(الصفحة101)
وَآثَامِهِمْ مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ» .
فالامام (عليه السلام) وبنظرته الثاقبة ورؤيته البعيدة يوصي عامله بطرد عناصر النظام البائد ، ثمّ يرشده إلى العناصر الكفوءة الثورية المجرّبة لسدّ الفراغ ، خشية أن تؤدّي تلك التصفية إلى قلّة الكادر المجرّب والمتخصّص ، ثمّ يطرد عنه بعض الأفكار الخيالية التي تجعله يعيش هاجس القلق من تلك التصفية ، فما إن تُطرد تلك العناصر الفاسدة حتّى تستبدل بكلّ سهولة بالعناصر الثورية الصالحة .
أفضلية عناصر حزب الله
قلنا بأنّ الإمام عليّاً (عليه السلام) يطمئنّ بعدم توقّف الأعمال وخلوّ الساحة السياسية من العناصر الثورية المتخصّصة والمؤمنة ، إثر تنحية تلك العناصر الفاسدة العاملة في مؤسّسات النظام البائد ، ولم ينس الإمام (عليه السلام) أن يذكّره بأسباب القوّة التي تتمتّع بها عناصر حزب الله مقارنة بالعناصر الطاغوتية ، فيقول (عليه السلام):
«أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً ، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً ، فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلاتِكَ» .
المصطفون
قلنا بأنّ وظيفة الحاكم الإسلامي تتمثّل بطرد عناصر النظام السابق واستبدالها بعناصر حزب الله ، إلاّ أنّنا نعلم بأنّ عناصر حزب الله ليست متكافئة في التزامها وتعبّدها بغضّ النظر عن أفضليتها جميعاً على العناصر الطاغوتية السابقة .
وعليه لابدّ للحاكم من اعتماد هذه العناصر كلّ حسب التزامه وتعهّده في
(الصفحة102)
مواقع الدولة بهدف الحيلولة دون تقدّم المتأخّر أو تأخّر المتقدّم . فقد قال (عليه السلام) بهذا الشأن:
«ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ ، وَأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لأَوْلِيَائِهِ ، وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ . وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَن لا يُطْرُوكَ وَلاَ يَبْجَحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ» .
وهنا نتساءل لو طبّق كلام الإمام (عليه السلام) فهل سيكون هنالك من مجال لتسلّل العناصر المتملّقة والمنافقة إلى المواقع الأمامية من السلطة وتتنحّى عنها العناصر الثورية الطاهرة والملتزمة؟ قطعا ، لا .
ولا شكّ أنّ العامل في هذه الحكومة ـ التي يدور محورها حول رضى الله لا رضى الحاكم والوالي ـ سينطق بالحقّ رغم ثقله ومرارته دون الخشية من شيء ، وسوف يتسامى في هذه الحكومة ويتقدّم ذلك العامل الذي ينطق بالحقّ ويعتمد الصدق ، لا ذلك المتملّق المرائي الذي لا يحسن سوى كلمة «نعم» و«سمعاً وطاعةً» ولا غرو فوظيفة الحاكم إنّما تكمن في تحرّي الصادقين الورعين والتشدّد على الاقتراب منهم .
الإدارة الصائبة في النظام الإسلامي
لقد قام الإسلام على أساس العدل ، والعدل هو وضع الشيء في موضعه . وبناءً على هذا المبدأ الإسلامي فإنّ الإدارة الصحيحة المنسجمة مع الإسلام هي الإدارة التي تفرّق في نظرتها بين العامل الخادم والعامل الخائن ، فتكافئ الخادم وتعاقب الخائن أوّلاً ، وثانياً: أن يكون المعيار المعتمد في تشجيع الأفراد هو ما
(الصفحة103)
يقومون به من أعمال وما يترتّب عليها من نتائج . فلو غيّب عنصر الترغيب في النظام وتمتّع المحسن بذات الحقوق والامتيازات التي يحظى بها المسيء ، فإنّ الفرد الأوّل سيشعر بعد مرّة بعدم وجود التقييم الصحيح لأعماله الحسنة ، وبالتالي عدم جدوى السعي وبذل الجهد في هذا المجال ، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلى أن يدبّ الضعف والوهن في أجهزة الدولة ثمّ انهيارها وزوالها ، ولهذا يوصي الإمام (عليه السلام)عامله بضرورة التفريق بين الفئتين:
«وَ لاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لأَهْلِ الإِحْسَانِ فِي الإِحْسَانِ ، وَتَدْرِيباً لأَهْلِ الإِسَاءَةِ عَلَى الإِسَاءَةِ! وَأَلْزِمْ كُلاًّ مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ» .
الثقة بالاُمّة
إنّ أهمّ الأُسس التي تتّصف بها الحكومات الفاسدة إنّما تتجسّد في الازدراء وعدم الثقة وسوء الظنّ بالاُمّة . فالحاكم يرى نفسه مبتوراً عن الأُمّة التي يعتبرها لا تكنّ لحكومته سوى الحقد والعداء ، الأمر الذي يجعله يهدر طاقات الأُمّة في التجسّس والتحرّي عن المعلومات ـ من خلال توظيف بعض المنظّمات والأجهزةـ بشأن المناهضين ، واستغلال الفرصة والذريعة التي تشبع عقده وغرائزه بصبّ جامّ غضبه عليهم ، بهدف نفخ الروح في حكومته لمواصلة نشاطها عدّة أيّام في ظلّ الخوف والرعب والإرهاب وفرض إرادته على الأُمّة بقوّة الحديد والنار .
وبالمقابل نرى أهمّ الاُسس التي تطبع الحكومة الإسلاميّة إنّما تتجسّد في احترام الأُمّة وحسن الظنّ بها والثقة والاعتماد عليها ، فالحاكم يرى في الأُمّة ظهيره وسنده الواقعي ، فالاُمّة هي الحاكمة ، والحاكم جزء من هذه الاُمّة .
(الصفحة104)
كما يؤمن بأنّ الأُمّة لا تنشد في حركتها سوى إشاعة الأمن والاستقرار ، الأمر الذي يغنيه عن التجسّس والتتبّع لآثار الآخرين الذين يحرص على تحقيق رضاهم وسعادتهم:
«وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَى حُسْنِ ظَنِّ رَاع بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ ، وَ تَخْفِيفِهِ الْمَؤُونَاتِ عَلَيْهِمْ ، وَتَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ . فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ ، فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً . وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاؤُكَ عِنْدَهُ» .
وحرصاً على ألاّ يكون حسن الظنّ والاعتماد على الاُمّة أجوف هشّاً ، فإنّ الإمام (عليه السلام) ـ وضمن وصيته لمالك بحسن الظنّ بالاُمّة والثقة بها ـ يكشف له عن سبل ترسيخ حُسن الظنّ ، وهذه الثقة بما يلي:
1 ـ الإنسانية .
2 ـ تخفيف المؤونة .
3 ـ الحيلولة دون الأعمال المفروضة .
وسنترك الخوض في هذه السبل الثلاث للفصول القادمة .
(الصفحة105)
السنن الصالحة والطالحة
تصنّف السنن السائدة بين الناس وفق النظرة الإسلاميّة إلى نوعين:
* سنن صالحة
* سنن طالحة
يطلق على السنن التي تتنافى والمبادىء والمعايير الإسلاميّة اسم «السنن الطالحة» ووظيفة الحاكم تكمن في مجابهة مثل هذه السنن والقضاء عليها . فقد كانت عبادة الأوثان من السنن المتداولة والمشروعة بين القوم عند انبثاق الدعوة الإسلاميّة ، ولمّا كانت هذه السنّة تتناقض ومبادىء الإسلام القائمة على أساس إشاعة التوحيد ، انبرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليطلق شعاره القرآني«قولوا: لا إله إلاّ الله تفلحوا» ليبدي مجابهته لتلك السنّة المقيتة ، وليعرب عن استعداده للشهادة في إطار محاربته للوثنية .
بينما هنالك السنن التي تنسجم والمباديء الإسلاميّة والتي يصطلح عليها بالسنن الصالحة ، ووظيفة الحاكم إزاء هذه السنن لا تتمثّل في الوقوف بوجهها فحسب ، بل عليه أن يحافظ عليها ويصونها من التلاعب ، إلى جانب توجيه سائر الآداب والأعراف والتقاليد الإيجابية النافعة للمجتمع .
«وَ لاَ تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الأُمَّةِ ، وَاجْتَمَعَتْ بِهَا الأُلْفَةُ ، وَصَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ . وَلاَ تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْء مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا ، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا» .
(الصفحة106)
آفة الساسة وسبيل الوقاية
لمّا كان ساسة البلاد يتعايشون مع الشؤون التنفيذية ويقضون أغلب أوقاتهم في إصلاح أُمور البلاد ، فإنّهم عادةً ما يصابون بالإعياء وعدم امتلاك الرؤية الواضحة والإدراك الصائب لبعض الأحداث ، وبالتالي قد تلفّهم الحيرة والغربة عن بعض قضايا البلاد و . . .
هذه هي الآفة الكبرى التي تعترض الساسة ، وقد تتفاقم هذه الآفة لتتحوّل إلى خطر جدّي يهدّد هؤلاء الساسة إذا ما حصلوا على شهرة واعتبار اجتماعي إلى جانب أنشطتهم التنفيذية التي يمارسونها في الحكومة . ففي هذه الحالة ـ وبالإضافة إلى اغترارهم بالأوضاع السائدة ـ سيعيشون تبعية شديدة لذلك الاعتبار الاجتماعي ، الأمر الذي يجعلهم يتخلّفون عن امتلاك الرؤية الصائبة والفهم الصحيح للقضايا الاجتماعية والأحداث التي تشهدها البلاد من جهة ، والضعف واللا أُبالية تجاه المسائل العبادية والشخصية من جهة اُخرى .
أمّا علاج هذه الآفة فإنّما يكمن في مجالسة العلماء والانفتاح على تجارب الحكماء:
«وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَمُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلادِكَ ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ» .
الرسالية أم الاختصاص؟
إنّ التعمّق في كلام الإمام (عليه السلام) يرشد إلى مسألة اُخرى ، فهناك شعاران مرفوعان اليوم في مجتمعنا الإسلامي: أحدهما يتبنّى الاختصاص ويراه هو الملاك
(الصفحة107)
في الانتخاب ، بينما يولي الآخر الأصالة للرسالية في الاختيار .
لقد تضمّن كلام الإمام (عليه السلام) ضرورة الجمع بين الأمرين في اختيار الأفراد لممارسة المسؤولية في الدولة ، فقد أشار (عليه السلام)على مالك بمدارسة العلماء من أجل تحقّق الصفة الرسالية ، كما أوصاه بمناقشة الحكماء والانتفاع بها ، بغية تحقّق صفة الاختصاص .
المصير المشترك ووحدة طبقات المجتمع
تقوم الرؤية العلوية للمجتمع على أنّه جسد واحد ذو أعضاء متّحدة المصير ، وللوقوف على هذه الرؤية لابدّ من استعراض بعض المقدّمات:
* مفهوم المجتمع
عادة ما يتألّف المجتمع من مجموعة من الأفراد الذين تحكمهم الروابط والعلاقات التي تصل بعضهم بالبعض الآخر . وعليه فالمجتمع تركيب يفتقر لوجوده وكيانه في حالة غياب الأفراد .
* استقلال المجتمع
نريد أن نتعرّف على هذا الكيان بعد أن عرفنا أنّه مركّب من عدد من الأفراد ، كما نروم الوقوف على العلاقة القائمة بين الفرد والمجتمع ، وهل للمجتمع من وجود وشخصية إزاء هؤلاء الأفراد وفي حالة غيابهم أم لا؟
بعبارة اُخرى: هل هناك من وجود عيني وخارجي لمجتمع دون وجود أفراده ، أم بالعكس ليس هناك من استقلال لمجتمع دون أفراد الجنس البشري؟
لقد طُرق هذا الموضوع لأول مرة في وسط الفلاسفة المسلمين من قبل ابن خلدون في مقدّمته لكتابه التأريخي «العبر» فقال: كلّ مجتمع يعيش مرحلة الولادة
(الصفحة108)
والطفولة والشباب ثمّ الكهولة فالموت ، فإنّه بالتالي سيموت شاء أم أبى ، كما تكهّن بمتوسّط عمر كلّ مجتمع(1) .
ومن الواضح أنّ المجتمع لمّا كان يتألّف من الأفراد ، فإنّ هؤلاء الأفراد يرتبط بعضهم بالبعض الآخر وأنّهم يعيشون مصيراً مشتركاً واحداً ، فإنّهم يتأثّرون بأعمال بعضهم البعض شاءوا أم أبوا . فإن كانت الأكثرية الساحقة سيّئة انعكس ذلك أيضاً على الأقلّية الصالحة ، وإن كانت الأكثرية صالحة استفادت الأقلّية من خيّرات ذلك الصلاح ، وهكذا يتداخل مصير كلّ طائفة مع سائر الطوائف .
وبناءً على هذا فإنّ الإمام (عليه السلام) يرى أنّ من وظائف الحاكم ضرورة التعرّف على طبقات المجتمع والالتفات إلى سلامة كلّ منها ، فقال (عليه السلام):
«وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلاّ بِبَعْض ، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض: فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ ، وَمِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ ، وَمِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ ، وَمِنْهَا عُمَّالُ الإِنْصَافِ وَالرِّفْقِ ، وَمِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُسْلِمَةِ النَّاسِ ، وَمِنْهَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ الصِّنَاعَاتِ ، وَمِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ ، وَكُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ ، وَوَضَعَ عَلَى حَدِّهِ فَرِيضَةً فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وآله) عَهْداً مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً» .
1 . مقدّمة ابن خلدون: 170 وما بعدها; ترجمة مقدّمة ابن خلدون: 1 / 324 .
(الصفحة109)
قوامُ كلّ طبقة يعتمد على قوام اُخرى قوامُ كلّ طبقة يعتمد على قوام اُخرى
تحدّثنا سابقاً عن المصير المشترك لأفراد المجتمع والتحام الطبقات الاجتماعية; ونضيف هنا أنّ الإمام (عليه السلام) يرى بأنّ قوام كلّ طبقة يتوقّف على سائر الطبقات ، وبعبارة اُخرى لا غنى لأيّة طبقة عن اُخرى ، وإذا أرادت طبقة ـ مهما كان شأنها وموقعها ـ أن تحفظ كيانها وجب عليها أن تسعى لحفظ كيان سائر الطبقات .
ولا ينبغي أن يعتقد بأنّ وجودها يتوقّف على انعدام الاُخرى; وذلك لأنّ المجتمع الذي لا يمتلك القوّات المسلّحة لا يعيش الأمن ، وإذا انعدم الأمن ، اختلّت التجارة وتعثّرت الزراعة ، فإذا كان ذلك كذلك زالت الضرائب التي تضمن ميزانية القوّات المسلّحة .
كما أنّ عمل الولاة والقضاة هو الإشراف المستمرّ على سير الأعمال والأنشطة الاجتماعية المختلفة ، فإذا لم يكن هنالك من إشراف ومتابعة سادت المجتمع موجة من القلق والفوضى والاضطراب .
ولذلك يرى الإمام (عليه السلام) بأنّ كلّ طبقة تتقوّم بالاُخرى دون أن تمتاز عليها أو تفضلها ، وإذا فقدت أحدها كيانها أثّرت على سائر الطبقات:
«فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ ، وَزَيْنُ الْوُلاةِ وَعِزُّ الدِّينِ وَسُبُلُ الأَمْنِ ، وَلَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلاّ بِهِمْ . ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلاّ بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ ، وَيَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَيَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ . ثُمَّ لاَ قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلاّ بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ ، لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ ، وَيَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ ، وَيُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الأُمُورِ وَعَوَامِّهَا . وَلاَ قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلاّ بِالتُّجَّارِ
(الصفحة110)
وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ ، فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ ، وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ ما لاَ يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ . ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ» .
تقسيم السلطات وتوزيع الأعمال حسب الاستحقاق
قلنا: إنّ التحام الطبقات الاجتماعية وقوام كلّ منها يتوقّف على ما سواها ، وهذا بدوره يؤدّي إلى ضرورة توزيع الأعمال وتقسيم السلطات التي تُعدّ من صميم وظائف الحاكم الإسلامي .
ومن البديهي أنّ الأنشطة والفعّاليات سوف تصاب بالتعثّر والعرقلة ما لم تسير على ضوء منهاج ونظام ، وعليه فلابدّ للحاكم الإسلامي من تعيين آليّة السلطات ، ومن ثمّ يسند الأعمال إلى أصحابها وفقاً لأهليّتهم وجدارتهم ، ويحول دون تأثير العلاقات الشخصية بدلاً من المقرّرات والضوابط .
وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه المسؤولية تعدّ من أهمّ وأصعب وأخطر مهامّ الحاكم الإسلامي ، والتي لا يتسنّى له القيام بها إلاّ من خلال سعيه الدؤوب واستعانته بالحقّ تبارك وتعالى من أجل أداء هذه المهمّة الخطيرة:
«وَفِي اللَّهِ لِكُلّ سَعَةٌ ، وَلِكُلّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ ، وَلَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ إِلاّ بِالاهْتِمَامِ وَ الاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ ، وَتَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ» .
(الصفحة111)
مميّزات قوّاد الجيش الإسلامي
ينبغي أن تتحلّى القوّات الإسلاميّة ـ التي تحمل أرواحها على أكفّها ذوداً عن الدين والقرآن والحكومة الإسلاميّة ـ بالأخلاق والآداب الإسلاميّة الرفيعة .
وبعبارة اُخرى فإنّ الفرد إنّما يستحقّ لقب جندي الإسلام إذا ما تمتّع بعدد من الصفات ، من قبيل الإيمان والعفّة والتقوى والأثرة والاستماتة من أجل إعلاء كلمة الله ، بينما هناك صفات إضافية ينبغي أن يتّصف بها قادة الجيش ، ممّن ينهضون بمهمّة قيادة الجيش الإسلامي والذين لهم اتّخاذ القرار بشنّ الحرب والقتال ، بحيث لايتسنّى هذا المنصب لكائن من كان من الأفراد .
فلابدّ أن تتوفّر في هذا الفرد ـ إلى جانب الإيمان والتقوى والشجاعة والأثرة والفطنة والقدرة على الزعامة ـ سائر الصفات من قبيل سموّ الروح والهيبة والجلد على تحمّل المواقف الصعبة ، ومكارم الأخلاق والشدّة والصرامة واللين والمدارة ، كلّ في وقتها حتّى لا يجرّ طيشه وتهوّره مَن كان تحت إمرته إلى المهلكة من جهة ، وحتّى لا تدعوه شدّته وصرامته وقدرته لاستغلال الآخرين ، فيؤدّي بحياتهم إرضاءً لنزواته من جهة اُخرى .
فالذي نستشفّه من وصايا أميرالمؤمنين (عليه السلام) أنّ القائد ينبغي أن يتحلّى بالصفات التالية:
1 ـ الحرص على إجراء أحكام الله وأوامر رسوله (صلى الله عليه وآله) ووليّ الأمر الإمام الزعيم للاُمّة ، إضافة إلى امتثاله للقيادة والنصح لها .
2 ـ سعة الصدر والاطمئنان الروحي .
3 ـ الورع والتقوى والعفاف .
(الصفحة112)
4 ـ السابقة الحسنة .
5 ـ الصمود والجلد على النوائب والمصائب .
6 ـ الحلم وضبط النفس وتمالكها عند الغضب وعدم التسرّع فيه .
7 ـ روح العفو والصفح وقبول عذر الخاطئين .
8 ـ الشجاعة والإقدام في سوح الوغى ومجالات الحياة .
9 ـ الكرم .
10 ـ سعة الاُفق واستصغار ما سوى الله تعالى .
11 ـ الكفاءة العقلية والقدرة الفكرية .
12 ـ الشفقة والعطف تجاه ضعفاء الأُمّة والشدّة وعدم الهوادة إزاء الأقوياء .
فقد قال (عليه السلام): «فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً ، وَأَفْضَلَهُمْ حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ ، وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ ، وَ يَنْبُو عَلَى الأَقْوِيَاءِ ، وَ مِمَّنْ لاَ يُثِيرُهُ الْعُنْفُ ، وَلاَ يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ . ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الأَحْسَابِ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ (1) وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ، ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَالسَّخَاءِ وَالسَّمَاحَةِ ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ» .
1 . إنّنا نعلم أنّه لم يستفد المجتمع العربي في عصر الإمام (عليه السلام) من وجود جامعة أو كلّية لتربية العناصر المطلوبة في التصدّي للقيادة العسكرية، ولكنّه في نفس ذلك العصر فإنّ أصحاب البيوتات الصالحة قد وجّهوا أبناءهم وربّوهم على عادات وسنن خاصّة، وفي ظلّ هذه التعليمات والتوجيهات تعلّم أبناء تلك البيوتات الصالحة الفنون والآداب في المجال العسكري، وقاتلوا في ميادين الحروب بشجاعة وبسالة وحصلوا على منزلة خاصّة في قلوب مختلف طبقات المجتمع، الأمر الذي أدّى ـ وبشكل طبيعي ـ إلى تهيئة مستلزمات القيادة ووجود القائد والناس المطيعين له. وهذا الأمر هو الذي نبّه عليه الإمام عليّ (عليه السلام) مالكاً في أن يقوم باستقطاب العناصر الكفوءة من تلك البيوتات الصالحة وأهل السوابق الحسنة.
(الصفحة113)
وظائف القائد تجاه قادة العسكر
لا ينظر علي (عليه السلام) لقضية من جانب دون آخر ، بل عادة ما ينظرها من كافّة جوانبها وأبعادها ، ففي الوقت الذي يتطرّق فيه إلى وظائف قادة الجيش والصفات التي ينبغي أن يتحلّون بها ، يذكر إلى جانب ذلك وظائف ولي الأمر زعيم الدولة الإسلاميّة حيال الاُمراء والجيش . ويلخّص وظائف الحاكم في ما يلي:
1 ـ العطف التامّ والشفقة بالاُمراء كشفقة الوالدين على أولادهم .
2 ـ إمدادهم بكافّة أسباب القوّة وعدم التواني عن كلّ ما من شأنه مضاعفة قدرتهم وتنامي شوكتهم .
3 ـ الاهتمام المتواصل بهم ، بمعنى التعرّف على أُمور حياتهم واللطف بهم واحاطتهم بالرعاية والمودّة وعدم تحقير هذا الأمر والاستخفاف به; فإنّ القادة والجنود يحسنون الظنّ بالوالي عند رعايتهم وتفقّد أُمورهم ، الأمر الذي يؤدّي بالتالي إلى معاضدته والتضحية من أجله .
4 ـ لا ينبغي أن يكتفي الوالي بمتابعة المهمّ من شؤون حياتهم ويتحفّظ عن صغائرها ، فلعلّ بعض الأعمال الصغيرة واليسيرة تلعب دوراً مهمّاً في تأليف قلوبهم والاستحواذ عليها . فقد قال (عليه السلام) بهذا الشأن:
«ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا ، وَلاَ يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ ، وَلاَ تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ ، وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا ، فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ» .
(الصفحة114)
فهناك لطائف جمّة تضمّنها كلامه (عليه السلام) ، ومنها أنّ اختيار الاُمراء الأكفّاء على أساس الضوابط المشار إليها أمر صعب ، وأنّ الظفَرَ بمثل هؤلاء الأفراد وتنصيبهم يعدّ نجاحاً للقائد ، غير أنّ الحفاظ على هذه المسيرة وتشجيع هؤلاء الأُمراء وإمدادهم بأسباب القوّة يبدو أمراً أبلغ صعوبة وأعظم نجاحاً .
والقضية تكمن في أنّ مثل هؤلاء الأفراد إنّما هم من الشخصيات البارزة في المجتمع يندر العثور على أمثالهم ، ومن جانب آخر فإنّ هؤلاء الأُمراء قد لبّوا نداء المسؤولية العظمى وحملوا أرواحهم على أكفّهم بما جعل حياتهم تتعايش والميدان والقتال ، ويتربّص بهم الموت والشهادة في كلّ حركة من حركاتهم وسكنة من سكناتهم .
إذن فمثل هذه الخصائص الكبيرة والمهامّ الخطيرة تجلعهم حقّاً يحلمون بما لايحلم به غيرهم من زعيمهم ، حيث يقلّدوه من جرّاء ذلك مسؤولية حسّاسة تثقل كاهله ، وتجعله يتأمّل مَليّاً في كيفيّة القيام بهذه الوظيفة; فإنّ القضايا المطروحة أمامه لا تقتصر على الحاجيات المادّية ، بل المسألة أعمق من ذلك لتتعامل مع عواطف شفّافة وأحاسيس مرهفة ومتطلّبات روحية ومعنوية ، قد تؤدّي الغفلة عنها إلى تثبيط العزائم وفسخ الهمم والتي قد تقود إلى فاجعة مأساوية ، ولذلك يشبّه الإمام (عليه السلام) عظم دور القائد بدور الوالدين تجاه ولدهما .
(الصفحة115)
أهمّ خصال كبار الاُمراء المصطفين
كما يتحلّى بعض أفراد الجيش ببعض الصفات والخصال التي تؤهّلهم للقيادة ، فإنّ هناك البعض من بين القادة الذين يتمتّعون بخصال أعمق وميّزات أعظم ، ومن شأن هذه الخصال والميزات أن تجعل هذا البعض من الاُمراء أكثر قرباً من الوالي بحيث يعيشون معه حالة من التواصل والقرب ، ويعدّ هؤلاء الأفراد الذين يحظون بهذه الميزات والخصال من صفوة وخيرة قوّاد جيوش الإسلام .
بعبارة اُخرى أنّ هؤلاء هم الأفراد الذين يستشيرهم الحاكم الإسلامي في اُمور الحرب ، كما يطلعهم على أدقّ الأسرار العسكرية ، وأخيراً يعرض عليهم الخطط والمشاريع العملية للحرب ثمّ يفوّض إليهم بكلّ ثقة العدّة والعدد والقوّات لاتّخاذ قرار القتال والجهاد .
أمّا أهمّ المميّزات والخصال التي يرى الإمام (عليه السلام)ضرورة توفّرها في مثل هؤلاء الاُمراء فيمكن إيجازها فيما يلي:
1 ـ أن يواسون سائر أفراد القوّات المسلّحة في طريقة معاشهم من حيث الإمكانات المادّية والوسائل الترفيهية والأدوات المنزلية ، ليتسنّى لمن دونهم الاقتداء بهم ، كما يستطيع القائد من خلال مواساته وتضامنه الواقعي مع جنوده أن يشعر بمشاكلهم ومعاناتهم .
2 ـ أن يعيش الشفقة تجاه أفراد جيشه ، بحيث يسعى جاهداً لتلبية حاجاتهم والعمل على شدّ ظهورهم ، بحيث لا يعيش الجندي هاجس القلق على زوجته وأولاده إذا ما خاض غمار الجهاد ، فيطمئنّ إلى أنّ هناك من يرعى أُسرته ويقضي حوائجها المادّية والمعنوية . وفي ظلّ هذه الحالة يمكنه أن يقتحم ميدان القتال وهو
(الصفحة116)
لا يفكّر سوى في تحقيق الهدف الإلهي من مواجهة العدوّ .
3 ـ أن يعيش التضامن مع جنوده إلى الحدّ الذي يجعله يغطّي نفقاتهم من الميزانية تحت تصرّفه . ومن الطبيعي أنّ المقاتل حين لا يقلق على ضمان مصالح ومتطلّبات معيشة أُسرته فإنّه سيرد المعركة برباطة جأش وعزم راسخ ، من أجل إعلاء كلمة الله ودحر الأعداء .
ونلاحظ ممّا تقدّم ـ ومن خلال الأبعاد الشاملة التي يستند إليها الإسلام في نظرته الواقعية الفريدة للأشياء ـ أنّه في الوقت الذي يولي أهمّية قصوى لقضية الإيمان والتقوى والورع والاتّكال على الله ، غير أنّه لا يغفل عن الوقائع والقضايا الملموسة للحياة بما فيها صغرى المتطلّبات والاحتياجات المادّية للإنسان ، إلى الحدّ الذي جعل الإمام عليّاً (عليه السلام) يتعرّض لهذه المسألة ، وهي أنّ المقاتل ما لم يشعر بتلبية حاجاته المادّية والمعيشية فإنّه لن يستطيع الصمود في الميدان; وذلك لأنّه لم يرده بقوّة وثبات تمكّنانه من الوقوف بوجه العدوّ ومن ثمّ هزيمته والانتصار عليه:
«وَلْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ ، وَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ ، فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ» .
دوام السلطة
إنّ هدف الأنبياء ـ ولا سيّما رسالة خاتمهم (صلى الله عليه وآله)ـ إنّما يكمن في بسط العدل والقسط في ربوع المجتمع الإنساني; ولذلك فإنّ الإسلام وعلى ضوء المنطق القرآني قد دعا الحكومة لبسط العدل ، كما أوصى أفراد الأُمّة بالتعامل فيما بينهم على أساسه ، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِِ
(الصفحة117)
وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالاَْقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} (1) .
واستناداً لهذه الرؤية القرآنية فإنّ الإمام علياً (عليه السلام) يرى أنّ دوام السلطة واستقرارها مرهون بإقامة العدل والقسط ، أي أنّ الدولة والنظام إنّما يكتسب ميزة البقاء والاستمرار إذا ما تبنّى شعار العدل والقسط ، وحرص على إقامتهما وبسطهما في البلاد ، وإلاّ فهي دولة تحمل معها وفي طيّاتها أسباب الاضمحلال والانهيار إذا ما كان شعارها يستند إلى الظلم والاضطهاد .
ومن الطبيعي أن يتمنّى الأفراد الذين يعيشون في ظلّ الدولة العادلة بقاءها واستمرارها ، بينما يتطلّع أولئك الأفراد الذين يعيشون تحت نير الدولة الظالمة إلى زوالها وزوال ظلمها وجورها:
«وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَيْنِ الْوُلاةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِلادِ ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ . وإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاّ بِسَلامَةِ صُدُورِهِمْ ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلاةِ الأُمُورِ ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ ، فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ» .
التشجيع دافع لمضاعفة الجهود
رأينا على ضوء النظرة العلوية أنّ اتّحاد وتضامن أفراد المجتمع وانصهار أفراد القوّات المسلّحة في سائر أفراد الأُمّة وشخص القائد ـ والذي يؤدّي في خاتمة المطاف إلى تنامي قوّة المجتمع الإسلاميّة ـ ليست بالقضية الهيّنة التي يمكن نيلها دون مشاريع وبرامج دقيقة ، ولذلك فإنّ من الضروري أن تكون هناك شرائط
1 . سورة النساء ، الآية 135 .
(الصفحة118)
وخصائص ، لكي يهبّ أفراد المجتمع بكلّ حماس وإيمان لتقوية الجيش الإسلامي ، كما يعي الجيش مسؤوليته بطاعة آمريه وقادته وينطلق نحو تحقيق الأهداف الإلهية المقدّسة .
وهنا تطالعنا بعض الخصائص التي أخذتها الثقافة الإسلاميّة بنظر الاعتبار بالنسبة لكلّ فرد من أفراد المجتمع ، فعلى سبيل المثال لو طالب القائد أحد جنود الإسلام بالفداء والتضحية ، فإنّه ينبغي له قبل ذلك أن يكون التعامل معه بمنتهى الشفقة والرأفة الأبوية ، وإن أراد أن يكون محبوباً في أوساطهم وجب عليه ضمان حاجاتهم المادّية ، وإن توقّع منهم الشفقة عليه وإرادة الخير له لزم أن يعاملهم بالعدل والإنصاف .
أمّا الوصيّة الاُخرى لعليّ (عليه السلام); والتي تتناول الوظائف المتبادلة بين القائد والأُمّة والقائد والجندي ، إنّما تتمثّل بضرورة وقوف القادة والاُمراء على كافّة أبعاد الأفراد ممّن تحت إمرتهم وقيادتهم ، إلى جانب الالتفات إلى كافّة حاجاتهم المادّية والمعنوية ، فالقائد ليس بناجح إذا اقتصر همّه على الأُمور المعنوية بينما أهمل النواحي المادّية لأفراد المجتمع ، والعكس صحيح أيضاً .
إنّ إحدى الحاجات الروحية والمعنوية لجند الإسلام ـ والتي لا ينبغي إغفالها أبداً من قبل القائد ـ إنّما تتمثّل بالتشجيع والثناء والتقدير ليتسنّى له القيام بوظيفته في خوض غمار الجهاد والاستعداد للشهادة .
ومن حقّ هؤلاء الأفراد الذين ينهضون بهذه المسؤولية الخطيرة ويضحّون بأنفسهم من أجل نشر الدين وضمان أمن وسلامة المجتمع أن يحظوا بكلّ ثناء وإكبار من قبل الولاة والحكّام ، وأن يشعروا دائماً بأنّ جهودهم وتضحياتهم محفوظة تحظى بالاهتمام والشكر والتقدير وتشجيع الولاة واُمراء الجيش ، ممّا يسبّب مضاعفة جهود المقاتلين من ناحية ، ومن ناحية اُخرى يدفع بالجنود
(الصفحة119)
المتكاسلين الخاملين والمتساهلين أن يبادروا ـ كبقيّة المجاهدين ـ نحو سوح الوغى وميادين القتال بشوق وحماس ، ويُرَغَّبوا في التضحية في سبيل الأهداف العليا . فقد قال (عليه السلام):
«وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلاءِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ» .
آفة التمييز وعدم المساواة
كما يرى الإمام (عليه السلام) ضرورة تشجيع وتقدير الأفراد من أجل تقوية معنوياتهم وبلورة شخصياتهم ، فإنّ هنالك أمراً آخر أعظم ضرورة يتمثّل برعاية العدالة في ممارسة هذا التشجيع والثناء والتقدير .
وعلى الوالي أن يدرك بأن ليس هناك من آفة من شأنها زعزعة اُسس وقواعد المجتمع وانهيار روحيات أبنائه وتصدّع كيانهم أعظم من عدم رعاية العدالة والتعامل العنصري مع سائر أفراد المجتمع .
وبعبارة اُخرى: لا ينبغي أن يرى في المجتمع الإسلامي مَن يتفانى في خدمة الأُمّة ثم يُكافأ بأقلّ من جهده ، بينما يولى الوالي مزيداً من الاهتمام والثناء لمن لم يجهد نفسه في مثل ذلك في العمل . فإنّ مثل هذا الأمر ـ وناهيك عن كونه مناهضا لروح العدل ومبادىء الإسلام ـ يشكّل ضربة قاصمة للمجتمع الإسلامي ، ويثبّط عزيمة الناشطين من أفراد المجتمع ، ويقتل فيهم لهيب الحركة والعمل .
وعليه فكما ينبغي للوالي عدم الغفلة عن تفقّد أفراده وتشجيع المستحقّ منهم ، عليه أيضاً أن يراعي العدل في هذا التشجيع ويتحفّظ عن كلّ تمييز وتفرقة .
وعلى هذا الضوء فإنّ الحاكم مكلَّف بالثناء على أفراده ـ ولاسيّما أبناء القوّات
(الصفحة120)
المسلّحة ـ بالاستناد إلى طبيعة الأعمال والجهود المبذولة والاستحقاق بعيداً عن شهرة الأفراد وسائر امتيازاتهم من قبيل الغنى والفقر والشرف والضعة وغير ذلك ، فقد قال (عليه السلام):
«ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى ، وَلاَ تَضُمَّنَّ بَلاءَ امْرِئ إِلَى غَيْرِهِ ، وَلاَ تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلائِهِ ، وَلاَ يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئ إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً ، وَ لاَ ضَعَةُ امْرِئ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً» .
منزلة القرآن والسنّة في المجتمع الإسلامي
يحظى القرآن والسنّة بمكانة رفيعة ودرجة سامية في المجتمع الإسلامي ، ولا تقتصر هذه الرفعة والسموّ على القدسية الظاهرية للقرآن والسنّة فحسب ، بل تشمل القدسية العملية بما فيها التمسّك بالمفاهيم العظيمة لهذين المرجعين وتحكيم القرآن والسنة في القضايا الإسلاميّة .
بعبارة اُخرى: أوّلاً يعتبر القرآن والسنّة مصدرين لكافّة القضايا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها ، وثانياً إذا أقبلت الفتن واشتبه الحقّ بالباطل ، فإنّ الملاذ والفرقان هو القرآن والسنّة .
ولابدّ هنا من تسليط الضوء على بعض المقدّمات ، من أجل الوقوف على مكانة القرآن والسنّة في المجتمع الإسلامي:
مفهوم السنّة
يُطلق اصطلاح السنّة على كلّ ما يصدر من رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) من قول أو فعل أو تقرير:
|