(الصفحة41)
المطلقة ، وذلك لأنّ المطيع إنّما يجعل فكره وإرادته وعمله تحت تصرّف المُطاع ، وقد ذكرنا بأنّ علّة طاعة المُطاع بنحو مطلق هي كون المُطاع يمتلك علماً مطلقاً ، وبصيراً وذا دراية بكافّة سبل الهداية وطرق السعادة والفلاح ، وهو عارف بنمط الحياة التي يسودها الأمن والاستقرار والسكينة ، والتي لا تعرف القلق والاضطراب ، كما أنّه خبير بكلّ ما يؤدّي إلى السعادة والشقاوة ، وحيث تحكم الفطرة بضرورة التسليم لمثل هذا الفرد ، كان لابدّ من القول بأنّ الآية { أَطِيعُوا اللهَ } إنّما توجب على الناس الانقياد والتسليم إلى الله والرسول وولاة الأمر ، بالشكل الذي تكون فيه إرادة الناس تابعة إلى إرادة ذلك الفرد ، فلم تعد لهم من إرادة ، وهذا ما يمثّل منتهى الإدراك والعقل والدراية بحيث يكون الإنسان على هذا النوع من التسليم تجاه معلّميه من ذوي العلم والبصائر ليظفر بسعادته وفلاحه .
هذا هو المعنى الذي نفهمه من الآية الشريفة ، وهو نفس المعنى الذي يفيده حديث الثقلين ، لاسيّما بالالتفات إلى كلمة «التمسّك» الواردة في الحديث «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً : كتاب الله ، وعترتي . . .»(1) فالتمسّك يعني التسليم والانقياد للمتمسّك به ، فهي لا تفيد سوى الطاعة المطلقة للمُطاع التي صرّحت بها الآية الشريفة .
وأخيراً فإنّا نرى أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد خلّف للمسلمين ثقلين: الأوّل هو القرآن الكريم الذي يُعتبر دستور الحكومة الإسلامية وركنها الركين وقائدها ، فإنّ الأئمّة الأطهار هم أساس الحكومة وزعماؤها وليس للأُمّة من سبيل سوى الانصياع لقيادتهم والانقياد لهم .
خلاصة التحقيقات:
على ضوء الرواية المنقولة عن ابن بابويه القمي فإنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد عيّن
(1) بحار الأنوار 23: 104 ـ 205 ب 7.
(الصفحة42)
ولاة الأمر ، وقد كان مفاد الرواية ـ التي وردت بشأن الآية القرآنية ـ { أَطِيعُوا اللَّهَ } ـ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم اثنا عشر وأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصبهم بوحي من الله ، أي أنّ الله هو الذي نصبهم وجعلهم أئمّة ، فما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ أن أبلغ المسلمين الخبر .
كما اتّضح من «التحقيق الآخر في الآية الكريمة» أنّ وظيفة الأئمّة لا تقتصر على شرح وبيان الحلال والحرام ، بل هم زعماء الأُمّة وقادة البلاد ورؤساء الحكومة الإسلامية، وأنّ رسالتهم هي تطبيق التعاليم الإسلامية والأحكام القرآنية في العالم الإسلامي، والأُمّة مأمورة بطاعتهم ليتمكّنوا من إجراء الأحكام الإسلامية ويأخذوا بيد الأُمّة إلى شاطئ السعادة والفلاح ، كما أنّ زعامتهم أبدية خالدة ، كما ذكرنا بعض الروايات التي تؤيّد بل تشكّل الدليل القطعي على هذا المدّعى، وقلنا بأنّ طاعة الأئمّة لا تعني سوى آمريتهم وزعامتهم للحكومة الإسلامية ، كما فهمنا من رواية بريد العجلي عن الإمام الباقر (عليه السلام) بأنّ الأُمّة إذا أقرّت بمثل هذه الزعامة للأئمة ، كانت حصيلة هذه الزعامة بلاد واسعة ومستقلّة وحرّة قائمة على أساس العدل والقسط ، وقد ذكّر الإمام بأنّ شرط الحكومة الإسلامية العالمية والملك العظيم إنّما يكمن في زعامة الأئمّة الأطهار وحاكميتهم المطلقة .
كما ذكرنا بأنّ مفاد حديث الثقلين هو نفس مفاد آية الطاعة ، أي أنّ النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد جعل القرآن والعترة الركيزتين الأساسيتين لقيام الحكومة الإسلامية.
وبناءً على ما تقدّم فليست هناك من حاجة لأن نستعرض سائر الروايات لإثبات ماذا تعني ولاية الأمر؟ ومن هُم ولاة الأمر؟ وما هي وظيفة ولاة الأمر؟
إلاّ أنّنا نذكّر بقضية مهمّة أشرنا إليها سابقاً ، وهي أنّ شخصية الإمام ليست شخصية علمية شارحة ومفسّرة لأحكام القرآن الكريم والسُنّة فحسب ، بل
(الصفحة43)
الإمامة مساوية للنبوّة ومن المناصب الإلهيّة ، أي أنّ الله سبحانه قد جعل صفوة من الناس بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أئمّة الدين وجعل لهم الحكومة التي يصرفون شؤونها بالاستفادة من علومهم التي ورثوها عن النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يجعل الله الزعامة والإمامة الإسلامية إلاّ إلى الصفوة التي اتّصفت بالزهد والبصيرة والعصمة والشجاعة والمروءة والتضحية ، العالمة بأوضاع الأُمّة والتي ليس لعلمها حدود بالحوادث الواقعة ، ليبقى الدين خالداً أبدياً والأُمّة قويّة مستقلة سعيدة في دينها ودنياها ، كما أنّ بقاء دين الحقّ وشعور المسلمين بالحياة الحرّة الكريمة والاستقلال من شأنه أن يفجّر طاقاتها ويجعلها تعيش الحياة الهانئة وتسعى لنيل الحياة الأُخرويّة .
الإمام في رسالة سيّد الشهداء (عليه السلام)
أشار الإمام الحسين (عليه السلام) إلى مقام الإمام في رسالته التي بعثها ردّاً على رسائل أهل الكوفة الذين كتبوا إليه مطالبين بزعامته وتشكيل الحكومة الإسلاميّة تحت لوائه فقال (عليه السلام) : «فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحقّ ، الحابس نفسه على ذات الله والسلام»(1) ، فالرسالة تشير إلى لحاظين مهمّين بالنسبة للإمام:
اللحاظ الأوّل: ما هو مقام الإمام في الأُمّة؟ فالإمام ليس ذلك الفرد الذي يقبع في زاوية وينأى بنفسه بعيداً عن التدخّل في شؤون الأُمّة وتحقيق مصالح عامّة الناس ، بل لابدّ أن يكون الإمام هو الآخذ بزمام الاُمور وعلى رأس الحكومة ، وهو حاكمها المطلق الذي يسعى لاستيفاء حقوق الضُعفاء من الأقوياء .
(1) الإرشاد لأبي عبدالله محمّدبن محمّدبن النعمان العكبري البغدادي ، المعروف بالشيخ المفيد (م413) . تحقيق مؤسسة آل البيت لتحقيق التراث ، مجلّدان . نشر وطباعة دار المفيد ج 2 ص 39.
(الصفحة44)
اللحاظ الثاني: إنّ وظيفة الإمام في هذه الحكومة هي العمل بالقرآن وتطبيق أحكامه وتعاليمه ، فالقرآن لم ينزل لتقتصر الأُمّة على تلاوته ، وتحتكم في عملها ووظائفها للقوانين الوضعية التي يبتدعها بعض الأفراد بما لديهم من أفكار وآراء; الأفراد الذين لا يسعهم النظر إلى أبعد من الواقع الذي يعيشون فيه ويفتقرون للإحاطة التامّة بجميع المصالح والمفاسد ، فالمجتمع في ظلّ حكومة هؤلاء الأفراد يعيش في دوامة من القلق والاضطراب والفساد والانحراف ، فهي حكومة الأهواء والشهوات التي تحرق الأخضر واليابس من قيم الأُمّة .
أجل لابدّ أن يكون القرآن هو المنهج الذي تستمدّ منه القوانين في الدولة الإسلاميّة التي يتزعّمها الإمام ، فتكون وظيفته الانتصار للمظلوم وبسط القسط والعدل ، بحيث لا يطمع القوي في حيفه ولا ييأس الضعيف من عدله ، ولا ينبغي أن ينحرف الإمام قيد أنملة في إجرائه للقوانين الإسلامية التي تضمن العدل وتزيل الظلم والجور ، وأن يحبس نفسه لله ولا يرى سوى رضاه .
وبناءً على هذا لا ينبغي لأيّ عنصر سوى الحقّ أن يؤثّر على الإمام في بسطه للعدل والقسط ، من قبيل النسب والحصول على الجاه ، والقبلية والقومية ، وما إلى ذلك، وإلاّ فهو أسير بيد الشيطان، وليس لمثل هذا الفرد أهلية زعامة الإسلام والمسلمين.
هذه هي وظائف الإمام ، ولذلك قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) حين ولي أمر الخلافة: «ليس أمري وأمركم واحداً ، إنّي اُريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم ، أيّها الناس أعينوني على أنفسكم ، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه ولأقودنّ الظالم بخزامته حتّى أورده منهل الحقّ»(1) .
فأمير المؤمنين إنّما يحكم من أجل الله ، وحكومته إجراء العدل والانتصار
(1) نهج البلاغة / لمحمّد عبده : ص 306 .
(الصفحة45)
للمظلوم من الظالم ، لا يرى سوى الله وليس للهوى من سبيل إليه .
وبناءً على ذلك فمن وجهة نظر أمير المؤمنين وولده السعيد الحسين الشهيد (عليهما السلام) أنّ الإمام هو ذلك الشخص الذي يهيّئ نفسه لقيادة المسلمين وزعامتهم ، وأنّ الإمام هو الشخص الذي يتربّع على كرسي الحكم ويكوّن حكومة اجتماعية فعّالة تستهدف تجسيد العدالة والوقوف إلى جنب المظلوم ، وتطبّق القرآن الكريم في المجالات المختلفة للحياة .
والإمام في تطبيقه لهذه البرامج يكون شخصيّة إنسانيّة متسامية ، لا يفكّر بغير الله تعالى ، ولا مجال للأهواء والشهوات في إدارة تلك الحكومة ، ولا يحكم إلاّ من أجل رضا الله تعالى .
وإذا لم يتّخذ القرآن الكريم برنامجاً لعمله ، لا لأجل تثبيت سلطته الشخصية ، التي تجد طريقها إلى قلوب الناس من خلال إشاعة العدل والتوحيد ، ومن خلال هذا الطريق يحاول أن يثبّت سلطته ويُحكم سيطرته ، بل تطبيق العدالة لأجل العدل وإصلاح البلاد وإعمار المدن ، وإيواء المظلومين والأخذ بحقّهم ، وإحياء آثار النبوّة ، وحفظ كتاب الله ، وأخيراً لإحياء اسم الله ودعوتهم إليه سبحانه وإقبالهم على الله تعالى بقلوب متيّمة بحبّ الذات الأقدس .
ولذلك يصف (عليه السلام) هدفه من الحكومة وزعامة المسلمين: «اللهمّ إنّك تعلم أ نّه لم يكن الذي فينا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام ، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الصلاح في بلادك ، فيأمن المظلومون من عبادك وتقام المعطّلة من حدوك»(1) .
(1) نهج البلاغة / لمحمّد عبدة : ص 300 .
(الصفحة46)
(الصفحة47)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة : الآية 54)
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الْزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (سورة المائدة الآية: 55).
وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ { (سورة المائدة: الآية 56)
(الصفحة48)
(الصفحة49)
الدليل الثالث من القرآن
{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(1) .
الولاية لله والرسول ، ثمّ لعدد من المؤمنين ، وكلمة «الذين آمنوا» ذات دائرة واسعة ، ممّا حدا بالقرآن لقصرها على طائفة خاصّة من المؤمنين فقال: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الْصَّلَـوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـوةَ} .
فليس لجميع المؤمنين الولاية على الآخرين ، بل الولاية لفئة منهم ، فإن قيل بأنّ «الذين آمنوا» لها ظهور في عامّة الأفراد ، وهي تشمل كافّة المؤمنين على نحو القضية الحقيقية ، ولا تُشير على نحو القضيّة الخارجيّة إلى طائفة معينة ، نقول: ليس لهذا الكلام من معنى قابل للإدراك والتعقّل; لأنّه لا يمكن أن تكون الولاية لجميع المؤمنين على أنفسهم ، فولاية الجميع على الجميع لاتكون سوى الفوضى والهرج والمرج وانهيار النظام الاجتماعي ، في حين وردت الآية القرآنية في مقام جعل
(1) سورة المائدة : الآية 55 .
(الصفحة50)
منصب الولاية ، أي كما أنّ الرسول هو ولي الأُمّة الإسلامية والقائم على تدبير شؤونها ; فإنّ لبعض المؤمنين ـ بنص الآية ـ مثل هذا المنصب ، والقرائن التي وردت قبل هذه الآية وبعدها إنّما تؤيّد صحّة هذا المدّعى .
فقد خاطبت الآية السابقة جميع المسلمين قائلة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ . . .} .
وصرّحت الآية اللاحقة بنفس المضمون قائلة: {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} .
توضيح المُراد:
الادّعاء القائم هو أنّ العبارة «والذين آمنوا» ـ في الآية التي نحن بصدد بحثها ـ مقتصرة على جماعة معيّنة من المؤمنين ، فولاية المسلمين بعد رسول الله لهذه الجماعة ، والشاهد على صحّة وتماميّة ذلك الآية التي سبقت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } والآية اللاحقة {وَمَن يَتَوَلَّ} ، فالآية الشريفة خطاب لكافّة المسلمين ، فالمراد بالضمير المتّصل في جملة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهَ} هؤلاء المسلمون ، والمعنى: «أيّها المسلمون إنّما وليكم الله ورسوله وبعض من المؤمنين» .
أمّا إذا قلنا إنّما وليّكم الله ورسوله وأنتم المسلمون جميعاً ، فإنّ هذا المعنى ليس بمعقول ، فإنّه لا يمكن أن يكون للمسلمين جميعاً الولاية على أنفسهم ، أفليس مثل هذا الجعل للحكم والمنصب لغواً؟ أو لا يوجب مثل هذا الأمر تصدّع وانهيار النظام الاجتماعي؟! .
أمّا الآية اللاحقة {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} أي أنّ كلّ من امتثل حكومة وولاية هؤلاء الأفراد بعد الله ورسوله ، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى ظهور مجتمع قوي مقتدر وحزب يعرف باسم حزب الله وستكون له الغلبة على الدوام .
(الصفحة51)
بناءً على هذا فإنّ هناك طائفة تقرّ بهذه الولاية «ومن يتولّ الله . . .» وهناك طائفة يجب أن تكون هي المتولّية للأُمور ، وعليه : فعبارة «ومن يتولّ الله» إنّما تعيّن وظيفة المسلمين في الانقياد للجماعة ذات الولاية ، والعبارة «والذين آمنوا» تعيّن ولاة المسلمين «إنّما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا» . وبناءً على ما ذكر فإنّ العبارة «والذين آمنوا» حصرت ولاة الإسلام في جماعة خاصّة وطبقة معيّنة محدودة ، إضافة إلى ما ذكرنا من أنّ الآية الكريمة {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ...} قد حثّت المؤمنين على الانضواء تحت ولاية تلك الجماعة المعيّنة وتشكيل حزب هو حزب الله الذي يتمتّع المسلمون في ظلّه بالقوّة والمنعة بحيث لن تنالهم الهزيمة أبداً .
فالذي نستفيده من الآيات الثلاث:ـ
1 ـ تحذير الأُمّة من التراجع والنكوص عن دينها وخسارتها للمقام الذي حباها الله تعالى به ، وتذكيرها بعناصر القوّة من جهة أُخرى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. . .} .
2 ـ أنّ الأُمّة الإسلاميّة محتاجة إلى مَن يقودها ، ووليّ الأمر والقيّم على أُمورها هو الله والنبي ثمّ طائفة من المؤمنين .
3 ـ الاستجابة لهذه الولاية ستؤدّي ـ قهراً ـ إلى ظهور حزب قوي يتكفّل بغلبة الأُمّة على أعدائها وعدم الفشل والهزيمة .
قضية مهمّة:
كان بحثنا السابق يدور حول ظاهر الآية الشريفة . أمّا إذا أردنا أن نخوض في سبب النزول فإنّ المُسلّم به هو أنّ الآية المُباركة قد نزلت بشأن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . فقد ذكر أبو ذر الغفاري: أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى الظهر بالمسلمين ، فدخل فقير المسجد وسأل فلم يجبه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللّهمّ اشهد
(الصفحة52)
إنّي سألت في مسجد نبيّك فلم يعطيني أحد شيئاً ، وكان علي (عليه السلام) راكعاً ، فأشار إلى السائل بيده فانتزع خاتمه ، فلمّا رأى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفرغ من الصلاة قال: اللّهمّ إنّي أسألك ما سألك موسى (عليه السلام) في أخيه هارون فاستجبت له ، اللّهمّ اجعل عليّاً (عليه السلام) خليفتي ، اشدد به أزري وأشركه في أمري . قال أبو ذر: فوالله ما أتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاءه حتى نزل عليه جبرائيل بالآية {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ . . .}(1) .
هذه واحدة من عشرات الروايات التي أشارت صراحة إلى مصداق قوله . {وَالَّذِينَ آمَنُوا} ولا نرى حاجة للخوض في الروايات التي وردت في سبب النزول ; لأنّها صرّحت على سبيل القطع بأنّها نزلت في علي (عليه السلام) ، علماً أنّ منهج الكتاب إنّما يستند إلى القرآن لا الروايات . أمّا الحديث ، فقد أكّد أ نّ «والذين آمنوا» إنّما هم عدّة خاصة ، وليس للجميع النهوض بهذه الوظيفة الخطيرة المتمثّلة بالزعامة ، ولا ينبغي التصدّي لها إلاّ من قِبل أولئك الذين لهم صلاحية وأهلية التصدّي ، وأفضل نموذج للتصدّي لها هو علي (عليه السلام) .
إذن فالقرآن الكريم في هذه الآية المُباركة قد عيّن أئمّة المسلمين ، كما أشار إلى زعامة علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ولا يقتصر هذا الكلام على عُلماء الشيعة وكبار المحدّثين ، بل ذهب مفسّرو العامّة إلى أنّ هذه الآية قد نزلت في علي (عليه السلام) .
فقد شحن تفسير ابن كثير بعدّة روايات عن عتبة بن أبي حكيم ، وعن سلمة بن كهيل . وكذلك عن مجاهد وابن عباس بعدّة طرق ، وعن السدّي أنّ الآية قد وردت بحقّ علي (عليه السلام) (2)، ومن أراد المزيد فليراجع ما سطّرته العامّة من كتب بهذا الشأن .
وبناءً على ما سبق فإنّ الآية {وَالَّذِينَ آمَنُوا} قد أشارت إلى موقع بعض
(1) مجمع البيان 3: 346 ـ 347 .
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2: 71.
(الصفحة53)
المسلمين الذين لهم كفاءة التصدّي لاُمور المسلمين ، وهذا ما عليه عُلماء الشيعة والسُنّة في أنّ الآية نزلت بشأن علي (عليه السلام) وزعامته .
وحيث لا يعقل نهوض جميع المسلمين بمنصب الزعامة والإمامة ، وكان من القطع أن تكون آية {وَالَّذِينَ آمَنُوا} محصورة في بعض الأفراد الأكفّاء ، وترى الشيعة بأنّ علي (عليه السلام) من هؤلاء الأفراد ، كما ترى العامّة أنّ المُراد بالآية هو مولى المتّقين علي (عليه السلام) ، كان لابدّ من القول على ضوء اعتراف الفريقين وبالاستناد إلى عدم معقولية كون المُراد بالآية {وَالَّذِينَ آمَنُوا} عموم المسلمين ، أنّ القرآن الكريم قد صرّح في هذه الآية بإمامة المسلمين وقلّدها ربيب النبوّة علي بن أبي طالب (عليه السلام) .
إشارة إجمالية إلى بعض الروايات الواردة
في تفسير الآيات الدالّة على الإمامة
يسرّنا هنا أن نتناول بالبحث بعض الروايات لنستمع من خلالها إلى ما صرّح به نفس الأئمّة (عليهم السلام) بشأن ما أوردناه سابقاً من زعامتهم وإمامتهم:
1 ) وردت في كتاب وسائل الشيعة رواية عن الصدوق بسند معتبر عن المعلّى ابن خنيس ، عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: قلت له: قول الله عزّوجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الاَْمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}(1) فقال: «عدل الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده ، واُمرت الأئمّة أن يحكموا بالعدل ، واُمر الناس أن يتّبعوهم»(2) .
2 ) كما وردت رواية عن الكليني:
محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن محمّد بن عيسى ، عن أبي عبدالله المؤمن ، عن ابن مسكان ، عن سليمان بن خالد ، عن أبي
(1) سورة النساء: الآية 58.
(2) الفقيه 3: 2 ح 2، وعنه وسائل الشيعة 27: 14، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 1 ح33084 .
(الصفحة54)
عبدالله (عليه السلام) قال: «اِتّقوا الحكومة; فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ»(1) .
3 ) وروى العياشي أنّ سعد قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الآية الشريفة: {لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِن أَبْوَابِهَا}(2) فقال: «آل محمّد (صلى الله عليه وآله) أبواب الله وسبيله والدعاة إلى الجنّة والقادة إليها والأدلاّء عليها إلى يوم القيامة»(3) .
4 ) نقل حمزة بن الطيّار أنّه عرض على أبي عبدالله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتّى إذا بلغ موضعاً منها قال له: «كفّ واسكت ، ثمّ قال أبو عبدالله (عليه السلام) : إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لاتعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلوا عنكم فيه العمى ، ويعرّفوكم فيه الحقّ . قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}(4)»(5) .
5 ) ونورد هنا بعض ما أوصى به أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكميل: «يا كُميل لا تأخذ إلاّ عنّا تكن منّا... يا كُميل هي نبوّة ورسالة وإمامة ، وليس بعد ذلك إلاّ موالين متّبعين أو عامِهين مبتدعين ، إنّما يتقبّل الله من المتّقين»(6) .
6 ) الحديث المتواتر والمتّفق عليه من العامّة والخاصّة والمعروف بحديث الثقلين الذي لم ينكره أحد ، وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قاله على سبيل اليقين ، فقد عيّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا الحديث وظيفة المُسلمين إلى يوم القيامة ، معتبراً فيه القرآن
(1) الكافي 7: 406 باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام ح1 .
(2) سورة البقرة: الآية 189.
(3) تفسير العيّاشي 1: 86 ح 210، وعنه بحار الأنوار 2: 104 .
(4) سورة النحل: الآية 43 وسورة الأنبياء: الآية 7.
(5) الكافي 1: 50 باب النوادر ح10 .
(6) تحف العقول: 171 و 175.
(الصفحة55)
والعترة الثقلين الذين لن تضلّ الاُمّة إذا ما تمسّكت بهما إلى يوم القيامة ، فقال (صلى الله عليه وآله) : «إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(1) .
7 ) هناك رواية صحيحة أو حسنة في كتاب الوسائل عن محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه وعن عبدالله بن الصلت جميعاً ، عن حمّاد بن عيسى ، عن حريز بن عبدالله ، عن زرارة ، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث في دعائم الإسلام ، قال: «أما لو أنّ رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان»(2) .
فالذي يتّضح من هذا الحديث أنّ الإتيان بالتكاليف والوظائف الإسلاميّة لابدّ أن يكون من خلال إرشادات وولاية الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، فهم زُعماء الدين وقادة المُسلمين ، ولابدّ من تفويض الأعمال إليهم بهدف حفظ النظام الاجتماعي ومنع الفوضى والهرج والمرج .
8 ) ورد في الكتاب المذكور عن محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد ، عن الحسين بن سعيد ، عن النضر بن سويد ، عن عاصم بن حميد ، عن أبي بصير يعني المرادي ، عن أبي عبدالله (عليه السلام) ـ في قول الله عزّوجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(3)ـ «فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذكر ، وأهل بيته المسؤولون وهم أهل الذكر»(4) .
(1) كفاية الأثر: 87 ; مختصر بصائر الدرجات: 213 ح 254; المراجعات: 279 .
(2) وسائل الشيعة 1: 119 ح298 نقلاً عن الكافي 2: 19 ح5 .
(3) سورة الزخرف: الآية 44.
(4) وسائل الشيعة 27: 62 ح33203 .
(الصفحة56)
دراسة ضروريّة
استفاضت لدينا الروايات ـ كهاتين الروايتين ـ التي صرّح فيها الأئمّة (عليهم السلام) قائلين: نحن أهل الذكر وحملة القرآن ، وعلى الأُمّة أن تأخذ بهدينا في عملها بالقرآن ، فهذه الروايات تفوّض المسؤولية للأئمة (عليهم السلام) ، وعليه : فلابدّ أن يُناط حلّ المشاكل وإرشاد الأُمّة والأخذ بيدها ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار تفسير الأئمّة (عليهم السلام) للآية الكريمة ـ بزعماء الدين .
أمّا ما ورد في الآية الشريفة {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} فإنّه يدعونا إلى التأمّل في سورة الزخرف حيث تقول: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاط مُسْتَقِيم* وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}(1) ، فقد قال الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام) : نحن قوم النبي (صلى الله عليه وآله) .
فالآية تصرّح بأنّ الصراط المستقيم هو القرآن ، وقد قلّدك القرآن ـ والأئمّة من بعدك ـ مسؤولية خطيرة ، كما أفاض عليكم هذا الكتاب علماً وإدراكاً ليس لكم أن تنهضوا بعبئه ومسؤوليته .
أفلا نفهم من هذه الآية وبضميمة الرواية أنّ المسؤولية التي كلّف بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد كلّف بها الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) أيضاً؟ أو ليست هذه الآية في مقام نصب الأئمّة كهداة للاُمّة الإسلامية على غرار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ؟
بلى ، الآية الكريمة على ضوء تفسير الإمام قد جعلت الأئمّة كرسول الله (صلى الله عليه وآله) هداة أدلاّء على الطريق ، وأنّ الصراط الذي يسلكونه هو الصراط الذي أوحاه لهم القرآن الكريم ، وأ نّ هذه الهداية وظيفة خطيرة ومسؤولية عظيمة بحيث إنّهم يُسألون عنها يوم القيامة: «وسوف يُسئلون» .
إذن فهم الأئمّة والزُعماء إلى يوم القيامة ، وعليهم أن ينهضوا بهذه المهمّة
(1) سورة الزخرف: الآيتان 43 ـ 44 .
(الصفحة57)
ولا يتوانوا في أدائها ، وذلك أنّهم مسؤولون عنها يوم القيامة .
وبناءً على ما تقدّم فالذي نستفيده من الآية الكريمة ورواية التفسير:ـ
1 ـ أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كالنبي (صلى الله عليه وآله) هم هُداة وأدلاّء على الطريق .
2 ـ أنّهم إنّما يستندون إلى الآيات القرآنية في هذه الهداية .
3 ـ أنّ وظيفة الأئمّة كوظيفة النبي بالتمسّك بالقرآن من أجل الهداية .
4 ـ أنّ هذه الوظيفة ـ أي هداية الأُمّة بالقرآن ـ هي وظيفة أبديّة إلى يوم القيامة .
5 ـ أنّ مسؤوليّة الأئمّة كالنبي في القيام بهذه الوظيفة ، فهي مسؤولية كبيرة وليس لهم أن يقصّروا في أدائها .
6 ـ الأئمّة كرسول الله (صلى الله عليه وآله) سيسألون يوم القيامة عن القيام بهذه الرسالة الخطيرة .
7 ـ للأئمة كما لرسول الله (صلى الله عليه وآله) إحاطة تامّة بالقرآن وأسراره ; لأنّه ذكر لهم كما هو ذكر لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . وعليه : فإنّ الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) هم زُعماء مسؤولون ، وأنّ القرآن قد حباهم بشرائط الإمامة وألهمهم الإحاطة باُمور المسلمين ، وعليهم أن يقوموا بوظيفتهم بإمامة كافّة شؤون المسلمين وحلّ مشاكلهم وتلبية متطلّباتهم ، وأن يأخذوا بأيديهم من خلال التمسّك بالقرآن إلى شاطئ الأمان والسعادة والفلاح .
ملاحظة : لقد تواترت الروايات التي تجاوزت حدّ الاستفاضة في تفسير هذه الآية ، ومن أراد المزيد من أجل الوقوف على صحّة هذا الإدّعاء فليراجع الأخبار الواردة بهذا الشأن .
8 ـ ورد في الكتاب المذكور والباب المذكور عن الصدوق في كتاب الأمالي وعيون الأخبار ، عن علي بن الحسين بن شاذويه ، وجعفر بن محمّد بن مسرور
(الصفحة58)
جميعاً ، عن محمّد بن عبدالله بن جعفر الحميري ، عن أبيه ، عن الريّان بن الصلت ، عن الرضا (عليه السلام) ـ في حديث ـ أنّه قال للعلماء في مجلس المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} (1)، فقالت العلماء: أراد الله بذلك الاُمّة كلّها ، فقال الرضا (عليه السلام) : «بل أراد الله ـ عزّوجلّ ـ العترة الطاهرة»(2) .
بحث مختصر:
الاصطفاء : على وزن الافتعال وأصله من الصفو ، والصفو يعني الخالص ، وعليه : فإنّ الاصطفاء يعني الانتخاب الخالص ، والمصطفى يعني المنتخب الخالص «صفوة الشيء : خالصه» .
عباد جمع عبد ، والعبد هنا بمعنى العابد ، لا بمعنى المملوك ; لأنّ جمع العبد بمعنى المملوك هو عبيد .
قال الراغب الإصفهاني في المفردات: «وجمع العبد الذي هو مسترقّ عبيد ، وجمع العبد الذي هو عابد عباد» .
ويؤيّد القرآن الكريم قول الراغب ، فقد نعتت جميع الآيات القرآنية التي تحدّثت عن الكُفّار الذين اتّبعوا هوى أنفسهم والأوثان بالعبيد ، بينما أطلقت لفظ «العباد» على من عبدالله سبحانه ، ولم تستعمل لفظة «العباد» في مقابل «الإماء» إلاّ في آية واحدة هي {وَأَنكِحُوا الاَْيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}(3) ، ولا يبعد هنا أن تكون لفظة «العباد» قد جاءت من أجل التشاكل اللفظي .
(1) سورة فاطر: الآية 32.
(2) وسائل الشيعة 27: 72، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 7 ح 33233 عن أمالي الصدوق: 615 ح 843 و عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 228 ب 23 ح 1 .
(3) سورة النور: الآية 32 .
(الصفحة59)
ويؤيّد ذلك ما ورد في النصوص الفقهيّة وآثار الأئمّة (عليهم السلام) ، حيث وردت كلمة «العبيد والإماء» حيثما كان الكلام عن العبد المملوك . على كلّ حال فإنّ العباد في الآية الشريفة هي جمع عابد .
فقد ردّ الإمام الرضا (عليه السلام) على العُلماء الذين قالوا: إنّ المراد بالآية الشريفة الأُمّة كلّها ، بأنّ الله أراد بها العترة الطاهرة ، فاحتجّ (عليه السلام) بالآية {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} حيث المصطفى من العباد غير جميع العباد ، فهو أضيق دائرة ، ولمّا كان المصطفى يعني المنتخب الخالص ، فإنّهم من العباد المخلصين والموحّدين ، ولذلك لابدّ أن يكون هؤلاء الأفراد مصطَفين تامّي الإخلاص في عبادة الحقّ .
وبعبارة أوضح: أنّ مُراد الآية: أخلص الناس في عبادة الحقّ من بين عباد الله الموحّدين ، وليس هناك بين الناس أخلص في عبادة الله تعالى ـ بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ غير الأئمّة (عليهم السلام) .
ولذلك قال (عليه السلام) : ليس المراد بالعباد ـ هنا بقرينة الاصطفاء ـ سوى العترة الطاهرة ، فالقرآن يقول: ليس لكلّ فرد وراثة القرآن ، وإنّ وراثته مختصّة بمن اصطفينا من العباد ، وقال الرضا (عليه السلام) : نحن ورثة القرآن ، فالأئمّة هم ورثة الكتاب ، ولمّا كان الانتقال مُعتبر في مفهوم «الإرث» يتبيّن أنّ ما أفاض القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله) إنّما ينتقل إلى الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) ، ونحن نعلم أنّ القرآن إنّما أفاض على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) العلم والحكمة والإمامة والولاية والمسؤولية وأمثال ذلك ، وعليه : فالأئمّة إنّما يرثون هذه الأمور عن النبي (صلى الله عليه وآله) . فكما أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عالم بدقائق القرآن وأسراره ، فالأئمة (عليهم السلام) عالمون بها بالوراثة ، وكما أنّ النبي يدرك بالوحي بطون القرآن ، فإنّ للأئمّة مثل هذا الإدراك والإحاطة بالوراثة .
وأخيراً فكما أناط القرآن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وظيفة الزعامة وتفسير الأحكام وبيان التعاليم وإمامة الأُمّة الإسلامية فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) قد ورثوا عنه هذه الوظائف ، ولذلك
(الصفحة60)
لمّا كان يوم الدار ـ أوائل بعثة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) ـ جعل النبي (صلى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) خليفته ونصبه إماماً ، فقال: «هذا أخي ووارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي»(1) وقد صرّحت بعض الروايات بأنّ عليّاً (عليه السلام) قال: «يا رسول الله وما أَرِثُك؟» ، قال: «ما ورثت الأنبياء قبلي: كتاب الله وسنّتي»(2) .
خلاصة ما مرّ:
إنّ الإسلام ليس دين الاعتزال والرهبة ، بل دين يشتمل على برامج وتعاليم من شأنها تنظيم حياة البشرية وضمان المعيشة الهنيئة التي يسودها العدل والإنصاف والمساواة والإخاء والتساوي في الحقوق الاجتماعية المقرّرة لكلّ طبقة بما يصونها عن السلب والنهب ، وإنّ هناك حاجة ماسّة في هذا الدين لتدوين دستوره المتين الذي يقف حائلا أمام الظلمة ، فلا يدعهم يمدّون أيديهم ليعتدوا على حقوق الأُمّة ، كما يتكفّل بحفظ الشخصية الإنسانية لكلّ فرد في المجتمع من سطوات الجبابرة وعداونهم ، وتتحقق في ظلّه العدالة الاجتماعية والتمتّع بالحقوق الفردية والجماعية وارتفاع المستوى العلمي والثقافي للناس ونيلهم السعادة الدنيوية التي تؤهّلهم لنيل الخلود واستثمار الإيمان الذي يدعو إلى كسب الفضائل الأخلاقية والمعنوية ، وممّا لا شكّ فيه أنّ القرآن الكريم هو دستور الإسلام الذي تكفّل بتحقيق هذه الأهداف: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ}(3) .
إلاّ أنّ هذا القرآن قد تعرّض لشؤونُ حياة الأُمّة من خلال آياته الشريفة ، ولا تتفق هذه الآيات بأجمعها في كيفيّة شرحها لمفردات الحياة التي تعيشها الأُمّة ،
(1) علل الشرائع 1: 170، ب 133 ح 2، وعنه بحار الأنوار 18: 178 ح 7 .
(2) تفسير فرات الكوفي: 227 ح 304، بحار الأنوار 38: 346 ح 21، تفسير الميزان 8 : 117 .
(3) سورة الإسراء : الآية 9 .
|