(الصفحة361)
انعقاد الظهور للمطلق ، بخلاف الثاني ، فإنّـه ينعقد فيـه الظهور إلاّ أ نّـه يهدم حجّيتـه . انتهى .
أقول: إنّ في كلامـه وجوهاً من النظر:
منها: أنّ جعل الشكّ في المراد من الأسد مسبّباً عن الشكّ في المراد من الرمي ممّا لايصحّ ، فإنّـه لايكون هنا سبب ومسبّب أصلاً ، وكون زوال الشكّ في ناحيـة القرينـة موجباً لزوا لـه في ناحيـة ذي القرينـة لايوجب كونـه مسبّباً عنـه ; فإنّ زوا لـه في ناحيتـه أيضاً يوجب زوا لـه في ناحيتها ، فإنّ مع العلم بكون المراد من الأسد هو الحيوان المفترس لايبقى مجال للشكّ في كون المراد من الرمي هل هو رمي النبل أو التراب ، كما هو واضح .
ومنها: أنّ قياس المقيّد المتّصل با لقرينـة المتّصلـة ممّا لايتمّ ; فإنّ القرائن المتّصلـة في سائر الموارد يصادم ظهور ذويها ، فإنّ ظهور الرمي في رمي النبل يصادم ظهور الأسد با لوضع في معناه الحقيقي ، غايـة الأمر تقديمـه عليـه للترجيح ، وهذا بخلاف المقام ، فإنّ مع تقييد الرقبـة با لمؤمنـة لايكون هنا إلاّ ظهور واحد ، ولم ينعقد للإطلاق ظهور ; لأنّـه ليس ظهوراً لفظيّاً وضعيّاً ، بل إنّما هو ظهور عقلي يقتضيـه التجرّد عن القيد ، فمع ذكره لايبقى لـه مجال ، كما هو واضح ، وقد اعترف بذلك في ذيل كلامـه في الفرق بين المقيّد المتّصل والمنفصل .
ومنها: أنّ قياس المقيّد المنفصل با لمتّصل قياس مع الفارق ; لما عرفت من أ نّـه لاينعقد الكلام في الأوّل إلاّ ظهور في المقيّد ، بخلاف الثاني ; فإنّـه قد انعقد للإطلاق ظهور ، وهو يعارض الظهور في ناحيـة المقيّد ، والجمع لاينحصر بحمل المطلق عليـه ، بل يمكن حمل الأمر في ناحيـة المقيّد على الاستحباب ،
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 579.
(الصفحة362)
كما عرفت .
وكيف كان فهل يجب حمل المطلق على المقيّد في مفروض البحث ، أو يلزم أن يحمل الأمر في المقيّد على الاستحباب ، أو يقال بتعدّد الحكم والتكليف واختلاف متعلّقـه بالإطلاق والتقييد أو با لتباين بجعل المقيّد قرينةً على كون المراد با لمطلق هو المقيّد بغير هذا القيد ، مثل أن يجعل قولـه : أعتق رقبـة مؤمنـة قرينـة على كون المراد من قولـه : أعتق رقبـة ، هو الرقبـة الكافرة ، أو يقال بتعدّد المطلوب وكون المقيّد واجباً في واجب ؟ وجوه واحتمالات قد يقال كما في التقريرات بأنّ مجرّد تعلّق التكليف الإلزامي بصرف الوجود قرينـة على وحدة التكليف ; لأنّ قولـه : أعتق رقبـة مؤمنـة يقتضي إيجاد صرف وجود عتق الرقبـة المؤمنـة ، ومقتضى كون الحكم إلزاميّاً هو أ نّـه لابدّ من إيجاد عتق الرقبـة المؤمنـة ، وعدم الرضى بعتق الرقبـة الكافرة ، والمفروض أنّ المطلوب في المطلق أيضاً صرف الوجود ، ومقتضى كون المطلوب صرف وجود العتق وإيجاب عتق الرّقبـة المؤمنـة هو وحدة التكليف وكون المطلوب هو المقيّد ليس إلاّ .
أقول: تعلّق التكليف الإلزامي بصرف الوجود في ناحيـة المطلق والمقيّد معاً لايصير دليلاً على وحدة التكليف إلاّ إذا اُحرز ذلك ، فإنّـه مع إمكان التعدّد ـ كما هو ظاهر الدليلين ـ لابأس بتعلّق التكليف الإلزامي في ناحيـة المطلق بصرف وجود وتعلّق تكليف إلزامي آخر بصرف وجود المقيّد ، فإثبات اتّحاد التكليف بتعلّق الحكم الإلزامي بصرف الوجود دور صريح ; لما عرفت من أنّ مجرّد كون التكليف إلزاميّاً متعلّقاً بصرف الوجود لايثبت الاتّحاد إلاّ مع إحرازه ، فلو توقّف ثبوتـه عليـه ـ كما هو المفروض ـ يلزم الدور ، كما هو واضح .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 581 ـ 585.
(الصفحة363)
والتحقيق أن يقال: إنّ الوجـه في إثبات الاتّحاد هو استحا لـة تعلّق تكليفين با لمطلق والمقيّد ، سواء كان التكليفان مثلين أو غيرهما ; لأنّ المطلق لايغاير المقيّد أصلاً ، بل المقيّد إنّما هو نفس المطلق ، ومن المعلوم استحا لـة تعلّق إرادتين بشيء واحد ، كما يستحيل أن يكون الأمر الواحد متعلّقاً لحُبّين أو بغضين ، ومن هنا اخترنا خروج المطلق والمقيّد عن النزاع في مسأ لـة الاجتماع ، وبذلك يبطل احتمال التعدّد والاختلاف بالإطلاق والتقييد أو احتمال كون المقيّد واجباً في واجب .
وأمّا حمل الأمر في المقيّد على الاستحباب والإرشاد إلى أفضليّـة بعض الأفراد فهو وإن كان من وجوه الجمع ويرتفع بـه التنافي ، إلاّ أ نّـه خلاف الجمع المرتكز في أذهان العرف ، فإنّهم بمجرّد ورود المطلق والمقيّد كذلك يحملون الأوّل على الثاني من دون توجّـه إلى إمكان الجمع بنحو آخر .
ومن هنا يظهر أنّ جعل المقيّد قرينـة على كون المراد من المطلق هو ما عدا المقيّد خلاف الجمع العرفي وإن كان حمل الأمر على التأسيس أولى من حملـه على التأكيد ، إلاّ أنّ ذلك فيما لم يكن بناء العرف على خلافـه .
هذا إذا كان المتوافقان مثبتين .
الصورة الثالثـة: إذا كانا منفيّين ، كقولـه : لا تعتق رقبـة ولا تعتق رقبـة كافرة ، فلا وجـه لحمل المطلق على المقيّد ; لعدم التنافي ، لا نقول بتعدّد التكليف ; فإنّ استحا لـة تعلّقـه با لمطلق والمقيّد لا فرق فيها بين أن يكون التكليفان مثبتين أو منفيّين ، كما هو واضح ، بل المقصود أ نّـه لا وجـه لحمل الأوّل على الثاني ، وجعل متعلّق النهي هو خصوص المقيّد ، بل المحرّم أو المكروه هو نفس المطلق ، فتدبّر .
هذا كلّـه فيما إذا لم يذكر السبب لا في المطلق ولا في المقيّد .
(الصفحة364)
المقام الثاني: إذا ورد مطلق ومقيّد مع ذكر السبب
وأمّا مع ذكره فتارةً يذكر في كلٍّ منهما ، واُخرى يكون مذكوراً في خصوص أحدهما ، وعلى التقدير الأوّل فإمّا أن يتّحد السبب وأمّا أن يختلف فا لصور ثلاثـة :
الصورة الاُولى: ما إذا كان السبب مذكوراً في كليهما مع اتّحاده ، كقولـه : إن ظاهرت فاعتق رقبـة ، وإن ظاهرت فأعتق رقبـة مؤمنـة ، ولا إشكال في حمل المطلق على المقيّد ; لوحدة التكليف ، وعدم كون الجمع بحمل الأمر في المقيّد على الإرشاد إلى أفضليـة بعض الأفراد جمعاً مقبولاً عند العقلاء ، كما عرفت .
الصورة الثانيـة: هذه الصورة مع اختلاف السبب ، كقولـه : إن ظاهرت فأعتق رقبـة ، وإن أفطرت فأعتق رقبـة مؤمنـة .
وقد يقال بأ نّـه لا إشكال في أ نّـه لايحمل المطلق على المقيّد ; لعدم التنافي بينهما .
ولكن لايخفى أ نّـه بعدما كان المطلق والمقيّد غير متغايرين ـ كما عرفت ـ فيستحيل تعلّق تكليفين بهما ولو كان سببهما متغايرين ; إذ قد يجتمعان ، كما في المثال ، فإنّ مع اجتماع الإفطار والظهار يجتمع الوجوبان على الأمر الواحد ، وهو مستحيل كما عرفت في مسأ لـة تداخل الأسباب ، إلاّ أنّ ذلك لايوجب حمل المطلق على المقيّد ، بل يتحقّق التنافي بين المتعلّقين بتقييد كلٍّ منهما بقيد ، وهذا التصرّف أولى عند العقلاء من الحمل والتقييد ، كما لايخفى .
الصورة الثالثـة: ما إذا كان السبب مذكوراً في خصوص أحدهما ، كما لو قال : أعتق رقبـة ، بلا ذكر السبب ، وقال : إن ظاهرت فأعتق رقبـة مؤمنـة ، أو با لعكس بأن ذكر السّبب في المطلق دون المقيّد .
وقد يقال ـ كما في التقريرات ـ بأ نّـه يشكل حمل المطلق على المقيّد في
(الصفحة365)
هذه الصورة ; للزوم الدور .
قال في بيانـه ما ملخّصـه: أنّ هنا إطلاقين ومقيّدين : أحدهما في ناحيـة الواجب ، وهو عتق الرقبـة وعتق الرقبـة المؤمنـة ، ثانيهما في ناحيـة الوجوب والتكليف ، وهو وجوب العتق غير مقيّد بسبب ، ووجوبـه مقيّداً بسبب ، كا لظهار في المثال ، وتقييد كلٍّ من الإطلاقين يتوقّف على تقييد الإطلاق الآخر ، وذلك لأنّ حمل المطلق على المقيّد يتوقّف على وحدة التكليف ، وفي المثال تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقّق سبب الآخر يتوقّف على وحدة المتعلّق ; إذ مع اختلافـه لا موجب لحمل أحد التكليفين على الآخر ، كما هو واضح ، ووحدة المتعلّق في المقام يتوقّف على حمل أحد التكليفين على الآخر ; إذ لو لم يحمل أحدهما على الآخر ولم يقيّد وجوب العتق المطلق بخصوص صورة الظهار لم يتحقّق وحدة المتعلّق . انتهى .
أقول: توقّف تقييد أحد الوجوبين بصورة تحقّق سبب الآخر على وحدة متعلّق التكليفين ممّا لاريب فيه ; إذ مع اختلاف المتعلّقين لا ربط لإحدى القضيّتين بالاُخرى ; إذ لو قال : إن ظاهرت فأعتق رقبـة ، ثمّ قال : أطعم ستّين مسكيناً ، مثلاً ، لايتوهّم أحد تقييد وجوب الإطعام بصورة تحقّق الظهار ، كما هو واضح .
وأمّا توقّف وحدة المتعلّق على تقييد التكليف المطلق بصورة وجود القيد ، فلانعرف لـه وجهاً أصلاً ، فإنّ اتّحاد المتعلّقين وتغايرهما أمر وجدانيّ واقعي لايتوقّف على شيء أصلاً ; فإنّ تغاير الإطعام مع العتق واتّحاد عتق الرقبـة مع عتق الرقبـة المؤمنـة لايتوقّف إحرازه على إحراز وحدة التكليف أصلاً ; وحينئذ فمن وحدة المتعلّق المحرزة با لوجدان يستكشف وحدة الحكم ، وهي توجب حمل
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 580 ـ 581.
(الصفحة366)
أحد التكليفين على الآخر ، كما هو واضح .
هذا ، مضافاً إلى أنّ لزوم الدور ـ على تقدير تسليمـه ـ لايقدح با لجمع العرفي لو تحقّق هنا .
والتحقيق أن يقال: إنّ العرف والعقلاء لايرون التنافي بين المطلق والمقيّد في مثل المقام ، ولايحملون الأوّل على الثاني أصلاً ، بل يعملون بمقتضى ظاهر الدليلين من تعدّد التكليف ، كما فيما إذا ذكر السبب في كلّ منهما مع اختلافـه .
تنبيـه: لا فرق بين الأحكام الوضعيّـة والتكليفيّـة في حمل المطلق
لايخفى أنّ جميع ما ذكرنا في المقام يجري فيما إذا كان الدليلان واردين لإفادة الحكم الوضعي من الجزئيـة والشرطيـة والمانعيّـة ، فإنّ موارد حمل المطلق على المقيّد فيها هي بعينها موارد الحمل في الأحكام التكليفيـة ، كما هو واضح ، كما أنّ جميع ما ذكرنا في الأحكام التكليفيّـة الوجوبيـة يجري في التكا ليف المستحبّـة ، ولكنّ بناءهم فيها على حمل الأمر با لمقيّد على تأكّد الاستحباب .
ولعلّ السرّ فيـه هو : كون الغا لب في هذا الباب هو تفاوت الأفراد بحسب المراتب ، وأمّا احتمال كون ذلك بملاحظـة التسامح في أدلّـة السنن ـ كما في الكفايـة ـ فمدفوع : بأنّ التسامح فيها إنّما هو بعد فرض تماميّـة دلالـة دليلها ، ولو قيل با لحمل على المقيّد لايبقى هنا دلالـة في الإطلاق أصلاً ، كما لايخفى .
ولنختم بذلك الكلام في مباحث الألفاظ ومن اللّـه نستمدّ وبـه الاعتصام وكان ختامـه في اليوم الرابع عشر من شهر شعبان من شهور سنـة 1373
(الصفحة367)
المقصد السادس
في أحكام القطع
(الصفحة368)
(الصفحة369)
بسم اللّـه الرحمن الرحيم، وبـه نستعين
الحمد للّـه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على خير
خلقـه محمّد أشرف النبيّين، وعلى آلـه الطيّبين،
ولعنـة اللّـه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
مقدّمـة
وبعد ، فلايخفى أنّ مباحث القطع لايكون خارجاً عن مسائل علم الاُصول كما قيل ; لعدم الفرق بينـه وبين الأمارات المعتبرة شرعاً ، التي يكون البحث عنها داخلاً في علم الاُصول قطعاً .
وماذكره الشيخ(قدس سره) في «الرسالـة»: من أنّ إطلاق الحجّـة على القطع ليس كإطلاق الحجّـة على الأمارات المعتبرة شرعاً ; لأنّ الحجّـة عبارة عن الوسط الذي بـه يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، ويصير واسطـة للقطع بثبوتـه لـه ، كا لتغيّر لإثبات حدوث العا لم ، وهذا المعنى متحقّق في الظنّ ، فيقال : «هذا مظنون الخمريـة ، وكلّ مظنون الخمريـة يجب الاجتناب عنـه» ، بخلاف القطع ; لأنّا إذا قطعنا بخمريـة شيء يقال : «هذا خمر ، وكلّ خمر حرام» ، ولايقال : «هذا معلوم
1 ـ كفايـة الاُصول: 296.
(الصفحة370)
ا لخمريـة ، وكلّ معلوم الخمريـة يجب الاجتناب عنـه» ; لأنّ أحكام الخمر إنّما تثبت للخمر ، لا لما علم أنّـه خمر .
فيرد عليـه: المنع في مورد الظنّ أيضاً ، فإنّ وجوب الاجتناب مثلاً إنّما هو حكم لنفس الخمر ، لا للخمر المظنون ، كما هو واضح . فإن كان المراد با لحجّـة ما ذكره فإطلاقها على الأمارات أيضاً ممنوع ، وإن كان المراد بها هي ما يحتجّ بـه المولى على العبد ، ويصحّ لـه الاحتجاج بـه عليـه فهو متحقّق في كليهما ، كما لايخفى . ومجرّد كون حجّيـة القطع غير مجعولـة ـ بخلاف الظنّ ـ لايوجب خروجها عن مسائل علم الاُصول .
إذا عرفت ذلك فاعلم: أنّـه ذكر الشيخ(قدس سره) في «ا لرسا لـة» : أنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي فيحصل لـه إمّا الشكّ فيـه أوا لقطع أوا لظنّ ، وظاهره ـ باعتبار أخذ الشكّ والظنّ في التقسيم ـ أنّ المراد با لحكم الشرعي هو الحكم الشرعي الواقعي .
ولذا عدل عن هذا التقسيم في «ا لكفايـة» ; نظراً إلى عدم اختصاص أحكام القطع بما إذا كان متعلّقاً بالأحكام الواقعيـة ، وعمّم متعلّق القطع .
ولكنّـه يرد عليـه : أنّ جعل حكم العقل باتباع الظنّ ـ لو حصل ، وقد تمّت مقدّمات الانسداد على تقدير الحكومـة ـ في مقابل القطع ممّا لا وجـه لـه ; لأنّ المراد با لقطع الحاصل إن كان هو القطع التفصيلي فا للازم أن يكون البحث عن القطع الإجما لي في باب أحكام القطع استطرادياً ، وإن كان المراد الأعمّ منـه ومن الإجما لي فلا وجـه لجعل الظنّ المذكور مقابلاً لـه ; لأنّ حكم العقل باتباع الظنّ
1 ـ فرائد الاُصول 1: 4.
2 ـ نفس المصدر 1: 2.
3 ـ كفايـة الاُصول: 296.
(الصفحة371)
ليس لاعتباره بنفسـه ، بل منشأه العلم الإجما لي بثبوت التكا ليف ، فوجوب العمل على طبقـه إنّما هو لوجود الحجّـة القطعيـة الإجما ليـة ، وعدم إمكان تحصيل الموافقـة القطعيـة ، أو عدم وجوبـه ، كما لايخفى .
نعم ، يرد على ما ذكره الشيخ من التقسيم التثليثي إشكال التداخل ، فإنّ الظنّ إن قام دليل على اعتباره فهو ملحق با لعلم ، وإلاّ فملحق با لشكّ .
ولكنّـه اعتذر عنـه بعض المحقّقين ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بأنّ عقد البحث في الظنّ إنّما هو لأجل تميّز الظنّ المعتبر الملحق با لعلم عن الظنّ الغير المعتبر الملحق با لشكّ ، فلابدّ أوّلاً من تثليث الأقسام ، ثمّ البحث عن حكم الظنّ ; من حيث الاعتبار وعدمـه .
ولكنّـه لايخفى أنّ تثليث الأقسام لو كان توطئـة لما كان وجـه لتقييد مجرى الاستصحاب بكون الحا لـة السابقـة ملحوظـة ، فإنّ الظاهر أنّ هذا التقييد إنّما هو لأجل بيان المختار في مجرى الاستصحاب ، وسوق العبارة تقتضي كون التثليث أيضاً وقع من باب بيان الحقّ ، لا مجرّد التوطئـة ، فتدبّر .
نعم، يمكن التثليث بوجـه آخر: وهو أنّ المكلّف إذا التفت إلى الحكم الشرعي الواقعي فإمّا أن يحصل لـه القطع بـه أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يكون لـه طريق شرعي أو لا ، وعلى الثاني يرجع إلى الاُصول العمليـة . وحينئذ فا لظنّ الانسدادي ـ بناءً على الحكومـة ـ من مسائل القطع ; لأنّـه أعمّ من القطع الإجما لي ، كما أنّ بعض مباحث الاشتغال إنّما يدخل فيـه أيضاً ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ المراد با لمكلّف الذي يحصل لـه أحد الأقسام هو خصوص المجتهد ; إذ المراد من الالتفات هو الالتفات التفصيلي الحاصل للمجتهد ، ولا اعتبار بظنّ
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 4.
(الصفحة372)
ا لمقلّد وشكّـه ، فلايشملـه الخطابات الواردة في أدلّـة اعتبار الطرق والأمارات ، مثل قولـه(عليه السلام) «لا تنقض اليقين بالشكّ» ; ضرورة أنّـه لايكاد يحصل للمقلّد ا لشكّ واليقين في الشبهات الحكميـة ، وعلى فرض الحصول فلا عبرة بهما ما لم يكن مجتهداً في مسألـة حجّيـة الاستصحاب .
وكيف كان فقد ذكروا في مقام بيان أحكام القطع وأقسامـه اُموراً :
1 ـ تهذيب الأحكام 1: 8 / 11، وسائل الشيعـة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.
(الصفحة373)
الأمر الأوّل
وجوب متابعـة القطع وحجّيتـه
لاشبهـة في وجوب العمل على وفق القطع ، ولزوم الحركـة على طبقـه عقلاً . ولايخفى أنّ المراد با لقطع الذي يجب العمل على وفقـه إن كان هو نفس صفـة القطع التي هي من صفات النفس فلا معنى للعمل على طبقـه ; لأنّـه لا عمل لـه ، كما هو واضح ، وإن كان المراد بـه هو الشيء المقطوع بـه فوجوب العمل على وفقـه عقلاً وإن كان ممّا لاريب فيـه إلاّ أنّ هذا الحكم ليس من أحكام القطع ، مثلاً لو قطع بوجوب صلاة الجمعـة فا لعقل وإن كان يحكم بلزوم الإتيان بها ; نظراً إلى لزوم إطاعـة المولى إلاّ أنّ لزوم الإتيان بها ليس من أحكام القطع .
وإن شئت قلت : إنّـه ليس في البين إلاّ حكم العقل بوجوب إطاعـة المولى ، وهو من المسائل الكلاميـة الغير المرتبطـة با لمقام .
نعم ، ما يصحّ أن يعدّ من أحكام القطع هو كونـه منجّزاً للواقع على تقدير الإصابـة ; بحيث لايبقى للمكلّف القاطع عذر أصلاً ، كما هو واضح .
وأمّا ثبوت العذر على تقدير عدم الإصابـة فلايكون أيضاً من أحكام القطع ; لأنّ المعذوريـة إنّما هو بسبب الجهل با لواقع ، وعدم الطريق إليـه ،
(الصفحة374)
لابسبب القطع با لخلاف .
ثمّ إنّهم ذكروا: أنّ الحجّيـة والكاشفيـة من لوازم القطع ، ولايحتاج إلى جعل جاعل ; لعدم جعل تأليفي حقيقـة بين الشيء ولوازمـه ، وظاهرهم : أنّ ذلك من لوازم ماهيـة القطع ، كما يظهر من تنظير بعضهم ذلك با لزوجيـة با لنسبـة إلى الأربعـة .
ولايخفى ما فيـه: أمّا صفـة الكاشفيـة والطريقيـة فلو كانت من لوازم القطع التي لاتنفكّ عنـه ، كما هو الشأن في لوازم الماهيـة فا للازم أن لايتحقّق القطع على خلاف الواقع أصلاً ، مع أنّا نرى با لوجدان تحقّقـه على كثرة ، فكيف يمكن أن تعدّ هذه الصفـة من الأوصاف التي تلازم طبيعـة القطع ؟ !
نعم ، الكاشفيـة بحسب نظر القاطع ثابتـة في جميع الموارد ، ولكن هذا التقييد يخرجها عن كونها ذاتيـة للقطع ; لأنّ الذاتيات لا فرق فيها ; من حيث الأنظار أصلاً ، كما لايخفى .
وإن شئت قلت : إنّ الكاشفيـة بحسب نظر القاطع من لوازم وجود القطع ، لاماهيتـه ، ولوازم الوجود كلّها مجعولـة . نعم ، لا معنى لتعلّق الجعل التشريعي بـه ، مع كونـه من لوازم الوجود ; للزوم اللغويـة .
وأمّا الحجّيـة فهي حكم عقلي مترتّب على القطع ، بمعنى أنّ العقل والعقلاء لايرون القاطع معذوراً في المخا لفـة أصلاً ، ويصحّ عندهم أن يحتجّ بـه المولى على العبد ، ويعاقب العبد بسبب مخا لفـة القطع .
ومن هنا لايصحّ للشارع جعل الحجّيـة لـه ; لكونـه لغواً ، لا لكونـه من لوازم الماهيـة ، فتدبّر .
1 ـ كفايـة الاُصول: 297، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 6.
(الصفحة375)
ولايصحّ لـه نفي الحجّيـة عنـه ، لا لما ذكره في «ا لكفايـة» من لزوم اجتماع الضدّين ، اعتقاداً مطلقاً وحقيقـة في صورة الإصابـة ; لما عرفت في مبحث اجتماع الأمر والنهي من عدم التضادّ بين الأحكام ونظائره من الاُمور الاعتباريـة ـ كيف ، ولو كانت الأحكام متضادّة لكان من المستحيل تعلّق أكثر من واحد بشيء واحد ، ولو كان من شخصين ، مع أنّا نرى با لوجدان كون شيء واحد مأموراً بـه لشخص ، ومنهياً عنـه لشخص آخر ـ بل لاستحا لـة تعلّق البعث والزجر إلى شيء واحد من شخص واحد بنظر العقل إمّا لعدم قدرة العبد على الامتثال ، أو لعدم إمكان ثبوت مبادئهما في نفس المولى ، كما لايخفى .
1 ـ كفايـة الاُصول: 297.
(الصفحة376)
الأمر الثاني
مبحث التجرّي
هل البحث عن التجرّي من المباحث الاُصوليّـة أم لا؟
إنّما الكلام يقع في استحقاق العقوبـة على التجرّي والمثوبـة على الانقياد وعدمـه ، وهل البحث في المقام يكون بحثاً في المسألـة الاُصوليـة ، أو أنّها من المسائل الفقهيـة أو الكلاميـة ؟
لا إشكال في أنّـه إذا قرّر محلّ النزاع ثبوت الحرمـة للتجرّي ، فيقال التجرّي هل هو حرام أو لا ؟ تصير المسألـة فقهيـة محضـة ، كما أنّـه إذا قرّر با لوجـه الذي ذكرنا ، وهو استحقاق العقوبـة على التجرّي وعدمـه تصير مسألـة عقليـة كلاميـة ; لأنّ مرجعـه إلى حسن عقوبـة المولى للمتجرّي وقبحها ، كما لايخفى .
وقد يقال: بإمكان إدراجها في المسائل الاُصوليـة التي يكون الضابط فيها هو وقوعها كبرى لقياس استنباط الأحكام الكلّيـة الفقهيـة ، أو كونها حجّـة في الفقـه ، وذكر لـه وجوه :
منها: ما تسا لموا عليـه من أنّ البحث إذا وقع في أنّ ارتكاب الشيء
(الصفحة377)
ا لمقطوع حرمتـه هل هو قبيح أو لايندرج المسألـة في المسائل الاُصوليـة التي يستدلّ بها على الحكم الشرعي ; وذلك لأنّـه بعد ثبوت القبح يستكشف الحرمـة ; لقاعدة الملازمـة . ومرجع هذا الوجـه إلى أنّ النزاع إنّما هو في قبح التجرّي وعدمـه .
وفيـه ما لايخفى: ضرورة أنّ قاعدة الملازمـة ـ على تقدير تسليمها ـ إنّما هو في غير المقام ممّا لايكون حكم العقل معلولاً لحكم الشرع ، نظير قبح الظلم ، وأمّا في مثل المقام ممّا يكون حكم العقل واقعاً في سلسلـة المعلولات للأحكام الشرعيـة فلا تجري قاعدة الملازمـة أصلاً . ألا ترى أنّ العقل يحكم بقبح العصيان ولزوم الإطاعـة ، مع أنّـه لو كانت المعصيـة منهياً عنها ، والإطاعـة مأموراً بها من قبل الشارع يلزم النواهي والأوامر الغير المتناهيـة ; ضرورة أنّ لذلك النهي أيضاً عصياناً وإطاعـة ، وللنهي الثا لث أيضاً كذلك ، إلى أن يتسلسل . وقبح التجرّي أيضاً كقبح المعصيـة لايكون مورداً لقاعدة الملازمـة أصلاً .
سلّمنا ذلك ، لكنّـه لايوجب صحّـة إدراج المقام في المسائل الاُصوليـة ; ضرورة أنّ البحث في ثبوت حكم العقل با لقبح إنّما هو بحث صغروي ; إذ بعد ثبوت القبح نحتاج أيضاً إلى ضمّ الكبرى ليستنتج الحكم الشرعي . ووقوع المسألـة في صغرى قياس الاستنباط يخرجها عن كونها مسألـة اُصوليـة ، وإلاّ يلزم دخول كثير من المسائل الخارجـة عنها فيها ، كا لبحث عن كون شيء مقدّمـة للواجب ونظائره ، وهو ممّا لايلتزم بـه أحد ، كما لايخفى .
منها: ما في تقريرات المحقّق النائيني(قدس سره) من أنّـه لو كان مستند القائل باستحقاق المتجرّي للعقاب هي دعوى أنّ الخطابات الشرعيـة تعمّ صورتي
1 ـ درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 36.
(الصفحة378)
مصادفـة القطع للواقع ومخا لفتـه ، ويندرج المتجرّي في عموم الخطابات الشرعيـة حقيقـة تصير المسألـة من المباحث الاُصوليـة .
وفيـه ما لايخفى ; فإنّ دعوى إطلاق الخطاب لايوجب اندراج المسألـة في المسائل الاُصوليـة ، فإنّها بحث صغروي مندرج في الفقهيات ; لأنّك قد عرفت أنّ المسائل الاُصوليـة هي الكبريات الواقعـة في قياس استنباط الأحكام الفرعيـة ، كا لبحث عن حجّيـة أصا لـة الإطلاق ، لا البحث عن شمولـه لمورد ، وإلاّ يلزم دخول جلّ المسائل الفقهيـة في الاُصول ، ضرورة أنّـه قلّما يتّفق في مسألـة من المسائل الفقهيـة أن لايقع البحث عن شمول العموم أو الإطلاق با لنسبـة إلى بعض الموضوعات ، كما لايخفى .
هل يمكن عدّ مسألـة التجرّي من المسائل الفقهيـة؟
ثمّ إنّـه قد استشكل في جعل النزاع في حرمـة التجرّي ; بحيث صار من المسائل الفقهيـة بوجهين :
أحدهما: ما ذكره في «ا لكفايـة» من أنّ الفعل المتجرّى بـه أو المنقاد بـه بما هو مقطوع الحرمـة أو الوجوب لايكون اختيارياً ، فإنّ القاطع لايقصده إلاّ بما قطع أنّـه عليـه من عنوانـه الواقعي الاستقلالي ، لابعنوانـه الطارئ الآلي ، بل لايكون غا لباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليـه .
فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب أو الحرمـة شرعاً ، ولايكاد يكون صفـة موجبـة لذلك إلاّ إذا كانت اختياريـة . وزاد في ذيل كلامـه : أنّ المتجرّي قد لايصدر منـه فعل بالاختيار ، كما في التجرّي
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 37.
(الصفحة379)
بارتكاب ما قطع أنّـه من مصاديق الخمر .
ويرد عليـه: وضوح إمكان الالتفات إلى العلم ; لأنّـه ليس من العناوين التي لايمكن الالتفات إليها ، كعنوان التجرّي مثلاً ; حيث إنّ التوجّـه والالتفات إليـه يخرج الملتفت عن كونـه متجرّياً ، كما هو واضح . وأمّا العلم ونظائره من العناوين ـ كعنوان القصد ـ فيمكن الالتفات إليـه .
وحينئذ فلا إشكال في اختصاص الخطاب بـه ، فإنّ العا لم با لخمر ـ بعدما التفت إلى أنّ معلومـه بما أنّـه معلوم يكون موضوعاً للحرمـة ـ يتوجّـه با لتوجّـه الثانوي إلى علمـه ، توجّهاً استقلالياً . ويدلّ على ذلك وقوع العلم في الشريعـة متعلّقاً للأحكام كثيراً ، كقولـه(عليه السلام) : «كلّ شيء طاهر، حتّى تعلم أنّـه قذر»
وأمّا ما أفاده في ذيل كلامـه ففساده أظهر من أن يخفى ; ضرورة أنّ شرب المايع في المثال كان اختيارياً لـه بلا إشكال ; ولذا يترتّب عليـه بطلان الصوم ونظائره ، كما لايخفى .
ثانيهما: ما في تقريرات المحقّق المتقدّم من أنّ توجيـه الخطاب بمثل «لاتشرب معلوم الخمريـة» مستلزم لاجتماع المثلين في نظر العا لم دائماً ، وإن لم يلزم ذلك واقعاً ; لأنّ النسبـة بين الخمر الواقعي والخمر المعلوم هي العموم من وجـه ، وفي مادّة الاجتماع يتأكّد الحكمان ، كما في مثل «أكرم العا لم ، وأكرم الهاشمي» إلاّ أنّـه في نظر العا لم دائماً يلزم اجتماع المثلين ; لأنّ العا لم لايحتمل المخا لفـة ، ودائماً يرى مصادفـة علمـه للواقع ، فدائماً يجتمع في نظره حكمان .
ولايصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد
1 ـ كفايـة الاُصول: 299 ـ 302.
2 ـ تهذيب الأحكام 1: 284 / 832، وسائل الشيعـة 3: 467، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 37، الحديث 4.
(الصفحة380)
بحيال ذاتـه ، فإنّـه لو فرض أنّ للخمر حكماً ، ولمعلوم الخمريـة أيضاً حكماً فبمجرّد العلم بخمريـة شيء يعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، الذي فرض أنّـه رتّب على ذات الخمر ، فيكون هو المحرّك والباعث للاجتناب ، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمريـة لايصلح لأن يكون باعثاً ، ويلزم لغويتـه . وليس لـه مورد آخر يمكن استقلالـه في الباعثيـة ، فإنّ العلم با لخمريـة دائماً ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنـه ، المترتّب على الخمر الواقعي ، وذلك واضح بعدما كان العا لم لايحتمل المخا لفـة . فتوجيـه خطاب آخر على معلوم الخمريـة لايصحّ . انتهى .
وفيـه ما لايخفى; لأنّ تعلّق الحكمين با لخمر الواقعي وبمعلوم الخمريـة لايكاد يكون مستلزماً لاجتماع المثلين ، بعد وضوح كون النسبـة بين المتعلّقين هي العموم من وجـه . ومجرّد اجتماعهما في نظر القاطع لايوجب اجتماع المثلين عنده ، بعد ثبوت الاختلاف بين المفهومين في نظر القاطع أيضاً ; لأنّـه لايرى إلاّ مصادفـة قطعـه للواقع ، وهذا لايستلزم اتحاد المفهومين في عا لم المفهوميـة ، الذي هو عا لم تعلّق الأحكام ، كما حقّقناه في المباحث السابقـة بما لا مزيد عليـه .
مضافاً إلى أنّ الحكم لاينحصر بهذا القاطع ; ضرورة اشتراك الكلّ في الأحكام ، فهذا القاطع ـ مع أنّـه يرى مصادفـة قطعـه للواقع ، المستلزمـة لاجتماع المثلين عنده ، بناءً على ما ذكره(قدس سره) ـ يحتمل الخطأ با لنسبـة إلى القاطع الآخر ، فلم يجتمع الحكمان با لنسبـة إليـه في نظر هذا القاطع ، كما هو واضح .
وأمّا ما ذكره من عدم صلاحيـة كلّ من الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً فيرد عليـه وضوح أنّ المكلّف قد لاينبعث بأمر واحد ، وينبعث بأمرين أو أكثر .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 45 ـ 46.
|