(الصفحة 175)
دليل آخر لما كان يمكن استفادة حرمة ما نشّ بنفسه من هذه الرواية فضلاً عن النجاسة.
وثالثاً: إنّ هذه الرواية مروية بطريقين أحدهما موثق والآخر مرسل والفقرة التي هي محطّ نظره مذكورة في المرسلة فقط ودعوى كونهما روايتين مدفوعة.
والصحيح في توجيه الرواية ما أفاده بعض الأعلام من انّ العصير أو غيره من الأشربة أو الأطعمة القابلة لأن يطرء عليها الضياع والحموضة إذا أصابته الحرارة بكمّ خاص منع عن فسادها ولما طرأت عليها الحموضة، فلو جعلت طعاماً على النار ـ مثلاً ـ في درجة معيّنة من الحرارة ترى انّه يبقى أيّاماً بحيث لو كان بقي على حاله من غير حرارة لفسد من ساعته كما في الصيف.
ويؤيّده انّه (عليه السلام) قال: «جعلته في تنوّر سخن قليلاً» وهو لا يوجب غليانه لقلّة مكثه فيه مع انّ مراده (عليه السلام) لو كان هو غليانه بالنار لعبّر عنه بقوله «فاغله» ولا يحتاج إلى قوله بطوله.
الإعضال الرابع: انّه قد ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام)قال: سألته عن نبيذ قد سكن غليانه فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : كل مسكر حرام. وجه الإشكال انّه قد دلّ الجواب سيّما مع ترك الاستفصال على انّ مطلق الغليان في النبيذ يوجب إسكاره غلى بنفسه أو بالنار، بل يدلّ على انّ اندراجه في موضوع الجواب ـ أي في انّه مسكرـ أمر مفروغ عنه عند السائل وهو ـ مع كونه خلاف الوجدان وصريح بعض الروايات يشكل بأنّه لو كان الغليان موجباً لاسكاره لم يكن معنى لجعل ذهاب الثلثين محلّلاً، ثمّ أجاب عنه بأنّ المراد من الغليان ما كان بنفسه فاندراجه تحت الكبرى لما كان مفروغاً عنه أجاب بما أجاب ولا مجال ـ حينئذ ـ للارتياب.
(الصفحة 176)
وفيه أوّلاً: انّ هذه الرواية قد وردت في النبيذ والكلام في المقام انّما هو في العصير.
وثانياً: إنّ التأمّل في الجواب يعطي انّ مراده (عليه السلام) منه انّه يلزم عليك النظر في النبيذ وملاحظة انّه هل يكون مسكراً أم لا، فإن كان مسكراً فهو حرام وإلاّ فلا، ويرشدك إلى ذلك ملاحظة هذا المثال وهو انّه لو سألت عن حكم الرمّان فأجاب المسؤول بأن كل حامض حرام فهل يستفاد من هذا الجواب انّ كل رمّان حامض وحرام أو انّ الرمان على قسمين حامض وهو حرام وغير حامض وهو ليس بحرام أو انّك ترى بطلان هذا الجواب بعد ثبوت القسمين للرمّان؟ الظاهر هو الثاني كما هو غير خفيّ.
وثالثاً: انّ موضوع السؤال في الرواية هو النبيذ الذي قد سكن غليانه لا أنّه حدث فيه الغليان ولم يسكن بعد فلو فرض ثبوت وصف الإسكار للأوّل فهو لا دلالة له على مسكرية الثاني إذ من المحتمل ـ قويّاً ـ أن يكون السبب في سكون غليانه هي صيرورته مسكراً.
فانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان التفصيل المذكور وانّ العصير العنبي طاهر مطلقاً بمقتضى قاعدة الطهارة بعد عدم الدليل على النجاسة والله هو العالم بالحقيقة.
بقي الكلام في هذا المقام في حكم العصير العنبي من جهة الحرمة وقد عرفت انّه نفى الإشكال في المتن عنها إذا غلى بالنار ولم يذهب ثلثاه وهو كذلك فانّ حرمة العصير في الجملة مقطوع بها وقد استفاضت الروايات الدالّة عليها وانّما الإشكال والخلاف قد وقع من جهات:
الجهة الاُولى: في انّ حرمة العصير هل تتحقّق بمجرّد النشيش وإن لم يصل إلى حدّ الغليان كما قوّاه السيّد (قدس سره) في «العروة» أو لا تتحقّق قبل الوصول إلى حدّ الغليان
(الصفحة 177)
وتتوقّف عليه ولابدّ أوّلاً من بيان معنى النشيش والغليان فنقول: امّا النشيش فقد زعم بعض انّه عبارة عن الصوت الحاصل في الشيء قبل الشروع في الغليان ولكن اللغة لا تساعد ذلك ففي «أقرب الموارد»: نش النبيذ: غلا، وعن «القاموس» انّه الصوت الحادث مقارناً للغليان وامّا الغليان فهو كما عرفت سابقاً عن «المجمع» و«المنجد» هو القلب واشتداد الفوران.
فالبحث في هذه الجهة يتوقّف على كون النشيش حاصلاً قبل الغليان وانّه هل يحرم العصير بمجرّده أو يتوقّف على الوصول إلى حدّ الغليان ولابدّ في استكشافه من ملاحظة الروايات الواردة في الباب فنقول:
منها: صحيحة حمّاد بن عثمان ـ المتقدّمة ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا يحرم العصير حتّى يغلي.
ومنها: صحيحته الاُخرى ـ المتقدّمة أيضاً ـ عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن شرب العصير قال: تشرب ما لم يغل فإذا غلا فلا تشربه، قلت: أيّ شيء الغليان؟ قال: القلب وهاتان الروايتان ظاهرتان في توقّف التحريم على الغليان وعدم حصوله قبله.
ومنها: ما عن ابن أبي عمير عن محمد بن عاصم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: لا بأس بشرب العصير ستّة أيّام. قال ابن أبي عمير: معناه ما لم يغل.
ومنها: مرسلة محمد بن الهيثم عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أيشربه صاحبه؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله وغلا فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه.
ومنها: صحيحة عبدالله بن سنان عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: كلّ عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه. والظاهر ولو بقرينة الروايات الاُخر
(الصفحة 178)
انّ المراد من إصابة النار إيّاه هو غليانه بالنار.
ومنها: موثقة ذريح قال: سمعت أبا عبدالله يقول: إذا نشّ العصير أو غلا حرم. وظاهر عطف الغليان على النشيش بـ «أو» انّهما متغايران لا بنحو يكون النشيش مقدّمة له وحاصلاً قبله فانّه على هذا التقدير يكون اعتبار الغليان لغواً فانّ الحرمة في جميع الموارد تحدث بالنشيش الحاصل قبله ولا معنى لتحصيل الحاصل. نعم لو كان العطف بالواو ـ كما اعتقده شيخ الشريعة فيما تقدّم من كلامه ـ فيمكن أن يكون المراد منهما واحداً كما قال به أقرب الموارد ويمكن أن يكونا أمرين متقارنين كما عن القاموس.
وكيف كان فالظاهر انّ مستند السيّد (قدس سره) فيما قوّاه من حصول الحرمة بمجرّد النشيش للعصير هي هذه الموثقة وقد عرفت انّه على تقدير الرواية المعروفة لا مجال لفرض كون النشيش حاصلاً قبل الغليان وإلاّ تلزم اللغوية فلا محالة يكونان أمرين متغايرين ولعل التغاير انّما هو من جهة كون النشيش هو الغليان الحاصل للعصير بنفسه أي لأجل الهواء ونحوها والغليان هو ما يتحقّق بالنار ويحصل بإصابتها ويؤيّده ـ مضافاً إلى انصراف لفظ الغليان إلى ما يحصل بالنار ـ تفسيره بالقلب في صحيحة حمّاد المتقدّمة فانّ المراد بالقلب هو تصاعد الأجزاء المتنازلة وانتقالها وتنازل الأجزاء المتصاعدة وتحوّلها وهذا أمر لا يتحقّق بغير النار ولو أبيت عن ذلك فاللازم بمقتضى الجمع بينها وبين الروايات الظاهرة بل الصريحة في عدم حصول الحرمة قبل الغليان هو حمل النشيش على ما ذكرنا وإن كان إطلاق النشيش في مورد الغليان أو العكس كما في رواية ابن أبي عمير المتقدّمة صحيحاً أيضاً وعليه فلا يبقى مجال لدعوى ثبوت الحرمة بمجرّد النشيش الحاصل قبل الغليان وإن كان الاحتياط ممّا لا ينبغي تركه.
(الصفحة 179)
الجهة الثانية: في انّ ذهاب الثلثين هل يكون غاية للحرمة الحاصلة للعصير مطلقاً أو لخصوص العصير المغلي بالنار، وامّا المغلي بنفسه فغايتها تبدّل العنوان وزوال الموضوع؟ صرّح السيّد (قدس سره) في «العروة» بأنّ ذهاب الثلثين يصيّره حلالاً سواء غلى بالنار أو بنفسه ولكن جماعة من الأصحاب زعموا انّ ذهاب الثلثين غاية الحرمة في خصوص المغلي بالنار، وامّا المغلي بنفسه فغاية حرمته تبدّل العنوان وهو ظاهر عبارتي الشيخ وابن حمزة في النهاية والوسيلة المتقدّمتين، وربّما يستدلّ لهما بمفهوم صحيحة عبدالله بن سنان المتقدّمة الدالّة على انّ كل عصير أصابته النار فهو حرام حتّى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه حيث إنّ مفادها انّ كل عصير لم تصبه النار فهو ليس بحرام بالحرمة الكذائية المغياة بذهاب الثلثين فغاية حرمة العصير الذي لم تصبه النار ليست ذهاب الثلثين وليس هناك شيء آخر فلابدّ من الالتزام ببقاء حرمته إلى أن يتبدّل العنوان ويصير خلاًّ مثلاً.
ويرد عليه ما عرفت من انّ مفهوم القضية الوصفية انّ الموصوف وحده مع تجرّده عن الوصف لا يكون موضوعاً للحكم ولا ينافي ذلك قيام وصف آخر مقامه في ثبوت سنخ ذلك الحكم فقوله: «أكرم الإنسان العادل» يستفاد منه انّ طبيعي الإنسان لا يكون موضوعاً لوجوب الإكرام ولا ينافي ذلك قيام العلم مقام العدالة وثبوت وجوب الإكرام للإنسان العالم بدليل آخر ولا يكون بين الدليلين منافاة أصلاً وإن أبيت إلاّ عن كون الوصف علّة منحصرة وحيدة فنحن نمنع المفهوم ـ حينئذ ـ جدّاً ففي المقام نقول إنّ المستفاد من الصحيحة عدم كون العصير بنفسه موضوعاً تامّاً للحكم بالحرمة بل لابدّ من ثبوت وصف زائد على كونه عصيراً فلا ينافي قيام وصف آخر مثل حرارة الشمس والهواء مقام إصابة النار وعليه فالرواية لا تنفي غايتية الذهاب بالإضافة إلى العصير الذي لم تصبه النار فتدبّر.