(الصفحة461)
وبعضها أعمّ منها ، مثل قولـه تعا لى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)
أمّا الطائفـة الاُولى فغير مرتبطـة با لمقام ، وأمّا الطائفـة الثانيـة فمضافاً إلى عدم إبائها عن التخصيص بالأدلّـة الآتيـة الدالّـة على اعتبار الخبر يرد عليـه أنّ الاستدلال بها مستلزم لعدم جوازا لاستدلال بـه ، ومايلزم من وجوده العدم لايجوزا لاستدلال بـه .
توضيحـه: أنّ قولـه : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، قضيـة حقيقيـة تشمل كلّ ما وجد في الخارج ، وكان مصداقاً لغير العلم ، فيشمل دلالـة نفسها ; لأنّها ليست إلاّ ظنّيـة ; لكونها ظاهرة في الدلالـة على المنع ، والظواهر كلّها ظنّيـة . وبا لجملـة : إذا لم يجز اتباع غير العلم بمقتضى الآيـة لم يجز اتباع ظاهرها ; لكونـه غير علمي ، والفرض شمولها لنفسها ; لكونها قضيـة حقيقيـة .
إن قلت: لزوم هذا المحذور من شمول الآيـة لنفسها دليل على التخصيص وعدم الشمول .
قلت: كما يرتفع المحذور بذلك كذلك يرتفع بالالتزام بعدم شمولها لمثل الظواهر ممّا قام الدليل على حجّيتـه ، فتختصّ الآيـة با لظنون التي هي غير حجّـة ، ولا ترجيح للأوّل ، لو لم نقل بترجيح الثاني باعتبار أنّ الغرض منها هو الردع عن اتباع غير العلم ، ولا تصلح للرادعيـة إلاّ بعد كونها مفروضـة الحجّيـة عند المخاطبين ، ولا تكون حجّـة إلاّ بعد ثبوت كون الظواهر حجّـة ومورداً لبناء العقلاء .
فالآيـة لا تشمل ما كان من قبيلها من الظنون ، ومرجع ذلك إلى أنّ تلك الظنون لايكون بنظر العقلاء مصداقاً لما ليس لهم بـه علم ، وإلاّ لكان اللازم عند
1 ـ الإسراء (17): 36.
(الصفحة462)
نزول الآيـة الشريفـة أن يرفع الناس أيديهم عن اشتغالاتهم المبتنيـة بحسب الغا لب على الاُمور الظنّيـة ، كا ليد وأصا لـة الصحّـة وغيرهما ، مع وضوح خلافـه ، وليس ذلك إلاّ لعدم كون هذه الظنون داخلـة عندهم في الآيـة . وخبر الواحد أيضاً من هذا القبيل ، كما هو واضح .
وقد أفاد بعض الأعاظم ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ في مقام الجواب عن الاستدلال بالآيـة ما ملخّصـه : أنّ نسبـة الأدلّـة الدالّـة على جواز العمل بخبر الواحد إلى الآيات ليست نسبـة التخصيص ، حتّى يقال بأنّها آبيـة عنـه ، بل نسبـة الحكومـة ، فإنّ تلك الأدلّـة تقتضي إلغاء احتمال الخلاف ، وجعل الخبر محرزاً للواقع ، فيكون حا لـه حال العلم في عا لم التشريع ، فلا تشملـه الأدلّـة الناهيـة عن العمل با لظنّ ، هذا في غير السيرة العقلائيـة .
وأمّا فيها فيمكن بوجـه أن تكون نسبتها إلى الآيات نسبـة الورود ، بل التخصّص ; لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقـة ليس من العمل با لظنّ ; لعدم التفاتهم إلى احتمال مخا لفـة الخبر للواقع ، فا لعمل بخبر الثقـة خارج با لتخصّص عن العمل با لظنّ . هذا ، مضافاً إلى عدم صلاحيتها للرادعيـة عن السيرة العقلائيـة ; للزوم الدور المحال ; لأنّ الردع عن السيرة بها يتوقّف على أن لا تكون السيرة مخصّصـة لعمومها ، وعدم كونها مخصّصـة لعمومها يتوقّف على أن تكون رادعـة منها ، انتهى .
ويرد عليـه: أنّ ما ذكره من إباء الآيات عن التخصيص لايتمّ في مثل قولـه : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ; لعدم اختصاصها بالاُصول الاعتقاديـة .
وأمّا مسألـة الحكومـة فلا أساس لها ; لأنّ الأخبار الدالّـة على جواز العمل
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 161 ـ 162.
(الصفحة463)
بقول الثقـة لم يكن لسانها لسان الحكومـة ; بحيث كان مفادها هو إلغاء احتمال الخلاف . وقولـه(عليه السلام) في بعض الأخبار : «العمري ثقـة فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول» لايدلّ على الحكومـة ; لأنّـه ليس مفادها إلاّ العمل بقولـه ; لوثاقتـه ، لا وجوب إلغاء احتمال الخلاف .
وأمّا ورود السيرة العقلائيـة على الآيات فممنوعـة ; لعدم كون العمل با لخبر عندهم من العمل با لعلم ، ولو سلّم غفلتهم عن احتمال الخلاف فلايوجب ذلك أيضاً تحقّق الورود أو التخصيص ، فإنّ موردهما هو الخروج عن الموضوع واقعاً ، لا عند المخاطب . والفرق بينهما : أنّ الأوّل إنّما هو مع إعمال التعبّد ، بخلاف الثاني .
وأمّا ما أفاد أخيراً من لزوم الدور ففيـه ـ مضافاً إلى جريان الدور في المخصّصيـة أيضاً ، كما لايخفى ـ أنّ توقّف الرادعيـة إنّما هو على عدم مخصّص حاصل ; إذ لا مخصّص في البين جزماً ; لأنّ النواهي الرادعـة حجّـة في العموم ، ولابدّ من رفع اليد عنها بحجّـة أقوى ، ولا حجّيـة للسيرة بلا إمضاء الشارع ، فا لرادع رادع فعلاً ، والسيرة حجّـة لو أمضاها الشارع ، وهو منتف مع هذه المناهي . وبا لجملـة : فعدم كون السيرة مخصّصـة للآيات الناهيـة وإن كان متوقّفاً على كونها رادعـة عنها إلاّ أنّ رادعيتها لا تتوقّف على شيء .
هذا ، ويمكن تقريب الورود با لنسبـة إلى أدلّـة حجّيـة الخبر الواحد بأن يقال : إنّ العلم الذي نهى عن اتباعـه لايكون المقصود بـه هو العلم المقابل للظنّ ، بل المراد بـه هو الحجّـة ، ولو كانت ظنّيـة . فمفاد الآيـة إنّما هو النهي عن اتباع
1 ـ الكافي 1: 329 / 1، وسائل الشيعـة 27: 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 4.
(الصفحة464)
غير الحجّـة ، وأدلّـة حجّيـة خبر الواحد إنّما تكون مثبتـة لحجّيتـه ، فتكون واردة عليها .
كما أنّـه يمكن أن يقال ـ بعد إبقاء العلم على معناه الظاهر المرادف لليقين ـ : إنّ العمل بخبر الواحد ليس عملاً بغير العلم واتباعاً لـه ; لأنّـه وإن كان كشفـه عن الواقع كشفاً ظنّياً ، ولايحصل العلم منـه إلاّ أنّـه بعد قيام الدليل القطعي من السيرة أو غيرها على حجّيتـه يكون العمل في الحقيقـة عملاً با لعلم ، كما هو واضح .
فانقدح ممّا ذكرنا: أنّ الاستدلال في المقام بالآيات الناهيـة استدلال في غير محلّـه ، كما عرفت .
وقد يستدلّ لهم أيضاً با لروايات الدالّـة على ردّ ما لم يكن عليـه شاهد من كتاب اللّـه أو شاهدان أو لم يكن موافقاً للقرآن أو لم يعلم أنّـه قولهم (عليهم السلام)إ ليهم ، أو على بطلان ما لايصدقـه كتاب اللّـه ، أو على أنّ ما لايوافق كتاب ا للّـه زخرف ، أو مثل ذلك من التعبيرات . ولكن لايخفى أنّها أخبار آحاد ، لا مجال للاستدلال بها على عدم حجّيتها . ودعوى تواترها إجمالاً وإن لم يكن
1 ـ الكافي 2: 222 / 4، وسائل الشيعـة 27: 112، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 18.
2 ـ وسائل الشيعـة 27: 112 و 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 19 و 35.
3 ـ وسائل الشيعـة 27: 119، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 36.
4 ـ المحاسن: 221 / 129.
5 ـ الكافي 1: 69 / 3 و 4، وسائل الشيعـة 27: 110 و 111، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 12 و 14.
(الصفحة465)
متواترة لفظاً أو معناً إنّما تجدي ـ على تقدير تسليمها ـ با لنسبـة إلى القدر المتيقّن ، ومورد توافق الجميع ، وهو بطلان الخبر المخا لف ، ولابأس بالالتزام بعدم حجّيتـه ، كما هو واضح .
أدلّـة حجّيـة خبر الواحد
ثمّ إنّـه قد استدلّ للمشهور بالأدلّـة الأربعـة :
الدليل الأوّل: الآيات
منها: آيـة النبأ
قال اللّـه تبارك وتعا لى : (إنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا...) ويمكن تقريب الاستدلال بها بوجوه :
الأوّل: من جهـة مفهوم الشرط ، وأنّ تعليق الحكم بإيجاب التبيّن على كون الجائي با لخبر فاسقاً يدلّ على انتفاء الوجوب عند عدم الشرط .
الثاني: من جهـة مفهوم الوصف وأنّ وجوب التبيّن إنّما جعل محمولاً على خبر الفاسق ; فينتفي عند انتفائـه .
الثالث: من جهـة مناسبـة الحكم والموضوع ، فإنّ وجوب التبيّن إنّما يناسب مع كون الجائي با لخبر فاسقاً .
الرابع: من جهـة ذكر الفاسق في الموضوع ، فإنّـه مركّب من الخبر ومن
1 ـ الحجرات (49): 6.
(الصفحة466)
كون الجائي بـه فاسقاً ، وهو يدلّ على مدخليـة ذلك في ترتّب المحمول ، وإلاّ لكان ذكره لغواً ، كما هو واضح .
هذا، ويرد على الاستدلال بالآيـة من جهـة مفهوم الشرط: أنّـه ـ على تقدير تسليم ثبوت المفهوم لمطلق القضايا الشرطيـة وللآيـة با لخصوص ـ أنّ ماجعل في الآيـة جزاءً لمجيء الفاسق با لنبأ بحسب الظاهر لايناسب مع الشرط ، ولا ارتباط بينهما ، فلابدّ أن يكون الجزاء أمراً آخر محذوفاً يدلّ عليـه المذكور .
توضيح ذلك: أنّ التبيّن عبارة عن التفحّص والتحقيق ليظهرا لأمر ويتبيّن ، ومن الواضح أنّ التبيّن عند مجيء الفاسق با لخبر لايوجب العمل بخبر الفاسق ، من حيث مجيئـه بـه ، بل يكون العمل حينئذ على طبق ما يتبيّن ، بلا مدخليـة إتيان الفاسق بـه .
وبا لجملـة : فوجوب التبيّن والعمل على طبقـه ممّا لا ارتباط لـه بمجيء الفاسق با لخبر ، فا للازم أن يكون الجزاء هو عدم الاعتناء بخبره وعدم الاعتماد بقولـه ، فمنطوق الآيـة حينئذ عبارة عن أنّـه لو جاءكم فاسق بنبأ فتوقّفوا ، ولا ترتّبوا عليـه الأثر أصلاً . وحينئذ فا لحكم في المفهوم إنّما هو نفي التوقّف والإطراح با لكلّيـة ، وهو لايثبت أزيد من ترتيب الأثر على قول العادل في الجملـة ، الغير المنافي مع اشتراط عدل آخر ، كما لايخفى .
هذا ، ويؤيّد ما ذكرنا : أنّ المنقول عن بعض القرّاء هو «تثبّتوا» موضع «تبيّنوا» ، والتثبّت التوقّف ، فتدبّر .
هذا كلّـه على تقدير تسليم ثبوت المفهوم للآيـة ، مع أنّ لنا المنع منـه ، كما أفاده الشيخ المحقّق الأنصاري في «ا لرسا لـة» ، ومحصّلـه : أنّ الجزاء هو وجوب
1 ـ الكشّاف 4: 360، مجمع البيان 9: 198، كنز الدقائق 9: 589.
(الصفحة467)
ا لتبيّن عن الخبر الذي جاء بـه الفاسق لا مطلق الخبر ، كما هو واضح ، ومن المعلوم انتفاء ذلك عند انتفاء الشرط ، وهو مجيء الفاسق با لخبر ; لانتفاء الحكم بانتفاء موضوعـه ; إذ لايعقل التبيّن عن خبر الفاسق مع عدم مجيئـه بـه . وحينئذ فا لقضيـة السا لبـة المفهوميـة إنّما هي سا لبـة بانتفاء الموضوع ، فتكون الجملـة الشرطيـة مسوقـة لبيان تحقّق الموضوع ، كما في قول القائل : «إن رزقت ولداً فاختنـه» ونظائر هذا المثال .
وهنا تقريبات لبيان ثبوت المفهوم للآيـة:
أحدها: ما أفاده في «ا لكفايـة» : أنّ الشرط هو كون الجائي با لخبر فاسقاً ، والموضوع المفروض هو نفس النبأ المتحقّق ، فمرجع الآيـة إلى أنّ النبأ إن كان الجائي بـه فاسقاً ، فيجب التبيّن ، ومفهومـه أنّـه إن لم يكن الجائي بـه فاسقاً فينتفي وجوب التبيّن ، وهو لايصدق إلاّ مع مجيء العادل بـه .
هذا ، ويرد عليـه : أنّ هذا تصرّف في الآيـة ، وحمل لها على غير المعنى الظاهر بلا دليل .
ثانيها: ما أفاده المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ وملخّصـه : أنّـه لاشبهـة في أنّ استخراج المفهوم من القضايا يحتاج إلى تجريد الموضوع المذكور في المنطوق في ناحيـة المفهوم من القيود التي اُريد استخراج المفهوم من جهتها ، وحينئذ فنقول : إنّ المحتملات المتصوّرة في الشرط في الآيـة ثلاثـة :
منها: كون الشرط فيها نفس المجيء خاصّـة مجرّداً عن متعلّقاتـه ، وعليـه يتمّ ما أفاده الشيخ من انحصار المفهوم فيها با لسا لبـة بانتفاء الموضوع ، فإنّ لازم
1 ـ فرائد الاُصول 1: 118.
2 ـ كفايـة الاُصول: 340.
(الصفحة468)
ا لاقتصار على التجريد على خصوص المجيء هو حفظ إضافـة الفسق في ناحيـة الموضوع بجعلـه عبارة عن النبأ المضاف إلى الفاسق .
ومنها: كون الشرط هو المجيء مع متعلّقاتـه ، ولازمـه هو كون الموضوع نفس النبأ ، مجرّداً عن إضافتـه إلى الفاسق أيضاً ، وعليـه يكون للآيـة مفهومان : أحدهما السا لبـة بانتفاء الموضوع ، وثانيهما السا لبـة بانتفاء المحمول .
ومنها: كون الشرط عبارة عن الربط الحاصل بين المجيء والفاسق الذي هو مفاد كان الناقصـة ، ولازمـه هو الاقتصار في التجريد على خصوص ما جعل شرطاً ; أعني الإضافـة الحاصلـة بين المجيء والفاسق ، وينحصر المفهوم فيـه با لسا لبـة بانتفاء المحمول .
هذا ، ولكن الأخير من هذه الوجوه الثلاثـة في غايـة البعد ; لظهور الجملـة الشرطيـة في الآيـة في كون الشرط هو المجيء ، أو مع إضافتـه إلى الفاسق ، لا الربط الحاصل بين المجيء والفاسق بما هو مفاد كان الناقصـة مع خروج نفس المجيء عن الشرطيـة ; كي يلزمـه ما ذكر من كون الموضوع فيها هو النبأ المجيء بـه ، كما أفاده في «ا لكفايـة» .
ويتلوه في البعد الوجـه الأوّل ، فإنّ ذلك أيضاً ينافي ظهور الآيـة المباركـة ، فإنّ المتبادر المنساق منها عرفاً كون الشرط هو المجيء بما هو مضاف إلى الفاسق ، نظير قولـه «إن جاءَك زيد بفاكهـة يجب تناولها» ، وعليـه فكما يجب تجريد الموضوع في الآيـة عن إضافتـه إلى المجيء كذلك يجب تجريده عن متعلّقاتـه ، فيكون الموضوع نفس طبيعـة النبأ ، لا النبأ الخاصّ المضاف إلى الفاسق ، ولازمـه جواز التمسّك بإطلاق المفهوم في الآيـة ; لعدم انحصاره حينئذ في السا لبـة بانتفاء الموضوع ، انتهى .
1 ـ نهايـة الأفكار 3: 111 ـ 112.
(الصفحة469)
ثالثها: ما في تقريرات المحقّق النائيني ، وملخّصـه : أنّـه يمكن استظهار كون الموضوع في الآيـة مطلق النبأ ، والشرط هو مجيء الفاسق بـه من مورد النزول ، فإنّ موردها إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق ، فقد أجتمع في إخباره عنوانان : كونـه من الخبر الواحد ، وكون المخبر فاسقاً ، والآيـة الشريفـة إنّما وردت لإفادة كبرى كلّيـة لتمييز الأخبار التي يجب التبيّن عنها عن غيرها ، وقد علّق وجوب التبيّن على كون المخبر فاسقاً ، فيكون الشرط لوجوب التبيّن هو كون المخبر فاسقاً ، لا كون الخبر واحداً ; إذ لو كان الشرط ذلك لعلّق وجوب التبيّن في الآيـة عليـه ; لأنّـه بإطلاقـه شامل لخبر الفاسق . فجعل الشرط خبر الفاسق كاشف عن انتفاء التبيّن في خبر غير الفاسق ، انتهى .
رابعها: تقريب آخر أفاده الاُستاذ ، وهو أنّـه لا فرق في شمول العامّ لأفراده بين كونها أفراداً ذاتيـة لـه أو عرضيـة ، إذا كانت شمولـه للثانيـة بنظر العرف حقيقـة ، فكما أنّ الأبيض صادق على نفس البياض ذاتاً كذلك صادق على الجسم المتصف بـه ، مع أنّ صدقـه عليـه عرضي عند العقل . وحينئذ نقول : إنّ لعدم مجيء الفاسق با لخبر فرد ذاتي ، هو عدم تحقّق الخبر أصلاً ، وأفراد عرضيـة هي مجيء العادل بـه ، فكما يشمل ا لعامّ الذي هو مفهوم الآيـة الفرد الذاتي كذلك يشمل الفرد العرضي أيضاً .
هذا ، ويرد على الأخير ثبوت الفرق بين المثال والممثّل ، فإنّ صدق عنوان الأبيض على نفس البياض في المثال يكون أخفى من صدقـه على الفرد العرضي الذي هو الجسم المتصف بـه ، بخلاف المقام ، فإنّ صدق المفهوم على الفرد
1 ـ أسباب النزول: 277 ـ 278، التبيان 9: 343، مجمع البيان 9: 198.
2 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 169.
3 ـ أنوار الهدايـة 1: 283 ـ 285.
(الصفحة470)
ا لعرضي ، وهو مجيء العادل با لنبأ أخفى من صدقـه على الفرد الذاتي ، وهو عدم تحقّق النبأ أصلاً ، بل لايكون عرفاً من مصاديقـه وإن كان أحد الضدّين ممّا ينطبق عليـه عدم الضدّ الآخر ، ويكون مصدوقاً عليـه بحسب اصطلاح فنّ المعقول ، لكنّـه أمر خارج عن متفاهم العرف .
هذا ، ويرد على الوجـه السابق على هذا الوجـه : أنّ كون مورد النزول هو إخبار الوليد بارتداد بني المصطلق لا ربط لـه بكون الموضوع في الآيـة مطلق النبأ ، والشرط خارج غير مسوغ لتحقّق الموضوع . وبا لجملـة : فلايمكن أن يستفاد من مورد النزول مدخليـة المجيء في الموضوع وعدمها ، فا للازم الأخذ بظاهرها ، الذي هو كون الموضوع النبأ المقيّد بمجيء الفاسق بـه ، وقد عرفت عدم ثبوت المفهوم لـه حينئذ أصلا مع أنّ دعوى كون الآيـة واردة لإفادة كبرى كلّيـة إنّما يبتني على ثبوت المفهوم لها ; ضرورة أنّها بدونـه لا تكون في مقام تمييز ما يجب فيـه التبيّن عن غيره ، فإثبات المفهوم لها من هذه الناحيـة غير ممكن أصلاً . ومن هنا يظهر الجواب عن باقي التقريبات ، فتدبّر .
تذييل: فيما اُورد على التمسّك بالآيـة
قد اُورد على التمسّك بالآيـة الشريفـة لحجّيـة خبر الواحد باُمور ، بعضها يختصّ بالآيـة وبعضها يشترك بين الآيـة وغيرها :
أمّا الإشكالات المختصّـة بالآيـة
فمنها: معارضـة المفهوم مع عموم التعليل الواقع في ذيلها ، وهو قولـه تعا لى : (أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَة فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فإنّ الجهالة هي عدم العلم با لواقع ، وهو مشترك بين إخبار الفاسق وغيره . فمقتضى التعليل وجوب
(الصفحة471)
ا لتبيّن عن خبر العادل أيضاً ، وهو يعارض مع مفهوم الصدر ، والتعليل أقوى .
ودعوى : أنّ النسبـة بينهما عموم من وجـه ، فيتعارضان في مادّة الاجتماع ، وهي خبر العادل الغير المفيد للعلم ، ويجب حينئذ تقديم عموم المفهوم وإدخال مادّة الاجتماع فيـه ; إذ لو خرج عنـه ، وانحصر مورده با لخبر العادل المفيد للعلم لكان لغواً ; لأنّ خبر الفاسق المفيد للعلم أيضاً واجب العمل ، بل نقول : إنّ الخبر المفيد للعلم خارج عن الآيـة مفهوماً ومنطوقاً ، فيكون المفهوم أخصّ مطلق من عموم التعليل ، فيجب تخصيصـه بـه .
مدفوعـة : بأنّ المدعى إنّما هو التعارض بين ظهور التعليل في العموم وظهور الجملـة الشرطيـة في ثبوت المفهوم ، وحينئذ فالأخذ بظاهر التعليل أولى من تخصيصـه بعد ثبوت المفهوم ; خصوصاً بعد كونـه آبياً عن التخصيص . وبعبارة اُخرى : لاينعقد للآيـة مفهوم ، حتّى تعارض مع عموم التعليل .
هذا، والحقّ أن يقال: إنّ الآيـة الشريفـة لا مجال للاستدلال بها للمقام ، فإنّ المراد با لنبأ ليس مطلق الخبر ، بل الخبر العظيم ، والنبأ الذي يترتّب عليـه اُمور كثيرة . والدليل عليـه ـ مضافاً إلى التعبير با لنبأ لابا لخبر ـ ملاحظـة التعليل ، فإنّ من الواضح أنّ العمل بخبر الفاسق في غير الاُمور العظيمـة ممّا لايترتّب عليـه الندامـة ، فإنّـه لو اُخبر بمجيء زيد فرتّب المخاطب آثار المجيء بمجرّد إخباره لايوجب ذلك إصابـة القوم بجها لـة الموجبـة للندامـة ، ويدلّ على ذلك ملاحظـة مورد نزول الآيـة أيضاً ، ومن المعلوم أنّ في تلك الاُمور العظيمـة التي يترتّب عليها قتل الرجال ، وسبي النساء والصبيان ، وتصرّف الأموال لايجوز الاكتفاء فيها بخبر العادل أيضاً ، فالآيـة الشريفـة بعيدة عن المقام بمراحل .
1 ـ فرائد الاُصول 1: 118.
(الصفحة472)
هذا ، مضافاً إلى أنّـه على تقدير تسليم كون المراد با لنبأ هو مطلق الخبر نقول : إنّـه لا مجال لدعوى المفهوم فيها ، فإنّ التعليل إنّما يدلّ على كون الحكم معلّلاً بمضمونـه ، ومعـه لا مجال لدعوى كون التعليق في القضيـة الشرطيـة ظاهراً في كون الشرط علّـة ، فضلاً عن كونـه علّـة منحصرة ; إذ هذا الظهور إنّما نشأ من إطلاق الأداة أو إطلاق الشرط أو إطلاق الجزاء ـ كما قد قرّر في باب المفاهيم ـ ومع التصريح با لعلّيـة لم يكن للقضيـة ظهور في الإطلاق ، بل لايكون لها ظهور في مجرّد علّيـة الشرط ، فضلاً عن انحصارها . ولعمري إنّ هذا الإشكال ممّا لايمكن الذبّ عنـه ، فتدبّر .
هذا ، وأمّا ما يظهر من بعض من دعوى أنّ الجها لـة ليس بمعنى عدم العلم ، بل بمعنى السفاهـة والركون إلى ما لاينبغي الركون إليـه فهو ظاهر الفساد ، وبعد وضوح كونـه من اشتقاقات مادّة الجهل ، مضافاً إلى تصريح أهل اللغـة بـه أيضاً .
ومنها: أنّـه يلزم خروج المورد عن عموم المفهوم ; لأنّ مورد نزول الآيـة الشريفـة هو الإخبار بالارتداد ، وهو لايثبت إلاّ با لبيّنـة ، فا للازم خروجـه عن العموم ، مع أنّـه نصّ في المورد ، فلابدّ من رفع اليد عن المفهوم لئلاّ يلزم التخصيص الشنيع ، وهذا الإشكال أيضاً ممّا لايمكن الذبّ عنـه ، وإن تصدّى للجواب عنـه المحقّق النائيني ـ على ما في التقريراتـ ولكنّـه لايندفع بـه ، فتأمّل فيـه .
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 171.
2 ـ مجمع البحرين 5: 345، القاموس المحيط 3: 363، الصحاح 4: 1663.
3 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 124.
4 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 174.
(الصفحة473)
وأمّا الإشكالات العامّـة
فمنها: أنّ مفهوم الآيـة لو دلّ على حجّيـة خبر العادل لدلّ على حجّيـة الإجماع الذي ادعاه السيّد وأتباعـه على عدم حجّيـة خبر العادل أيضاً ; لأنّهم عدول أخبروا بحكم الإمام(عليه السلام) بعدم حجّيـة خبر الواحد ، فيلزم من حجّيـة الخبر عدم حجّيتـه ، وما يلزم من وجوده العدم فهو محال .
هذا ، ولكن هذا الإشكال يندفع بملاحظـة ما ذكرنا في الإجماع المنقول من عدم حجّيـة الإخبار عن حدس ، ومن المعلوم أنّ ادعاء الإجماع مبني على الحدس ، كما عرفت .
واُجيب عنـه بوجوه اُخر:
أحدها: أنّ ذلك معارض بقول السيّد ، فإنّ حجّيتـه يستلزم عدم حجّيتـه ، وما يلزم من وجوده العدم فهو محال ، فلايكون قول السيّد بحجّـة . ولكن يمكن أن يقال : بأنّ المحال إنّما يلزم من شمول خبر السيّد لنفسـه ، وهو يوجب عدم الشمول ، ولكنّـه معارض بأنّ حجّيـة الخبر الواحد لايستلزم المحال ، بل المحال يلزم من شمول أدلّـة حجّيـة خبر الواحد لخبر السيّد ، وهو يوجب عدم شمولها لـه ، فيرتفع الإشكال .
ثانيها: أنّ الأمر يدور بين دخولـه وخروج ما عداه وبين العكس ، ولاريب أنّ الثاني متعيّن ، لا لمجرّد قبح انتهاء التخصيص إلى الواحد ، بل لأنّ المقصود من جعل الحجّيـة ينحصر في بيان عدم الحجّيـة ، ولاريب أنّ التعبير عن هذا المقصود
1 ـ اُنظر فرائد الاُصول 1: 121.
2 ـ نفس المصدر.
(الصفحة474)
بما يدلّ على عموم حجّيـة خبر العادل قبيح في الغايـة .
وأورد على ذلك المحقّق الخراساني في «ا لتعليقـة» بمنع لزوم ما هو قبيح في الغايـة ; لأنّـه من الممكن جدّاً أن يكون المراد من الآيـة واقعاً هو حجّيـة خبر العادل مطلقاً إلى زمان خبر السيّد بعدم حجّيتـه ، كما هو قضيـة ظهورها ، من دون أن يزاحمـه شيء قبلـه وعدم حجّيتـه بعده ، كما هو قضيّتـه ; لمزاحمـة عمومها لسائر الأفراد ، وبعد شمول العموم لـه أيضاً .
ومن الواضح : أنّ مثل هذا ليس بقبيح أصلاً ، فإنّـه ليس إلاّ من باب بيان إظهار انتهاء حكم العامّ في زمان بتعميمـه ; بحيث يعمّ فرداً ينافي ويناقض الحكم سائر الأفراد . ولايوجد إلاّ في ذاك الزمان ; حيث إنّـه ليس إلاّ نحو تقييد . لكن الإجماع قائم على عدم الفصل ، انتهى موضع الحاجـة .
ولكن لايخفى : أنّ دعوى السيّد الإجماع لو كانت حجّـة بمقتضى شمول أدلّـة حجّيـة خبر العدل لكان مقتضاها عدم حجّيـة خبر الواحد من زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فيعود حينئذ محذور الاستهجان ، كما هو واضح .
ثالثها: ما ذكره المحقّق العراقي ـ على ما في تقريرات بحثـه ـ : من أنّ هذا الإشكال مدفوع أوّلاً : بأنّـه من المستحيل شمول دليل الحجّيـة لمثل خبر السيّد الحاكي عن عدمها ; من جهـة استلزام شمول الإطلاق لمرتبـة الشكّ بمضمون نفسـه ، فإنّ التعبّد بإخبار السيّد بعدم حجّيـة خبر الواحد إنّما كان في ظرف الشكّ في الحجّيـة واللاحجّيـة ، ومن المعلوم استحا لـة شمول إطلاق مفهوم الآيـة وغيره من الأدلّـة لمرتبـة الشكّ في نفسـه . بل على هذا يمكن أن يقال بعدم
1 ـ فرائد الاُصول 1: 121 ـ 122.
2 ـ درر الفوائد، المحقّق الخراساني: 110.
(الصفحة475)
شمولـه لمثل خبر الشيخ ، الحاكي عن الحجّيـة ، فإنّ مناط الاستحا لـة جار في كليهما ، ولايختصّ با لخبر الحاكي عن عدم الحجّيـة .
وثانياً : أنّـه بعد شمول أدلّـة الحجّيـة لما عدا خبر السيّد من سائر الأخبار لايبقى مجال لشمولها لـه ; لأنّ القطع بحجّيتها ملازم لانتفاء الشكّ في مطابقـة مضمون خبر السيّد للواقع وعدمها ، فيخرج بذلك عن عموم أدلّـة حجّيـة الخبر ، فيصير عدم شمول الأدلّـة لمثل خبر السيّد من باب التخصّص لانتفاء الشكّ في مطابقـة مؤدّاه للواقع ، وهذا بخلاف ما لو شملت الأدلّـة لخبر السيّد ; إذ عليـه يلزم كون خروج ما عداه من سائر الأخبار من باب التخصيص ; لتحقّق الموضوع فيها ، وهو الشكّ في المطابقـة وجداناً . ومن المعلوم أنّـه مع الدوران بين التخصّص والتخصيص يتعيّن الأوّل .
لايقال: كيف ، ولازم شمول الأدلّـة لمثل خبر السيّد أيضاً هو القطع بعدم حجّيـة ما عداه ، فيلزم أن يكون خروج ما عداه أيضاً من باب التخصّص لا التخصيص .
فإنّـه يقال: إنّ المدار في التعبّد بكلّ أمارة إنّما هو الشكّ في مطابقـة مضمونـه ومؤدّاه للواقع ، ومؤدّيات ما عدا خبر السيّد لايكون حجّيـة خبر الواحد ; كي يقطع بعدم الحجّيـة بسبب شمول أدلّـة الاعتبار لخبر السيّد الحاكي عن عدم الحجّيـة ، بل وإنّما مؤدّيات ما عداه عبارة عن وجوب الأمر الفلاني أو حرمـة كذا واقعاً ، ولاريب في بقاء الشكّ في المطابقـة ، ولو على تقدير القطع بحجّيـة خبر السيّد ، فيشملها أدلّـة الاعتبار ، فلايكون رفع اليد عنها بمقتضى اعتبار خبر السيّد إلاّ من باب التخصيص ، انتهى ملخّصاً .
1 ـ نهايـة الأفكار 3: 118.
(الصفحة476)
أقول: أمّا ما أفاده أوّلاً فيرد عليـه : ما نبّهنا عليـه في مبحث القطع من أنّ ما اشتهر بينهم من تأخّر الشكّ في الشيء عن ذلك الشيء ، وتوقّفـه على تحقّقـه ممّا لايتمّ أصلاً ، كيف ولازم ذلك انقلاب الشكّ إذا وجد علماً ; إذ على الفرض لايتحقّق بدون ثبوت المشكوك ، فمع العلم بذلك ينقلب الشكّ علماً ، كما هو واضح . فما ذكره من استحا لـة شمول إطلاق مفهوم الآيـة لمرتبـة الشكّ في نفسـه ممّا لا نعرف لها وجهاً أصلاً .
وأمّا ما أفاده ثانياً فيرد عليـه : أنّ شمول أدلّـة الحجّيـة لما عدا خبر السيّد إنّما هو فيما إذا كان حجّيتـه مشكوكـة ; إذ لا معنى لشمولها لـه مع القطع بعدم الحجّيـة ، وحينئذ نقول : كما أنّ شمولها لـه مستلزم لخروج خبر السيّد من باب التخصّص ; إذ لايبقى حينئذ شكّ في حجّيتـه ولا حجّيتـه حتّى تشملـه أدلّـة الحجّيـة ، كذلك شمول الأدلّـة لخبر السيّد موجب لخروج ما عداه من الأخبار عن تحتها من باب التخصّص ; إذ لايبقى مع شمولها لخبر السيّد شكّ في حجّيـة ما عداه وعدم حجّيتـه ، والملاك في الشمول هو الشكّ في الحجّيـة ، لا مطابقـة مضمونـه للواقع وعدمها ، فما ذكره من دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ممّا لا وجـه لـه أصلاً ، كما هو أظهر من أن يخفى .
ومن الإشكالات العامّـة: إشكال شمول أدلّـة الحجّيـة للأخبار الحاكيـة لقول الإمام(عليه السلام) بواسطـة أو وسائط ، كإخبار الشيخ عن المفيد عن الصدوق عن الصفّار عن العسكري(عليه السلام) .
ويمكن تقريب هذا الإشكال من وجوه :
1 ـ فرائدالاُصول 1: 122، فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي3: 177 ـ 179.
(الصفحة477)
الأوّل: دعوى انصراف الأدلّـة عن الإخبار با لواسطـة .
الثاني: أنّـه لابدّ أن يكون للمخبر بـه أثر شرعي ، حتّى يصحّ بلحاظـه التعبّد بـه ، وليس للمخبر بـه في المقام هذا الأثر ، فإنّ المخبر بـه بخبر الشيخ هو قول المفيد ، ولا أثر شرعي لقولـه أصلاً .
الثالث: دعوى أنّ الحكم بتصديق العادل مثبت لأصل إخبار الوسائط ، مع أنّ خبرهم يكون موضوعاً لهذا الحكم ، فلابدّ وأن يكون الخبر في المرتبـة السابقـة محرزاً با لوجدان أو با لتعبّد ; ليحكم عليـه بوجوب تصديقـه ; لأنّ نسبـة الموضوع إلى الحكم نسبـة المعروض إلى العرض ، فلايعقل أن يكون الحكم موجداً لموضوعـه ; لاستلزامـه الدور المحال .
الرابع: أنّـه يلزم أن يكون الأثر الذي بلحاظـه وجب تصديق العادل نفس تصديقـه ، من دون أن يكون في البين أثر آخر كان وجوب التصديق بلحاظـه ، ولايعقل أن يكون الحكم بوجوب التصديق بلحاظ نفسـه .
هذا، والجواب عن الأوّل: منع الانصراف ، ولو قيل بأنّ العمدة في هذا الباب هو بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد ، ولابدّ من إحرازه في الإخبار مع الوسائط ، ومن المعلوم عدم إحرازه ، لو لم نقل بثبوت عدمـه من جهـة أنّا نرى با لوجدان عدم اعتنائهم بالإخبار مع الوسائط الكثيرة التي بلغت إلى عشرة أو أزيد مثلاً . فيشكل الأمر في الأخبار المأثورة عن الأئمّـة (عليهم السلام) ; لاشتما لها على الوسائط الكثيرة با لنسبـة إلينا .
فنقول : إنّ الواسطـة في تلك الأخبار قليلـة ; لأنّ الواسطـة إنّما هو بين الشيخ والكليني والصدوق وبين الإمام(عليه السلام) ، ومن الواضح قلّتها ; بحيث لايتجاوز عن خمس أو ستّ ، وأمّا الواسطـة بيننا وبينهم فلايحتاج إليها بعد تواتر كتبهم ، ووضوح صحّـة انتسابها إليهم ، كما لايخفى .
(الصفحة478)
واُجيب عن الوجـه الثالث: بأنّ المستحيل إنّما هو إثبات الحكم موضوع شخصـه ، لا إثبات موضوع لحكم آخر ، فإنّ هذا بمكان من الإمكان ، والمقام يكون من هذا القبيل ، فإنّ الذي يثبت بوجوب تصديق الشيخ إنّما هو خبر المفيد ، وإذا ثبت خبر المفيد بوجوب تصديق الشيخ يعرض عليـه وجوب التصديق أيضاً ، وهكذا .
وعن الوجـه الرابع تارة: بما في تقريرات المحقّق النائيني من أنّ هذا الإشكال إنّما يتوجّـه بناءً على أن يكون المجعول في باب الأمارات منشأ انتزاع الحجّيـة ، أمّا بناءً على ما هو المختار من أنّ المجعول في باب الطرق والأمارات نفس الكاشفيـة والوسطيـة في الإثبات فلا إشكال حتّى نحتاج إلى التفصّي عنـه ، فإنّـه لايلزم شيء ممّا ذكر ; لأنّ المجعول في جميع السلسلـة هو الطريقيـة إلى ما تؤدّي إليـه أيّ شيء كان المؤدّى ، فقول الشيخ طريق إلى قول المفيد ، وقول المفيد طريق إلى قول الصدوق ، وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول زرارة الحاكي لقول الإمام(عليه السلام)
واُخرى: بما في تقريرات المحقّق العراقي ممّا حاصلـه : أنّ دليل الاعتبار ـ وهو قولـه «صدّق العادل» مثلاً ـ وإن كان بحسب الصورة قضيـة واحدة ، ولكنّها تنحلّ إلى قضايا متعدّدة حسب تعدّد حصص الطبيعي بتعدّد الأفراد ، وبعد فرض انتهاء سلسلـة سند الروايـة إلى الحاكي لقول الإمام(عليه السلام) ، وشمول دليل وجوب التصديق لـه ; لكون المخبر بـه في خبره حكماً شرعياً تصير بقيـة الوسائط ذات أثر شرعي ، فيشملها دليل وجوب التصديق ; إذ حينئذ يصير وجوب التصديق
1 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 179.
2 ـ نفس المصدر 3 : 180.
(الصفحة479)
ا لمترتّب على مثل قول الصفّار الحاكي لقول الإمام(عليه السلام) أثراً شرعياً لـه ، وهكذا إلى منتهى الوسائط . فكان كلّ لاحق مخبراً عن موضوع ذي أثر شرعي .
وثالثـة: بما أفاده المحقّق المعاصر في كتاب «ا لدرر» ممّا حاصلـه : أنّ وجوب تصديق العادل فيما أخبره ليس من قبيل الحكم المجعول للشكّ تعبّداً ، بل مفاده جعل الخبر ; من حيث إنّـه مفيد للظنّ النوعي طريقاً إلى الواقع ، وعليـه لو أخبر العادل بشيء يكون ملازماً لشيء لـه أثر شرعاً ; إمّا عادة أو عقلاً أو بحسب العلم نأخذ بـه ، ونرتّب على لازم المخبر بـه الأثر الشرعي المرتّب عليـه .
والسرّ في ذلك: أنّ الطريق إلى أحد المتلازمين طريق إلى الآخر ، وحينئذ نقول يكفي في حجّيـة خبر العادل انتهاؤه إلى أثر شرعي ، ولايلزم أن تكون الملازمـة عاديـة أو عقليـة ، ويكفي ثبوت الملازمـة الجعليـة ، بمعنى أنّ الشارع جعل الملازمـة النوعيـة الواقعيـة بين إخبار العادل ، وتحقّق المخبر بـه بمنزلـة الملازمـة القطعيـة ، ولا تكون قضيـة «صدّق العادل» ناظرة إلى هذه الملازمـة ، كما لاتكون ناظرة إلى الملازمـة العقليـة والعاديـة ، بل يكفي في ثبوت هذا الحكم ثبوت الملازمـة في نفس الأمر ، حتّى تكون منتجـة للحكم الشرعي العملي ، انتهى .
هذا، ويرد على الجواب الأوّل: أنّ جعل الطريقيـة لابدّ وأن يكون بلحاظ الأثر الشرعي المترتّب على ما أدّى إليـه الطريق ، وإلاّ فلايجوز جعل الطريقيـة مع عدم ترتّب الأثر الشرعي على المؤدّى ، والمفروض في المقام أنّ ما أدّى إليـه الطريق هو قول المفيد ، وهو لايكون موضوعاً لشيء من الآثار الشرعيـة ، بناءً
1 ـ نهايـة الأفكار 3: 124.
2 ـ درر الفوائد، المحقّق الحائري: 388.
(الصفحة480)
على جعل الوسطيـة والكاشفيـة ، كما هو واضح .
وعلى الجواب الثاني: أنّ ما ذكره من شمول دليل وجوب التصديق لقول الراوي الذي يحكي لقول الإمام(عليه السلام) لكون المخبر بـه في خبره حكماً شرعياً إنّما يتمّ لو ثبت خبره ، والكلام إنّما هو فيـه ; إذ المفروض أنّ خبره لم يثبت وجداناً ، فمن أين يشمل لـه دليل وجوب التصديق ؟ !
وبا لجملـة : ففرض الكلام من صدر السلسلـة إنّما يصحّ لو ثبت أنّ الراوي الذي وقع في صدرها أخبر من بعده بتحديث الإمام(عليه السلام) لـه ، والكلام إنّما هو في ثبوتـه ، كما لايخفى .
وعلى الجواب الثالث ـ مضافاً إلى أنّـه لم يدلّ دليل على الملازمـة التي ادعاها ـ : أنّ المخبر بـه ، وهو قول المفيد في المثال لايكون مترتّباً عليـه الأثر الشرعي ، حتّى يجب تصديق الشيخ فيما أخبره بلحاظ ذلك الأثر . وتوهّم أنّ قول المفيد يترتّب عليـه بعض الآثار ، وهو صحّـة النسبـة إليـه ، وعدم كون إسناده إليـه من القول بغير العلم ، فلا مانع من أن يكون وجوب التصديق بلحاظ ذلك الأثر ، مدفوع بأنّ قول المفيد بلحاظ هذا الأثر إنّما يكون من الموضوعات الخارجيـة التي لاتثبت إلاّ با لبيّنـة ، ولايكفي فيـه قول العادل الواحد ، كما هو واضح .
والتحقيق في هذا المقام ـ بعد عدم رفع الإشكال بما ذكره الأعلام ، كما عرفت ـ أن يقال : إنّ أصل الإشكال ، وكذا الجوابات كلّها من الاُمور العقليـة الخارجـة عن فهم العرف ، الذي هو الملاك والمرجع في معنى الآيـة ونظائرها من الأدلّـة ، فإنّـه لاشكّ في أنّـه لو ألقى عليهم هذا الكلام ، وهو حجّيـة قول العادل ، ووجوب تصديقـه فيما أخبره لايفهمون من ذلك الفرق بين الإخبار بلا واسطـة أو معها ، ولاينظرون في الإخبار مع الواسطـة إلى الوسائط أصلاً ، بل
|