(الصفحة 108)
الآية بصدد بيان العقد الإيجابي أيضاً وليس نظره إلى بيان العقد السلبي فقط إلاّ أن يقال بعدم كفاية ذلك فإنّ ما تكون الآية بصدد بيانه هو الحرمة والدم مطلقاً وبجميع أنواعه لا يكون مأكولاً حتّى يحكم بحرمته فغاية مفاد الآية هي حرمة الدم المأكول ولا مانع من الالتزام بنجاسته فأين تدلّ على النجاسة مطلقاً ولكنّه مدفوع بأنّ المأكولية لا تكون قيداً للحرمة بل مفاد الآية الحرمة المطلقة للدم المسفوح ومقتضى التعليل النجاسة كذلك فالإشكال من هذه الجهة غير وارد لكن عرفت انّ الاستدلال يتوقّف على تمامية الاُمور الأربعة بأجمعها والمناقشة ولو في واحد تقدح في الاستدلال فتمامية الأمرين غير كافية.
ومنها: الروايات وهي على طائفتين:
الطائفة الاُولى: ما يستفاد منها ذلك من أجل كيفية سؤال السائلين الدالّة على كون نجاسته مرتكزة في أذهانهم ومفروغاً عنها عندهم بحيث كان هو الباعث على السؤال كالسؤال عن حكم ملاقي الدم أو ما وقع فيه الدم من غير تقييده بشيء ولا تخصيصه بخصوصية ولا بأس بإيراد بعضها مثل:
صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقع (عليه السلام) بخطّه في كتابي: ينزح دلاء منها.
ورواية عبدالله بن أبي يعقور قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام): الرجل يكون في ثوبه نقط الدم لا يعلم به ثمّ يعلم فينسى أن يغسله فيصلّي ثمّ يذكر بعدما صلّى أيعيد صلاته؟ قال: يغسله ولا يعيد صلاته إلاّ أن يكون مقدار الدرهم مجتمعاً فيغسله ويعيد الصلاة.
(الصفحة 109)
إلى غير ذلك ممّا يدل على انّ نجاسة طبيعي الدم كانت مفروغاً عنها عندهم لأنّ النجس لو كان هو بعض أقسامه كان عليهم التقييد في مقام السؤال مضافاً إلى انّ نجاسته تكون مرتكزة في أذهان المتشرّعة في عصرنا هذا أيضاً.
وفيه انّ هذه الروايات لا تكون في مقام بيان نجاسة الدم ولم يكن السائل في مقام السؤال عنها مطلقاً فانّه في كلمات السائلين قد فرض دم نجس وسُئل عن حكم ما وقع فيه أو لاقى معه ولذا لا يستفاد من صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع نجاسة طبيعي البول.
وامّا المتشرّعة فلو سُئل عنهم عن انّه هل يكون الدم نجساً مطلقاً لا يحكمون بنجاسته كذلك وعليك بالمراجعة إليهم والسؤال عنهم.
الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة بإطلاقها على نجاسة الدم مثل:
النبوي: «يغسل الثوب من المني والبول والدم» فانّه فيها قد أمر بغسل الثوب من طبيعي الدم وهو يكشف عن نجاسته ولكنّه مخدوش سنداً لأنّه لم ينقل في كتب الحديث وعن الجواهر انّه مروي في كتب الفروع.
ورواية دعائم الإسلام عن الباقر والصادق (عليهما السلام) انّهما قالا في الدم يصيب الثوب: يغسل كما تغسل النجاسات. وهذه الرواية أيضاً تامّة الدلالة للأمر بغسل الثوب عن طبيعي الدم، وناقش بعض في دلالتها بأنّها لا تكون في مقام بيان نجاسة الدم أصلاً بل تكون بصدد بيان كيفية غسل الدم.
وفيه عدم تمامية المناقشة بوجه ولا سيما مع اختلاف النجاسات في كيفية التطهير ولكنّها أيضاً ضعيفة السند ولهذا لم يروها في الوسائل أصلاً ولم يحرز اتّكال الأصحاب عليها حتّى يجبر ضعف سندها.
وموثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سُئل عمّا تشرب منه الحمامة فقال: كلّ ما
(الصفحة 110)
أكل لحمه فتوضّأ من سؤره واشرب، وعن ماء شرب منه باز أو صقر أو عقاب فقال: كلّ شيء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلاّ أن ترى في منقاره دماً فإن رأيت في منقاره دماً فلا تتوضّأ منه ولا تشرب. فانّ الدم الواقع في كلامه (عليه السلام) مطلق فيستكشف من حكمه (عليه السلام) بعدم جواز التوضّي والشرب منه نجاسة الدم على إطلاقه.
وفيه انّ الرواية غير واردة لبيان نجاسة الدم حتّى يتمسّك بإطلاقها وانّما هي بصدد بيان انّ النجاسة ـ أي نجاسة المنقار ـ ومنجسيته للماء القليل تتوقّفان على العلم بوجود النجاسة فيه ففي الرواية قد وقع التعرّض لحكم منجسية المنقار إذا علم بوجود دم نجس فيه لا مطلق الدم.
ورواية زرارة قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : بئر قطرت فيها قطرة دم أو خمر قال: الدم والخمر والميت ولحم الخنزير في ذلك كلّه واحد ينزح منه عشرون دلواً فإن غلب الريح نزحت حتّى تطيب.
وفيه انّها أيضاً ناظرة إلى الدم النجس ومسوقة لبيان حكم البئر الواقع فيه ذلك الدم كما هو ظاهر.
وقد انقدح انّه لا دليل على نجاسة مطلق الدم وانّ الأصل فيه النجاسة وعليه فاللازم الرجوع إلى قاعدة الطهارة فيما إذا شكّ في نجاسة دم وطهارته، بل على ما ذكرنا لا يمكن التمسّك بالروايات على نجاسة الدم من كل ما له نفس سائلة لعدم إطلاق فيها ولو مع هذا الوصف وعدم كونها في مقام بيان النجاسة.
نعم لو كان الدم المسفوح في الآية الشريفة بمعنى الدم الخارج من العرق بقوّة ودفع، وكان الرجس فيها بمعنى النجس الشرعي، وكان الضمير راجعاً إلى الجميع لكانت الكريمة دليلاً على نجاسة مطلق الدم الخارج بقوّة ودفع لا ما خرج بغيره
(الصفحة 111)
ولو كان من الحيوان الذي له نفس سائلة إلاّ أن يكون المراد بالدم المسفوح هو الدم من الحيوان الذي له نفس سائلة مطلقاً ولكنّك قد عرفت انّ الرجس ليس بمعنى النجس الشرعي وانّ المسفوح يجري فيه احتمالات ثلاثة فلا دليل على نجاسة الدم من كل ما له نفس سائلة إلاّ الإجماع ومعقده دم الإنسان والحيوان فلا يشمل الدم المخلوق آية والموجود تحت الأحجار عند قتل الحسين (عليه السلام) والمصنوع بتركيب أجزائه ودم الشجر ونحوها.
ثمّ انّه في المقام تفصيلان:
أحدهما: ما عن الشيخ الطوسي(رحمه الله)> وجماعة من التفصيل بين الدم القليل الذي لا يدركه الطرف وبين غيره بعدم نجاسة الأوّل نظراً إلى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عن رجل رعف فامتخط فصار بعض ذلك الدم قطعاً صغاراً فأصاب إنائه هل يصلح له الوضوء منه؟ قال: إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، وإن كان شيئاً بيّناً فلا تتوضّأ منه. قال: وسألته عن رجل رعف وهو يتوضّأ فتقطر قطرة في إنائه هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا. بتقريب انّ الإمام (عليه السلام) قد فصل في الدم الواقع في الاناء بين ما إذا كان بيّناً وهو ما يدركه الطرف وبين ما إذا كان غير بيّن وهو ما لا يدركه الطرف فتصلح الرواية مقيّدة للأخبار المطلقة وللإجماع المتقدّم على فرض تماميتهما.
ويندفع بأنّ الصحيحة لا دلالة لها على طهارة ما لا يدركه الطرف من الدم لعدم كون المفروض فيها إصابة الدم للماء الموجود في الاناء وانّما المفروض مجرّد إصابته للاناء ومن هنا قد حكم الإمام (عليه السلام) بنفي البأس لعدم العلم بوقوع الدم في الماء إلاّ أن يكون الدم بيّناً فيه فيعلم بوقوعه فيه. والحاصل انّ محطّ نظر السائل ما إذا احتمل وقوع الدم في الاناء وعدم وقوعه فيه بأن كان قد أصاب السطح الخارج أو
(الصفحة 112)
الداخل غير الملاقي للماء والجواب يرجع إلى انّ احتمال إصابة الماء لا يكفي في الحكم بنجاسته بل لابدّ من العلم بها والشاهد على ما ذكرنا ـ مضافاً إلى ظاهر السؤال والجواب ـ ذيل الرواية الدال على عدم صلاحية الوضوء من الإناء مع العلم بوقوع قطرة فيه من دون فرق بين القطرة التي يدركها الطرف وما لا يدركها الطرف فتدبّر.
ثانيهما: ما عن الصدوق (قدس سره) من التفصيل في نجاسة الدم بين ما دون الحمّصة وغيره والظاهر انّه استند في ذلك إلى روايتين:
إحداهما: الفقه الرضوي حيث إنّ فيها: «وإن ك ان الدم حمصة فلا بأس بأن لا تغسله إلاّ أن يكون الدم دم الحيض فاغسل ثوبك منه ومن البول والمني قلَّ أو كثر وأعد منه صلاتك علمت به أو لم تعلم» فانّ عبارة الصدوق في «الفقيه» ـ على ما نقل عنه ـ موافقة للعبارة المذكورة في الفقه الرضوي إلاّ في لفظة «دون» قبل الحمصة فانّها ثابتة في عبارة الصدوق وغير مذكورة في الفقه الرضوي على ما عرفت.
ثانيتهما: رواية مثنى بن عبد السلام عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: قلت له: إنّي حككت جلدي فخرج منه دم؟ فقال: إن اجتمع قدر حمصة فاغسله وإلاّ فلا.
ويرد على هذا التفصيل:
أوّلاً: عدم ثبوت كون الفقه الرضوي للإمام (عليه السلام) وعدم حجّية رواياته واحتمال كون الكتاب لفقيه مسمّى بالرضا، والرواية الثانية أيضاً ضعيفة بابن المغيرة.
وثانياً: عدم الدلالة على عدم النجاسة لأنّ معنى قوله (عليه السلام) في الاُولى: «لا بأس بأن لا تغسله» وفي الثانية: «وإلاّ فلا» ليس عدم النجاسة بل معناهما عدم وجوب غسله للعفو عنه في الصلاة ويؤيّده ما في ذيل الفقه الرضوي من قوله: «واعد منه صلاتك» فتدبّر.