(الصفحة41)
للمصالح الإسلامية ـ بتقسيم هذه الأراضي على المسلمين على أن يأخذ منهم مبالغ سنوية ، ويطلق على هذه المبالغ من الناحية الفقهيّة اسم «الخراج»(1) .
* الثاني: جهاد العدو دائرة الحكومة والولاية
نفهم من إضافة الجهاد إلى العدو أنّ مراده (عليه السلام) الجهاد الدفاعي ، لا الجهاد بالمعنى الاصطلاحي الفقهي; لأن روايات أهل البيت (عليهم السلام) ـ وبإجماع فقهاء الشيعة ـ تصرّح بعدم جواز الجهاد الابتدائي وحمل سائر القوى والأنظمة على التسليم إلاّ بحضور الإمام المعصوم وإذنه وإشرافه ، ولا يجوز الجهاد الابتدائي في زمان غيبة الإمام (عليه السلام) ، ولمّا كان مالك الأشتر في تلك المنطقة البعيدة عن الإشراف المباشر للإمام المعصوم ، فإنّه يتولّى إدارتها وكأنّه في زمان الغيبة ، وعليه فليس له الجهاد الابتدائي وله الدفاع والوقوف بوجه الأعداء إذا ما تعرّض الكيان الإسلامي للخطر .
* الثالث: استصلاح أهل مصر
يتّضح من هذه الوصيّة أنّ وظائف الوالي لا تقتصر على رعاية الجوانب المادّية والدنيوية من حياة الاُمّة ، وأنّ إصلاح الاُمّة وإرشادها تعدّ من سائر وظائف الوالي وأنشطته الأساسية ، وعليه فلا بدّ أن يلتفت المسؤولون إلى أنّ وظيفتهم لا تنتهي بتعبيد بعض الطرق والشوارع وتزويد السوق بالحاجات المنزلية من قبيل الثلاّجات والغسّالات . وأنّ هناك الجوانب المعنوية التي ينبغي أن يهتمّ بها المسؤولون في المجتمع الإسلامي إلى جانب دورهم في النهوض بهذه
1 . اُنظر كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري : 2/239 .
(الصفحة42)
الجوانب المعنوية ونشرها بين صفوف الناس ، وألاّ يتخلّوا عن هذه المسؤوليّات التأريخية بحجّة أنّها من اختصاصات الحوزات الدينية ورجال الدين .
* الرابع: عمارة البلاد
الوظيفة الاُخرى الأساسية والمهمّة لمالك الأشتر هي عمارة البلاد . وهذا الكلام ـ ورغم التهم والافتراءات التي ألصقت وما زالت تلصق بالإسلام طيلة التأريخ ـ إنّما يفيد أنّ الإسلام وخلافاً للرهبنة المسيحية يولي أهمّية قصوى للقضايا المادّية والرفاهية في حياة المجتمع الإسلامي ، ويرى ضرورة التمتّع بكافّة النِعم الدنيوية واللذائذ المادّية شريطة ألاّ تنسيه ذكر الله وتؤدّي به إلى ظلم الآخرين واستغلالهم .
نظام مركزي أم . . .؟
لعلّ هناك من يعتقد بأن هذه الصلاحيات ـ في الاُمور المالية والعسكرية والقضائية والثقافية ـ التي فوّضها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر تفيد أنّ الأساس الذي اعتمده الإمام (عليه السلام) في حكمه ، وبعبارة اُخرى اُسلوب الحكم في الإسلام هو الحكومة اللامركزية ، وأنّ الإسلام لا يقرّ الحكومة المركزية .
ونقول بأنّ هذا الاعتقاد لا يبدو صحيحا بالاستناد إلى أسلوبه الذي اتّبعه (عليه السلام)مع سائر أصحابه ، فقد اتّبع الاُسلوب المركزي مع الأشعث بن قيس فمنحه صلاحيات قليلة(1) . ويبدو أيضاً أنّ هذه الفوارق في حجم الصلاحيات معلولة للتفاوت بين مكانة وقدرات صحابته لا إلى أساس الحكومة في الإسلام .
1 . نهج البلاغة : 366 ، الكتاب 5 .
(الصفحة43)
فالخصائص التي ميّزت شخصية مالك الأشتر والصلاحيات التي منحها إيّاه الإمام ، توضح ثقته المطلقة (عليه السلام)بمالك ، بالشكل الذي جعل الإمام لا يرى ضرورة للإشراف على سلوكية مالك ومنهجه في الحكومة; على الخلاف من سائر صحبه الذين لا يتمتّعون بصفات مالك ، الأمر الذي جعله يفوّضهم صلاحيات أقلّ ويُخضع أعمالهم وممارساتهم للإشراف والسيطرة .
أمره بتقوى الله
إذا تأمّلنا هذا الكلام ـ الأمر بالتقوى ـ بالاستناد إلى الوصايا السابقة فإنّه سينطوي على مفهوم واضح ومعنى واسع . فقد أمر الإمام مالكاً بصفته العالم باستصلاح أمور الناس . ومن الواضح أنّ الوالي ما لم يكن متّقياً ، وكان أسيراً لأهوائه النفسية وغرائزه الحيوانية ، فإنّه لايسعه هداية الرعية وإرشادها إلى الصلاح ، فنفس الإنسان ميدانه الأوّل قبل الانطلاق إلى الآخرين . فإذا استطاع مثل هذا الإنسان أن يخضع هواه وغريزته لعقله ومارس سلطته على نفسه وكبح جماحها ، فإنّه سيتمكّن بالتالي من هداية الآخرين والأخذ بأيديهم لما فيه خيرهم وصلاحهم وأمّا إن كان تابعاً لهواه ، أسيراً لغرائزه الشيطانية ، عاجزاً عن إرشاد نفسه ، فكيف يمكن له إرشاد الآخرين وهدايتهم؟! وكيف يصلح غيره مَن يعجز عن إصلاح نفسه؟!
وهذا الكلام ينطبق تماماً على المؤسّسة الدينية التي تتولّى مهمّة إرشاد الاُمّة وهدايتها ، فالفرد الذي لا يهبّ لتزكية نفسه وينغمس في هواه وشهواته سوف لن يسعه إرشاد الآخرين وهدايتهم . وليت الأمر يقف عند هذه الحدود ، بل سيقود الاُمّة إلى الفساد والانحراف . وقد رأينا باُمّ أعيننا مثل هؤلاء الأفراد المتلبّسين
(الصفحة44)
بزيّ رجال الدين عديمي التقوى ـ والذين سدّدوا ضرباتهم الموجعة للجسد الفتيّ لثورتنا الإسلامية المباركة ـ كما لمسنا ضرباتهم القاصمة { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاَْبْصَارِ} (1) ، إلى جانب وجودهم ـ على مدى التأريخ ـ الذي أدّى إلى ظهور المذاهب المختلفة ، والتي أدّت بالتالي إلى فساد الاُمّة وتخلّفها وانحطاطها .
التقوى في القرآن
إنّنا لنلمس مدى أهمّية التقوى من خلال التعابير القرآنية المختلفة بهذا الشأن في سائر الميادين من قبيل الجهاد والعلم ـ التي سنبيّنها لاحقاً ـ فالقرآن حين يتحدّث عن أفضلية العالم على الجاهل ، يصرّح مقارناً بينهما قائلاً: {هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ} (2) .
وتفيد هذه الآية أنّ العاقل يدرك ـ بحكم العقل والوجدان ـ أرجحية العالم على الجاهل دون الحاجة لإقامة الدليل والبرهان . أو حين يتحدّث عن أفضلية المجاهدين على القاعدين ، يقول: { فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} (3); وهي القضية الاُخرى التي خضعت فيها المقارنة والأفضلية إلى حكم العقل والوجدان .
إلاّ أنّ القرآن لم يتطرّق لمثل هذه المقارنة مهما تعرّض لمسألة التقوى ، فلم يذكر أفضلية المتقّين على أصحاب الشهوات والأهواء أبداً ، بل أشار إلى قيمتها وعلاقتها بالله فقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (4) .
1 . سورة الحشر ، الآية 2 .
2 . سورة الزمر ، الآية 9 .
3 . سورة النساء ، الآية 95 .
4 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
(الصفحة45)
فهو لايقول: إنّ المتّقي أفضل من غير المتّقي ، ولا يقول : إنّ المتّقي يتساوى مع غير المتّقي ، إلاّ أنّه يقول : {إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} (1) فالتقوى أساس الكرامة ، وهذه الكرامة محسوبة عند الله; وهذا بدوره يفيد خصوصية التقوى ومدى عظمتها وسموّ كرامتها .
مفهوم التقوى
قال الراغب الاصفهاني بشأن التقوى: «الوقاية : حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، والتقوى : جعل النفس في وقاية ممّا يخاف . هذا تحقيقه ، ثمّ يسمّى الخوف تارة تقوى والتقوى خوفاً ، حسب تسمية مقتضى الشيء بمقتضيه والمقتضى بمقتضاه ، وصار التقوى في تعاريف الشرع حفظ النفس عمّا يؤثم وذلك بترك المحظور»(2) .
ونفهم من هذا الكلام وسائر الكلمات الواردة بهذا الخصوص ـ ولا سيّما كلمات الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ـ أنّ التقوى معناها حفظ النفس ومراقبتها والسيطرة عليها ، وليس معناها الاجتناب الذي اعتمده بعض المتقوقعين الذين أخلدوا للكسل والراحة ، فأوّلوا التقوى الإسلامية التي تختزن القيام والمواجهة بالانزواء واعتزال المجتمع الإسلامي .
ويرى بعض المحقّقين أنّ التقوى تعني الخوف في الاصطلاح الشرعي .
1 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
2 . مفردات غريب القرآن: 530 ، مادّة «وقى» . إذا افترضنا التقوى بمعنى الاجتناب ، فنسأل: اجتناب أيّ الأشياء يوجب التقوى؟ إذا قيل : المحرّمات ، فإنّ اجتناب المحرّمات ليس كافياً على ضوء النظرة الإسلامية . فإنّ الإتيان بالواجبات هو الآخر شرط من شروط التقوى ، ولذلك نقول بأنّ التقوى تعني حفظ النفس ، فهذا المعنى يشمل اجتناب المحرّمات إلى جانب الإتيان بالفرائض والواجبات .
(الصفحة46)
وبالاستناد إلى الآيات والروايات فإنّنا لا نتفق وهذا المعنى الذي لا نراه صحيحاً ، فقد جاء في القرآن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (1) فلو كانت التقوى تعني الخوف ، فهل الصيام مدعاة لإيجاد الخوف عند الإنسان؟ ثمّ ما العلاقة بين الخوف والصوم؟ بينما إذا قلنا بأنّ معنى التقوى هو الحفظ والتحفّظ ـ وهو كذلك ـ فإنّ هناك علاقة مباشرة بين التحفّظ والصوم; وذلك لأنّ الصوم تمرين لممارسة التحفّظ . كما قال سبحانه في موضع آخر: { اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} (2) .
ومن الواضح أنّ الآية ستفقد معناها و مفهومها إذا قلنا بأنّ التقوى بمعنى الخوف ، في حين سيتّضح مفهومها بجلاء إذا ما فسّرنا التقوى بالتحفّظ وحفظ النفس . وهكذا الآية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} .
درجات التقوى
يتّضح من مجموع الآيات القرآنية وتعاليم نهج البلاغة بخصوص التقوى أنّها تشتمل على مراتب ودرجات . ليس هنالك من ركود وسكون ووقفة في التقوى . فالسالك لا يقطع منزلاً إلاّ إذا احتاج إلى اجتياز الآخر ، وهكذا فهو في حركة مستمرّة .
وعليه فلا ينبغي الاعتقاد بأنّ تقوى الفرد قد اكتملت ولم يعد أمامه من ضرورة للحركة إذا ما اجتنب المحرّمات وامتثل الواجبات ، فالحركة قائمة ، وهي على قدر من السعة والشمولية والتكامل الصعودي اللامتناهي بحيث يتعذّر بلوغ قمّته سوى لأهل بيت العصمة والطهارة ، (أو السالكين الحقيقيّين الذين يتعالون من
1 . سورة البقرة ، الاية 183 .
2 . سورة آل عمران ، الآية 102 .
(الصفحة47)
خلال القرآن ومنهج أهل البيت) .
والدليل على هذه الرؤية الإسلامية ما ورد في بعض الآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) بخصوص التقوى ، ونعرض بالبحث لآية من هذه الآيات القرآنية: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}(1) .
فالمفردة «أتقى» تفيد معنى الكثرة والزيادة ووجود التقوى الأقلّ شأناً من الأتقى; وإلاّ ليس هنالك من دليل لبيان الكثرة والزيادة ، ولا سيّما أنّ اللفظ ورد في القرآن الخالي من أيّ مبالغة .
أمّا في خطبة «همام» فقد أشار علي (عليه السلام)إلى مائة فضيلة ، أو بعبارة أفضل إلى مائة ميزة من ميزات المتقين . وللوقوف على حقيقة هذا الأمر ـ درجات التقوى ـ نقتطف بعض ما أورده الإمام (عليه السلام) بهذا الشأن: همام هو أحد خلّص أصحاب أميرالمؤمنين (عليه السلام) ، وذات يوم سأله قائلاً: صف لي المتّقين كأنّي أراهم . فاكتفى (عليه السلام)بذكر بعض صفاتهم ، غير أنّ هماماً طالبه بالمزيد . فقال (عليه السلام):
«فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل: منطقهم الصواب ، وملبسهم الاقتصاد ، ومشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم الله عليهم . . . ولولا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين ، شوقاً إلى الثواب وخوفاً من العقاب . عَظُم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم . . .»(2) .
فأخذت هذه الكلمات مأخذها من همام ـ ولعلّه ظنّ بعدم دركه لمثل هذه الصفات والفضائل ـ فصعق صعقة كانت نفسه فيها .
نعم ، تثبت هذه الكلمات بوضوح تفاوت درجات التقوى ، بحيث يكون غضّ
1 . سورة الحجرات ، الآية 13 .
2 . نهج البلاغة: 303 ، الخطبة 193، الكافي: 2 / 226 ح1 .
(الصفحة48)
البصر عن المحرّمات درجة من درجات هذه التقوى ، والتواضع درجة اُخرى وهكذا دواليك . . .
السعادة والشقاء
تقوم الرؤية الإسلاميّة على أنّ السعادة تكمن في الطاعة والشقاء في المعصية . ونورد ما أمر به أميرالمؤمنين (عليه السلام) واليه بهذا الشأن قبل الخوض في التفاصيل:
«أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاّ بِاتِّبَاعِهَا وَلاَ يَشْقَى إِلاّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا» .
لايراد بالكتاب القرآن فقط ، بل يشمل القرآن وروايات أهل البيت (عليهم السلام) فقد اصطلح في الإسلام بكتاب الله على كافّة السنن والآداب الإسلامية ، وذلك لأنّ كافّة الواجبات والمحرّمات والمكروهات والمستحبّات من المكتوبات الإلهية ، أي أنّ الله قد كتبها بقلم التقدير ليعمل بها بالشكل الذي ورد في الشرع .
لقد حصر الإمام علي (عليه السلام) سبيل السعادة والشقاء بما ذكر ، حيث استعمل حرف «لا» و «إلاّ» التي تفيد الحصر والانحصار . فقد قال (عليه السلام): لا يسعد أحد (مهما كان) إلاّ بطاعة الله وامتثال أمره من خلال الإتيان بالسنن والفرائض واجتناب المحرّمات ، وفي المقابل لا يشقى أحد إلاّ بتضييعه هذه السنن والفرائض .
ويتّضح من ذلك أنّ المراتب العلمية ـ مهما كثرت و حسنت ـ ليس من شأنها إيصال الإنسان إلى السعادة ، اللّهم إلاّ أن يقرن تلك المراتب بطاعة اللّه: الأمر الذي سيضاعف حركته ويزيد من كمالاته .
أبعاد التقوى
للتقوى بعدان; أحدهما يتمثّل بالعمل بالواجبات والفرائض الدينية ، ويتمثّل
(الصفحة49)
البعد الثاني بترك المحرّمات والمحظورات . فقد أشار (عليه السلام) إلى البعد الأوّل من التقوى بقوله : «إيثار طاعته» ، وستأتي لاحقاً إشارته للبعد الثاني بقوله : «وإن يكسر نفسه عند الشهوات» .
فالكسر يستعمل حيث القوّة والصلابة . فتقول : كسرت الزجاجة ، لأنّ الزجاجة تشتمل على الصلابة ، غير أنّك لا تقول : كسرت الغصن حين تفصله عن الشجرة . ويفيد هذا التعبير أنّ النفس البشرية تنطوي على حالة من الصلابة إزاء الشهوات والغرائز الحيوانية ، الأمر الذي يتطلّب التعامل معها بقوّة بعيداً عن الضعف والوهن والغفلة ، ولذلك صرّح الفقهاء(1) العظام في كتاب الصوم وتعريفهم لماهيته بأنّه كفّ النفس وإمساكها عن المفطرات; لأنّنا نعلم بأنّ النفس الإنسانية تشتهي الطعام والشراب وخاصّة في شهر رمضان ، ولذلك فإنّ كفّها وحفظها لايتأتّى إلاّ من خلال القوّة والقدرة .
الجهاد الأكبر
لقد عبّرت بعض الروايات عن جهاد النفس بـ «الجهاد الأكبر» . والجهاد من «جهد» بمعنى السعي ، ولا يطلق على كلّ سعي ، بل يطلق على السعي إلى الحدّ الممكن والاستفادة من كافّة الطاقات والإمكانات; ولذلك يطلق «المجتهد» على الفرد الذي يستفرغ ما في وسعه من قوّة وطاقة من أجل استنباط الأحكام الشرعية . ومنه المجاهدون أيضاً الذين يوظّفون كافّة قدراتهم ضدّ العدو .
وناهيك عمّا تقدّم فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه عبّر عن جهاد
1 . اُنظر تحرير الوسيلة : 1/278 ومنهاج الصالحين : 1/260 .
(الصفحة50)
النفس بالجهاد الأكبر . فقد ورد: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث بسريّة إلى المعركة ، فلمّا عادوا خاطبهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله: «مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر ، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس»(1) .
ولا شكّ في أنّ مثل هذه الأحاديث والأخبار عن المعصومين (عليهم السلام) ـ الخالية من المبالغة ـ إنّما تفيد عظمة وأهمّية جهاد النفس وكبح جماحها وغرائزها الطائشة .
وكفى بهذا الجهاد قدراً وعظمة أنّ دخول الجنة قد اشترط بنهي النفس عن الهوى والشهوات ، فقال عزّ من قائل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (2) فقد صرّحت الآية بوجود شرطين لدخول الجنّة:
الأوّل : خوف الله والذي لا يتسنّى إلاّ من خلال معرفة الله وعظمته ، أي المعرفة التامّة والشاملة .
والثاني : نهي النفس عن الهوى والذي لا يتأتّى إلاّ من خلال ممارسة السلطة على النفس وكبح جماحها ، هذه السلطة والحاكمية على هذه النفس التي وصفها القرآن بأنّها أمّارة بالسوء . وعليه فهذا الجهاد شاقّ ومُضن وواسع وشامل .
ومن هنا كان لابدّ لنا من الاستعانة باللّه والإلحاح عليه قائلين: ربّ لاتكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً(3) .
1 . الكافي : 5/12 ح3، الوسائل : 15/161 ، أبواب جهاد النفس ب1 ح1 .
2 . سورة النازعات ، الآيتان 40 ـ 41 .
3 . البحار : 86/40 ح48، وص71 ح5 ، وص108 ح9; وص152 ح35 .
(الصفحة51)
«وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ . وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ يَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّ مَا رَحِمَ الله» .
العناية الإلهيّة في ظلّ نصرة الله
يعيش مجتمعنا الإسلامي المعاصر ذروة العناية الإلهية والإمدادات الغيبية والنصرة الإلهية أكثر من أيّ وقت مضى ، ولا سيّما في جبهات الحقّ ضدّ الباطل حيث يشعر الإخوة المقاتلون ويلمسون هذا المعنى أكثر من غيرهم . لقد صرّح القرآن الكريم ونهج البلاغة بأنّ الإمداد الغيبي والعناية الإلهية مُشرعة بنصرة الحقّ .
ولابدّ من الردّ على إشكال من أجل اتّضاح مفهوم النصرة . فلعلّ هناك من يقول ما هو مصداق هذه النصرة ولِمَن تبذل ومَن يحتاج إليها؟ لنفترض أنّي قلت : ساعدت المليونير الفلاني بمائة دينار ، أفلا يضحك عليّ الآخرون؟ بينما سيثنون عليّ إذا قلت : ساعدت الفقير فلاناً بمبلغ من المال ، ماذا تعني نصرة الله؟ هل الله محتاج؟ هل هناك من ضعف ونقص يمكن تصوّره بحقّ الله؟ فإن قيل : المراد نصرة الشرع وأحكام الدين ، قلنا: فهل الله عاجز عن تطبيق أحكامه وأوامره؟
للإجابة على الإشكال المذكور نرى من الضروري استعراض ميزة القوانين الإلهية عمّا عليه الحال بالنسبة للقوانين الوضعية التي يشرّعها الإنسان .
إرادة ذاتية ، لا تنفيذ قسري
لا يهدف مشرّعو القوانين ـ وسائر العاملين في السلطة التشريعة ـ إلاّ إلى تطبيق القوانين وتنفيذها ، بغضّ النظر عن الطريقة التي يتمّ بواسطتها تنفيذ
(الصفحة52)
القانون ، سواء استند إلى القوّة والقسر أم نبع من إرادة المجتمع و رغبته الذاتية ، في حين ليس للقوّة والقسر من مفهوم في القوانين السماوية والتعاليم النبوية ، وليس الهدف من تنفيذ القوانين سوى الرغبة والاندفاع الذاتي الذي يستند إلى الاعتقاد والإيمان .
وبناءاً على ما تقدّم نرى السلطات الثلاث ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية ـ تحرص على جباية الضرائب المفروضة على المواطنين بغضّ النظر عن الطريقة ، حيث غالباً ما تلجأ إلى القوّة والتعسّف; بينما حين يشرّع الإسلام فريضة الزكاة والخمس وغيرهما يطالب بامتثال النية وقصد القربة في العمل حين الدفع ، كي ينبعث من القلب لا على أساس الإجبار والقوّة القهرية .
ومن هنا يرى الفقهاء أنّ ذمّة المكلّف لا تبرأ لمجرّد أدائه الحقوق الشرعية وإن بلغت ملايين الدنانير ما لم تكن لديه النيّة ـ وهي الإتيان بالفعل قربة إلى الله ـ فكأنّه لم يؤدّ ذلك الحقّ بدون النيّة .
والآن وبعد أن فهمنا هذا الأمر فسوف يتّضح لدينا مفهوم نصرة الله وتقديم العون له ، وذلك لأنّنا ذكرنا بأنّ تعاليم الأنبياء قائمة على أساس انطلاق الناس من إيمانهم القلبي وبدافع من فطرتهم الإنسانية لإجراء أحكام الله وقوانين الشريعة بعيداً عن الإجبار والإلزام الذي يجرّدهم من الإرادة والاختيار .
ومن البديهي ألاّ تتحقّق مثل هذه الأفعال كما لا تتحقّق مثل هذه الأهداف السماوية دون الوعي الفكري ويقظة القلب والعودة إلى أصالة الفطرة الإنسانية . وهذا هو المفهوم الواضح لتقديم العون وبذل النصرة لله سبحانه .
وعلى ضوء هذه النظرة فإنّ الإنسان يكون قد بذل نصرته لله إذا ما سعى ولو بخطوات هادئة متواضعة من أجل التعرّف على ذاته وسار لإصلاحها وإصلاح
(الصفحة53)
المجتمع وإرشاده إلى ما فيه خيره وفلاحه .
وهنا نريد أن نتعرّف على كيفية تقديم النصرة لله والسبل التي يمكن انتهاجها في مثل هذا المجال وبالالتفات إلى عهده (عليه السلام)إلى مالك الأشتر فإنّ هنالك ثلاثة سبل من شأنها أن تجعلنا نحقّق هذا الهدف .
* الأوّل: النصرة بالقلب
ينبغي للإنسان أن يجدّ ويجتهد بادئ ذي بدء في تزكية نفسه وتهذيبها ، كي يتسنّى له من خلال هذا السبيل بذل نصرته لله بقلبه; لأنّ النصرة بالقلب ليست سوى تهذيب النفس و تطهير الروح والسعي من أجل سموّها وتكاملها وبلوغ الأصالة الإنسانيّة ـ والتي تتمثّل بالعودة إلى الفطرة السليمة والخضوع والانقياد للبارئ سبحانه ـ ، ولذلك فالخطوة الاُولى باتّجاه تهذيب النفس وتربيتها إنّما تكمن في إعداد القلب للعقائد الحقّة والإيمان الراسخ القائم على أساس امتثال التعاليم السماوية والأحكام الشرعية .
وبعبارة اُخرى فإنّ الإنسان الذي نصر الله بقلبه يجب عليه أن يسعى لإحياء قلبه بالإيمان الخالص والاعتقاد التامّ ، ليتمكّن بالتالي من وضع قدمه على الطريق بحيث يزداد حيوية ونشاطاً على مستوى الإيمان كلّ يوم ، ولا يتقدّم عليه الزمان دون تفعيل هذا الإيمان والعمل على استكماله .
* الثاني: النصرة باليد
إنّ اليد الواردة في كلام أميرالمؤمنين (عليه السلام) إنّما هي كناية عن القدرة . فقد جاء في القرآن: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} (1) أي أنّ قدرة الله قدرة مطلقة لا متناهية ، وليس
1 . سورة الفتح ، الآية 10 .
(الصفحة54)
هناك من قدرة تضاهيها ، فهي قدرة تفوق جميع القدرات ، وقد تعارف الناس في حواراتهم اليومية على هذا المعنى لليد ، كأن يقال : «ليس في يده شيء» و «يده قصيرة عن الإتيان بهذا العمل» ولا يراد بها سوى القوّة والقدرة .
ومن هنا يتّضح لدينا مراده من قوله (عليه السلام) لمالك : «وإن ينصر الله سبحانه بيده» . فالمقصود هو أنّه ينبغي لمالك ـ ونحن أيضا مشمولون بهذا الخطاب ـ أن يجنّد جميع طاقاته وإمكاناته ويوظّفها في نصرة الله وتطبيق أحكامه وقوانينه بغية تحقيق الأهداف الإسلامية المقدّسة .
* الثالث: النصرة باللسان
إنّ دور التبليغ لم يعد اليوم بخاف على أحد ، فسلاح التبليغ أشدّ قوّة وأعظم فتكاً من سائر الأسلحة ، فأهمّ وسيلة تبليغية ـ أو الأفضل أن نقول : الوسيلة الأعظم تأثيراً ـ هي اللسان . وبالنتيجة فإنّ اللسان وسيلة مؤثّرة فاعلة تتوقّف على الكيفية والاتجاه الذي تتحرك في إطاره . فإن وظّف لسان الإنسان ـ ولا سيّما ذلك الذي يتحلّى بقدرة على البيان والكلام المؤثّر ـ باتّجاه تشويه الأفكار وإضلال الناس وخداعهم والتغرير بهم ، كان لابدّ من القول بأنّه وسيلة تبليغية هدّامة تهدف إلى نشر الانحراف والانحطاط ، وأمّا إن استخدمت من أجل تبليغ الأحكام السماوية وخدمة الخلق فينبغي أن يقال بأنّ هذا الإنسان قد نصر الله بلسانه وسار باتّجاه نصرة الحقّ .
الوعد الإلهي الحقّ
إنّ النصر الإلهي حليف الإنسان الذي ينصر الله بقلبه ولسانه ويده ولا يهدف إلاّ إلى بسط الحقّ وإشاعة الدين وتطبيق الأحكام الشرعية ، والله هو الذي قطع
(الصفحة55)
هذا الوعد على نفسه فقال عَزَّ من قائل: {إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ . . .} (1) ويتضمّن هذا الوعد الإلهي بعدين جديرين بالتعمّق والتدّبر أكثر من غيرهما وهما:
أوّلاً: أنّ صاحب الوعد هو الله ، وأنّ وعده ليس من قبيل وعود أغلب الناس المعسولة والجوفاء ، بل هو الوعد الحقّ الآتي لا محالة حيث يشاء الله .
ثانياً: أنّ الناصر هو الله وأنّ قدرته مطلقة لا متناهية ، ومن الطبيعي أنّ هذه القدرة المطلقة إذا وقفت إلى جانب قدرة الإنسان المحدودة فإنّه ليس هنالك من قدرة يمكنها أن تقف بوجه هذا الإنسان {إنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} (2) .
وقد تجسّد النموذج العيني للنصرة الإلهية في زعيم الثورة الإسلامية الإيرانية الإمام الخميني العظيم ، فقد وظّف هذا الزعيم الربّاني كلّ ما بوسعه ـ من رجل وامرأة وولد ووطن ودرس وغير ذلك ـ في سبيل الله وإقامة الأحكام الإسلامية فأمدّه الله بنصرته فبلغ به ما بلغ .
أمّا النتيجة الاُخرى التي نستشفّها من كلمات الإمام (عليه السلام) فإنّما تتجسّد في القضية التي تشهدها اليوم الاُمّة الإسلامية الإيرانية ، والتي سيشمل مصيرها كافّة الشعوب الإسلامية والتأريخ الإسلامي ، ألا وهي الحرب التي فرضتها القوى الاستكبارية ضدّ ثورتنا الإسلامية .
نعم ، لقد هبّ الشعب الإيراني المسلم بكافّة طبقاته ووظّف كافّة إمكاناته وقواه من أجل نصرة الحقّ ، وليس هنالك من شكّ بأنّ الله سينصره ويكتب له الغلبة . والحقّ لقد تحقّقت هذه النصرة فخرجت إيران من هذه الحرب عزيزة مرفوعة الرأس ، ولم يكتب لعدوّها الجبان سوى الهزيمة والخذلان .
1 . سورة محمّد ، الآية 7 .
2 . سورة آل عمران ، الآية 160 .
(الصفحة56)
نسيان الذات
يتحلّى البعض بالإيمان والالتزام والشفقة والنهوض بالمسؤولية ، حتّى أنّ إيمانه والتزامه يدفعه لتوجيه بعض الانتقادات ـ ماعدا أولئك الذين ينتقدون من موقع الترف الفكري واستعراضاً للذات وتمتّعهم بالثقافة بينما ليسوا مستعدّين للنهوض بأيّة مسؤولية ـ إلى مسؤولي البلاد ومراقبة أعمالهم وما يصدر منهم ، إلاّ أنّهم وبمجرّد وصولهم للسلطة والأخذ بزمام الاُمور ينسون أعمالهم وتصرّفاتهم ، بل ينسون أنفسهم وكأنّ تسلّمهم المسؤولية قد أزال كلّ نقص وجعل الأوضاع تنتظم وتعود إلى مجاريها الطبيعية .
ولذلك يذكِّر الإمام علي (عليه السلام) مالكاً بالماضي القريب ـ والذي كان يوجّه فيه انتقاداته ـ بهدف الحيلولة دون نسيان الذات والتي تقود بالتالي إلى العجب والاغترار بالنفس ، فيخاطبه (عليه السلام)قائلاً:
«ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ ، مِنْ عَدْل (1) وَجَوْر ، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاةِ قَبْلَكَ ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ» .
وهنا نتساءل لو أخذ المسؤولون هذه الوصية بنظر الاعتبار وحاسبوا أنفسهم بينهم و بين الله ـ دون تحكيم أهوائهم وإراداتهم وقبل أن تنظر الاُمّة في أعمالهم وتصرّفاتهم ـ فهل ستبقى هنالك من مصاعب ومطبّات في هذه المسيرة؟
1 . هناك رأيان في مراده (عليه السلام) بدول العدل قبل مالك: أحدهما أن نقول: المراد عصر حكومة سعد بن قيس ومحمّد بن أبي بكر ، والثاني أن يكون المراد حكومة نبيّ الله يوسف (عليه السلام); وذلك لأنّ لفظة الدولة لا تصدق على ولاية سعد بن قيس ومحمّد بن أبي بكر .
(الصفحة57)
ثواب الصالحين في الدنيا
ليس هنالك من عمل دون أجر وثواب في الشريعة الإسلامية السمحاء ، وإضافة إلى الأجر الذي ينتظر الصالحين في الآخرة ، فهناك الثواب الذي ينالوه في هذه الدنيا . ثواب الصالحين في الدنيا هو هذا الذكر الطيّب والسمعة الحسنة والصلاة والتسليم عليهم ، وهو الثواب الذي يتجاوز حدود الزمان الذي عاشوا فيه ونهضوا بمسؤولية الحكومة ليبقى خالداً على مرّ العصور والدهور ، ولذلك ما زال التأريخ يحتفظ بذاكرته بصورتين إحداهما بشعة قاتمة للظلمة والطواغيت ، واُخرى حسنة جميلة لحكّام العدل من أولياء الله . فإذا ما ذكر الصالحون على مدى التأريخ تعالت الأصوات بالمديح والتسليم والصلوات ، وليس للظلمة سوى اللعنات و . . .
يصف (عليه السلام) هذا الثواب فيقول:
«وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ ، فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ» .
لقد استوحى الإمام (عليه السلام) هذه العبارة من القرآن الكريم الذي قال بهذا الشأن: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً} (1) فالآية تفيد تسلّل المؤمنين الصالحين إلى قلوب الاُمّة التي تكنّ لهم الحبّ والمودّة .
ومن الواضح أنّ مثل هذه المودّة القلبية والمحبّة الباطنية لن تختنق في هذه القلوب ، فلا مناص من تفعيل هذه المودّة في الخارج على مستوى الحركات التي
1 . سورة مريم ، الآية 96 .
(الصفحة58)
تعاضد المحبوب وتشدّ من أزره .
قد يقال: لابدّ أن يكون الإنسان صالحاً لدى الله مرضيّاً عنده; وإلاّ فما يفيده حسن سمعته وشهرته بالصلاح بين الناس؟ ثمّ ألا تحدّ الشهرة الحسنة بين الناس من القيمة الواقعية للإنسان وبالتالي تشكِّل ضرراً عليه؟ نقول: إنّ المحبّة لدى الناس والسمعة الحسنة لديهم تنطوي على عدّة فوائد نكتفي بذكر اثنتين منها رعاية للاختصار:
1 ـ أنّ الإنسان إذا حظي بحبّ الآخرين فإنّ ذلك سيدفعهم للوثوق به ، وفي ظلّ هذه الثقة يقوم هذا الإنسان بتفجير طاقاته الشخصية ليحيلها إلى ثورة اجتماعية عظمى ، فيقدر هذا الإنسان بمفرده أن يتحوّل إلى مشروع ضخم يقدّم آلاف الأعمال الخيّرة الجبّارة .
وهذا ما لمسناه في تجربتنا الإسلامية الرائعة; فقوّة الإمام الخميني هي التي زجّت بالجماهير المليونية الإيرانية لتقود المسيرات والتظاهرات في شوارع البلاد وأزقّتها ، لتطيح بالنظام الشاهنشاهي ـ الملكي ـ الذي حكم البلاد طيلة 2500 عام ، كما نعلم بأنّ اطمئنانه القلبي هو الذي استقطب كلّ مشاعر الحبّ والودّ من هذا الشعب . ولنا هنا أن نسأل لو لم تكن هذه المودّة والثقة في الاُمّة حيال زعيمها الإمام الخميني (رضي الله عنه) ، فهل كان يسعه أن يقود هذه المسيرة التي تُوِّجت بالموفّقية والنجاح؟
2 ـ كلّنا نعلم بأهمّية دور التبليغ ، وأنّه أنجح وأعظم سلاح . وأنّ إحدى أهمّ وسائل التبليغ إنّما تكمن في التذكير بأقوال وأفعال الصالحين من العباد . ولاشكّ في أنّ هذا التذكير لا يعدّ تبليغاً لشخص ، بل وقفة إجلال وإكبار لمقام العمل الصالح وتبيين مكانة وموقف الصلحاء . فتخليد آية الله الشهيد مرتضى المطهّري ـ العالم
(الصفحة59)
الإسلامي العاملـ لا يعني تخليد شخصه بقدر ما يعني إجلال الإسلام وعلمائه العالمين ومواقفهم وأعمالهم .
حسن السمعة: شهادة اُخروية للصالحين
ستعرض أعمال العباد يوم القيامة بكافّة تفاصيلها على الله ، وعلى حدّ تعبير القرآن {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْراً يَرَه* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة شَرّاً يَرَه} (1) وعليه فإنّ الحقّ سبحانه سيتعامل مع حسن سمعة العباد بمثابة الشهادة على صلاحهم ، فلا يخوض في جزئيات أعمالهم ، وبهذا يتيسّر السبيل أمام الصالحين لأن يعتقوا من النار ويفوزوا بالجنّة .
والآن وبعد أن وقفنا على الثواب الدنيوي للصالحين ، لابدّ لنا من الوقوف على أهمّية العمل الصالح وما هي السبل التي تمهِّد للقيام به وممارسته .
أهمّية العمل الصالح
تقوم النظرية الإسلامية على أساس استناد الإنسان إلى بعدين في وجوده:
* البعد المادّي (الترابي)
* البعد الملكوتي (الرحماني)
إنّ هذين البعدين إلى جانب الحرّية والاختيار التي تحكم طبيعة الإنسان جعلته يعيش على هامش الفساد والخسران ، بحيث يتعذّر عليه اجتيازه دون التواصي بالإيمان والحقّ والصبر والعمل الصالح . فقد صرّح القرآن الكريم بها قائلاً: {وَالْعَصْرِ* إِنَّ الاِْنسَانَ لَفِي خُسْر* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
1 . سورة الزلزلة، الآيتان 7 ـ 8 .
(الصفحة60)
وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (1) .
فقد قدّمت السورة القرآنية المباركة صورة ناصعة للدور الذي يلعبه العمل الصالح في حياة الإنسان ، لتصفه بالسبيل الوحيد الذي من شأنه إنقاذ الإنسان من هذا الفساد والخسران .
ما العمل الصالح والصالحات؟
بعد أن اتّضحت أهمّية العمل الصالح ، نتساءل ما هو العمل الصالح ، وما هي الصالحات وما هو السبيل الذي يمكن من خلاله تمييز العمل الصالح؟
هناك ثلاثة سبل لتمييز العمل الصالح:
* الأوّل: الواجب
تعدّ كافّة الواجبات التي كُلّف الإنسان بها من الصالحات ، فوجوبها يدلّ على صلاحها ، فلو لم تكن صالحة لما كلّف الرحمن عباده بالإتيان بها وعلى سبيل الوجوب .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ الصوم والصلاة والخمس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وسائر الواجبات الإسلاميّة من الأعمال الصالحة .
* الثاني: المدح والثناء
كلّ عمل مدح في القرآن وروايات أهل البيت (عليهم السلام) يعدّ من الأعمال الصالحة; ولو لم يكن كذلك فإنّ الحقّ تبارك تعالى لا يمدحه ويثني عليه .
وبناءً على هذا فإنّ الأعمال الواردة في الآية الكريمة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ* الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (2) تعدّ من الصالحات . وقد وصف أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) لهمام صفات المتّقين فقال: «منطقهم
1 . سورة العصر ، الآيات 1 ـ 3 .
2 . سورة المؤمنون ، الآيات 1 ـ 3 .
|