(الصفحة421)
ا لفعل ، إذا قام على نفي الوجوب أو الحرمـة .
وبعبارة اُخرى: معنى كون الشيء واجباً في الواقع أنّـه أراد المولى بالإرادة الحتميـة أن يوجده المكلّف في الخارج ، وبعثـه إليـه با لبعث الفعلي ، ومعنى حجّيـة قول العادل جواز تطبيق العمل على طبق إخباره ومتابعـة قولـه ، فإذا أخبر بعدم وجوب ما يكون واجباً في الواقع فمعنى حجّيـة قولـه يرجع إلى كون المكلّف مرخّصاً في تركـه ، وحينئذ فكيف يجتمع البعث الحتمي إلى الفعل والإرادة الحتميـة مع الترخيص في الترك .
ومن هذا التوجيـه يظهر: أنّ أكثر الأجوبـة التي أوردها الأعاظم في كتبهم ممّا لايرتبط بالإشكال ; ضرورة أنّ دعوى عدم كون المقام مشتملاً على حكمين ; لأنّ الحجّيـة غير جعل الحكم ، أو دعوى كون الحكم المجعول هو الحكم الطريقي الغير المنافي للحكم الواقعي ، أو غيرهما من الأجوبـة التي سيأتي التعرّض لبعضها ممّا لايرتبط بالإشكال ; لأنّ بعد تسليم تلك الأجوبـة يبقى الإشكال بحا لـه ، كما لايخفى .
والتحقيق في الجواب أن يقال: إنّـه لا إشكال في كون الأحكام الواقعيـة الفعليـة مجعولـة على جميع المكلّفين ، من دون أن يكون للعلم دخل في فعليتها ; لما عرفت في بعض المباحث السابقـة من أنّ المراد با لحكم الفعلي ليس إلاّ الأحكام التي اُعطيت بيد الإجراء ، وكان المقصود بها أن يأخذها الناس ، ويعملوا بها .
وهذا لا فرق فيـه بين أن يكون المكلّف عا لماً بها أو جاهلاً ، مضافاً إلى أنّ أخذ العلم با لحكم في موضوعـه مستحيل بداهـة .
فالأحكام الفعليـة ثابتـة با لنسبـة إلى جميع المكلّفين ، كما أنّها ثابتـة با لنسبـة إلى القادر والعاجز ، ولا اختصاص لها بخصوص القادر . نعم ، حيث
(الصفحة422)
يكون الجهل والعجز من الأعذار العقليـة ; لعدم إمكان الانبعاث با لبعث مع الجهل بـه ، أو عدم القدرة على الإتيان با لمبعوث فلا محا لـة لايكون المكلّف معاقباً على المخا لفـة ومذموماً عليها ، وقد حقّقنا في مبحث الترتّب من مباحث الألفاظ أنّ التكليفين باقيان على فعليتهما في صورة التزاحم . غايـة الأمر : أنّ عجز المكلّف صار سبباً لكونـه معذوراً في مخا لفـة أحدهما ; لعدم قدرتـه على امتثا لهما .
نعم ، بينـه وبين المقام فرق ، وهو أنّ مخا لفـة المكلّف في المقام ـ إذا أخطأت الأمارة ـ لا تكون مستندة إلى عذر عقلي ; لأنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لما وقع المكلّف في مخا لفـة الواقع ; لأنّـه كان يعمل بمقتضى الاحتياط الواجب بحكم العقل في موارد العلم الإجما لي . وحينئذ فتكون المخا لفـة مستندة إلى اعتبار الشارع قول العادل ، وأمثا لـه من الأمارات .
وحينئذ فيمكن أن يقال: بمثل ما مرّ في الجواب عن محذور التفويت والإلقاء من أنّ جعل الشارع واعتباره للأمارات يمكن أن يكون بملاحظـة أنّـه لو لم تكن الأمارة حجّـة من قبل الشارع لكان مقتضى حكم العقل وجوب الاحتياط على الناس ، وحينئذ فيلزم الحرج الشديد ، والاختلال العظيم ، الموجب لرغبـة أكثر الناس عن الشريعـة ، وخروجها عن كونها سمحـة سهلـة ، وذلك يوجب انتفاء المصلحـة العظيمـة ; وهي مصلحـة بقاء الشريعـة .
فاعتبار قول العادل الراجع إلى الترخيص فيما لو أدّى على خلاف الواقع ، وقام على نفي وجوب الواجب الواقعي ليس إلاّ لملاحظـة حفظ الشرع الذي يكون ذا مصلحـة عظيمـة ، فيرخّص في ترك صلاة الجمعـة الواجبـة واقعاً القائمـة على نفي وجوبها الأمارة ، لا لعدم كونها ذا مصلحـة ملزمـة ، بل لرفع اليد عن مصلحتها في مقابل المصلحـة التي هي أقوى منها بمراتب .
فوجوب صلاة الجمعـة وإن كان حكماً فعلياً إلاّ أنّ الشارع يرفع اليد عن
(الصفحة423)
مثلـه من بعض الأحكام الفعليـة لأجل مصلحـة هي أقوى المصا لح وأتمّها ، فهو نظير من يقطع يده لأجل حفظ نفسـه فيما لو توقّف عليـه ، فقطع اليد وإن لم يكن ذا مصلحـة ـ بل يكون عين المفسدة ـ إلاّ أنّ معارضتـه مع شيء آخر أقوى منـه أوجب الإقدام عليـه ، مع كونـه ذا مفسدة ، كما لايخفى .
ثمّ إنّ ما ذكرنا: يجري في جميع الأمارات والاُصول ، ولا اختصاص لـه بالأوّل ، فإنّ اعتبار قاعدتي الفراغ والتجاوز ، وإ لغاء الشكّ بعد الوقت ، وعدم وجوب ترتيب الأثر عليـه ، مع أنّ ذلك قد يؤدّي إلى عدم الإتيان با لمأمور بـه ـ بعضاً أو كلاّـ يمكن أن يكون لملاحظـة أنّ تفويض الناس إلى ما يقتضيـه عقولهم من ثبوت الاشتغال إلى أن يعلم الفراغ ربّما يوجب تنفّر الناس وإعراضهم عن أصل الشريعـة ; لعدم تحقّق العلم لهم بإتيان التكا ليف واجدة لجميع ما يعتبر فيها ، إلاّ قليلاً ; ضرورة أنّ أكثرهم في شكّ من ذلك غا لباً . فهذه المصلحـة التي هو أقوى المصا لح أوجبت رفع اليد عن بعض المصا لح الضعيفـة ، وإن كان الحكم على طبقها حكماً فعلياً ، وكان الإتيان بها محبوباً للمولى في نفسها ، كما لايخفى .
فتلخّص من جميع ذلك: أنّ الحكم الواقعي الفعلي عند قيام الأمارة على خلافـه يخرج عن الفعليـة ، بمعنى أنّ المولى لايريد إجرائـه ، فيصير كالأحكام الإنشائيـة التي لايكون المقصود بها عمل الناس على طبقها ، إلاّ في زمان ظهور دولـة الحقّ بقيام صاحب الأمر(عليه السلام) ، كا لحكم بنجاسـة العامّـة على ما في بعض الروايات .
وأمّا ما أفاده بعض محقّقي العصر ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : من أنّـه لايعقل الحكم الإنشائي ، بل الذي يكون في الواقع هو إنشاء الأحكام ، وهو عبارة عن تشريعها وجعلها على موضوعاتها المقدّرة وجودها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط على نهج القضايا الحقيقيـة . ودعوى أنّ الحكم الواقعي في مورد
(الصفحة424)
ا لأمارة لايكون فعلياً واضحـة الفساد ، فإنّـه لايمكن أن لايكون الحكم فعلياً إلاّ إذا اُخذ في موضوعـه عدم قيام الأمارة على الخلاف ; بحيث يكون قيداً في ذلك ، ومعـه يعود محذور التصويب .
ففيـه: أنّ المراد با لحكم الإنشائي هو الحكم الذي ينشأه العقلاء المقنّنين للقوانين العرفيـة في اُمورهم الدنيويـة أيضاً ، ثمّ يخصّصونـه ببعض الأفراد ، أو يقيّدونـه ببعض القيود ; ضرورة أنّ العقلاء في جعل القوانين ليسوا بحيث يجعلون القانون بجميع خصوصياتـه ; من حيث القيود أو الشمول ، بل ينشأون الأحكام بنحو العموم أو الإطلاق ، ثمّ يخصّصونـه أو يقيّدونـه .
كيف ، ولو قلنا بأنّ الأحكام الواقعيـة كانت مجعولـة على موضوعاتها بجميع ما اعتبر فيها من القيود والشرائط لم يبق وجـه للتمسّك بالإطلاق عند الشكّ في كون الحكم مقيّداً ، أو في تقيّده بقيد آخر ; إذ مع فرض كون المتكلّم في مقام البيان لابدّ لـه من بيان الحكم المتعلّق با لموضوع بجميع ما اعتبر فيـه ، وعند ذلك لايبقى شكّ في القيد ، ومعـه لايجوز التمسّك بالإطلاق ، كما لايخفى .
أجوبـة الأعلام عن المشكلـة ونقدها
ثمّ إنّـه تفصّى المحقّق المعاصر عن أصل الإشكال ـ على ما في التقريرات ـ بأنّ الموارد التي توهّم وقوع التضادّ بين الأحكام الظاهريـة والواقعيـة على أنحاء ثلاثـة :
أحدها : موارد قيام الطرق والأمارات .
ثانيها : موارد مخا لفـة الاُصول المحرزة .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 103.
(الصفحة425)
ثا لثها : موارد تخلّف الاُصول الغير المحرزة ، والتفصّي عن الإشكال يختلف في كلّ منها .
أمّا باب الطرق والأمارات: فليس المجعول حكماً تكليفياً ، حتّى يتوهّم التضادّ بينـه وبين الحكم الواقعي ، بل المجعول فيها إنّما هو الحجّيـة والوسطيـة في الإثبات ، وهو أمر عقلائي ، وممّا تنا لـه يد الجعل . وحينئذ فليس حال الأمارة المخا لفـة إلاّ كحال العلم المخا لف ، فلايكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقط ; أصاب الطريق الواقع أو أخطأ ، فإنّـه عند الإصابـة يكون المؤدّى هو الحكم الواقعي ، كا لعلم الموافق ، ويوجب تنجيز الواقع ، وعند الخطأ يوجب المعذوريـة وعدم صحّـة المؤاخذة عليـه ، كا لعلم المخا لف ، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول ، انتهى ملخّصاً . هذا ما أفاده في التفصّي عن الإشكال في خصوص ا لأمارات .
ويرد عليـه أوّلاً: أنّـه ليس في باب الأمارات والطرق العقلائيـة الإمضائيـة حكم مجعول أصلاً ، لا الحجّيـة ولا الوسطيـة في الإثبات ، ولا الحكم التعبّد بـه ; ضرورة أنّـه ليس فيها إلاّ مجرّد بناء العقلاء عملاً على طبقها ، والمعاملـة معها معاملـة العلم ، من دون أن يكون هنا جعل في البين ، والشارع أيضاً لم يتصرّف فيها ، بل عمل بها ، كما يعمل العقلاء في اُمورهم .
وثانياً: فلو سلّم الجعل الشرعي فا لمجعول فيها ليس إلاّ إيجاب العمل بالأمارات تعبّداً ، كما يظهر بملاحظـة الروايات الواردة في ذلك ، مثل قولـه(عليه السلام) : «إذا أردت حديثاً فعليك بهذا الجالس» ، مشيراً إلى زرارة ، وقولـه(عليه السلام) : «وأمّا
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 105.
2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 347 / 216، وسائل الشيعـة 27: 143، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 19.
(الصفحة426)
الحوادث الواقعـة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا» ، وقولـه(عليه السلام) : «عليك بالأسدي» ; يعني أبا بصير ، فإنّـه لو استفيد منها الجعل الشرعي ، واُغمض عن كون جميعها إرشاداً إلى الارتكاز العقلائي فظاهرها وجوب العمل على قول العادل ، لا جعل الحجّيـة والوسطيـة ، كما لايخفى .
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ : أنّـه مع الغمض عن الإيرادين الأوّلين نقول : إنّ ما أفاد من كون المجعول هو الوسطيـة في الإثبات لايجدي في دفع الإشكال ; لما تقدّم في توجيهـه من أنّ مرجع الإشكال إلى استحا لـة اجتماع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بإيجاد شيء ، والإرادة الجائيـة من قبل الحجّيـة الراجعـة إلى الترخيص في المخا لفـة فيما لو أخطأت الأمارة ، وهذا لايندفع بما ذكره ، ولم يكن الإشكال منحصراً بالاجتماع في خصوص الحكمين ، حتّى يندفع بما ذكره من عدم كون المجعول في باب الأمارات هو الحكم .
هذا، وأمّا ما أفاده في باب الاُصول المحرزة فملخّصـه: أنّ المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّـه الواقع ، وإ لغاء الطرف الآخر ، وجعلـه كا لعدم ، فا لمجعول في الاُصول التنزيليـة ليس أمراً مغايراً للواقع ، بل الجعل الشرعي إنّما تعلّق با لجري العملي على المؤدّى ، على أنّـه هو الواقع ، كما يرشد إليـه قولـه(عليه السلام) في بعض أخبار قاعدة التجاوز «بلى قد ركعت» ، فإن كان
1 ـ إكمال الدين: 484 / 4، وسائل الشيعـة 27: 140، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 9.
2 ـ اختيار معرفـة الرجال 1: 400 / 291، وسائل الشيعـة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 15.
3 ـ تهذيب الأحكام 2: 151 / 592، وسائل الشيعـة 6: 317، كتاب الصلاة، أبواب الركوع، الباب 13، الحديث 3.
(الصفحة427)
ا لمؤدّى هو الواقع فهو ، وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّـه ، من دون أن يكون قد تعلّق با لمؤدّى حكم على خلاف ما هو عليـه . وبا لجملـة : المجعول في باب الاُصول هو الهوهويـة العمليـة التي بنى عليها الشيخ في باب الأمارات ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلا: أنّ الجري والبناء العملي والهوهويـة العمليـة ليس أمراً قابلاً للجعل الشرعي ; لأنّـه من الاُمور التكوينيـة الغير القابلـة للجعل ; ضرورة أنّـه فعل للمكلّف ، فإنّـه هو الذي يعمل بمؤدّاها بما أنّـه الواقع . وأمّا قولـه(عليه السلام) : «بلى قد ركع» فهو يرشد إلى ما ذكرنا من رفع اليد عن الحكم الفعلي ، والاكتفاء بخلوّ المأمور بـه عن بعض الأجزاء .
وثانياً: أنّـه على تقدير تسليم إمكان تعلّق الجعل الشرعي با لجري العملي فنقول : مَن الذي أوجب على المكلّف ، وأجاز لـه البناء على أنّ المؤدّى هو الواقع ؟ فلا محا لـة يقال في الجواب : إنّ الجاعل والباعث لـه على ذلك هو الشارع المرخّص في العمل على طبق الاُصول ، وحينئذ فيعود الإشكال بأنّـه كيف يجتمع ذلك مع الإرادة الحتميـة المتعلّقـة بفعل المأمور بـه بجميع أجزائـه وشرائطـه ، كما لايخفى .
هذا، وذكر في مقام التفصّي عن الإشكال في الاُصول الغير المحرزة ـ بعد التفصيل في متمّمات الجعل ـ ما ملخّصـه : أنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين :
أحدهما : كونـه من الحالات والطوارئ اللاحقـة للحكم الواقعي أو موضوعـه ، كحا لتي العلم والظن ، وهو بهذا الاعتبار لايمكن أخذه موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي ; لانحفاظ الحكم الواقعي عنده .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 110 ـ 111.
(الصفحة428)
ثانيهما : اعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، وعدم كونـه موصلاً إليـه ومنجّزاً لـه ، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع ، كما أنّـه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريـة . فلو كانت مصلحـة الواقع مهمّـة في نظر الشارع كان عليـه جعل المتمّم ، لمصلحـة احترام المؤمن وحفظ نفسـه ، فإنّـه لمّا كان حفظ نفس المؤمن أولى با لرعايـة وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر اقتضى ذلك تشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ ; حفظاً لدمـه .
وهذا الحكم إنّما يكون في طول الحكم للواقع ، نشأ عن أهمّيـة المصلحـة الواقعيـة ; ولذا كان الخطاب بالاحتياط خطاباً نفسياً ناشئاً عن أهمّيـة مصلحـة الواقع ، فهو واجب نفسي للغير ، لا واجب با لغير ; ولذا كان العقاب على مخا لفـة التكليف بالاحتياط عند تركـه وأدائـه إلى مخا لفـة الحكم الواقعي ، لا على مخا لفـة الواقع ; لقبح العقاب عليـه مع الجهل .
إن قلت: إنّ مقتضى ذلك صحّـة العقوبـة على مخا لفـة الاحتياط ، صادف الواقع أو خا لفـه ; لكونـه واجباً نفسياً ، وإن كان الغرض من وجوبـه هو الوصلـة إلى الأحكام الواقعيـة ، إلاّ أنّ تخلّف الغرض لايوجب سقوط العقاب . فلو خا لف الاحتياط ، وأقدم على قتل المشتبـه ، وصادف كونـه مهدور الدم كان اللازم استحقاقـه للعقوبـة .
قلت: فرق بين علل التشريع وعلل الأحكام ، والذي لايضرّ تخلّفـه هو الأوّل ; لأنّها تكون حكمـة تشريع الأحكام ، وأمّا علّـة الحكم فا لحكم يدور مدارها ، ولايمكن أن يتخلّف عنها ، ولا إشكال أنّ الحكم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ; لأنّ أهمّيـة ذلك أوجب الاحتياط .
(الصفحة429)
ومن ذلك يظهر: أنّـه لا مضادّة بين إيجاب الاحتياط وبين الحكم الواقعي ، فإنّ المشتبـه إن كان ممّا يجب حفظ نفسـه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعي ، ويكون هو هو ، وإن لم يكن كذلك فلايجب الاحتياط ; لانتفاء علّتـه ، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبـه ، هذا كلّـه إذا كانت مصلحـة الواقع تقتضي جعل المتمّم من إيجاب الاحتياط .
وإن لم تكن المصلحـة الواقعيـة بهذه المثابـة من الأهمّيـة فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع كحديث الرفع ، أو بلسان الوضع كقولـه : «كلّ شيء لك حلال» ، فإنّ المراد من الرفع ليس رفع التكليف عن موطنـه ، بل رفع التكليف عمّا يستتبعـه من التبعات ، وإيجاب الاحتياط ، فا لرخصـة المستفادة من حديث الرفع نظير الرخصـة المستفادة من حكم العقل بقبح العقاب من دون بيان ، فكما أنّ هذه الرخصـة لا تنافي الحكم الواقعي كذلك الرخصـة المستفادة من حديث الرفع .
والسرّ في ذلك: هو أنّ هذه الرخصـة تكون في طول الحكم الواقعي ، ومتأخّر رتبتها عنـه ; لأنّ الموضوع فيها هو الشكّ في الحكم ; من حيث كونـه موجباً للحيرة في الواقع وغير موصل إليـه ، فقد لوحظ في الرخصـة وجود الحكم الواقعي ، ومعـه كيف يعقل أن تضادّ الحكم الواقعي .
وبالجملـة: الرخصـة والحلّيـة المستفادة من حديثي الرفع والحلّ تكون في عرض المنع والحرمـة المستفادة من إيجاب الاحتياط ، وقد عرفت أنّ إيجاب
1 ـ التوحيد: 353 / 24، وسائل الشيعـة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.
2 ـ الكافي 6: 339 / 2، وسائل الشيعـة 25: 118، كتاب الأطعمـة والأشربـة، أبواب الأطعمـة المباحـة، الباب 61، الحديث 2.
(الصفحة430)
ا لاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليـه ، فما يكون في عرضـه يكون في طول الواقع أيضاً ، إلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء في عرضـه ، انتهى .
ويرد عليـه أوّلاً: أنّ الفرق بين أخذ الشكّ باعتبار كونـه من الحالات والطوارئ وبين أخذه باعتبار كونـه موجباً للحيرة في الواقع ، دعوى المناط في رفع التضادّ هو الأخذ على الوجـه الثاني ممّا لا محصّل لـه ، فإنّ مجرّد الطوليـة لو كان كافياً في رفع التضادّ فا للازم رفعـه بناءً على الوجـه الأوّل أيضاً ; لأنّ الحالات الطارئـة أيضاً في طول الواقع ، وإن لم يكن كافياً فيـه ، فالأخذ على الوجـه الثاني أيضاً لايرفع التضادّ ، بل نقول : إنّ الاعتبارين مجرّد تغيير في العبارة ، وإلاّ فلا فرق بينهما واقعاً ، كما لايخفى .
وثانياً: أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت : من عدم وجوب الاحتياط واقعاً في مورد الشكّ مع عدم كون المشكوك ممّا يجب حفظـه ; لكون وجوب حفظ المؤمن علّـة للحكم بالاحتياط ، لا علّـة للتشريع ممّا لاوجـه لـه ، فإنّ وجوب الاحتياط حكم ظاهري مجعول لغرض حفظ الواقع ، ولابدّ أن يتعلّق حقيقـة بكلّ مشكوك ، سواء كان واجب الحفظ أم لم يكن ، وإلاّ فلو تعلّق بخصوص ما كان منطبقاً على الواجب الواقعي فقط فيحتاج إلى متمّم آخر ، فإنّ وجوب الاحتياط المتعلّق على المشكوك الواجب بحسب الواقع لايصلح للداعويـة نحو المشكوك كونـه هو الواقع ، وقاصر عن تحريك العبد نحوه ، فيصير جعل إيجاب الاحتياط لغواً ; لأنّ جميع موارد الشكّ يكون تعلّق وجوب الاحتياط بها مشكوكاً ، كما لايخفى .
وثالثاً: أنّ ما أفاد من أنّ الرخصـة ، وكذا أصا لـة الحلّيـة إنّما يكون في
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 114 ـ 119.
(الصفحة431)
عرض الاحتياط الذي هو في طول الواقع ، فلابدّ أن تكون الرخصـة أيضاً في طولـه ممنوع جدّاً ; لأنّـه قد ثبت في محلّـه أنّ ما في عرض المتقدّم على شيء لايلزم أن يكون متقدّماً عليـه ; لأنّ التقدّم والتأخّر إنّما يثبت في موارد ثبوت ملاكهما ، كا لعلّيـة والمعلوليـة ، ولا معنى لثبوتهما من دون ملاك ، كما هو واضح .
ورابعاً: أنّ ما ذكره ـ على تقدير تسليم صحّتـه ـ لايجدي في رفع الإشكال با لتوجيـه الذي ذكرناه ، فتدبّر .
وممّا تفصّى بـه عن الإشكال ما أفاده السيّد الأصفهاني ـ على ماحكاه عنـه المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ـ وملخّصـه : أنّـه لا إشكال في أنّ الأحكام إنّما تتعلّق با لمفاهيم المتصوّرة في الذهن ، لكن لا من حيث إنّها كذلك ، بل من حيث إنّها حاكيـة عن الخارج .
ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارة يكون مطلوباً على نحو الإطلاق ، واُخرى على نحو التقييد ، وعلى الثاني فقد يكون ذلك لعدم المقتضي في غير المقيّد ، وقد يكون لوجود المانع ، مثلاً قد يكون عتق الرقبـة مطلوباً على سبيل الإطلاق ، وقد يكون الغرض في عتق الرقبـة المؤمنـة خاصّـة ، وقد يكون في المطلق ، إلاّ أنّ عتق الرقبـة الكافرة مناف لغرضـه الآخر ، ولأجلـه قيّد العتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبـة المؤمنـة ، فتقييده في هذا القسم إنّما هو من جهـة الكسر والانكسار ، لا لتضييق دائرة المقتضى .
ومن المعلوم : أنّ ذلك يتوقّف على تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معـه في الوجود المخرج لـه عن المطلوبيـة الفعليـة ، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهن فلايعقل تحقّق الكسر والانكسار . فا للازم من ذلك : أنّـه متى تصوّر العنوان الذي فيـه جهـة المطلوبيـة يكون مطلوباً صرفاً ، من دون تقييد وكذا العنوان الذي فيـه جهـة المبغوضيـة .
(الصفحة432)
وا لعنوان المتعلّق للأحكام الواقعيـة مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهريـة ممّا لايجتمعان في الوجود الذهني ، مثلاً إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعـة فلايمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتصف بها في هذه الرتبـة ، مثل كونها في المسجد أو في الدار ، وأمّا اتصافها بكون حكمها الواقعي مشكوكاً فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبـة ; لأنّ هذا الوصف إنّما يعرض الموضوع بعد تحقّق الحكم ، والأوصاف المتأخّرة عنـه لايمكن إدراجها في موضوعـه ، فلا منافاة حينئذ بين الحكمين ; لأنّ الجهـة المطلوبيـة ملحوظـة في ذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم ، وجهـة المبغوضيـة ملحوظـة مع لحاظـه .
إن قلت : العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبـة تعقّل الذات ولكن الذات ملحوظـة في مرتبـة تعقّل العنوان المتأخّر ، فعند ملاحظـة العنوان المتأخّر يجتمع العنوانان في اللحاظ .
قلت : تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبني على قطع النظر عن الحكم ، وتصوّره بعنوان كونـه مشكوك الحكم لابدّ وأن يكون بلحاظ الحكم ، ولايمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوتـه .
ويرد عليـه أوّلاً: أنّ عنوان كون الموضوع مشكوك الحكم لايتوقّف على تحقّقـه قبلـه ; ضرورة أنّـه يمكن الشكّ في حكم الموضوع مع عدم كونـه محكوماً بحكم . فبين العنوانين ـ أعني عنوان الموضوع بلحاظ حكمـه الواقعي وعنوان كونـه مشكوك الحكم ـ نسبـة العموم من وجـه ; لأنّـه كما يمكن أن يكون الموضوع معلوم الحكم فيتحقّق الافتراق من ناحيـة الموضوع ، كذلك يمكن أن يكون مشكوك الحكم مع عدم تحقّقـه أصلاً . كيف ، ولو كان عنوان المشكوكيـة
1 ـ اُنظر درر الفوائد، المحقّق الحائري: 351 ـ 353.
(الصفحة433)
متوقّفاً على سبق الحكم يلزم من وجود الشكّ العلم ; لأنّ المفروض أنّ توقّفـه على سبق الحكم أمر مقطوع ، فبعد الشكّ يقطع بـه ، مع أنّـه مستحيل جدّاً .
مضافاً إلى أنّـه لو شكّ في حكم الموضوع ; من حيث الوجوب والتحريم مثلاً فا للازم ـ بناءً على هذا ـ أن يكون الموضوع في الواقع واجباً وحراماً معاً .
وثانياً: أنّـه لو سلّم أنّ تحقّق عنوان المشكوكيـة في الواقع يتوقّف على سبق الحكم فلا نسلّم ذلك في مقام جعل الأحكام ، الذي لايتوقّف إلاّ على تصوّر موضوعاتها ، فللمولى أن يجعل الحكم متعلّقاً بعنوان مشكوك الحكم قبل أن صدر منـه حكم آخر متعلّق بذوات الموضوعات ، وقد حقّقنا في مبحث التعبّدي والتوصّلي إمكان أن يكون الموضوع مقيّداً بما لايأتي إلاّ من قبل الحكم ، فراجع .
وثالثاً ـ وهو العمدة ـ: أنّ ما أجاب بـه عن الإشكال الذي أورده على نفسـه بقولـه : إن قلت ممّا لايندفع بـه الإشكال أصلاً ; لأنّ الموضوع المتصوّر المأخوذ موضوعاً للحكم الواقعي إمّا أن يكون مأخوذاً بشرط لا ; من حيث كونـه مشكوك الحكم ، وإمّا أن يكون مأخوذاً لابشرط . ومرجع الأوّل إلى أنّ ثبوت الحكم الواقعي للموضوع إنّما هو في صورة العلم بثبوتـه لـه ، وهو تصويب قام الإجماع ، بل الضرورة على خلافـه ، ولو كان المراد هو الثاني فمن الواضح أنّ الشيء المأخوذ لابشرط لايأبى من الاجتماع مع بشرط شيء ، وحينئذ فيجتمع الحكمان عند ملاحظـة عنوان مشكوك الحكم ، وجعل الحكم متعلّقاً بـه ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد تخلّص عن الإشكال بوجوه اُخر ، تعرّض لبعضها الاُستاذ مع الجواب عنـه ، ولكنّـه لا فائدة في التعرّض لـه بعد كونـه مورداً للإشكال ، وبعد الجواب عنـه بما حقّقناه ، فتأمّل في المقام ، فإنّـه من مزالّ الأقدام .
(الصفحة434)
المقام الثاني
في تأسيس الأصل
يقع الكلام في تأسيس الأصل الذي يعوّل عليـه عند عدم الدليل على وقوع التعبّد بغير العلم مطلقاً أو في الجملـة . فنقول : ذكر الشيخ في «ا لرسا لـة» ما ملخّصـه : أنّ التعبّد با لظنّ الذي لم يدلّ على التعبّد بـه دليل محرّم بالأدلّـة الأربعـة .
يكفي من الكتاب قولـه تعا لى : (قُلْ ءآللّـهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلى اللّـهِ تَفْتَرُونَ) دلّ على أنّ ما ليس بإذن من اللّـه من إسناد الحكم إلى الشارع فهو افتراء .
ومن السنّـة : قولـه(عليه السلام) في عداد القضاة من أهل النار : «ورجل قضى بالحقّ، وهو لايعلم»
ومن الإجماع : ما ادعاه الفريد البهبهاني من عدم كون الجواز بديهياً عند
1 ـ يونس (10) : 59 .
2 ـ الكافي 7: 407 / 1، وسائل الشيعـة 27: 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 4، الحديث 6.
(الصفحة435)
ا لعوامّ ، فضلاً عن العلماء .
ومن العقل : تقبيح العقلاء من يتكلّف من قبل مولاه بما لايعلم بوروده من المولى .
نعم ، فرق بين هذا وبين الاحتياط الذي يستقلّ العقل بحسنـه ; لأنّـه فرق بين الالتزام بشيء من قبل المولى على أنّـه منـه ، مع عدم العلم بأنّـه منـه ، وبين الالتزام بإتيانـه لاحتمال كونـه منـه .
والحاصل: أنّ المحرّم هو العمل بغير العلم متعبّداً بـه ومتديّناً بـه . وأمّا العمل بـه من دون تعبّد بمقتضاه فهو حسن إن كان لرجاء إدراك الواقع ما لم يعارضـه احتياط آخر ، ولم يثبت من دليل آخر وجوب العمل على خلافـه ، كما لو ظنّ الوجوب ، واقتضى الاستصحاب الحرمـة ، انتهى موضع الحاجـة .
أقول: المراد بالإسناد إلى الشارع هو التشريع الذي كان قبحـه عقلاً وحرمتـه شرعاً مفروغاً عنـه عندهم ، ولكن كلّما تأمّلنا لم نعرف لـه معناً متصوّراً معقولاً ، إذ الالتزام الحقيقي بما يعلم عدم ورود التعبّد من الشارع ، أو لايعلم وروده منـه ممّا لايمكن أن يتحقّق ; لعدم كون الالتزامات النفسانيـة تحت اختيار المكلّف . نعم ، الإسناد إلى الشارع ـ الذي هو عبارة اُخرى عن البدعـة ـ أمر ممكن معقول ، قد دلّ العقل والنقل على خلافـه ، وأنّـه أمر قبيح محرّم .
وبالجملـة: فا لتعبّد بمقتضى الأمارة الغير العلميـة التي لم يرد دليل على اعتبارها إن كان معناه هو العمل بمضمونها بعنوان أنّـه من الشارع فهو ممّا لايعقل ، مع عدم العلم بورود التعبّد بـه من الشارع ، وإن كان معناه هو إسناد مضمونها إلى الشارع قولاً فهو من مصاديق القول بغير العلم الذي يحكم العقل بقبحـه قطعاً ،
1 ـ فرائد الاُصول 1: 49 ـ 50.
(الصفحة436)
وا لدليل النقلي بحرمتـه شرعاً .
وماذكره من الأدلّـة الأربعـة لايستفاد منها أزيد من ذلك ; لأنّ المراد بالافتراء في قولـه تعا لى هو الكذب ، كما هو معناه لغـة ، وكذا سائر الأدلّـة لايدلّ على أزيد من حرمـة القول بغير علم ، ولايدلّ شيء منها على حرمـة العمل بما لايعلم بعنوان أنّـه من المولى قطعاً .
ثمّ إنّ المبحوث عنـه في المقام هو تأسيس الأصل فيما لا دليل على اعتباره ، حتّى يتبع في موارد الشكّ ، فالاستدلال على أنّ الأصل هو عدم الحجّيـة بقبح التشريع وحرمتـه ـ كما عرفت في كلام الشيخ ـ مبني على دعوى الملازمـة بين الحجّيـة وصحّـة الإسناد ، بمعنى أنّـه كلّما صحّ ا لإسناد ـ أي إسناد مقتضاه إلى الشارع ـ فهو حجّـة ، وكلّما لم يصحّ لايكون بحجّـة ، فإذا قام الدليل على حرمـة التشريع الذي يرجع إلى الإسناد إلى الشارع فيما لايعلم يستفاد من ذلك عدم كونـه حجّـة .
هذا ، وقد يورد على دعوى الملازمـة با لنقض بموارد :
أحدها: ما أفاده المحقّق الخراساني في «ا لكفايـة» من أنّ الظنّ على تقدير الحكومـة حجّـة عقلاً ، مع أنّـه لايصحّ إسناد المضمون إلى الشارع فيـه .
هذا، ولكن يرد عليـه: عدم تماميـة النقض ، بناءً على مبناه في تقرير مقدّمات الانسداد من أنّ أحدها العلم الإجما لي بوجود التكا ليف ; لأنّـه بناءً على ذلك لايكون الظنّ حجّـة ، بل الحجّـة هو العلم الإجما لي . غايـة الأمر : أنّـه حيث لايمكن ـ أو لايجب ـ الاحتياط في جميع أطرافـه فاكتفى با لعمل
1 ـ كفايـة الاُصول: 323.
2 ـ نفس المصدر: 356 ـ 357.
(الصفحة437)
با لمظنونات فقط ، فا لعمل بها ليس لكون الظنّ حجّـة ، بل لكونـه أقرب إلى الوصول إلى الواقع ، كما لايخفى .
ثانيها: ما ذكره المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ من النقض باحتمال التكليف قبل الفحص ، وبإيجاب الاحتياط في الشبهات البدويـة .
ولكن يرد عليـه: أنّ احتمال التكليف قبل الفحص لايكون حجّـة ، بل الحجّـة هي بيان التكليف المذكور في مظانّـه الذي يعلم بـه بعد الفحص . غايـة الأمر : أنّ العقل يحكم بقبح العقاب بلابيان فيما إذا تفحّص ولم يجد ، فعدم الفحص لايقتضي أزيد من عدم حكم العقل بقبحـه في مورده ، لا أن يكون الاحتمال معـه حجّـة ، كما أنّ إيجاب الاحتياط في الشبهات البدويـة يمكن أن يقال بعدم كونـه حجّـة ، بل إنّما هو رافع لحكم العقل بقبح العقاب الذي كان ثابتاً عند عدم إيجاب الاحتياط ; لأنّـه لو شرب التتن مثلاً مع وجوب الاحتياط عليـه ، وكان في الواقع حراماً فهو يعاقب على الإتيان با لمنهيّ عنـه ، لا على مخا لفـة الاحتياط .
وبا لجملـة : فلم يوجد مورد يتحقّق الانفكاك فيـه بين الحجّيـة وصحّـة الإسناد . نعم ، يرد على الشيخ : أنّ ادعاء الملازمـة بينهما إنّما هو مجرّد دعوى يحتاج إلى إقامـة برهان ، كما لايخفى .
فالأولى في تقرير الأصل ما أفاده في «الكفايـة» ممّا حاصلـه: أنّ مع الشكّ في حجّيـة شيء لايترتّب عليـه آثار الحجّيـة قطعاً ; ضرورة أنّ احتجاج المولى على العبد لايجوز إلاّ بما يعلم العبد بكونـه حجّـة منـه عليـه ، فالآثار المرغوبـة من الحجّـة لا تكاد تترتّب إلاّ على ما اُحرز اتصافها با لحجّيـة الفعليـة ; لقبح المؤاخذة على مخا لفـة التكليف مع الشكّ في حجّيـة الأمارة المصيبـة ، ونحو
1 ـ نهايـة الأفكار 3: 80 ـ 81.
(الصفحة438)
ذلك من الآثار . فعدم حجّيـة الأمارة التي شكّ في اعتبارها شرعاً أمر مقطوع ، يحكم بـه العقل جزماً .
ومن هنا يظهر الخلل في استدلال الشيخ على أصا لـة عدم الحجّيـة بالأدلّـة الأربعـة ، فإنّ الكلام هنا في تأسيس الأصل الذي يتبع في موارد الشكّ ، ولم يقم بعد دليل على حجّيـة ظواهر الكتاب أو السنّـة الغير القطعيـة أو الإجماع مثلاً ، حتّى يتمسّك بها على أنّ الأصل في موارد الشكّ يقتضي عدم الحجّيـة . نعم ، لابأس با لتمسّك با لعقل لو كان حكمـه بذلك قطعياً ، كما لايخفى .
ثمّ إنّـه قد يستدلّ على أنّ الأصل عدم الحجّيـة باستصحاب عدم الحجّيـة وعدم وقوع التعبّد بـه ، وإيجاب العمل عليـه . وأورد عليـه الشيخ(قدس سره) بأنّ الأصل وإن كان كذلك إلاّ أنّـه لايترتّب على مقتضاه شيء ، فإنّ حرمـة العمل با لظنّ يكفي في موضوعها مجرّد عدم العلم بورود التعبّد ، من غير حاجـة إلى إحراز عدمـه .
وا لحاصل : أنّ أصا لـة عدم الحادث إنّما يحتاج إليها في الأحكام المترتّبـة على عدم ذلك الحادث ، وأمّا الحكم المترتّب على عدم العلم بذلك الحادث فيكفي فيـه الشكّ فيـه ، ولايحتاج إلى إحراز عدمـه بحكم الأصل ، وهذا نظير قاعدة الاشتغال الحاكمـة بوجوب اليقين با لفراغ ، فإنّـه لايحتاج في إجرائها إلى أصا لـة عدم فراغ الذمّـة ، بل يكفي فيها عدم العلم با لفراغ ، انتهى .
واستشكل على هذا الكلام المحقّق الخراساني في «التعليقـة» بما حاصلـه: أنّ الحجّيـة وعدمها ، وكذا إيجاب التعبّد وعدمـه بنفسهما ممّا يتطرّق إليـه الجعل ، وتنا لـه يد التصرّف من الشارع ، وما كان كذلك يكون الاستصحاب فيـه جارياً ،
1 ـ كفايـة الاُصول: 322 ـ 323.
2 ـ فرائد الاُصول 1: 49 ـ 50.
(الصفحة439)
كان هناك أثر شرعي يترتّب على المستصحب أو لا .
هذا ، مع أنّـه لو كان الحجّيـة وعدمها من الموضوعات الخارجيـة التي لايصحّ الاستصحاب فيها إلاّ بملاحظـة الآثار الشرعيـة المترتّبـة عليها فإنّما لايكون مجال لاستصحاب عدم الحجّيـة فيما إذا لم يكن حرمـة العمل إلاّ أثر الشكّ فيها ، لا لعدمها واقعاً . وأمّا إذا كانت أثراً لـه أيضاً فا لمورد وإن كان في نفسـه قابلاً لكل من الاستصحاب والقاعدة المضروبـة لحكم هذا الشكّ إلاّ أنّـه لايجري فعلاً إلاّ الاستصحاب ; لحكومتـه عليها .
والضابط: أنّـه إذا كان الحكم الشرعي مترتّباً على الواقع ليس إلاّ ، فلامجال إلاّ للاستصحاب ، وإذا كان مترتّباً على الشكّ فيـه كذلك فلا مجال إلاّ للقاعدة ، وإذا كان مترتّباً على كليهما ، فا لمورد وإن كان قابلاً لهما إلاّ أنّ الاستصحاب جار دونها ; لحكومتـه عليها .
وفيما نحن فيـه وإن كان حكم حرمـة العمل والتعبّد مترتّباً على الشكّ في الحجّيـة إلاّ أنّـه يكون مترتّباً أيضاً على عدمها ; لمكان ما دلّ على حرمـة الحكم بغير ما أنزل اللّـه ، فيكون المتبع هو الاستصحاب .
ومن هنا انقدح الحال في استصحاب الاشتغال وقاعدتـه ، وأنّها لا تجري معـه ; لوروده عليها ، انتهى ملخّصاً .
وقد أورد على هذا الاستشكال المحقّق النائيني ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ بما ملخّصـه : أنّ ما أفاده أولاً من أنّ الحجّيـة بنفسها من الأحكام ، فلايتوقّف جريان استصحاب عدمها على أن يكون وراء المؤدّى أثر عملي .
ففيـه : أنّ ما اشتهر من أنّ الاُصول الحكميـة لايتوقّف جريانها على أن
1 ـ درر الفوائد، المحقّق الخرساني: 80 ـ 81.
(الصفحة440)
يكون في البين أثر عملي إنّما هو لأجل أنّ المؤدّى بنفسـه من الآثار العمليـة ، وإلاّ فلايمكن أن تجري الاُصول .كيف ، وهي وظائف عمليـة ، والحجّيـة وإن كانت من الأحكام الوضعيّـة ، وكانت بنفسها ممّا تنا لها يد الجعل إلاّ أنّها بوجودها الواقعي لايترتّب عليها أثر عملي أصلاً ، والآثار المترتّبـة عليها منها ما يترتّب عليها بوجودها العلمي ، ككونها منجّزة وعذراً ، ومنها ما يترتّب على نفس الشكّ في حجّيتها ، كحرمـة التعبّد بها ، وعدم جواز إسناد مؤدّاها إلى الشارع .
فعدم الحجّيـة الواقعيـة بنفسـه لايقتضي الجري العملي ، حتّى يجري استصحاب العدم ; إذ ليس لإثبات عدم الحجّيـة أثر إلاّ حرمـة التعبّد بها ، وهو حاصل بنفس الشكّ في الحجّيـة وجداناً ; لما عرفت من أنّ الشكّ تمام الموضوع لحرمـة التشريع وعدم جواز التعبّد .
فجريان الاستصحاب لإثبات هذا الأثر يكون من تحصيل الحاصل ، بل أسوأ حالاً منـه ; فإنّ تحصيل الحاصل فيما إذا كان المحصّل والحاصل من سنخ واحد ، كلاهما وجدانيان أو تعبّديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز با لوجدان با لتعبّد ، فهو أسوأ حالاً منـه .
وأمّا ما أفاده ثانياً من أنّ حرمـة التعبّد بالأمارة كما تكون أثراً للشكّ في حجّيتها كذلك يكون أثراً لعدم حجّيتها واقعاً ، ففي ظرف الشكّ يجري كلّ من الاستصحاب والقاعدة ، ويقدّم الأوّل ; لحكومتـه .
ففيـه : أنّـه لايعقل أن يكون الشكّ في الواقع موضوعاً للأثر في عرض الواقع ، مع أنّـه على هذا الفرض لايجري الاستصحاب أيضاً ; لأنّ الأثر يترتّب بمجرّد الشكّ لتحقّق موضوعـه ، فلايبقى مجال لجريان الاستصحاب ; لأنّـه لا تصل النوبـة إلى إثبات بقاء الواقع ; ليجري فيـه الاستصحاب ، فإنّـه في المرتبـة السابقـة على هذا الإثبات تحقّق موضوع الأثر ، وترتّب عليـه . فأيّ فائدة في
|