(الصفحة261) (الصفحة262) (الصفحة263) (الصفحة264) (الصفحة265) (الصفحة266) (الصفحة267) (الصفحة268) (الصفحة269)
لقد ظنّ بأنّ حركة الحسين (عليه السلام) كانت تتجه صوب الكوفة والأخذ بزمام الاُمور والسيطرة على الحكومة ، وهذا الهدف لا ينسجم والعلم بالشهادة ، بل لم يكن الإمام يظنّ بأنّه يرد كربلاء ويقتل فيها ، وذلك لأ نّ هذه الشهادة لم تكن لصالح الإسلام ، بينما ليس هناك من منافاة عقلائية بين الحركة إلى الكوفة والعلم بالشهادة ، كان عنوان الحركة هو الكوفة والأخذ بزمام الاُمور ، كي لا ينبري (1) سورة النساء : الآية 155 . (2) من مراثي آية الله الكمپاني . (الصفحة270) أحدهم ويتخرّص بأنّ الاُمّة تأهّبت لامامة الحسين (عليه السلام) فرفضها ، ولا يتسرّب الشكّ إلى النفوس بأنّ الزعامة لو كانت حقّاً ثابتاً له لما رفضها ، فقرّر الإمام أن يخرج إلى الكوفة من أجل إحياء الإسلام ، فقد ماتت السُنّة وأُحييت البدعة ، ولما كان يعلم بشهادته وعدم درك هدفه ، استعدّ للتضحية والفِداء ، أمّا الكوفة ومقاومة حكومة يزيد ليكتب في التأريخ بأنّ الحسين (عليه السلام) ثار من أجل إحياء الإسلام وإمامة الاُمّة وإنقاذها من بؤسها وشقائها ، وهذا ما سيؤدّي إلى قتله وفوزه بلقب سيّد الشهداء (عليه السلام) ، ولو صرّح الإمام بأنّي أذهب لاُقتل في كربلاء ، لما استطاع التأريخ أن يصيب في تقييم الحادثة وأنّ الهدف هو إحياء الإسلام ، في حين يعلم الإمام أنّ هذا الهدف لا يتحقّق إلاّ في ظلّ التضحية والشهادة . المعطيات الخالدة للحادثة : لقد فتحت حادثة كربلاء منذ انبثاقها الباب على مصراعيه أمام انبعاث الإسلام من جديد ، أمّا وقوع الحادثة فقد أفرز حقّانية الحسين وكونه الإمام الحقّ ، وبطلان حكومة يزيد وكونه إمام الضلالة الذي يهدف إلى القضاء على الإسلام ، لقد جهدت الأجهزة الإعلامية لحكومة معاوية وابنه يزيد على تقديم الإمام كفرد خارجي لا يمت بصلة إلى الدين ، وقد تفاجأ أهل الشام لخبر قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) في محراب العبادة ، ليتساءلوا مع أنفسهم: أفيصلّي علي حتّى يُقتل في المحراب! كان معاوية ينفق الأموال الطائلة دون حساب من أجل وضع الأحاديث ضدّ أهل البيت (عليهم السلام) ، في حين أثبت الحسين (عليه السلام) في كربلاء أنّ أهل البيت أصحاب حقّ ، وقد بلغوا كربلاء مظلومين للدفاع عن الدين ، يزيد شارب الخمور وهو الفاسق عبد الدنيا والشهوة ، الذي لا يتحرّج عن سفك دم الرضيع ، ويعمد بعد (الصفحة271) القتل والفتك إلى إحراق خيام النساء وسلبهنّ ما عليهنّ ، لقد أحبطت حادثة كربلاء في أوائل أيّامها كافّة دعايات معاوية ، كما أفهمت عسكر يزيد أنّ الحسين (عليه السلام) ضحيّة شهوات يزيد والحقد الدفين لعلي (عليه السلام) . لقد كشفت خطبه ذلك اليوم عن كمالات الإمام (عليه السلام) ، عن ولايته وإمامته وصلاحيته وزعامته وعلمه ودرايته وشجاعته وفصاحته وتضحيته وحقّه ، بما لا يدع مجالا لرواسب دعايات الجهاز الأموي . وهذا يزيد الذي جيّش الجيوش وشقّ وحدة الاُمّة الإسلامية في قتاله للحسين (عليه السلام) ! بحيث اندفع البعض لقتاله وهو «يتقرّب إلى الله بدمه»! إلاّ أنّ نفس الحادثة والخطابات الحماسية للإمام أزالت الإبهام والغموض وأوضحت الأمر ، بما جعل بعض عسكر يزيد يلتحق بركب الإمام ، ويرتفع صوت البعض الآخر بالاعتراض والاستنكار . لقد أثبت الحسين (عليه السلام) في ذلك اليوم أنّ الباغي هو يزيد ، كان لا ينفكّ عن إيراد خطبه وكلماته التي عرّت التيار الأموي وكشفت زيفه للناس ، الذين ليس لهم سبيل سوى تصديق ما كان يقوله الإمام . لقد اذعن العدوّ لصحّة ما أورده الإمام (عليه السلام) : «إنّ عليّاً كان أوّلهم إسلاماً ، وأعلمهم علماً ، وأعظمهم حلماً ، وأنّه وليّ كلّ مؤمن ومؤمنة»(1) . وهو الذي هتف عالياً أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»(2) . وأخيراً هو الذي جعل العدوّ يشهد بأنّ حسيناً إنّما يقتل ثأراً من علي (عليه السلام) وهو الذي جعل الحرّ بن يزيد الرياحي يعيش الخيار بين الجنّة والنار فيلتحق بركب الحسين (عليه السلام) . (1) الأمالي للصدوق: 223 مجلس 30 قطعة من ح 239، وعنه بحار الأنوار 44: 318 قطعة من ح 1 . (2) مسند أحمد بن حنبل 4: 8 ح 10999 و ص 125 ح 11954 و ص 129 ح 11618 . (الصفحة272) إذن ، فقد ذهبت أدراج الرياح جميع تلك المدّة المديدة من الدعايات المسمومة خلال المرحلة الاُولى من حادثة كربلاء ، ثمّ اتّضح ظلم يزيد وجوره ، وما زالت الحادثة الحسينيّة إلى يومنا هذا تدمع العيون وتجدّد الأحزان كلّ عام كما تجنّد الطاقات وتعبّئها باتجاه العدل والحرّية . النظرة السطحية : قد يظنّ البعض بأنّ حادثة كربلاء قد ضاعفت قدرة بني اُميّة ، وأنّ فقدان القائد قد أدخل اليأس على قلوب الناس ، كما أدّت بعيالات الحسين (عليه السلام) إلى الأسر والسبي ، دون الالتفات إلى أ نّ هذه الحادثة قد هزّت عرش يزيد وقلبت خططه وأفكاره رأساً على عقب ، فكلّنا نعلم أنّ يزيد قد هَمّ بتقويض صرح الإسلام وهدم معالم الدين ، وكان يتحيّن الفرص للثأر من بدر وحنين ، في حين دفعت كربلاء بيزيد لأن يتظاهر بالدين ويلقي باللائمة على ابن مرجانة في تعجيله بقتل الحسين (عليه السلام) . يأس الاُمّة: أمّا الاُمّة فلم تشعر باليأس بقدر ما عاشت حالة من الثورة والغليان والغضب والنقمة ، الأمر الذي تمخّض عن قيام المختار ، ولم تستطع الزعامة الغاشمة مواصلة حكومتها إلاّ بقوّة الحديد والنار . نعم ، لقد آتت تلك الحادثة أُكُلها منذ لحظاتها الاُولى ، ثمّ أعقبتها تلك الحملة الإعلامية التي قادها أهل البيت بعد الحادثة بيومين ، لتشهد الكوفة من جديد الهدير العلوي المدوّي على لسان كريمته زينب الكبرى ، ففضحت يزيد وأسقطت الأقنعة عن وجهه الكريه ، كيف يزعم أنّ سبي زينب لم يكن من ضمن أهداف (الصفحة273) الإمام (عليه السلام) ؟ يا له من زعم أجوف; ما الذي حدا بالإمام لاصطحاب النسوة وهو يعلم بقتله في كربلاء؟ ليس هنالك ما يدعو إلى القلق فيما لو بقين في الحرم المكّي الآمن؟ ألا يشعر الإمام بالقلق على عيالاته بالإتيان بهنّ إلى كربلاء وهو يعلم بقتله ، فهل هنالك مثل هذا القلق لو بقين في مكّة؟ لو بقين في مكّة لما كان لهنّ من ملاذ بينما يتمتعنّ بالحصانة السياسية لو رافقن الحسين (عليه السلام) !! أو لم يبق ابن عباس ومحمّد بن الحنفية في مكّة أو المدينة؟ لو لم يكن الأسر والسبي من ضمن الأهداف ، أفلا يعتبر الحسين (عليه السلام) مُقصّراً؟ فالحسين (عليه السلام) كان يعلم بأنّه مقتول ، أفلم يحتمل أنّ ذلك القتل سيؤدّي إلى سبي عيالاته ؟ وعلى فرض هذا الإحتمال فهل هو احتمال منجّز؟ اللهمّ إلاّ أن يُقال: إنّ الإمام لم يكن قد تكهّن بعاقبة الأمر! طبعاً إن كنت ممّن يؤمن بأنّ الإمام معصوم بعيد عن الزلل والخطأ فكيف تحلّ هذا الإشكال؟ وكيف توفّق بين هذه التناقضات؟ نفترض أنّك تعتقد بأنّ الإمام لم يكن عالماً بعاقبة الأمر منذ البداية ، ولكن حين اعترضه الحرّ وقد اتّضحت عواقب الاُمور كما ذكرت فلِمَ لَمْ يقترح رجوع نسائه؟ هل كان الحرّ مأموراً بتسليم عيالات الحسين (عليه السلام) إلى عبيدالله أيضاً؟ لو كان الحسين (عليه السلام) اقترح على الحرّ رجوع عيالاته ألم يكن ذلك كافياً في قبول عذر الحرّ عند عبيدالله؟ لقد أقررت بعذره حيث قلت: لو ترك الحرّ الإمامَ يرجع لما آخذه عبيدالله ، فلم لم يقترح الإمام رجوع عيالاته؟ ولما شعر بأنّ الخطر قد أحدق به ـ كما زعمت ـ فهل الإصرار على اصطحاب أولئك الأعزّة يُفيد عدم التنبؤ بوقوع الأحداث؟ إذن لا يمكن القول بأنّ الأسر لم يكن من الأهداف المرسومة ، بل من المتيقّن كان جزءاً مكمِّلا للشهادة ، فكان لابدّ لتلك القافلة من القيام بمهمّتها الإعلاميّة . فوظيفة الحسين (عليه السلام) التضحية من أجل الإسلام ، بينما كانت مهمّة زينب تكمن (الصفحة274) في تغطية وقائع كربلاء والتعريف بشخص الإمام وفضح يزيد والحيلولة دون ضياع دم الإمام وسائر الشهداء . خطبة زينب الكبرى : لقد فهمت الاُمّة من خطبة زينب في الكوفة أنّ حكومة يزيد إنّما استهدفت القضاء على الإسلام ومحو آثار الرسالة ، وقد حال الحسين (عليه السلام) بدمه الشريف دون هذا الهدف ، فالحسين (عليه السلام) لم يمت ، فهو قتيل في سبيل الله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}(1) بل يزيد هو الذي قتل وقذف بنفسه في الهاوية ، فالإسلام باق ويزيد زائل . وهذا هو المنطق الذي نهجه علي بن الحسين (عليه السلام) في مسجد الشام ، لـمّا سمع الأذان وأقرّ الشهادة الثانية بلحمه ودمه وجسمه وكلّ شيء في جسده ، ليثبت حياته من خلال حياة الرسالة والشهادة بالنبوّة لجدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، ولم يفلح يزيد في محوه للرسالة ، وعليه : فقد كانت حادثة كربلاء ـ منذ انعقاد نطفتها ومروراً بأحداثها وما أعقبها من سبي وأسر ـ عنصر فاعل يفيض حيويّة على الإسلام . المنطق الغاشم : طبعاً ، يمكن لمنطق القوّة ـ الذي يستند إلى القمع وكَمّ الأفواه والتلويح بالحديد والنار ـ أن يشيع الخوف والهلع والرعب والاضطراب كسحابة في سماء الاُمّة ، إلاّ أنّ فجر الحرية والعدالة إنّما يشقّ لا محالة عباب هذه السحب الزائفة ، فينهض حماة الدين ليحطّموا تلك القوى الفارغة . وعوداً على بدء فإنّ المؤلّف قد ساء فهم وجود الإمام وعدمه ، فقد افترض (1) سورة آل عمران : الآية 169 . (الصفحة275) أنّ الإمام لو كان حيّاً وأصبح زعيماً للمسلمين ودارت القيادة الإسلاميّة حول محوره ، لساد العدل والقسط ربوع العالم الإسلامي ، وبالتالي لتحقّقت حكومة العدل التي نتطلّع إلى تشكيلها من قِبل إمام العصر والزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف ، فتزول الفرقية الطارئة على الدين ولا تبقى إلاّ الطائفة الإمامية الحقّة التي تمثّل الدين ، وحين افترض فقدان الإمام وعدمه ظنّ بأنّ هذا العدم يتضمّن زوال كلّ شيء بما فيه الإسلام واستفحال الظلم والجور والطغيان اليزيدي! وعليه : فيخلص من خلال الفرضين إلى أنّ شهادة الإمام قد أدّت إلى ضرر عظيم لحق بالإسلام العزيز . وهنا يكمن الخطأ الذي ارتكبه المؤلّف في إطلاق العنان لخياله في أن يسرح ويمرح كما يشاء . لنفترض أنّ الحسين (عليه السلام) قد انتصر ـ عسكرياً ـ على يزيد وتولّى الحكم ، فهل ستسود الأحكام الإسلامية والتعاليم القرآنية حقّاً على جميع أنحاء المعمورة ، بحيث يشهد العالم الإسلامي المترامي الأطراف اندحار الجهل والاضطراب والظلم والفوضى وسيادة العدل والمواساة والمساواة والأمن والاستقرار و . . . ؟ لا نعتقد بأنّ الأمر كذلك . وبالطبع فإنّ هذا ليس بمتعذّر على الإمام الحسين (عليه السلام) في أن يملأ العالم بهذه المفاهيم السامية ، إلاّ أنّ هذا الأمل مشروط باندحار الأشقياء والجهّال والطغاة وإزالة كافّة العراقيل التي تعترض سبيل الإمام ، ولا نرى لحدّ الآن مَن تمكّن من مثل هؤلاء الزعماء من اجتثاث جذور الظلم والجور وإبادة صروح الجهل والحمق وتطهير المجتمع من دنس الأرذال والأوباش والأشقياء وإخضاعهم لمنطقهم وسلطنتهم . فأيّ من أنبياء الله طبّق مثل هذه المفاهيم والأهداف؟ هل استطاع موسى (عليه السلام) بيده البيضاء وعصاه أن يخلق من بني إسرائيل مجتمعاً دينياً متطوّراً ويجتثّ جذور الوثنية والسامرية؟ فلم تجفّ أرجلهم من الماء حتّى طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يجعل (الصفحة276) لهم إلهاً كما كان للآخرين ، وفي نهاية الأمر يخبر القرآن عنهم بقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْذِلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}(1) . وهذا نبيّ الإسلام أعظم زعيم عرفه العالم الإنساني ، فرغم جهوده الجبّارة ونجاحه في نشر رسالة السماء في أنحاء العالم ، إلاّ أنّه لم يستطع أن يجعل الإسلام بكماله وتمامه هو الحاكم المطلق للعالم . هل استطاع نبيّ الإسلام إبّان حياته أن يضع الأئـمّة الأطهار (عليهم السلام) صراحة في مواقعهم؟ نعم ، بعد كلّ تلك المدّة من الزعامة والجهود المضنية في رفع مستوى الاُمّة وتعويدها على ممارسات الدين ومفاهيمه وربطها بعجلة الحضارة والرقيّ والتمدّن وإنقاذها من الجهل والوثنية والتعنّت والتعصّب والمنطق الغاشم لأمثال أبي سفيان وصنمية أمثال أبي جهل ، طرح أواخر حياته الشريفة قضية الغدير التي صرّحت بخلافة علي (عليه السلام) ، فأطلق ذلك الرجل الذي كان قربه ـ وقد تغذّى على مفاهيم الإسلام ـ عبارته المعروفة «إنّ الرجل ليهجر»(2)! هل استطاع الإسلام آنذاك إجتثاث جذور اليهود؟ هل استقطب إليه النصارى؟ هل استطاع إفهام تلك البشارة الصريحة والميثاق الغليظ الذي اشتملت عليه التوراة والإنجيل بشأن نبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) ويجعلهم يذعنون لصحّة ما يقول؟ وهل استطاع النبي (صلى الله عليه وآله) أن يخضع كافّة تلك الحكومات الجبّارة لحكومته ويجعلها تنضوي تحت لواء الإسلام؟ وهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، ألم يتزعّم الاُمّة ويأخذ بزمام الاُمور؟ ألم تندفع إليه الجماهير وتضطرّه لقبول الخلافة؟ وعليه : فقد امتلك الجيش الجرّار والإمكانات وما من شأنه أن يجعل الحكومة تطبّق الأهداف القرآنية (1) سورة البقرة: الآية 61 . (2) مسند أحمد 1: 760 ح 3336 . (الصفحة277) المقدّسة ، أمّا زعامته وعلمه بأوضاع العالم الإسلامي وشجاعته واقتداره وارتشافه من ثدي الوحي وتتلمّذه على يد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فحدّث ولا حرج ، ولكن ألم تشهد هذه الزعامة منذ انبثاقها ذلك التمرّد والعصيان ، ولاسيّما من أولئك الذين لم يروق لهم عدل علي (عليه السلام) ، فرفعوا لواء المعارضة حتّى زجّوا بالإمام إلى ميادين القتال ، فكانت أوّلها معركة الجمل ، ألم يقل القرآن: {وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ}(1) فهل قرّت عائشة في بيتها أم تزعّمت العسكر لقتال علي (عليه السلام) ، فخاطبها بكلّ حزن وأسى «أهكذا أمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟»(2) . وأخيراً رأينا كيف امتدت زعامة معاوية واتّسعت رقعتها ومدى الدماء الزكيّة التي أُريقت من أجل تلك الزعامة . والذي نريد أن نخلص إليه هو بطلان تصوّر الموفّقية والنجاح التامّ لأئـمّة الدين في الزعامة ، ولو تزعّم الحسين (عليه السلام) الأمر لعانى ما عانى منه من قبله من الزعماء الربّانيين . سر عدم النجاح : لا شكّ أنّ السرّ في عدم موفقيّة هؤلاء القادة هو أنّ الاُمّة ليست توّاقة جميعها للعدالة ، كما أنّ الأفكار هي الاُخرى ليست مطهّرة من الشوائب ، فسنّة الله لم تجر بأن تبقى البشرية على فطرتها ولا تتأثّر بعوامل الانحراف ، بل غالباً ما تسيطر الشهوات والأطماع والخرافات والجهل على العقول ، وهذه هي العناصر التي تهدّد الحكومات ، ولذلك ليس لقوانين السماء حكومة عادلة موفّقة تماماً من أجل بسط العدل والقسط ، فهي لا تستطيع أن تقطع دابر المخلّين بالأمن والاستقرار وتحول (1) سورة الأحزاب: الآية 33 . (2) المناقب للخوارزمي: 189، مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3: 161 ، وعنه بحار الأنوار 32: 182 . (الصفحة278) دون جهلهم وأنانيّتهم ، بل هذا هو حال الأكثرية دائماً ، القوانين السماوية تتضمّن كافّة مفاهيم العدل والكمال والجلال ، إلاّ أنّها لا تفرض مفاهيمها على الناس قسراً ، فهي تطرح مشاريعها على الناس «وَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ»(1)، ولا يلومنّ إلاّ نفسه . إنّ هدف الأنبياء هو جمع الناس على الدين والعبادة التي تكفل الفلاح والسعادة ، إلاّ أنّ هذا الهدف لم يدخل حيّز التطبيق أبداً: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيِهمْ مِن رَسُول يَأْتِيهِمْ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ}(2) . فالدين الإسلامي الذي جاء لتكامل الإنسان إنّما يمتلك الجهاز القيادي الكامل الذي لا يألو جهداً في إشاعة مفاهيم القرآن ، إلاّ أنّهم وبدءاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) إنّما اصطدموا بجمّ من الحوادث التي تعرقل مشاريعهم وأهدافهم ، وقد بلغت هذه الحوادث ذروتها حتّى صوّرها أمير المؤمنين (عليه السلام) : «فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا»(3) . وحين تدافعت الاُمّة لإمارته ، ولم يكن له بدّاً من قبولها رغم نفرته منها قال: «لولا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم ولاسغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها . . .»(4) ألم ينتصر المسلمون في ظلّ قائدته ، ويتّسع نور الإسلام في أطراف الدنيا؟ أو يمكن تصوّر تقاعس الإمام عن القيام بوظيفته في الزعامة؟ الواقع هو أنّ الدافع الذي كان يقف وراء رفض الإمام (عليه السلام) للزعامة هو علمه بهذه الصدور التي ملأت حقداً وغيضاً وطمعاً ، فما أكثر أمثال طلحة والزبير ومعاوية ، ولم تكن سيرة علي (عليه السلام) (1) اقتباس من سورة الكهف: الآية 29 . (2) سورة يس : الآية 30 . (3) نهج البلاغة : 83 . (4) نهج البلاغة : 90 . (الصفحة279) تنسجم وتأمين الطلبات اللامشروعة ، ولذلك كان يعلم بأنّ هذه الخلافة التي تطالبه بالتزام جانب الحقّ والعدل وتطبيق الأحكام الإسلامية والمفاهيم القرآنية ستؤلّب عليه أعداء الدين ، وبغضّ النظر عن كلّ ذلك فقد قبل الخلافة وسار بالعدل وربط الاُمّة بدينها وقرآنها إلاّ أنّ ثمن ذلك كان باهضاً . وخلاصة القول هو أنّه لا ينبغي أن يظنّ المؤلف بأنّ الحسين (عليه السلام) لو أطاح بحكومة يزيد وأخذ بزمام الاُمور فإنّه سيتمكّن تماماً من إشاعة الحرية والفضيلة ومفاهيم القرآن وبسط العدل والقسط والمساواة والإنصاف ، فلو انتصر الحسين (عليه السلام) واندحر يزيد ، فهناك مئات الأفراد من أمثال يزيد الذين تلبّسوا بلباس الإسلام ، وهذا ليس ذنب الأئـمّة (صلى الله عليه وآله) ، بل ذنب هؤلاء المهووسين الذين يمثّلون عقبة كؤودة في طريق أئـمّة الدين وزعماء المسلمين . وما عليك إلاّ أن تتأمّل صرخات الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء ، كان نداء مظلوميّة الإمام: علامَ تقاتلونني ، ما ذنبي؟ أو يكون ذنبي في دعوتكم لي ورسائلكم التي وردتني أن أقدم علينا فليس لنا من إمام ، فقدمت إليكم؟ لقد صوّرتم برسائلكم مدى الظلم والجور بما يجعلني لا أتريّث في القدوم إليكم ، أولم ير المؤلّف أنّ جواب هذه الصرخات المظلومة كان قد تمثّل بالتهليل والتصفير والسخرية والسبّ والشتم .
فليوقن المؤلّف العزيز بأنّ الإمام (عليه السلام) حتّى لو فتح الكوفة ، لما واجه من أولئك الأقزام سوى ذلك الجواب ، طبعاً ستقف الطائفة المؤمنة الغيورة إلى جانب الحسين (عليه السلام) وتهبّ للدفاع عنه ، غير أنّ ناهبي بيت المال وقطّاع الطرق واللصوص (1) أعيان الشيعة 7: 26، والقصيدة بكاملها للسيّد رضا بن هاشم الرضوي الموسوي اللكهنوي . (الصفحة280) سوف لن يقفوا مكتوفي الأيدي . إذن ، فالصورة الاُولى التي رسمها المؤلّف ـ والتي تمثّل حلماً لذيذاً ـ لايمكن قبولها بأيّ شكل من الأشكال . الصورة الثانية : نريد أن نرى هل أنّ حادثة كربلاء وفقدان القائد ووقوع الاُمّة في قبضة يزيد كانت ضرراً على الإسلام أم نفعاً ؟ ولو كانت نفعاً فهل نبارك للأفراد الذين صنعوا هذه الحادثة المؤلمة ، أم لابدّ أن ندينهم ونلعنهم إلى يوم القيامة؟ لقد أشرنا باختصار إلى أنّ حادثة كربلاء قد انطلقت لصالح الإسلام منذ ولادتها ، وقد فشلت كافّة مخططات معاوية ومؤامراته وأمواله الطائلة التي أنفقها في إطار معاداة عليّ وأهل بيت النبوّة والرسالة (عليهم السلام) ، وكان الفضل في ذلك لركب الأسرى والسبايا الذي خاطب الرأي العام في كلّ مكان وفضح يزيد و كشف مظلومية الحسين (عليه السلام) ، والأهمّ من ذلك ما لعبته هذه الحادثة آنذاك من دور في التسلّل إلى أفكار يزيد ، فيزيد كان عازماً ـ منذ اليوم الأوّل لتربّعه على عرش السلطة ـ على القضاء على الإسلام وإبادة القرآن ، والتذكير والاعتزاز بعصر الآباء والأجداد، والتغنّي بالأصنام والأوثان ، فكان شعاره المشؤوم .
إلاّ أنّ يزيد نفسه قد استوقف تنفيذ هذه الخطّة بصورة موقّتة ، وقد علم بأنّ عليه أن يتحمّل الضربات تلو الضربات وينتظر زعزعة حكمه إذا أراد أن يقضي على الإسلام ويقتل الحسين (عليه السلام) ، ولاشكّ أنّ ذلك التوقّف كان معلولا لحادثة (1) تقدم في ص 207 . |