قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
(الصفحة101)
طالوت:
لقد استجاب النبي لطلب قومه ، فسأل الله ملكاً مقتدراً عليماً من أجل زعامة الجيش في القتال . فبعث الله طالوت ملكاً ، فأخبر النبي قومه بأنّ أميرهم المنَصَّب من قِبل الله هو طالوت .
أمّا طالوت فلم يكن من الطبقة المترفة الرفيعة في المجتمع ، ولم يكن ثرياً عزيزاً حسب الطرق المُتعارفة ، بل كان ينتمي إلى طبقة فقيرة معدمة في المجتمع ، غير أنّه كان قوياً لا يُضاهى في العلم والشجاعة ، وقد زاده الله بسطة في العلم والجسم ، إلى جانب خبرته بفنون القِتال . وله قلب سليم مملوء بحبّ الله ، وبالتالي فإنّ طالوت اُصطفي من قِبل الله من بين تلك الجماعة العظيمة للقيام بهذه الوظيفة الخطيرة ، وهنا التفت النبي إلى قومه المبعدين عن وطنهم والذين يئنّون من أسر نسائهم وفلذات أكبادهم لدى جالوت ، وهم يعيشون القلق والاضطراب من أجل استعادة وطنهم والإطاحة بجالوت ، فقال لهم: لقد بعث الله لكم طالوت فهبّوا للقتال تحت إمرته .
عادة ما تنصاع عامة الناس لمثل هؤلاء القادة ، أمّا الطبقة المرفّهة والمتْرَفة الثرية التي تعتقد بأنّ الثروة تضفي عليهم جمالا باطنياً زائداً على جمالهم الظاهري المزيّف ، وحيث كانوا يمتلكون الأموال فهم يرون أنفسهم جامعين لكلّ شروط الكمال ، وعليه فهم الذين ينبغي أن يتزعّموا البلاد ويأخذون بزمام الأُمور ، وعلى الجميع أن يخضعوا لإرادتهم وينصاعوا لأوامرهم ، فوقفوا بوجه نبيّهم قائلين: ماذا يعني هذا الاختيار؟ أنّى يكون له الملك علينا ولم يؤت سعة من المال؟ هو ليس بغني ليتزعّمنا وتكون له الإمرة علينا! أو لست إلى جانب زعامتنا يا رسول الله؟ أو ليس رسالة الأنبياء هي دعم الأغنياء؟ أوليس الدين من إفرازات البنية الفكرية للأغنياء ؟ وقد انبثقت دعوته لتأمين منافع ومصالح هذه الطبقة ، فكيف تبرّر قضية
(الصفحة102)
انتخاب طالوت؟ نحن لا نراه لنا زعيماً ، ولا نرى له من مقام ، والزعامة والقيادة من حقوقنا المسلّمة ، فلدينا الثروة والأموال . هذه هي اللغة التي اعتمدها الأثرياء والأغنياء في اعتراضهم على الأمر .
فأجابهم نبيّهم قائلا: أنا رسول الله ولا أنطق إلاّ عن الوحي ، وقد اختار الله القادر الحكيم طالوتَ لإخلاصه ملكاً عليكم ، فكيف ترون أنفسكم أحقّ بالإمامة والزعامة من أجل خلاص وطنكم وإنقاذه من أيدي الظلمة ، والحال ليس لكم سوى مزيّة فارغة لا تقوى أن تمنحكم ما تريدون! كيف ترون لباس الزعامة يسعكم وليس لكم من أفضلية على الآخرين سوى هذه الثروة المزيّفة؟! وهل للثراء من سبيل إلى الزعامة؟! فما العلاقة بين المال والثروة وزعامة المجتمع!
أمّا طالوت فهو جدير بمقام الإمامة والزعامة ، لاشتماله على شرائطها ومقوّماتها ، فهو عالم مقتدر ذو بسطة وقدرة بدنية تؤهّله للصمود أمام العدوّ ، بل هو أشجع المقاتلين . إنّ إمامة الأُمّة وزعامة الجيش في الحرب من أجل إحقاق حقوق الضُعفاء إنّما تتطلّب فرداً عالماً ، ملمّاً بفنون القتال ، شجاعاً ومقداماً ومتماسكاً أمام العدو ، قادراً على السيطرة على الجيش وتحقيق النصر ، وقد جُمعت كلّ هذه الصفات في طالوت .
طالوت الذي يمكنه أن يكون إماماً ، بفضل اشتماله على مقوّمات الإمامة ، ينبغي أن يكون له الملك حتّى يحقّق الاستقلال ، ويستعيد الأراضي السليبة ، ويعيد النساء والأطفال إلى أحضان آبائهم ، ويستردّ الأموال والثروات التي نهبها الأعداء ، وهذا هو الغرض من الزعامة والإمامة ، وإذا لم تكن هذه الأُمور متوفّرة في الإمام فأنّى له حفظ استقلال البلاد وسيادتها ووحدة أراضيها ودحر العدوّ الطامع؟! فالملك لله ، يؤتي ملكه من يشاء ، وليس لكلّ فرد التصرّف في هذا الملك ، وهو العالم بمَن يسعه القيام بمهمّة الإمامة ومن هو أولى بها من غيره ، وليس بينكم
(الصفحة103)
من هو أولى بها من طالوت .
نعم ، إنّ الله يؤتى ملكه من تعلقّت به مشيئته ، وتعلّق المشيئة ليس أمراً اعتباطياً ، فلم تتعلّق مشيئة الله بطالوت عبثاً ، وما ذلك إلاّ لإخلاصه وعلمه الذي جعل الله يختاره ملكاً واِماماً على الناس .
خلاصة هذا البحث:
يمكن خلاصة ما مرّ من الدراسة المفصَّلة في الآية القرآنية الشريفة: ـ {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
لم يستجب قوم بني إسرائيل وخاصّة الملأ منهم لهذا النبيّ كعدم استجابة الغالبية من الناس لدعوات الأنبياء (عليهم السلام) ، فاضطرّ ذلك النبي للإتيان بشاهد حيّ لتأييد صحّة قوله ، وليفهم الجميع بأنّ لطالوت صلاحية الملك والإمامة ، ولنفهم نحن أيضاً ماهو الشرط الآخر الذي ينبغي توفّره من أجل الإمامة والشاهد الحيّ هو «التابوت» .
التابوت:
وردت كلمة «التابوت» في هذه القصّة القرآنية ، والألف واللام في الكلمة تفيد كون ذلك التابوت معرفة ، أي كان معروفاً من قِبل بني إسرائيل . والذي نفهمه من القرآن أنّ ذلك التابوت كان يضمّ بعض الودائع ـ التي من شأنها إشعار بني إسرائيل بالسكينة ـ وآثاراً تركها موسى وهارون (عليهما السلام) ، ويعبّر القرآن عن هذه الصورة بقوله: {يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
(الصفحة104)
وَآلُ هَارُونَ} . وقبل الخوض في التفاصيل لابدّ من القول بأنّ التابوت يعني الوعاء والصندوق . فقد ورد في اللغة أنّ التبوت ، كصبور : لغة في التابوت(1) . وقيل : هو صندوق التوراة من خشب(2) . وأمّا الأُمور التي تستفاد من الآية فهي:
1 ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ ودائع وأمانات توجب سكينة الإنسان .
2 ـ كانت تلك الودائع تحمل السكينة بعناية الله ولطفه .
3 ـ نفهم من مناسبة الحكم والموضوع ـ أي الشيء الذي يؤدّي إلى سكينة بني إسرائيل ـ أنّ ذلك الصندوق كان يضمّ بلا شكّ التوراة أو بعض آياته ، لأنّ التوراة التي من شأنها سكن وهدوء بني إسرائيل .
4 ـ يفهم من العبارة «وبقية . . .» أنّ ذلك الصندوق لم يضمّ التوراة لوحدها ، بل كانت هناك الأشياء التي تناقلتها أيدي أهل موسى وهارون من قبيل عصا موسى وما شابه ذلك .
5 ـ أنّ الصندوق قد نهب ، وهو الأمر الذي جعل بني إسرائيل يشعرون بالتذمّر ; لأنّه كان يرمز لعظمتهم إبّان عصر موسى وهارون (عليهما السلام) ، وواضح أنّ الصندوق قد سلب منهم بسبب عدم كفاءتهم ، كما ليس لهم القدرة على إعادته .
6 ـ كان بنو إسرائيل مطّلعين على أهمّية ما يحمل من أسرار .
7 ـ أنّ لكلِّ مَن يسعه الإتيان به جدارة زعامة الأُمّة وقيادتها .
ولذلك اعتبر ذلك النبي أنّ أفضل دليل على كفاءة طالوت وأهليته للملك تكمن في إتيانه بذلك الصندوق ، كما أنّ بني إسرائيل سيقرّون بصلاحية طالوت والإذعان بعجزهم وعدم صلاحيتهم إذا ما قام طالوت بتلك الوظيفة الخطيرة ، وخلاصة ما أوردناه قد ورد في هذه الآية الشريفة: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ
(1) تاج العروس 3: 25 .
(2) مجمع البحرين 1: 233.
(الصفحة105)
أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِن رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلاَئِكَةُ إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَةً لَكُمْ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ} . ثمّ إنّا وقد استفدنا من الآية الكريمة ماذكرناه وقلنا: إنّ ظاهر الآية الشريفة تدلّ على المطلوب، لكن مع غضّ النظر عن ذلك نشير إلى رواية واردة حول تفسير الآية الشريفة .
حديث أبي بصير:
علي بن إبراهيم قال: حدّثني أبي ، عن النضر بن سويد ، عن يحيى الحلبي ، عن هارون بن خارجة ، عن أبي بصير ، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ بني إسرائيل بعد موت موسى عملوا بالمعاصي وغيّروا دين الله وعتوا عن أمر ربّهم ، وكان فيهم نبي يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه ، فسلّط الله عليهم جالوت ; وهو من القبط ، فأذلّهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأموالهم واستعبد نساءهم ـ إلى أن قال ـ فقال لهم نبيّهم: «إنّ آية ملكه . . .» وكان التابوت الذي أنزل الله على موسى فوضعته فيه اُمّه وألقته في اليمّ ، فكان في بني إسرائيل معظّماً يتبرّكون به ، فلمّا حضرت موسى الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيّه ، فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفّوا به ، وكان الصبيان يلعبون به في الطرقات ، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التابوت عندهم ، فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتابوت رفعه الله عنهم ، فلمّا سألوا النبيّ بعث الله تعالى طالوت عليهم ملكاً يُقاتل معهم ردّ الله عليهم التابوت»(1) .
ونفهم من هذا الحديث ما يلي:
1 ـ اهتمّ القرآن الكريم اهتماماً كثيراً بقضية الإمرة والزعامة ، وليس لأيّ فرد النهوض بهذه المهمّة .
(1) تفسير القمّي 1: 81ـ 82 ، وعنه بحار الأنوار 13: 438 ح 4 .
(الصفحة106)
2 ـ ينبغي أن يكون الزعيم الديني عالماً ومقتدراً ، أي يمتلك العلم والقدرة .
3 ـ لابدّ أن يكون بصيراً ملمّاً حتّى بفنون القتال .
4 ـ يجب أن يتمتّع بقدرة بدنية مرموقة .
5 ـ لابدّ أن يتحلّى بحنكة الزعامة .
6 ـ يجب أن يرد ميدان الحرب بنفسه إذا اقتضت ذلك مصالح الأُمّة .
7 ـ لابدّ أن يكون شجاعاً باسلا في الحروب .
8 ـ يجب أن يحفظ استقلال البلاد ويستأصل جذور الاستعمار .
9 ـ لابدّ أن يعيد إلى الأذهان أمجاد الماضي التي اعتراها النسيان .
وعليه : فخلاصة الشروط التي يراها القرآن الكريم في منصب الزعامة تتمثّل بالجدارة ، العلم ، القدرة ، الخبرة بأوضاع المجتمع ، سلامة الجسم ، الإحاطة بفنون القتال ، الشجاعة والإقدام والتدبير ، كما يفهم من الآيات أنّ الزعامة منصب إلهي ، والله هو الذي ينصّب الزعيم .
قولنا أم قول المفسّرين؟
نحن نقول بأنّ التابوت كان بيد جيش جالوت ، وكان باستطاعة طالوت أن يستعيده ، وهذه العملية المعقّدة كانت دليلا على صلاحيّته لإمرة الجيش والزعامة ، إلاّ أنّ القرآن الكريم يقول: يأتيكم التابوت . أوليست هذه العبارة تؤيّد تلك الطائفة من المفسّرين التي قالت بأنّ التابوت قد رفع إلى السماء وإنّ رجوعه من السماء معجزة تبيّن صحّة قول النبي بشأن إمرة طالوت؟ فقد جاء التابوت ورآه بنو إسرائيل فأذعنوا لزعامة طالوت وتأهّبوا للقتال ، وهلاّ كانت عبارة «وتحمله الملائكة» تؤيّد أقوال المفسّرين؟
(الصفحة107)
الجواب :
يبدو أنّ هذا القول ليس بتام ـ والله أعلم ـ لأنّ عبارة «يأتيكم التابوت» «التابوت» فاعل للفعل «يأتي» دليل على أنّ القوم كانوا منزعجين جدّاً من فقدان التابوت الذي يحتوي آيات المجد والعظمة ، وأنّهم كانوا يتطلّعون إلى الظفر به ثانية . وجملة «يأتيكم التابوت» تشعر بأنّ نبيّهم قد بشّرهم بعودة التابوت ، حيث قال لهم: «يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربّكم» وهذا وعد من نبيّهم ليس أكثر ، أمّا القطعي فهو قول النبي الذي يستند إلى كفاءة طالوت بحيث قال: إنّ التابوت يأتيكم ، وهو كاشف عن مدى جدارة وأهلية طالوت ، وهو الأمر الذي ينسجم والدلالة على زعامته ، وإلاّ فإنّ مجيء التابوت من السماء ليس له من علاقة بكفاءة طالوت من قريب أو بعيد ، بل هو دليل على صدق نبيّ بني إسرائيل ، بينما نعلم أنّهم طالبوه بآية بحقّ طالوت ، لا آية تثبت صحّة قوله . فالآية واردة بشأن مَن يستعيد التابوت .
وبناءً على هذا فإنّ العبارة «يأتيكم التابوت» وعد قطعي باسترداد التابوت من قبل طالوت الجدير بهذه المهمّة ، والآية اللاحقة تكشف أنّ هذا الأمل هو الذي دفعهم لقبول إمرته والتأهّب للقتال ، ولذلك صدّر القرآن الجملة اللاحقة بالفاء «فلمّا فصل طالوت» ، أي أنّهم استعدّوا لاسترداده على ضوء ذلك الأمل .
وقد نسب شيخ الطائفة ـ وهو أحد جهابذة الفقهاء والمحقّقين والمفسّرين ـ في تفسيره المعروف «التبيان» هذا المعنى إلى ابن عباس، كما نقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) فقال: «وقيل: إنّ التابوت كان في أيدي أعداء بني إسرائيل من العمالقة الذين غلبوهم عليه على قول ابن عباس ووهب ، وروي ذلك عن أبي عبدالله (عليه السلام) »(1) .
(1) التبيان في تفسير القرآن 2: 292 .
(الصفحة108)
ولا ينبغي أن يفهم من كلمة «وروي» التي أوردها الشيخ في الرواية عن الصادق (عليه السلام) توحي بعدم الوثوق بها ; لأنّ كلّ من له معرفة بتفسير التبيان ، يعلم أ نّ عصر الشيخ (رحمه الله) كان يقتضي مثل هذه التعبيرات في الروايات المعتبرة ، فقد كان يحتاط ويفهم الآخرين بعدم انطواء تفسيره على التعصّب ، ولذلك كان يتعرّض في تفسيره إلى أقوال العامّة ويحاكمها بأُسلوب علمي رصين بعيداً عن التعصّب .
أمّا الرواية الأُخرى التي تؤيّد ذلك ، فما ورد في تفسير نور الثقلين عن عيون الأخبار ، أنّ شاميّاً قد سأل أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة عدّة أسئلة ومنها: «يا أمير المؤمنين أخبرني عن يوم الأربعاء وتطيّرنا منه وثقله وأيّ أربعاء هو؟ قال: آخر أربعاء في الشهر وهو المحاق ، وفيه قتل قابيل هابيل أخاه ـ إلى أن قال : ـ ويوم الأربعاء أخذت العمالقة التابوت (1). فالرواية واضحة بأنّ التابوت كان بيد العمالقة(2) ، إلاّ أنّه كان في السماء واستعاده طالوت .
زبدة الكلام:
اتّضح من هذه الآيات ـ مع الأخذ بنظر الاعتبار المؤيّدات والروايات ـ أنّ الزعامة من وجهة نظر القرآن قائمة على أساس بعض الشرائط ، فالزعيم لابدّ أن يمتلك العلم والتجارب المريرة في الحياة ، لابدّ أن يكون ذا قدرة بدنية تؤهّله لإدارة
(1) تفسير نور الثقلين 2: 374 ، نقلاً عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 247 .
(2) نتيجة التحقيقات التي أوردناها تفيد بما لا يقبل الشك أنّ التابوت كان بيد العمالقة وجلاوزة جالوت الطاغي ، ولعلّه يقال: لم يأت طالوت بالتابوت ، بل كان ذلك آية وقعت قبل التأهّب للقتال ودليل من أجل تقبّل إمرة طالوت ، أي أنّ الله جعل الإتيان بالتابوت آية لزعامة وإمرة طالوت حتّى تنصاع الأُمّة لأوامره ، وربّما كانت علاقة الحكم بالموضوع تتفق وهذا الأمر ، وذلك لأنّه ما لم يكن هناك اطمئنان لزعامة طالوت ، سوف لن يكون هناك تأهّب للقتال ، وعليه فمن الضروري حصول هذه الآية ابتداء ، وهذا لا يتنافى وعظمة التابوت من وجهة نظر بني إسرائيل ، ولا يخدش المراد بقضية الإمامة استناداً للآيات الشريفة .
(الصفحة109)
شؤون الحكومة والحفاظ على استقلال البلاد ، وما إلى ذلك من الشرائط والمقومّات التي ذكرناها كراراً ومراراً .
ولكن قد يبرز هنا هذا السؤال:
سؤال :
أوّلا : لقد ذكر القرآن الكريم هذه الشرائط بالنسبة للقيادة العسكرية ، أي أنّ قائد الجيش ينبغي أن يكون صاحب رأي سديد ومقتدر وذا قوّة بدنيّة وعالماً بفنون القتال . وليس في هذه الشرائط ما يدعو للغرابة ، فجميع العُقلاء والمفكّرين يتفقون على هذا الأمر ، إلاّ أنّ البحث كان في الإمامة . فكيف يستدلّ عليها بهذه الآيات؟
ثانياً : القصّة واردة في بني إسرائيل وزعامة طالوت في ذلك الزمان ، فكيف يمكن تعميمها لتشمل زعماء الإسلام في أنّه لابدّ أن يكونوا جامعين لهذه الشرائط؟ وإلاّ للزم من ذلك أن نقول بكلّ شرط إلهي ورد في زعامة موسى وأمثاله ، بالنسبة لزعماء وأئمّة الإسلام!
جواب :
يمكن طرح هذا السؤال بصيغتين:
1 ـ هل أنّ شرائط الإمامة في بني إسرائيل ذاتها في الإسلام ، وكلّ شرط للزعامة في بني إسرائيل لابدّ أن نراه شرطاً في الإسلام أيضاً؟
2 ـ تنطوي إمرة الجيش على بعض الشرائط الطبيعية والعقلائية ، وهذا ما أشارت إليه الآيات الكريمة ، فهل الإمامة كذلك في أنّها تتوقّف على الموازين العُقلائية والطبيعية؟ أم أنّ تلك القيود مختصّة بقائد الجيش ، فمثلا قائد الجيش لابدّ
(الصفحة110)
أن يكون ذا قدرة بدنية وإحاطة بفنون الحرب والقتال ، فلم يكن طالوت على ضوء الآية أكثر من قائد للجيش .
للردّ على السؤال الأوّل نقول:
النقطة الأُولى : أنّ أُصول الأديان واحدة من حيث البنية العقائدية ، وليس هنالك من دين ناسخ لآخر من هذه الناحية ، فنسخ أُصول الدين ليس بمعقول ، ولمّا كان الكلام عن النسخ ، لا بأس ببحث هذه المسألة لتتضّح حقيقة الموضوع .
النسخ :
النسخ يعني إزالة الشيء واستبداله بآخر بحيث يحلّ الثاني بدل الأوّل ، فالعرب تقول: «نسخت الشمس الظلّ» و «نسخ الشيب الشباب»(1) .
وعليه فهناك أمران معتبران في مفهوم النسخ إلى جانب إزالة المنسوخ ، وهما:
1 ) اعتبار ما يحلّ محلّ المنسوخ .
2 ) اعتبار النقل والتبديل .
ويؤيّد ما ذهبنا إليه استعمال كلمة «المناسخة» في باب الإرث ، فكلّما مات وارث وحلّ محلّه وارث آخر ، أو مات هذا الثاني وحلّ مكانه ثالث استعملت لفظة المناسخة بهذا الشأن ، ونلاحظ هنا بأنّ وارثاً قد خلّف وارثاً آخر ، وقد حدث انتقال وتبديل في الإرث من يد إلى أُخرى . وقد عبّر القرآن بالتبديل عن نسخه بعض الأحكام والآيات ، فقد قالت الآية الشريفة: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَة وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}(2) . فالآية الثانية تزيل الاُولى وتحلّ محلّها ، وهذا هو النسخ .
(1) انظر التبيان في تفسير القرآن 1: 393، مجمع البيان 1: 300 .
(2) سورة النحل : الآية 101 .
(الصفحة111)
وعلى كلّ حال ، في القرآن الكريم آيات ناسخة لآيات أُخرى ، والآية المنسوخة باقية على حالها مدوّنة في القرآن ، والنسخ لا يعني إزالة صورتها من كونها آية ، فهي باقية ومحفوظة من حيث النزول ، ولكن لم يعدّ لها من أثر ، وفقدان الشيء لأثره يعني في الواقع زواله وتساوي وجوده وعدمه . . .
إذن ، فالنسخ لا يعني شيئاً أكثر من زوال الأثر . وبعبارة أوضح: فإنّ نسخ الآية هو عبارة عن إزالة حكمها واستبداله بحكم الآية الثانية «الناسخة» . ونخلص من هذا إلى أنّ نسخ الآيات إنّما يقتصر على الآيات المتعلّقة بالأحكام ، ولا يسري هذا النسخ أبداً إلى الآيات التي تتعرّض إلى الحقائق المسلّمة التي لا يعتريها التغيير . أفيمكن تصوّر النسخ بحقّ الآية الشريفة {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}؟ أو يمكن زوال الحقائق الثابتة والدائمة؟
ولمّا كانت الأديان واحدة في العقائد ، وقد نهض جميع الأنبياء بمهمّة هداية الاُمم لهذه العقائد ، فإنّه يمكننا القول بأنّه ليس هنالك من دين ينسخ آخر من حيث الاُصول العقائدية ، فالاعتقاد بالله والثواب والعقاب والحساب وصفات الجمال والكمال إنّما هي من الحقائق المسلّمة التي تأبى التغيير والزوال ، ولذلك فإنّ النسخ إنّما يكون في الشرائع .
وبعبارة أُخرى : لابدّ من الإذعان بأنّ الدين الإسلامي ليس بناسخ لنبوّة ورسالة من كان قبله من الأنبياء ، بل القرآن ناسخ لشرائع سائر الأنبياء ، فهذا القرآن لا ينفكّ يؤكّد أنّ الكتاب السماوي الإسلامي {مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ}(1){مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ}(2) . {مُصَدِّقُ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}(3) . {مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ}(4)
(1) سورة البقرة : الآية 89 ، 101 .
(2) سورة آل عمران : الآية 81 .
(3) سورة الأنعام: الآية 92 .
(4) سورة البقرة : الآية 41 ; سورة النساء : الآية 47 .
(الصفحة112)
{مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} (1) ، و {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ . . .}(2) .
ولكن لا ينبغي أن نغفل عن قضية ، وهي أنّ كلّ ما يقوله موسى وعيسى (عليهما السلام) بالنسبة لله ، يقوله خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ، فالجميع يصفون الله بأنّه حكيم وقدير وعليم وسميع ، غير أنّ أُسلوب الأنبياء يختلف في معرفة حقيقة كون الله حكيماً وسميعاً وعليماً و . . . لأنّ أتباع الرسل يختلفون في درجة الفهم والإدراك ، بل حتّى الأنبياء يختلفون في مدى إدراكهم لجميع المغيّبات {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض}(3) .
فالأُمّة الإسلامية قد بلغت آخر مراحل الفهم والإدراك ، ومن الطبيعي أن تكون الحقائق التي تطرح على هذه الأُمّة متعذّرة الفهم والإدراك على الاُمم الماضية ، وأنّ الحقائق والإدراكات والأنوار التي أفاضها الله على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لايسع سائر الأنبياء تحمّلها واستيعابها .
فالحقائق في كافّة الأديان واحدة ، غير أنّ طرق التعرّف عليها متشعّبة ، وكلّما تطوّرت العلوم والمعارف تعمّق هذا الفهم والإدراك بالنسبة للحقائق ، ولذلك يمكن القول بأنّ محمّد (صلى الله عليه وآله) قد سلك آخر مراحل التوحيد ، وللاُمّة الإسلامية فقط وبفضل التطوّر العلمي الذي تشهده أن تبلغ ما تشاء من الدرجات ، فقد فتح الإسلام الباب على مصراعيه أمام أتباعه ، ولا يسعنا هُنا أن نخوض أكثر في هذا المجال .
وعلى كلّ حال تتفق كافّة الأديان في أُصولها العقائدية ، وليس هناك من نسخ بهذا الخصوص .
والإمامة والزعامة جزء من أُصول الأديان ، حتّى أنّنا قلنا بأنّ الأنبياء إنّما
(1) سورة البقرة : الآية 91 .
(2) سورة المائدة : الآية 46 .
(3) سورة البقرة : الآية 253 .
(الصفحة113)
يحرزون مقام الإمامة بعد اجتيازهم لعدد من الاختبارات والتمحيصات .
وعليه : فالشرائط التي ينبغي توفّرها في الإمام إن كانت معتبرة في زعامة بني إسرائيل فهي بطريق أولى واجبة التطبيق في الإسلام .
بعبارة اُخرى: إذا كان طالوت ينبغي أن ينصّب من قِبل الله قائداً للجيش فقط ، فإنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) الحاكم المطلق لعالم الإسلام يجب أن ينصّب أيضاً من جانب الله ويقوم بوظيفة الإمامة ، وإن كان شرط إمرة طالوت يتمثّل بالقدرة العلمية ، والخبرة بفنون الحرب والقتال والكفاءة والجدارة ، وحفظ استقلال بعض المناطق ، فلابدّ أن تتوفّر قمّة هذه الشرائط في أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ، ولا يمكن القول بأنّ الإسلام لا يلتفت لهذه الأُمور بدون اقتضاء ولا شرط ، وأنّ إمام المسلمين سواءً كان عالماً أم لم يكن ، كفوءاً أم ليس بكفوء وما إلى ذلك ليست قضية مهمّة من وجهة نظر الإسلام الذي يمثّل آخر مراحل السير التكاملي للبشرية .
وعليه : فقد اتّضحت النقطة الأُولى من الإجابة على السؤال الأوّل ، مع ذلك نواصل طرح النقطة الثانية ليتّضح الأمر أكثر .
النقطة الثانية :
يمكن تناول النقطة الثانية من زاويتين:
زاوية عمومية وتحقيقية بشأن قصص الأُمم المذكورة في القرآن الكريم ، والهدف من هذا البحث هو التحقيق بشأن علّة سرد قصص الأُمم السالفة في القرآن الكريم ، والوقوف على الهدف العقلائي والمراد الأساسي الذي أراده الكتاب السماوي من طرح هذه القصص .
والزاوية الثانية في دراسة القصّة التي نحن بصددها وقصة طالوت وبني
(الصفحة114)
إسرائيل . وبالطبع فإنّ النتائج التي توصّلنا إليها في الزواية الأُولى تعتبر مفيدة للحصول على النتائج من الزاوية الثانية ، وكذلك في الإجابة على السؤال الأوّل . أمّا إذا أردنا أن نخوض بالتفصيل في العنوان الأوّل فإنّ ذلك سيبعدنا عن البحث الأصلي «شرائط الإمامة من وجهة نظر القرآن» ولذلك سنمرّ سريعاً على العنوان الأوّل .
العنوان الأوّل: قصص الأنبياء والاُمم الماضية:
لقد وردت قصص الأنبياء كثيراً في القرآن الكريم ، وقد تكرّر بعضها ، ولكن أصل القصّة لم يتكرّر في الحقيقة ، بل كان الاستنتاج متنوّع في نقل الحوادث في مختلف الموارد . ولابدّ من القول بأنّ تعليم الأُمّة الإسلامية كان من الأهداف الأصيلة البارزة في التعرّض لتأريخ الماضين ، تعليمهم السبل التي تؤدّي إلى السعادة والشقاء ، وإلفات النظر إلى ردود الفعل التي أبدتها الأُمم السالفة إزاء دعوة الأنبياء والنتائج التي ترتبت على كلّ ردّ فعل ، إلى جانب تنبيه الأُمّة الإسلامية إلى الاُصول الروحية وأُسلوب تفكير سائر الاُمم ، ولا سيّما أهل الكتاب وأوضاعهم الأخلاقية . فمثلا تعرّضت عدّة آيات من سورة البقرة إلى أوضاع أهل الكتاب ولاسيّما اليهود ، ليقف المسلمون على طبيعة أخلاقهم واُسلوب تفكيرهم ومدى العداء الذي يكنّونه للإسلام والقرآن ، فلا يتّخذونهم أولياء ويظهرون لهم المودّة أبداً ، بل يكونوا على حذر من هذه الأُمّة العنيدة والخطرة .
وعلى هذا فإنّ هناك تعليمات تجاه نوع من الأُصول المسلّمة التي تأبى التبدّل والتغيّر ، وإلاّ لو كانت مرنة يمكن أن تعتريها حالة التغيير ، لما كانت من قبيل الأُصول الكلّية التي ينبغي تعليمها الأُمّة الإسلامية; فهناك حقائق ذات دروس وعبر في هذه القصص التي من شأنها خلق الإنسان الفاضل ، فمثلا إذا واجهتنا
(الصفحة115)
بعض المباني المصيرية للإنسان في قصّة موسى فإنّه لا يمكننا أن نقول بأنّها مختصّة ببني إسرائيل والأُمّة الإسلامية مستثناة من هذا الأمر ، ولا يسعنا هنا إلاّ أن نشير إلى بعض هذه المباني بصورة مختصرة ونترك الخوض في تفاصيلها إلى أهل التفسير .
1 ـ يزعم أحبار اليهود أنّ لهم الجنّة خالصة دون أن ينازعهم أحد فيها ، وإن كان ولابدّ من عذاب النار فهي لن تطالهم سوى أيّام معدودة {وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً}(1) .
أمّا القرآن فقد ردّ بمنطق رصين على هذا الزعم ـ الذي كان يبديه المضلّون من أحبار اليهود بهدف التملّص من الإقرار بنبوّة محمّد (صلى الله عليه وآله) والإسلام ـ فرفضه رفضاً قاطعاً وأثبت أنّهم من أصحاب النار والشقاء الخالد يوم القيامة ، وقد أوجز دليله وبرهانه الرصين في هذه الآية من سورة البقرة: {بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}(2) . فهم يغرون الناس ويغلقون عليهم كلّ المنافذ ليفعلوا ما شاءوا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وبناءً على ما تقدّم فإنّ هؤلاء الناس سيملأون حياتهم بالأعمال الشائنة والأفعال التي تسوّد القلب وتنتهي بالإنسان إلى أدنى المراتب الحيوانية ، فهل لمثل هؤلاء الأفراد أن يبلغوا بعد ذلك السموّ الإنساني؟ وهل لهم أن يتخلّصوا من طبائعهم العدوانية؟ وهل لمثل هؤلاء الأفراد من حظّ يجعلهم يعيشون الحياة الأُخروية الهانئة؟ أم أنّهم سيذوقون وبال أمرهم ليكبّوا على وجوههم في النار من جرّاء أعمالهم القبيحة ، وهل لهم إلاّ الخلود في النار؟ حقّاً لا يرى العقل والإنصاف لهؤلاء سوى عذاب النار خالدين فيها وبئس المصير .
(1) سورة البقرة : الآية 80 .
(2) سورة البقرة: الآية 81.
(الصفحة116)
وبناءً على هذا البرهان والاستدلال الواضح فلا تزعموا أيّها اليهود ولاسيّما الأحبار بأنّ مأواكم الجنّة ولن تمسّكم النار إلاّ أيّاماً معدودة ، واعلموا أنّ سيرتكم ونهجكم سيجعلكم خالدين في النار ، وهذا ما قدّمته أيديكم فلم يكن فعلكم سوى حرف الناس عن الصراط المُستقيم ، وتحريف الآيات وإنكار الحقائق التي أوردتها التوراة ، والمتاجرة بالدين من أجل ضمان منافعكم ومصالحكم ، وتظنّون أنّكم إنّما تنفّرون الناس من محمّد (صلى الله عليه وآله) لتستمرّوا في رئاستكم وزعامتكم ، ولم تفكّروا بعواقب أفعالكم حتّى رانت السيّئات وأحاطت بقلوبكم ، فذوقوا النار التي أوقدتموها بأيديكم خالدين فيها وبئس المصير .
إثر تعرّض القرآن لأحبار اليهود ، اندفع اليهود ليقيّموا أدلّتهم في عدم التسليم للقرآن ، وأنّ الجنّة خالصة لهم من دون الناس ، وأنّهم لن يردوا النار ، فما الذي يدعوهم للانصياع لمحمد (صلى الله عليه وآله) ، فجاءهم الردّ القرآني الحاسم في أنّ هذا الزعم باطل ، وأنّكم تستحقون الخلود في النار .
أمّا أُسلوب الاستدلال الذي ساقه القرآن فقد كان: أنّ الإنسان إذا درج على ارتكاب السيّئات والمعاصي فإنّها تغمسه في هوى نفسه ، بحيث لا تدع له مجالا للعودة والكفّ عن الذنوب ، فتسيطر الظلمات على قلبه حتّى تغلق كافّة منافذ العلم والعقل فيغرق في مستنقع من البؤس والشقاء ، هذا هو الاستدلال الذي أقامه القرآن ضدّ أحبار اليهود ليخلص بالتالي إلى أنّ مأواهم النار خالدين فيها .
وهنا نقول : هل أنّ هذا الأمر يقتصر على اليهود؟ أم أنّه مبدأ كلّي للبشرية جمعاء؟
لاشكّ أنّ هذا الإستدلال يعدّ مبدأً كلّياً ولاسيّما بالنسبة للأُمّة الإسلامية ، فالمصير الذي لاقاه اليهود سيلقاه كلّ فرد مهما كان موقعه ودينه ، إذا أوغل في الذنوب وقضى عمره في المعاصي والسيئات ، ما لم يتب ويقلع عن تلك السيئات .
(الصفحة117)
نعم ، إنّ هذه المحاجّة القرآنية لأحبار اليهود إنّما تهدف إلى تنبيه المسلمين ، بل كلّ إنسان ، إلى أصل مسلَّم من الأُصول التي تأبى التغيير ، وتنبيه الأُمّة من أجل سلوك السبيل القويم للفوز بالآخرة والابتعاد عن سبل الهلكة .
وخلاصة هذا الأصل: أنّ الإنسان إذا اعتاد الذنوب ولم يلتفت إلى نفسه ، وقضى عمره في الأفعال القبيحة ، فلن يكون مصيره سوى النار والخلود فيها .
2 ـ كان اليهود يسعون لإثبات أصالة دينهم ونفي الشرعية عن دين النصارى من خلال تشبّثها بإبراهيم (عليه السلام) ، وهذا ما كانت تدّعيه النصارى أيضاً {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْء . . .}(1) ، فردّت عليهم الآية القرآنية من سورة آل عمران قائلة: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِى إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَيةُ وَالاِْنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(2) . وقد أشارت آية اُخرى صراحة إلى مفهوم هذه الآية فقالت {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(3) . فما الذي يمكن استنباطه من هذه الآية؟
نفهم من هذه الآية أنّ اليهوديّة والنصرانيّة قد تجاوزت أهداف موسى وعيسى ، فأتباع موسى ليسوا بيهود ، كما لا يمكن لأتباع عيسى أن يكونوا نصارى ; لأنّ إبراهيم مسلم ، لا يهودي ولا نصراني .
إذن ، فاليهودية والنصرانية أسماء ابتدعها أهل الكتاب لأنفسهم ، وهي تتنافى والتسليم لله وسلوك الصراط المستقيم ، وما سبيل موسى وعيسى سوى الإخلاص والتسليم والعبودية لله ، فقد قال عيسى (عليه السلام) : {إِنَّ اللَّهَ رَبِّى وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}(4) . ولا نبالغ إذا قلنا بأنّ الآية تلمّح إلى شرك اليهود والنصارى ،
(1) سورة البقرة: الآية 113 .
(2) سورة آل عمران: الآية 65 .
(3) سورة آل عمران: الآية 67 .
(4) سورة آل عمران: الآية 51 .
(الصفحة118)
فقد صرّحت قائلة {وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، ونترك الخوض في التفاصيل إلى موضع آخر .
النتيجة :
الآيتان المذكورتان تعرّضتا للمحاجّة بين أهل الكتاب: اليهود والنصارى ، كما اشترك القرآن في هذه المحاجّة ليقول: لستم ـ اليهود والنصارى ـ تابعين لإبراهيم ، وليس لإبراهيم من ارتباط بكم ، فطريق إبراهيم هو الصراط المُستقيم الذي يقود إلى الحقّ ، وسبيل إبراهيم هو الإخلاص لله ، وسبيل إبراهيم لا عوج فيه ولا انحراف ، وأخيراً سبيل إبراهيم هو التسليم لله والعبودية له .
وعليه : فهاتان الآيتان اللتان تتحدّثان عن محاجّة أهل الكتاب وأوردهما القرآن ، إنّما الغرض منهما هو الالتفات إلى أصل مسلَّم أيضاً من قبل المسلمين ، بل من قِبل كلّ إنسان .
لاشكّ أنّ دعوة إبراهيم (عليه السلام) أصيلة ، والإسلام إنّما واصل دعوته في عبودية الله . إذن محور النجاة والصراط القويم يتمثّل في سلوك النبيّ العظيم إبراهيم (عليه السلام) ، والمسلمون ينبغي أن يلتفتوا إلى ما أورده القرآن بشأن إبراهيم ، ويعلموا بأنّ المسلم هو إبراهيم (عليه السلام) ، فإذا أراد أيّ فرد مسلم أن يكون خليل الرحمن يجب أن يسلم لله ولا يرى سواه ، ولا يسلك سوى صراطه ، ويصرف نفسه عن الدنيا ولا يكترث لزبرجها وزخرفها وأطماعها .
كان هذان نموذجين من مئات النماذج التي ذكرها القرآن الكريم ضمن سرده لقصص الماضين على أنّهما من الحقائق المسلّمة التي لا تختصّ بجماعة معينة ، بل هي اُصول ذات علاقة بمصير البشرية جمعاء ، وذكرها في القرآن دليل على عدم اقتصارها على شخوص القصّة وأبطالها ، بل من أجل لفت انتباه البشرية إليها ،
(الصفحة119)
وهي من قبيل المباني السامية التي تبلغ بالإنسان السموّ والكمال .
بعبارة أوضح: أنّ القرآن عبارة عن اُصول مسلَّمة ، حيث أفرد هذا الكتاب السماوي قسماً منه لدراسة بعض الأُصول العلمية الواقعية التي ينبغي أن تبتني عليها الحياة الإنسانيّة العقلائية ، غير أنّ هذه الأُصول قد وردت أحياناً ضمن سياق الآيات القرآنية بصورة مباشرة ، وأحياناً اُخرى وردت ضمن سرد قصص الاُمم السالفة .
خلاصة الحديث :
كان السؤال الأوّل هو هل أنّ شرائط الزعامة في بني إسرائيل هي ذاتها في الإسلام ، بحيث يجب أن نلتزم في الزعامة الإسلامية بكلّ شرط كان معتبراً في زعامة بني إسرائيل؟
وقد أجبنا على هذا السؤال ضمن ذكر نقطتين:
1 ـ أنّ اُصول الأديان واحدة من حيث جذورها العقائدية ولا يعتريها التغيير أبداً ، وليس للنسخ من سبيل إليها ، وبدوره أقرّها القرآن ولم يبطلها .
2 ـ وردت أغلب الحقائق القرآنية مباشرة من خلال الآيات القرآنية التي تلفت نظر المسلمين إلى الاهتمام والالتزام بها ، كما وردت بصورة غير مباشرة من خلال سرد قصص الاُمم الماضية .
نتيجة هاتين النقطتين:
تعدّ زعامة الأُمّة في كافّة الأديان من الوظائف التي نصّ عليها الحكيم العليم ، وعليه : فهي من اُصول الأديان وشرائطها مؤثّرة في تحقيق وتثبيت أصل الإمامة ، ومن هنا فإنّ الشروط المذكورة في زعامة بني إسرائيل معتبرة هي الاُخرى في
(الصفحة120)
الإسلام أيضاً ، إضافة إلى أنّ هذه الشروط من الحقائق المسلّمة التي لن تفقد أصالتها قط طيلة التأريخ البشري ، كما أنّها تأبى الزوال ولا يعتريها التغيير والتبدّل.
ونخلص من هذا إلى أنّ الشروط التي تضمّنتها قصّة طالوت بشأن الإمامة والزعامة ، يعتبرها القرآن من الصفات التي ينبغي أن يتّصف بها الزعيم ، وبخلافه لايعدّ زعيماً إسلامياً .
العنوان الثاني لقصة طالوت:
لقد سبقت قصة طالوت بآيتين ، حيث إنّ مفاد الآيات الثلاث لفت انتباه المسلمين وحثّهم على القتال في سبيل الله والتعرّض للعناصر التي تجسد النصر والغلبة في هذا القتال ، ولمّا كان البحث بالتفصيل لهذه الآيات الثلاث ينطوي على نوع من الإطالة والملل ، فقد آلينا على أنفسنا التعرض بصورة مقتضية لما تضمّنته هذه الآيات من محاور رئيسيّة ، ثمّ نعرج بعدها على ذكر الآيات .
فقد أكّدت هذه الآيات ثلاثة شروط أساسية تقود إلى النصر في خوض غمار الجهاد:
الشرط الأوّل: هو الإذعان والإيمان بأنّ الموت والحياة بيد القدير سبحانه ، فالموت يدركنا والله يقبض أرواحنا ، سواء كنّا على الفراش أو في ساحات الوغى إن كانت هنالك من مصلحة . وإذا شاء لنا البقاء فليس هنالك من موت ، فقد تكون ساحة الحرب وادعة أمينة بينما يكون الفراش مميتاً; وبناءً على ما تقدّم فإنّ الفرار من الجهاد حرصاً على الحياة يعني إيكال الفرار إلى أمر خارج عن الإرادة والاختيار ، وعلى هذا الضوء فإنّ المؤمن سوف لن يفر ألبتة من ميدان الحرب ويخوض القتال بعزم راسخ وإرادة فولاذية بعد التوكّل على الله والقتال في سبيله .
الشرط الثاني: أنّ الجهاد قائم على أساس الإنفاق وبذل الأموال والأنفس ،
|
|