(الصفحة1)
الدولة الإسلامية
شرح لعهد الإمام علي (عليه السلام) الى مالك الاشتر النخعى
تأليف:
سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد الفاضل اللنكراني
(الصفحة5)
مالك الأشتر وولاية مصر
(الصفحة7)
نهج البلاغة
إنّ أبسط وأقصر تعريف للقرآن الكريم هو أنّه كلام الله الذي أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) . وما يمكن قوله بشأن نهج البلاغة ـ كتعريف شامل و بسيط ـ هو أنه كلام أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) الذي ضمّ بين طيّاته خطبه ورسائله ووصاياه وكلماته القصار و نصائحه ومواعظه وأحكامه ، وقد دوّن قبل ألف عام على هيئة كتاب يدور حول ثلاثة محاور : الخطب والرسائل وقصار الحكم .
لكن لا التعريف الأوّل للقرآن ولا البيان الثاني لنهج البلاغة يعدل قطرة من البحار ولا ذرّة من العوالم التي ينبغي قولها وسماعها وتدوينها و قراءتها بشأنهما .
والواقع أنّ سوق مثل هذا التعريف للقرآن بصفته كتاب الوحي ولنهج البلاغة ـ الذي يمثل الامتداد الحقيقي المتقن للقرآن ـ لا يجرّ على القائل والمستمع سوى الحسرة والعجز والقصور . فكيف يمكن الحديث عن نهج البلاغة وقد اخترقت أنوار عظمته ظلمات العالم البشري منذ مئات السنين ، واختزل التأريخ برمّته وأصاب البشرية بالذهول لرفعته وسموّ مكانته حتّى عيت وخرست مقابل عظمته ، فلم تر بُدّاً من الانحناء والركوع حياله؟ . . . أم كيف يمكن الكلام عن كتاب
(الصفحة8)
تناقلته الألسن منذ آلاف السنين إلى جانب القرآن الكريم ، وقد أثنى عليه الأعداء فضلا عن الأصدقاء ولم يملكوا سوى التواضع لعظمته؟ وليت شعري كيف ببيان عمق مضامينه وسعة معانيه وقد عيت العقول وذهلت الفحول على مدى العصور والدهور ودوّنت المجلّدات وألّفت الدراسات وخُطّت ملايين الصفحات ورُتّبت العبارات وهُذّبت الصياغات ، في حين ما زالت البشرية تسبح على شواطىء محيطاته ولم ولن تتمكّن من الغوص في أعماقه وسبر أغواره؟ وعليه فلا يسعنا والحالة هذه سوى الاكتفاء بتعريف بسيط مقتضب لهذا الكنز النفيس; أملا بأن تلهمنا العونَ أنفاسه القدسية ليتمكّن الأتباع من التعرّف أكثر على هذا الكتاب العظيم ، ويغترفوا ما أسعدهم الحظّ من بحر علومه و منهله العذب ومفاهيمه السامية النبيلة .
لقد قام العلاّمة الجليل السيّد الرضي (قدس سره) ـ قبل ألف عام ـ بجمع نهج البلاغة ودوّنها بهذا الشكل ، حيث كانت هذه الكلمات متناثرة هنا و هناك قبله ، وقد دوّنت في مختلف الكتب والرسائل .
لقد تضمّن هذا الكتاب الفريد قمّة المعارف والعلوم التي اختزنتها خطبه وأحاديثه ، ووصاياه ورسائله ومواعظه وكلماته القصار إلى جانب تعاليمه السياسية وتفسيره للآيات القرآنية والقوانين والنظم التي تنظّم شؤون الحياة و تنهض بها قدماً للأمام بعبارات جزلة فصيحة و بليغة ، لم ير لها جامعها من اسم أقرب معنى من نهج البلاغة . لقد صنّف هذا النهج منذ عشرة قرون إلى يومنا الحاضر إلى محاور ثلاثة هي: الخطب والرسائل والكلمات القصار ، وقد تميّزت بخصائصها الفريدة التي تروم التعرّف على غيض من فيضها في هذا الكتاب الذي بين أيدينا .
إلى جانب ذلك هناك التصاوير الفنّية الرائعة التي عرضت لحياة الإمام (عليه السلام)
(الصفحة9)
والأحداث والوقائع التي اعترضت مسيرته والتي ينبغي التوقّف عندها ، بغية الظفر بالدروس والعبر .
ومن هنا فإنّ هذا المنهج يشكّل أعظم مثال وأحسن نموذج لسيرة خليفة النبي (صلى الله عليه وآله)والتي من شأنها إضاءة معالم الطريق لسالكيه ، بعد أن يقتدوا بهذه السيرة الربانية ويقتفوا آثارها في حياتهم العلمية على مستوى القول والعمل .
عهد مالك الأشتر (رضوان الله عليه) (1)
يعتبر العهد الذي عهده الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر ـ حين ولاّه مصر ـ من الوثائق الخالدة التي ميّزت سائر مباحث هذا الكتاب . فقد ظلّت هذه الوثيقة صفحة مشرقة في تأريخ الإسلام و مدرسته الثقافية ، بعد أن دوّنها الإمام (عليه السلام) قبل أربعة عشر قرناً ليحتذي بها تلميذه الوفي في ولايته لمصر ـ تلك الأرض النائية آنذاك ـ من أجل تطبيق أحكام و تعاليم مولاه أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) والتي تمثّل حقيقة الأحكام الإلهية والتعاليم القرآنية .
والإمام (عليه السلام) وإن خاطب واليه الأشتر بهذا العهد وبيّن له الإطار الإسلامي الذي يتكفّل بإرساء حكومة العدل الإلهي في ظلّ القوانين والنظم الإسلاميّة ، إلاّ أنّ الواقع يفيد شمول هذا العهد لكافّة الأفراد وفي كلّ عصر ومصر .
وبعبارة اُخرى: أنّ الوصايا والأحكام التي انطوت عليها هذه الوثيقة هي
1 . نحن في هذا الكتاب استفدنا من نهج البلاغة بتصحيح الدكتور صبحي صالح، وقد ذكر عهد الإمام إلى مالك الأشتر برقم: الكتاب 53.
وقد روي هذا العهد المبارك في تحف العقول: 126 ـ 149 بزيادة بعض الفقرات واختلاف في بعض الألفاظ، وعنه بحار الأنوار: 77 / 238 ـ 267 ح1; وفي دعائم الإسلام 1 / 350 ـ 368 نحوه، وفي نهاية الإرب في فنون الأدب: 6 / 19 ـ 32 باختلاف.
(الصفحة10)
كالشمس التي ترسل أشعتها على جميع آفاق الأرض بمشارقها ومغاربها ، فأنوارها وحرارتها تتّسع لكافة العصور البشرية على مدى التأريخ ، ولن يشذّ عن هذه القافلة سوى عُمْي البصيرة الذين لا يرون الشمس في رائعة النهار .
لقد انطوى كتابه للأشتر على نظرياته وأفكاره الربّانية واُطروحاته السامية بما يميط اللثام عن حقيقة وظائف كافّة أفراد البشر ، سواء كان هذا الفرد عبداً من عباد الله أو عنصر من عناصر المجتمع أو حاكم يتولّى مسؤولية إجراء الأحكام الإسلامية ، أو فرداً عادياً يعيش في كنف الدولة الإسلامية ويحظى بحماية قوانينها الإلهية .
والواقع أنّ وصاياه (عليه السلام) لمالك الأشتر إنّما هي وصايا للبشرية برمّتها ، فإذا ما طبّقت بحذافيرها ، عاش المجتمع ما يصبو إليه من عدالة اجتماعية وأمن وسلام وسكينة ، والأهمّ من ذلك توفّرت الأرضية الصالحة أمام جميع الأفراد لإصلاح ذواتهم وصنع شخصيتهم الإسلامية التي يسودها العلم والإدراك والإيمان ، ويحول دونهم في الانغماس في الرذائل والمفاسد والانحراف ، حتّى يكونوا عباداً صالحين يتّجهون في مسيرتهم نحو شاطئ الأمان والفلاح .
أجل ، يتكفّل هذا العهد بضمان الرفاهية والسلامة وسعادة الدنيا والآخرة; ولا غرو فقد دعيت الجماعة البشرية بهذا السياق الحماسي إلى عالم الروح والشرف والعلو والكرامة; الدعوة التي ترتكز على دعامة العدالة الاجتماعية و الوقوف بوجه الظلم والعدوان ، وإلى جانب تعميق الحرية وتعزيز الإيمان والمساواة أمام القانون و . . .
ولا نرى هنا من ضرورة للاستغراق أكثر في هذا العهد في هذه المقدّمة ، طالما كرّسنا الكتاب للخوض في هذا العهد وتناوله بالبحث جزءاً فآخر ، وبعد أن ألقينا نظرة إجمالية عليه ـ وهو الغرض المتوخّى من المقدّمة ـ وقبل الدخول في تفاصيل
(الصفحة11)
هذه الوثيقة الخالدة ، نرى من الضرورة بمكان تسليط الضوء على بعض المقدّمات ذات الصلة بالعهد .
شخصية مالك الأشتر على لسان علي (عليه السلام)
إنّ الخوض في تفاصيل شخصية مالك و بيان أبعاد وخصائص هذا القائد المتألّق في صدر الإسلام والتعرّف عليه عن قرب ، من شأنه جعلنا نقف بصورة أفضل على السبب الذي حدا بالإمام علي (عليه السلام)لتوجيه مثل هذا العهد الفائق الأهمّية والمنقطع النظير ـ وهو العارف قبل غيره بأنّه سيبقى وثيقة تأريخية حيّة خالدة ـ لمالك الأشتر والذي أراد به ـ في الواقع ـ مخاطبة البشرية جمعاء من خلال تحفّظه عن الإتيان باسم مالك في فحوى العهد .
نعم ، لا يصدر مثل هذا الفعل عنه (عليه السلام)عبثا . كما أنّ الشخص الذي يخاطب من قبل الإمام بهذا العهد التأريخي العظيم ، لا بدّ أن يكون فرداً عظيماً ينطوي على خصائص وامتيازات جمة كثيرة . وما أحرانا أن نسمع ما أورده علي (عليه السلام) من كلمات تفصح بجلاء عن رؤيته لهذه الشخصية الفذّة بغية التعرّف عليها والإلمام بعمقها .
نعلم أنّ علياً (عليه السلام) قد اختار مالكاً لولاية مصر إبّان تسلّمه لزمام الاُمور وزعامة الدولة الإسلامية ، كما نعلم أنّه قتل غدراً أثناء حركته إلى مصر بعد أن دسّت له عناصر معاوية السمّ ، على ضوء خطّة مدبّرة أعدّها معاوية مسبقاً ، وبالطبع فإنّ عليّاً (عليه السلام) كان يعلم بأنّ مالكاً سوف لن يبلغ مصر ويطبّق أحكام العهد في تلك الديار ، وأنّه سيلتحق بركب الشهداء ، مع ذلك فلما بلغه خبر شهادة ذلك الصحابي الجليل ، ووقف ـ حسب الظاهر ـ على كيفية قتل مالك ورغم علمه السابق بدقائق الحادثة ، إلاّ أنّه عاش حالة من الحرقة والألم والتأثر الشديد حتّى
(الصفحة12)
بدا ذلك واضحاً عليه . آنذاك أطلق عبارته بشأن مالك بما يكشف النقاب عن عمق شخصيته . فقد قال (عليه السلام): «لقد كان لي كما كنت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)»(1) .
إنّ أدنى تأمّل في هذه العبارة العميقة والعظيمة المغزى للإمام (عليه السلام) يفيد أنّ مالكاًكان شخصية عظيمة فريدة. أو ليست تلك العبارة صادرة عن الإمام المعصوم، أو ليست كلمات المعصومين لا تعرف المبالغة والتهويل ، وكلّ ما يقولونه هو الحقّ والواقع المحض؟ لقدساق الإمام علي (عليه السلام) هذه العبارة بشأن مالك بعيداً عن كلّ مبالغة أو نقص ، بحيث كانت قيمته وحقيقته منه ، كتلك التي كانت له من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وعليه فالذي نخلص إليه من هذه العبارة البليغة الرائعة أنّ أميرالمؤمنين عليّاً (عليه السلام)كما كان أفضل وأكمل تلميذ للنبيّ (صلى الله عليه وآله) ولم يكن أحد أقرب منه إليه (صلى الله عليه وآله) ، فإنّ مالكاً يتمتّع بنفس هذه الدرجة ، أي أنّه كان أفضل وأكمل تلميذ لمدرسة علي (عليه السلام)وأنّه أقرب فرد إليه ، ولذلك ليس هنالك من وصف ولا مقام يفوق ما أورده أميرالمؤمنين (عليه السلام) بشأنه ، بحيث لا يضاهيه أحد بهذه الدرجة ، كيف لا ولم يقل (عليه السلام)مثل هذه العبارة بحقّ أحد سواه .
شخصية مالك على لسان النبيّ (صلى الله عليه وآله)
العبارة القيّمة الاُخرى التي تكشف النقاب عن عظمة شخصيّة مالك الأشتر ، هي تلك العبارة التي أطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يكن حينها يُعرف الشخص الذي قيلت بحقّه هذه العبارة ، وما إن مرّت السنين وتحققت نبوءات رسول الله (صلى الله عليه وآله)ومنها ما تضمّنته هذه العبارة حتّى فهم الجميع بأنّ المعنيّ بها هو مالك الأشتر النخعي .
فقد روي عن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري أنّه قال: كنّا يوماً عند
1 . شرح نهج البلاغة : 15/98; قاموس الرجال : 8/645 .
(الصفحة13)
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: «ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين»(1). فتدركه في تلك الصحراء ثلّةٌ من الصالحين تُسعد بغسله وتكفينه ودفنه . لم يكن يعلم أحد مَنِ المعني بهذا الكلام . ولم تمضِ مدّة حتّى توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصبح عليٌ جليس الدار بعد أن غُصِبت منه الخلافة حتّى وصلت إلى الخليفة الثالث عثمان ، وكما نعلم فإنّ عثمان نفى الصحابي الجليل أباذرّ الغفاري إلى تلك الصحراء القاحلة وسط صحاري مكّة والمدينة ، والّتي تسمّى بالربذة ، فبقي فيها أبوذر مع عائلته ، ولم يبقى له سوى ابنته بعد أن توفّي سائر أفراد عائلته .
ولمّا حضرته الوفاة قالت له ابنته : إنّي وحدي في هذا الموضع ، وأخاف أن تغلبني عليك السباع . فقال : كلاّ إنّه سيحضرني نفر مؤمنون ، فانظري أترين أحداً؟ فقالت : ما أرى أحداً ! قال : ما حضر الوقت ، ثمّ قال : اُنظري ، هل ترين أحداً؟ قالت : نعم أرى ركباً مقبلين ، فقال : الله أكبر ، صدق الله ورسوله ، حوّلي وجهي إلى القبلة ، فإذا حضر القوم فاقرئيهم منّي السلام ، فإذا فرغوا من أمري فاذبحي لهم هذه الشاة ، وقولي لهم : أقسمت عليكم إن برحتم حتّى تأكلوا ، ثمّ قضي عليه ، فأتى القوم ، فقالت لهم الجارية : هذا أبوذرّ صاحب رسول الله قد توفّي ، فنزلوا ، وكانوا سبعة نفر ، فيهم حذيفة بن اليمان ، والأشتر ، فبكوا بكاءً شديداً ، وغسلوه وكفّنوه ، وصلّوا عليه ، ودفنوه . ثمّ قالت لهم : إنّه يقسم عليكم ألاّ تبرحوا حتّى تأكلوا! فذبحوا الشاة ، وأكلوا ، ثمّ حملوا ابنته ، حتّى صاروا بها إلى المدينة(2) .
والذي نخلص إليه هو أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خصّ مالك الأشتر على أنّه عبدٌ من عباد الله الصالحين ، فهنيئاً لمالك هذا المقام الذي أخبر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) .
1 . الاستيعاب : 111; الكنى والألقاب : 1/216; قاموس الرجال : 2/738 .
2 . تاريخ اليعقوبي: 2 / 173 .
(الصفحة14)
مالك على لسان الأعداء
من الضروري أن نورد ما ذكره معاوية بشأن مالك الأشتر ، «والفضل ما شهدت به الأعداء» عدوّ لا يكنّ سوى الحقد والبغض، وقد تحدّث عن خصمه ، فماذا عساه أن يقول . ذكرنا آنفاً أنّ مالك الأشتر قد قتل بعد أن دسّ له جلاوزة معاوية السمّ ، فلما بلغ معاوية الخبر ، اعتلى المنبر مباشرة ليزفّ لقومه ومَن على شاكلته هذا الخبر السارّ ، فخطب الناس ـ في خطبة طويلة ثمّ عرج على مالك ـ قائلاً:
«أمّا بعد فإنّه كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان ، قُطعت إحداهما يوم صفّين وهو عمّار بن ياسر ، وقطعت الاُخرى اليوم وهو مالك الأشتر»(1) .
فقد وصفه معاوية ـ جهلا وغفلة ـ بما يبيّن رفعة مقام مالك وعظمة شخصيّته; لأنّ معاوية حين يصف مالك الأشتر على أنّه الذراع الثاني لأمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنّ في ذلك دلالة واضحة على أنّ العدو الغاشم هو الآخر كان يعلم و يذعن بأنّ الأشتر كان من أقرب خواصّ الإمام إليه وأفضلهم عنده .
وهنا نرى من الضرورة بمكان أن نشير إلى موقع تلك الديار التي كانت خاضعة للخلافة الإسلامية ، والتي نصب الإمام علي (عليه السلام) ـ بصفته خليفة المسلمين ـ مالكاً والياً عليها .
ثقافة مصر و حضارتها
يشهد التأريخ بالمكانة المرموقة التي احتلّتها مصر من ناحية العلم والثقافة والحضارة من بين كافّة بلدان العالم آنذاك فضلا عن سائر المناطق والأقاليم
1 . تاريخ الطبري : 3/127 ، قاموس الرجال : 8/645 .
(الصفحة15)
الإسلامية ، حتّى أنّ الوثائق والشواهد التأريخية تشير إلى أنّ الحضارة المصريّة آنذاك قد جاوز تأريخها عشرة قرون ، أي ما يقارب أربعمائة سنة قبل الميلاد . فقد اُسّست المدارس والمراكز العلمية والتحقيقية واُنشئت المكتبات في مختلف المناطق المصريّة منذ زمان حكومة الفراعنة الذين حكموا البلاد ، ومازالت بعض آثارهم قائمة حتّى عصرنا الراهن بما فيها الأهرام الثلاث التي تفيد قدم هذه الحضارة وعراقة المدنية .
ويبدو أنّ السبب الذي يكمن وراء تلك الحركة الثقافية في تلك الحقبة التأريخية إنّما يعود إلى النخبة اليونانية التي حكمت مصر آنذاك . فقد بذل أولئك الحكّام الذين ترعرعوا في ميادين العلم والمعرفة جهوداً مضنية من أجل نشر الثقافة والمدنية ، ولا سيّما العلوم والمعارف وفي مقدّمتها الحكمة والفلسفة والعلوم العقلية . وقد وردت عدّة قصص وروايات بهذا الشأن ، ورغم عدم التأكّد من مدى صحّتها ولعلّ البعض منها لا يبدو أكثر من اُسطورة ، إلاّ أنّها تبيّن بشكل عام أنّ مصر كانت تتمتّع بمنزلة علمية وفلسفية خاصّة .
مدينة الاسكندرية
تفيد الوثائق والشواهد التأريخية أنّ مدينة الاسكندرية كانت تعتبر من المناطق المصرية المهمة من حيث الحركة الثقافية وتأسيس المراكز العلمية ، وقد اُسّست مدينة الاسكندرية التي ما زالت تحتلّ مثل هذه الأهمّية في الوقت الحاضر لأربعة قرون خلت قبل الميلاد من قبل الاسكندر المقدوني .
فكانت من المناطق العالمية المهمّة بفضل كونها عاصمة مصر منذ ذلك الزمان حتّى تمّ فتح مصر من قبل المسلمين قبل عشرة قرون . ويبدو أنّ المكانة العلمية للاسكندرية هي التي منحتها هذه الأهمّية ، لأنّ ملوك البطالسة الذين خلّفوا
(الصفحة16)
الاسكندر على تلك المدينة سعوا جاهدين لبسط العلم والثقافة ونشرها في ربوع المنطقة ، فقد أنشأوا في الاسكندرية عدداً من المراكز العلمية والتحقيقية كما بنوا عدداً من المدارس والقاعات الدرسية وأسسوا المكتبات .
ويمكن القول أنّهم أرسوا دعائم أكاديمية للعلوم والمعارف هناك ، بحيث أصبحت بُعيد مدة قصيرة بمثابة حوزة علمية عظيمة ذات شهرة عالمية تحظى باستقطاب العلماء والفضلاء وطلبة العلوم من مختلف الأطراف والأكناف .
وتشير الشواهد التأريخية إلى إقبال كافّة الحكماء والفلاسفة والاُدباء والعلماء ، ولا سيّما علماء العلوم العقلية والمدارس الفلسفية عليها آنذاك من كافّة مناطق العالم ، فأسّسوا فيها مختلف المدارس العلمية والمكتبات الضخمة ، وقد بلغ نشر العلم والثقافة وإعداد العلماء الأعلام في هذه الأكاديميّة المهمّة المعروفة درجة جعلت أغلب علماء الاسكندرية ومفكّري الحوزة العلمية المصرية يكونون في مصافّ كبار علماء اليونان ، بل فاقوهم في بعض الميادين فضلاً وعلماً وبراعة ، حتّى باتوا ينافسون علمياً مشاهير العالم ، وقد لفتوا أنظار البشرية إليهم لقرون طويلة .
وهنا نرى من المناسب وكشاهد على ما ذكرناه أن نورد ما ذكره المحقّق والمؤرّخ المعروف «جورج سارتون» فالمؤرّخ المذكور دفعه إنصافه العلمي ووجدانه اليقظ ـ رغم كونه على دين النصرانية وانتماءه إلى العالم الغربي ـ للاعتراف بالفضل الذي تدين به الحضارة العالمية ، ولا سيّما الغرب بكافّة علومه ومعارفه للمدنية الإسلاميّة ، كما لا يتوانى هذا المحقّق في استعراض المصادر والأدلّة الواردة بهذا الشأن ، بما جعله يتقدّم حتّى على المسلمين في هذا المجال ، فقد كتب يقول :
«هناك شيئان زاغ عنهما البصر في فهم علم الآثار وأوجدا الاختلاف :
الأمر الأوّل : ويرتبط بالتصوّر المغلوط عن العلوم الشرقيّة السائدة ، وهذا التفكير في منتهى السذاجة عندما يتصوّر الإنسان أنّ العلم قد انطلق من اليونان ،
(الصفحة17)
فإنّ معجزة علوم اليونان قد تقدّمت عليها بآلاف السنين أعمال وجهود المصريّين وربّما بلاد ما بين النهرين ، ويحتمل أيضاً بقيّة البلدان . وإنّ أكثر ما امتازت به العلوم اليونانيّة هي الجنبة التجديدية دون الجنبة الابتكاريّة والإبداعيّة .
الأمر الثاني : وجود الأرضيّة المناسبة للمعتقدات الخيالية والخرافات في علوم الشرق ، بل وفي علوم اليونان . إنّ محاولة إخفاء تطوّر العلوم اليونانيّة وتأثّرها بالشرق تعتبر بحدّ ذاتها مستهجنة وقبيحة . وكثير من المؤرّخين ساهم في مضاعفة هذاالخطأ من خلال حفظ روح التوجّه لتلك المعتقدات الخيالية التي كانت سدّاً منيعاً يحول بين المجتمع وتطوّره ، ومن الممكن أن لا يكون ذلك لأوّل مرّة»(1) .
ويقول أيضاً عن قِدَم الحضارة المصريّة :
«لا ريب في أنّه لا يمكننا القيام بذكر الأوضاع والأحوال التي كانت موجودة في مصر قبل التاريخ ، لكن يمكن الإشارة إلى نكتة تفي بالغرض ، وهي أنّ ثقافة مصر ما قبل التاريخ ترتبط بأواخر العصر الحجري ، وأنّ المصريّين القدامى كانوا متقدّمين في مختلف فنون وأساليب الزراعة ، فقد كانوا يعرفون زراعة الشعير والحنطة والبذور والكتّان ، وكان لهم تقويم سنوي للشهور والأيّام .
وفي هذه الأثناء التي يُرفع فيها الستار عن التاريخ ، تطالعنا أوّل سلسلة من فراعنة مصر ، لتقدّم لنا الشواهد على وجود الثقافة المصرية ، بحيث لا يمكننا أن نطلق عليها ـ بلحاظ العلم والمدنية ـ بأنّها باكورة الأعمال ، بل تشهد أنّه في ذلك الوقت قد بلغت الثقافة المصريّة أوجهاً ، الأمر الذي يكشف عن مسيرة بضعة آلاف من السنين لهذه الحضارة ، وأنّ هذه الحقبة الطويلة كانت مليئة بالسعي والمثابرة على طريق التكامل الثقافي والحضاري ، كما يبدو»(2) .
1 . تاريخ علم ، المقدّمة : 11 .
2 . تاريخ علم : 21 .
(الصفحة18)
الازدهار والانحطاط
لقد شهدت مسيرة التقدّم والازدهار في التأريخ المصري بعض المطبّات التي جعلتها تعيش التألّق والاُفول إلى الحدّ الذي جعلها تشرف أحياناً على الاضمحلال والانهيار التامّ ، حيث ذكر المؤرّخون أنّ مصر كانت خاضعة لعصور طويلة نسبياً ـ عصر الاسكندر وخلفائه ـ للسيطرة السياسية اليونانية ، وتبعاً لذلك فقد كان هناك تفاعل وتداخل بين هاتين الثقافتين والحضارتين ، غير أنّ الحضارة اليونانية ـ بعد ملوك البطالسة ـ آلت نحو السقوط والزوال ، وما إن نشبت الحرب بين الروم واليونان وانتهت تلك الحرب لصالح الروم حتّى خضعت كافّة المناطق اليونانية بما فيها مصر والاسكندرية لنفوذ الروم .
ومنذ ذلك الوقت أصابت الحضارة المصريّة وأكاديمية علوم الاسكندرية حالة من الوهن والاُفول لعصور ، ثمّ تعود لتنهض من سباتها أحياناً وتلتقط أنفاسها من جديد ، حتّى حَلَّ القرن الخامس عشر الميلادي لتنشطر دولة الروم إلى شطرين هما: روماالشرقية وعاصمتها استانبول الحالية في تركية ، وروما الغربية ومركزها روما الفعلية في إيطاليا ، وتعتنق روما الشرقية الديانة النصرانية .
وممّا لاشكّ فيه أنّ النصرانية تركت بصماتها السلبية وآثارها الهدّامة على المدنية الرومانية واليونانية بما فيها الحضارة المصرية ، بل إنّ ذلك هو الزمان الحقيقي الذي اتّجه فيه الغرب إلى الانهيار والزوال ، الزمان الذي عرف باسم القرون الوسطى .
ومن جانب آخر فإنّ روما الشرقية ـ التي كانت تحكم بقوة الحديد والنار ـ لم تأل جهداً في مناهضة العلم ومظاهر الثقافة الإنسانية من خلال انقيادها لتعاليم الكنيسة التي حرّفت الثقافة المسيحيّة ووجّهت لها أعتى الضربات; وذلك لأن الكنيسة ترى أنّ العلم والفلسفة وتعليمهما وتعلّمهما إنّما يتنافى ومبادئ الدين
(الصفحة19)
المسيحي ، وعليه فقد كان يوصف بالانحراف والكفر ومعاداة الله والكنيسة كلُّ من سار باتّجاه العلم والمعرفة .
وبالطبع فالأوضاع لم تكن رتيبة على وتيرة واحدة طيلة السلطة الرومانية ، بل كانت الاسكندرية تعيش حالة من النهوض وتتّجه نحو التقدّم والازدهار بين الفينة والاُخرى; لتستعيد مكانتها العلمية والثقافية ، إلاّ أنّها سرعان ما تخفت وتتعثّر خطاها نحو السموّ والكمال كلّما أثيرت النعرات الدينية وما تفرزه من جدل وشجار .
ورغم كلّ ذلك فإن مصر كانت تتمتّع بتجربة علمية مشرقة وحضارة سامية، وقد جعلتها هذه المكانة العلمية الممتازة تتألّق من بين سائر المناطق الإسلامية .
ومن الطبيعي أن يكون الإمام علي (عليه السلام) عالماً بكلّ هذه الاُمور حين كتابته لذلك العهد التأريخي ، كما كان يعلم إلى أيّ أرض عريقة واُمّة متطلّعة قد بعث عضيده المقرّب مالك الأشتر ، وما ينبغي أن يكون عليه حاكمها والبرامج والخطط التي لا بدّ أن يأخذها بنظر الاعتبار ، ولذلك كان يوصي أهل مصر بمالك ، كما كان يوصي مالكاً بأهل مصر . فقد خاطبهم (عليه السلام)قائلاً: «إنّي بعثت إليكم سيفاً من سيوف الله لا نابي الضربة ، ولا كليلَ الحدّ ، فإن استنفركم فانفروا ، وإن أمركم بالمقام فأقيموا ; فإنّه لا يُقدم ولا يحجم إلاّ بأمري ، وقد آثرتكم به على نفسي»(1) .
الأوضاع السياسية لمصر
لقد أشرنا خلال البحث عن الحضارة المصرية إلى الأوضاع السياسية والعلاقات القائمة بين مصر و سائر المناطق العالمية ، فقد سيطر الاسكندر على هذه
1 . تأريخ اليعقوبي: 2 / 194 .
(الصفحة20)
المنطقة قبل ألف سنة حين تمّ فتحها من قبل المسلمين ، ثمّ حكمها خلفاؤه ـ ملوك البطالسة ـ لبضعة قرون ، حتّى خضعت للسيطرة الرومانية بعد أن هزمت اليونان في الحرب .
وتعتبر الأراضي المصرية من أغنى البقاع التابعة لسيطرة الدولة البيزنطية «روما الشرقية» فقد كانت أراضيها المتاخمة لنهر النيل تتمتّع بطقس ومناخ ممتاز تجعلها تجني محاصيلها ثلاث مرّات سنوياً ، الأمر الذي جعل مصر تعدّ مخزناً لغلاّت الدولة البيزنطية .(1)
مع ذلك فقد كانت الدولة البيزنطية تعتمد الأساليب العدائية تجاه أهل مصر ، ولذلك كانت الأوضاع تشهد حالة من الفوضى والاضطراب على هامش فتحها من قبل المسلمين .
المصريّون من جانبهم كانوا يكنّون البغض والعداء للبيزنطيّين; لما لاقوه منهم من أذى ولا سيّما في الصراعات الدينية . الأقباط أيضا ـ أتباع الفرقة اليعقوبية ـ كانوا يضمرون العداء لأعوان الحكومة البيزنطية ، الذين ينتمون إلى الفرقة الإرثودكسية ، كما كان القساوسة وعناصر الحكومة يسعون لتأجيج هذا العداء وإثارة الأحقاد من خلال ما يمارسونه من أساليب القمع والظلم والعدوان .
وقد قام السلطان الإيراني خسرو برويز ـ قبل قدوم المسلمين ـ بشنّ هجومه على مصر ، وقد سيطر على بعض أجزائها المتاخمة لنهر النيل بعد قتال دموي شديد; إلاّ أنّ الدولة الرومانية خاضت الحرب لتتمكّن من استعادة تلك الأراضي من قبضة السلطان الإيراني ، ثمّ تعمّقت إثر هذا الفتح هوة الخلافات وشدّة الصراعات بين الرومان والمصريين ، وسادت الأوضاع الداخلية الفوضى
1 . بامداد اسلام: 84 .
|