الشرط السابق في الصدر، أو بقرينة ظهور الإجماع على الانفعال بالمتنجس، كما أنّه ربّما يقال في مقام

الصفحة 109

الجواب بأنّ للقذر إطلاقين فتارة يطلق ويراد منه المعنى الاشتقاقي بمعنى الحامل للقذارة وعليه فالإضافة بيانية، واُخرى يطلق ويراد منه المعنى المصدري أي القذارة وعليه فالإضافة نشوية والاستدلال إنّما يتمّ على الإطلاق الأوّل دون الثاني وحيث إنّه لا قرينة على التعيين فتصبح الرواية مجملة غير قابلة للتقييد.

ويرد على الجواب الثاني ـ مضافاً إلى أنّ جريان الاحتمالين في معنى القذر لا دلالة له على كون المشار إليه بقوله: «ذلك» هو القذر لاحتمال كونه هو البول أو الجنابة بل لعلّه الظاهر بملاحظة ظهور كلمة شيء من ذلك في الكمية فتدبّر ـ انّه لا مناص ظاهراً من الحمل على الإطلاق الأوّل لأنّ القذر ـ على الإطلاق الثاني ـ لا تتصف بالإصابة فإنّ الذي يصيب اليد ليس هي القذارة بل القذارة تعرضها بسبب الإصابة، وامّا الجواب الأوّل فلا بأس به خصوصاً بعد ملاحظة انّ البول بعد إصابته لا تبقى عينها نوعاً بخلاف المني والدم وأشباههما كما لا يخفى.

فالإنصاف انّه لا سبيل إلى اختيار هذا التفصيل وإن كان القائل به قليل النظير.

التفصيل الخامس: ما اختاره بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ إن لم يقم إجماع على خلافه، وهو التفصيل بين ملاقاة الماء القليل للنجاسات والمتنجسات التي تستند نجاستها إلى ملاقاة عين النجس وهي التي عبّر عنها بالمتنجّس بلا واسطة وبين ملاقاة المتنجّس مع الواسطة بالانفعال في الأوّل دون الثاني لعدم قيام الدليل على الانفعال فيه حتى موثقة أبي بصير المتقدّمة بناءً على إرادة المعنى الثاني من القذر فيها لأنّ «القذر» لم ير إطلاقه على المتنجس مع الواسطة فإنّه نجس ولكنّه ليس بقذر.

ومحصل ما أفاده في وجه هذا التفصيل انّ الذي يمكن أن يستدلّ به على الانفعال بملاقاة مطلق المتنجّس أمران:

الصفحة 110

أحدهما: التعليل الوارد في ذيل بعض الأخبار الواردة في نجاسة سؤر الكلب وقد ورد ذلك في روايتين:

إحداهما: صحيحة البقباق قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن فضل الهرة والشاة والبقرة والإبل والحمار والخيل والبغال والوحش والسباع فلم أترك شيئاً إلاّ سألت عنه فقال: لا بأس به، حتى انتهيت إلى الكلب فقال: رجس نجس لا تتوضّأ بفضله واصبب ذلك الماء واغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء.

وثانيتهما: ما عن معاوية بن شريح قال: سأل عذافر أبا عبدالله(عليه السلام) ـ وأنا عنده ـ عن سؤر النسور والشاة والبقر والبعير والحمار والفرس والبغل والسباع يشرب منه أو يتوضّأ منه؟ فقال: نعم اشرب منه وتوضّأ منه، قال: قلت له: الكلب؟ قال: لا، قلت: أليس هو سبع؟ قال: لا والله انّه نجس لا والله انّه نجس.

وتقريب الاستدلال بالروايتين تعليل الحكم في الكلب بأنّه رجس نجس فيعلم من ذلك انّ المناط في التنجّس وعدم جواز الشرب والوضوء هو ملاقاة الماء للنجس. ونتعدّى من الكلب إلى سائر النجاسات، ومن الظاهر صحّة إطلاق النجس على المتنجّس أيضاً لأنّه لم يؤخذ في مادّته ولا في هيئته ما يخصّه بالنجاسة الذاتية فمقتضى الروايتين منجسية المتنجّسات مطلقاً.

ولكن للمناقشة في الاستدلال بهما مجال واسع: امّا الاُولى فلأنّها وإن كانت صحيحة إلاّ أنّ دلالتها ضعيفة والوجه فيه اشتمالها على كلمة «الرجس» أيضاً وهي لا تطلق إلاّ على الأشياء خبيثة الذوات وهي التي يعبّر عنها في الفارسية بـ «پليد» كما في قوله تعالى: (يا أيّها الذين آمنوا انّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام

الصفحة 111

رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون)(1).

ولا يصحّ إطلاقه على المتنجسات فهل ترى صحّة إطلاقه على عالم هاشمي ورع لتنجّس بدنه؟!

وكيف كان فإنّ إطلاق الرجس على المتنجّس من الأغلاط، فالرواية مختصة بالأعيان النجسة، على أنّ الرواية غير مشتملة على التعليل حتى يتعدّى منها إلى غيرها، بل هي مختصّة بالكلب ولا تعمّ غيره من الأعيان النجسة فضلاً عن المتنجّسات، ومن هنا عقبه بقوله(عليه السلام) : «اغسله بالتراب أوّل مرّة ثمّ بالماء» فإنّه يختص بالكلب وهو ظاهر.

وامّا في الرواية الثانية فلأنّها ضعيفة سنداً بمعاوية بن شريح بل يمكن المناقشة في دلالتها أيضاً لأنّ النجس وإن صحّ إطلاقه على المتنجّس إلاّ أنّه ليست الرواية بصدد بيان انّ النجس منجس وإنّما كان بصدد دفع ما توهّمه السائل حيث توهّم انّه من السباع.

الأمر الثاني: صحيحة زرارة التي رواها علي بن إبراهيم بطريقه الصحيح، وقد حكى فيها الإمام(عليه السلام) عن وضوء النبي(صلى الله عليه وآله) فدعا بوعاء فيه ماء فأدخل يده فيه بعد أن شمّر ساعده وقال: هكذا إن كانت الكفّ طاهرة...

فإنّها دلّت بمفهومها على أنّ الكفّ إذا لم تكن طاهرة فلا يسوغ إدخالها الماء ولا يصحّ منه الوضوء، ولا وجه له إلاّ انفعال القليل بالكفّ المتنجّسة، وبإطلاقها تعمّ ما إذا كانت نجسة بعين النجاسة وما إذا كانت نجسة بالمتنجّس وهذه الرواية أحسن ما يستدلّ به في المقام لصحّة سندها وتمامية دلالتها، ولكن الصحيح أنّها مجملة


1 ـ سورة المائدة : 90 .

الصفحة 112

لاحتمال أن يكون الوجه في ذلك عدم صحّة الوضوء بالماء المستعمل في رفع الخبث حتى على القول بطهارته وقد وقع الخلاف في طهارته ونجاسته بين الأعلام إلاّ انّه لا يجوز استعماله في رفع شيء من حدثي الأكبر والأصغر حتى على القول بطهارته، والماء الموجود في الاناء في مورد الرواية ماء مستعمل في رفع الخبث على تقدير نجاسة الكفّ لأنّ صدق هذا العنوان غير مشروط بقصد الاستعمال وبهذا تصبح الرواية مجملة فإذاً لا دليل على منجسية المتنجّس مطلقاً فالتفصيل هو المتعيّن إن لم يقم إجماع على خلافه كما ادّعاه السيّد بحر العلوم(قدس سره) انتهى ملخص كلامه دام بقاه.

ويرد عليه ـ مضافاً إلى ما عرفت من أنّ اصطلاح المتنجّس في مقابل النجس اصطلاح حادث فقهي وليس منه عين ولا أثر في الروايات المأثورة ـ انّ الظاهر تمامية دلالة صحيحة البقباق على كون المتنجّس منجساً مطلقاً وذلك لأنّ الرجس إذا أطلق واستعمل وحده يكون المراد به ما يرتبط بالجهات المعنوية وليس معناه النجاسة الجسمية الفقهية فانظر إلى موارد استعماله في الكتاب العزيز كالآية التي استشهد بها ضرورة انّ الخمر وإن كان نجساً إلاّ انّ الاُمور الثلاثة المعطوفة عليها لا يكون كذلك. وكآية التطهير المشتملة على إذهاب الرجس عن أهل البيت (عليهم السلام)فالرجس إذا استعمل وحده لا يكون المراد به النجاسة أصلاً، وامّا إذا استعمل مع كلمة «النجس» فمدلوله هو مدلولها من دون إضافة، وعدم صحّة الإطلاق في المثال إنّما يؤيّد هذا الذي ذكرنا، وعليه فلا يفيد فائدة زائدة على مفادة كلمة «النجس» في الصحيحة ودعوى عدم وقوعها في مقام العلّة ممنوعة جدّاً فإنّ العرف الذي يكون هو الملاك في باب فهم المعاني من الألفاظ لا يرى إلاّ كون قوله(عليه السلام) : «رجس نجس» واقعاً في مقام التعليل جيء به للفرق بين الكلب وسائر الحيوانات والحكم بأنّ عدم جواز التوضّي بفضله إنّما هو لأجل كونه كذلك، وامّا قوله(عليه السلام) : «اغسله بالتراب...»

الصفحة 113

فلا دلالة له على الاختصاص بالكلب وإن كان هذا الحكم مختصّاً به فإنّ مورد السؤال في الرواية إنّما هو حكم فضل الكلب من حيث جواز الشرب والتوضّي وهذا القول حكم آخر زائد على ما هو مورد نظر السائل بيّنه الإمام(عليه السلام) تتميماً للفائدة، فالحكم المعلّل إنّما هو عدم جواز التوضّي والعلّة هو كونه نجساً فلا يبقى بعد ذلك ارتياب في عموم دائرة الحكم للمتنجّسات فضلاً عن غير الكلب من سائر أفراد النجاسات.

والرواية الثانية أيضاً تامّة الدلالة لأنّ توصيف الكلب بأنّه نجس مؤكّداً بالحلف والتكرار إنّما هو لإثبات ما أفاده من الحكم بنجاسة سؤره بعد الحكم بطهارة سؤر كثير من الحيوانات حتّى السباع، ففي الحقيقة يكون ملاك الفرق بينه وبينها من جهة الطهارة والنجاسة هو كونه نجساً دونها، وعليه فالمنع من كون الرواية بصدد بيان أنّ النجس منجس محلّ نظر جدّاً. وبعبارة اُخرى دفع توهّم كون الكلب من السباع مع عدم كون المقصود إلاّ بيان الحكم الشعري لا يرجع إلاّ إلى ما ذكرنا كما هو ظاهر.

وامّا صحيحة زرارة فالظاهر عدم كونها مجملة بالنحو الذي أفاده فإنّ المتفاهم العرفي منها هو أنّ الكف إذا لم تكن طاهرة يوجب تنجّس الماء ويمنع عن التوضّي به ودعوى احتمال كون المنع لأجل صدق عنوان «الماء المستعمل في رفع الخبث» عليه مدفوعة بمنع صدقه بعد ملاحظة انّه ربّما لا يكون إلاّ مجرّد الملاقاة من دون أن يرفع شيء من الخبث به.

وبعبارة اُخرى فرق بين مجرّد الملاقاة وبين الاستعمال في رفع الخبث وفي الرواية هو الأوّل دون الثاني، نعم يمكن المناقشة فيها من جهة اُخرى وهو احتمال أن يكون المشروط بطهارة الكفّ هو استحباب إدخال اليد في الإناء ومع عدمها ينتفي هذا

الصفحة 114

الاستحباب من دون أن يكون الانفعال وعدمه مورداً للنظر ولكن هذه المناقشة أيضاً خلاف الظاهر وإن كان يكفي للقائل بالتعميم وجود رواية واحدة ولا يحتاج إلى تعدّد الدليل فصحيحة زرارة على تقدير إجمالها أو ثبوت المناقشة فيها لا تكاد تقدح في إثبات القول بالتعميم ونفي التفصيل كما هو غير خفيّ.

فالإنصاف انّ هذا التفصيل أيضاً ممّا لا يكون إليه سبيل.

التفصيل السادس: ما حكي عن بعض المحقّقين من المتأخّرين من التفصيل بين ملاقاة الماء مع شيء من النجاسات والمتنجّسات واستقراره معه، وملاقاته لأحدهما وعدم الاستقرار معه كما إذا وقعت قطرة ماء على أرض نجسة فطفرت عنها إلى مكان آخر فوراً بالقول بالانفعال في الأوّل وعدمه في الثاني مستنداً إلى رواية عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : اغتسل في مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض فقال: لا بأس به.

بتقريب أنّها تدلّ على أنّ الماء الملاقي للأرض النجسة أو المتنجّسة حيث انّه لم يستقر معها، بل انفصل عنها بعد الملاقاة بلا فصل حكم بعدم انفعاله ونفى البأس عنه فالمناط فيه هو الانفصال الفوري وعدم الاستقرار.

وربما يجاب عنه بأنّ السؤال فيها عن حكم الملاقى لأحد أطراف العلم الإجمالي فإنّ البول والغسالة إنّما وقعا على قطعة من الأرض لا على جميعها، ولا يدرى انّ ما وقع في الإناء بعد الانفصال من الأرض هل لاقى القطعة النجسة أو القطعة الطاهرة، وعليه فمدلول الرواية الحكم بطهارة الملاقى لأحد أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة ويكون أجنبياً عن محلّ الكلام.

ولكنّه أورد على هذا الجواب بأنّ حمل السؤال فيها على ذلك بعيد غايته لأنّ ظاهر الرواية انّ النزو إنّما هو من المكان النجس وحمله على صورة الشكّ في انّه

الصفحة 115

نزى من النجس أو الطاهر يتوقّف على مؤونة زائدة وإضافة انّه نزى من مكان لا يعلم انّه نجس أو طاهر، وإطلاق السؤال والجواب يدفع هذا الاحتمال فالمناقشة في دلالة الرواية ممّا لا وجه له.

قال المورد: «وإنّما الإشكال في سندها لأنّها ضعيفة بمعلّى بن محمّد لعدم ثبوت وثاقته فالاستدلال بها على التفصيل المذكور غير تامّ».

والظاهر أنّ محط نظر السائل عبارة عن أمر ثالث وهو أنّ الماء الواقع في الإناء بعد كونه مستعملاً في رفع خبث البول أو الجنابة ورفع حدثها لأنّ المكان مغتسل يبال فيه ويغتسل من الجنابة هل يكون مانعاً عن جواز الاغتسال بالماء الذي كان في الاناء من الأوّل نظراً إلى اختلاطه بما استعمل في رفع الحدث والخبث أم لا فنظر السائل إنّما هو إلى ذلك ولا يكون في السؤال نظر إلى نجاسة الأرض أو قطعة منها والشاهد على ذلك مضافاً إلى أنّ الاغتسال من الجنابة في محلّ لا يلازم نجاسته لعدم كون بدن الجنب نجساً دائماً خصوصاً في الأزمنة السابقة ـ الاستشهاد على نفي البأس بآية الحرج في رواية الفضيل قال: سئل أبو عبدالله(عليه السلام) عن الجنب يغتسل فينضح من الأرض في الماء فقال: لا بأس هذا ممّا قال الله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج).

فإنّ الاستشهاد بالكريمة لا يناسب إلاّ مع ما ذكرنا من كون مورد السؤال هو اختلاط الماء المستعمل في رفع الحدث أو الخبث مع الماء الذي يغتسل به من الجنابة ولا ملائمة بينه وبين الانفعال وعدمه أصلاً كما هو أوضح من أن يخفى، ولعلّه يجيء البحث في مفاد الرواية في بعض المباحث الآتية كما أنّه يأتي البحث عن منجّسية المتنجّس أيضاً فيما يأتي فتتميم الكلام فيه موكول إليه فارتقب وهنا نختم الكلام في المقام الثاني من هذه المسألة.

الصفحة 116

المقام الثالث: في تطهير الماء القليل المتنجّس وقد حكم في المتن بأنّ طهارته تتحقّق بالامتزاج بماء معتصم كالجاري والكر وإنّ مجرّد الاتصال بدون الامتزاج لا يكفي فيها.

وقبل الخوض في كيفية التطهير لابدّ أوّلاً من بيان انّ الماء هل يكون قابلاً للتطهير كسائر الجامدات المتنجّسة، أو يكون غير قابل له كالأعيان النجسة؟ ونقول: لولا الدليل الشرعي على قابلية الماء للتطهير وخروجه عن وصف النجاسة إلى وصف الطهارة لكان مقتضى ما هو المرتكز في أذهان العرف في باب التطهير عدم قابلية الماء له، وذلك لأنّ الشيء القابل للتطهير هو ما كان باقياً بعد وصول الماء إلى أجزائه النجسة كما هو المغروس في أذهان أهل العرف، فالثوب المتنجّس مثلاً قابل للتطهير بعد وصول الماء إلى الموضع النجس منه لعدم انتفائه بعد وصول الماء إليه وبقائه بحقيقته.

وبالجملة فمناط قابلية الشيء للتطهير هو بقائه بحقيقته بعده وإلاّ فمثل الدم من الأعيان النجسة أيضاً قابل له بعد إلقائه في الماء الكر واستهلاكه فيه مع أنّه ليس كذلك لعدم بقائه ـ بعد الإلقاء والاستهلاك ـ على الحقيقة الدمية والمفروض كون هذه الحقيقة موضوعة للحكم بالنجاسة.

وبعد ملاحظة ذلك يظهر أنّ الماء المتنجّس لا يكون قابلاً للتطهير لعدم تحقّق مناط القابلية فيه لأنّ تطهيره إنّما هو بوصول الماء إلى جميع أجزائه المتّصفة بالنجاسة خصوصاً بعد عدم الاكتفاء بمجرّد الاتصال من دون الامتزاج، ووصول الماء إلى جميع الأجزاء لا يتحقّق إلاّ بعد الاستهلاك وهو موجب للطهارة حتى في الأعيان النجسة كما عرفت، وعليه فمقتضى القاعدة المعروفة عند العقلاء والعرف في باب التطهير هو أن لا يكون الماء قابلاً للتطهير.

الصفحة 117

نعم يمكن أن يقال: بأنّ وصول الماء إلى جميع أجزاء الماء المتنجّس يتحقّق بمجرّد الامتزاج من دون الاستهلاك فلو ألقى الكر ـ مثلاً ـ على الماء القليل المتنجّس ثمّ اختلطا يتحقّق بمجرّد الامتزاج ما هو المعتبر في تطهير الماء من وصول الماء الطاهر إلى جميع الأجزاء المتّصفة بالنجاسة، والامتزاج لا يوجب انعدام حقيقة الشيء كالاستهلاك، وعليه فلا يرى فرق بين الماء المتنجّس والجامدات المتنجّسة إلاّ من حيث توقّف تطهيره على الامتزاج بماء آخر وهو لا يوجب أن لا يكون قابلاً للتطهير.

ويمكن المنناقشة من جهة اُخرى وهي أنّ الامتزاج حيث لا يكاد يمكن أن يتحقّق دفعة بل إنّما يحصل تدريجاً فلا يتّصف كلّ جزء من الأجزاء المتنجّسة بأنّه لاقاه الكر ـ مثلاً ـ فتدبّر.

وكيف كان مقتضى ما ورد من الشرع كون الماء كالأشياء الجامدة المتنجّسة قابلاً للتطهير وذلك لدلالة مثل صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع ـ المتقدّمة الواردة في البئر ـ الدالّة على عروض الطهارة لماء البئر المتغيّر بعد ذهاب التغيّر وزوال الريح وطيب الطعم معلّلاً بأنّ له مادّة ـ إن كان التعليل راجعاً إلى الذيل ـ .

وامّا ما ورد في النبوي من أنّ الماء يطهر ولا يطهر. فالمراد منه انّ الماء مطهِّر لغيره ولا يقبل التطهير بالغير، لا أنّه لا يقبل التطهير أصلاً حتّى بماء آخر لأنّ الموضوع فيه إنّما هي نفس طبيعة الماء فإذا حكم عليها بالطهورية فمعناه كونه مطهِّراً لغيره والحكم عليها بأنّها لا تطهر يرجع أيضاً إلى عدم قابليتها للتطهير من جانب الغير لأنّ الموضوع له أيضاً هي نفس الطبيعة.

ثمّ إنّه بعد الفراغ عن كون الماء قابلاً للتطهير يقع الكلام في كيفية تطهير الماء المتنجّس فنقول: عمدة ما ورد من الروايات في هذا الباب هي صحيحة محمد بن

الصفحة 118

إسماعيل بن بزيع المتقدّمة.

وقد تتوهّم دلالتها على كفاية مجرّد اتصال الماء المتنجّس بالماء المعتصم كالجاري والكر ولا يعتبر الامتزاج ، بتقريب انّه لا إشكال في أنّه لا خصوصية للنزح المأمور بها فيها لأنّ النزح مقدّمة لزوال التغيّر الموجب لنجاسة الماء، والتعليل الوارد فيها لا يوجب الاختصاص بالمياه التي لها مادّة لأنّ الخصوصية التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة وهي النبع والجريان من عروق الأرض لا مدخلية لها أصلاً، و ـ حينئذ ـ فمدلول الرواية انّ زوال التغيّر موجب لارتفاع النجاسة المسبّبة عنه لاتّصاله بماء معتصم، ولا دلالة لها على اعتبار أزيد من الاتصال.

ويرد عليه ما عرفت سابقاً من أنّ زوال التغيّر المسبّب عن النزح إنّما يتحقّق بإخراج الماء منه تدريجاً ثمّ الخروج من المادة بمقداره وامتزاجه بالمياه الموجودة فيه وإلاّ فمجرّد الاتصال بالمادة لا يوجب زوال التغيّر من الماء المتصف به لأنّ تقليله لا يوجب تضعيف التغيّر فضلاً عن إزالته، وإنّما يرتفع بالاخراج والخروج من المادّة تدريجاً وامتزاجهما.

وبالجملة فللنزح خصوصيتان:

إحداهما: الإخراج بالدلو وأشباهه.

ثانيتهما: انّه موجب للخروج من المادّة بمقداره وامتزاجه بالماء الموجود في البئر، والأوّل لا إشكال بنظر العرف في عدم مدخليته بوجه بل لا يكون أصل الإخراج معتبراً عندهم فلو خرج ماء كثير من المادّة ـ أحياناً ـ بيث صار موجباً لزوال التغيّر ترتفع النجاسة، وامّا الثاني فلا دليل على عدم مدخليته ولا يكون بحسب نظر العرف كالحجر في جنب الإنسان بل يحتمل ـ قويّاً ـ دخالته في زوال النجاسة.

الصفحة 119

فظهر أنّ مقتضى الرواية اعتبار الامتزاج في الجملة، وقد عرفت سابقاً عدم دلالتها على اعتبار الاستهلاك لأنّ زوال التغيّر قد لا يحتاج إلى أزيد من نزح دلو أو دلوين لضعف التغيّر الموجب لحدوث النجاسة فمقتضى إطلاق الرواية وشمولها لمثل هذه الصورة التي يكون الاستهلاك من ناحية المطهر فضلاً عن العكس عدم اعتبار استهلاك الماء المتنجّس في الماء المعتصم أصلاً.

هذا كلّه بناءً على إلغاء خصوصية كون الماء ذا مادّة ـ كما ذكره المتوهّم ـ وامّا بناءً على عدمه فيختصّ الحكم بالمياه التي تكن لها مادّة كالجاري والبئر فلابدّ من استفادة حكم تطهير المياه الراكدة المتنجّسة من دليل آخر.

وقد يستدلّ على كفاية مجرّد الاتصال بالماء المعتصم من دون توقّف على الامتزاج بما ورد من قوله(عليه السلام) : «كلّ شيء يراه ماء المطر فقد طهر» وقوله(عليه السلام) مشيراً إلى غدير من الماء: «انّ هذا لا يصيب شيئاً إلاّ وطهّره».

بتقريب أنّ مقتضى إطلاقهما وشمولهما للماء المتنجّس أن يكتفى في تطهيره بمجرّد رؤية ماء المطر إيّاه أو إصابة الماء الكر المعتصم إليه، ومن الواضح انّ تحقّق هذا لا يتوقّف على الامتزاج بل تصدق الرؤية والإصابة بمجرّد الاتصال لأنّ المفروض كون الماء واحداً ـ عقلاً وعرفاً ـ فاتصاف بعض الأجزاء بكونه مرئياً للمطر أو مصاباً للماء المعتصم يكفي في صدق كون الماء متّصفاً بهذه الصفة.

ويرد عليه انّ الظاهر انّ المراد منهما هو تلاقي كلّ جزء من الأجزاء المتنجّسة مع ماء المطر أو الماء المعتصم الآخر كما هو الحال في الجامدات المتنجّسة، فكما أنّ الثوب المتنجّس بجميع أجزائه لا يطهر بمجرّد رؤية ماء المطر بعض أجزائه أو إصابة الماء المعتصم إليه فكذلك الماء المتنجّس بجميع أجزائه لا يعرض له الطهارة بمجرّد رؤية بعض أجزائه أو الإصابة اخليه.

الصفحة 120

وما يقال من أنّه لا فرق بين الطهارة والنجاسة، فكما أنّ عروض النجاسة للماء غير البالغ حدّ الكر لا يتوقف على ملاقاة جميع أجزائه مع النجاسة، بل يتصف بها بمجرّد ملاقاة بعض أجزائه معها فكذلك زوالها لا يتوقف على اتصال جميع أجزائه المتنجّسة بالماء المعتصم.

مدفع بأنّ قياس الطهارة على النجاسة مع الفارق كما يظهر بمراجعة العرف، فانّهم يستقذرون من الماء الذي وقع فيه بعض القذارات الصورية ولا يرتفع استقذارهم بمجرّد الاتصال بماء آخر كما أنّهم لا يستعملون الماء الذي وقع القذر في بعض أطرافه.

وبالجملة مقتضى الروايتين عدم حصول الطهارة بمجرّد إصابة الماء إلى بعض أجزاء الماء المتنجّس بل تتوقّف على إصابته إلى جميع أجزائه، ولذا لو لم يكن في هذا الباب إلاّ هاتان الروايتان لأشكل استفادة كون الماء قابلاً للتطهير منهما لأنّ مفادهما هو اعتبار الاستهلاك بالنسبة إلى الماء المتنجّس لأنّه مساوق لوصول الماء المطهر إلى جميع أجزائه، وقد عرفت انّ المناط في كون الشيء قابلاً للتطهير هو بقائه بحقيقته بعده والاستهلاك مناف لذلك، نعم قد عرفت أيضاً انّ وصول الماء إلى جميع الأجزاء يمكن أن لا يكون ملازماً للاستهلاك بل كان مساوقاً للامتزاج وعليه فالاستفادة المذكورة غير مشكلة.

وربّما يستدلّ لكفاية مجرّد الاتصال بما ورد في ماء الحمّام من أنّه كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً.

وفيه أنّ نجاسة ماء النهر إنّما هي بعد تغيّره بأحد الأوصاف الثلاثة وقد عرفت انّ الماء المتغيّر لا يمكن ارتفاع تغيّره بمجرّد اتصاله بماء آخر بل زوال التغيّر مسبّب عن اختلاط المائين وامتزاج الأجزاء بالآخر.

<<التالي الفهرس السابق>>