(الصفحة 424)
حيث لا يزالون يستعملونها في جميع البقاع والأمكنة مع القطع بنجاسة بعضها كالكنيف ولم تجر عادتهم على غسلها بعد استعمالها في الكنيف فبذلك تتنجّس جميع أبنية البلاد.
وكذلك في المقاهي والمطاعم حيث يدخلها كلّ وارد وخارج من المسلم والكافر والمؤمن والفاسق والمبالين لدينهم وغير المبالين له ويشربون فيهما الشاي والماء ويأكلون الطعام وهذا يوجب القطع بسراية النجاسة إلى جميع البلاد، مع استقرار سيرة المتشرّعة على عدم الاجتناب عن مثل الأواني الموضوعة في أماكن الاجتماع، أو عن الدور والأبنية والبقاع، أو عن الأواني المستعملة في المقاهي وأمثالها، حيث يعاملون معها معاملة الطهارة بحيث لو تعدّى أحد عن الطريقة المتعارفة عندهم بأن اجتنب عن مثل هذه الاُمور يطعنه جميع المتشرّعة بالوسواس وعدم الاستواء والخروج عن جادّة الشرع.
والجواب عن ذلك أوّلاً: إنّ هذا الدليل أخصّ من المدعى لأنّ ما ذكر من التوالي الفاسدة انّما يثبت إذا قلنا بتنجيس المتنجّس على وجه الإطلاق والموجبة الكلّية، وامّا إذا اكتفينا بمنجّسيته إذا كان بلا واسطة فقط فلا يتحقّق القطع بنجاسة ما ذكر فهذا الدليل لا يثبت السلب الكلّي وإن كان نافياً للإيجاب الكلّي والمقصود في هذا المقام الإثبات بنحو الموجبة الجزئية كما عرفت.
وثانياً: لو كان المراد من العلم بنجاسة جميع الأبنية والبقاع والأواني بل جميع ما في العالم ممّا هو محل ابتلاء المكلّف هو العلم الفعلي فهو ممّا يكذبه الوجدان لعدم التفات جميع الناس إلى المقدّمات المذكورة الموجبة للعلم بها كيف ونحن ممّن نقول بمنجسية المتنجّس مطلقاً ومع ذلك لا علم لنا بنجاسة جميع المذكورات خصوصاً مع ملاحظة ثبوت مطهرات في البين من نزول المطر وتطهيره كثيراً من المذكورات
(الصفحة 425)
ولاسيما في زماننا هذا من كون جميع المياه الموجودة في الأماكن الاجتماعية معتصمة نوعاً لاتصالها بالمخزن المشتمل على مئات من الكر.
ولو كان المراد منه انّه ممّا ينبغي أن يتحقّق القطع به فالجواب انّ ما ينبغي أن يقطع به لا يترتّب عليه الآثار المترتّبة عليه على تقدير تعلّق القطع الفعلي به كوجوب الاجتناب ونحوه، وكثير من الأشياء ممّا ينبغي أن يحصل القطع به كوجود الصانع تعالى وتوحيده ـ مثلاً ـ ومع ذلك يترتّب على إنكاره حكم الكفر لعدم تحقّق القطع الفعلي به فتدبّر.
الأمر الثاني: جملة من الروايات الظاهرة في ذلك وهي كثيرة:
منها: موثقة حنان بن سدير قال: سمعت رجلاً سأل أبا عبدالله (عليه السلام) فقال: إنّي ربّما بلت فلا أقدر على الماء ويشتدّ ذلك عليَّ، فقال: إذا بلت وتمسّحت فامسح ذكرك بريقك فإن وجدت شيئاً فقل هذا من ذاك. بتقريب انّ المنجس لو كان منجساً لما أصابه كان مسح موضع البول المتنجّس به بالريق ونحوه موجباً لاتساع النجاسة وزيادتها لا موجباً لطهارته، فمنه يظهر انّ المتنجّس لا يكون منجساً لما أصابه.
وفيه ـ مضافاً إلى انّه على تقدير كون مفاد الرواية ما ذكر لا وجه للإرشاد إلى مسح الذكر بالريق الظاهر في كون ذلك طريقاً إلى عدم تنجّس مثل الثوب ضرورة انّ ظاهره كون احتمال نجاسة الثوب بعد وجدان الشيء ناشئاً من احتمال ملاقاته مع الموضع المتنجّس من الذكر لا من احتمال عروض البول مجدّداً فانّ الدافع لهذا الاحتمال وترتيب الأثر عليه هو التمسّح بعد البول المفروض في الرواية سواء تحقّق بعده مسح الذكر بالريق أم لم يتحقّق، فالرواية على هذا التقدير لا يعلم وجه الحكم المذكور فيها ـ انّ صريح السؤال انّ وقوعه في الاشتداد يكون من جهة عدم قدرته على الماء، ولو لم يكن المتنجّس منجّساً لما كان يقع في الاشتداد من جهته فتأثير
(الصفحة 426)
المتنجّس في نجاسة ملاقيه أمر يكون مفروغاً عنه عند السائل وقد قرّره الإمام (عليه السلام)ولم ينكره عليه حيث علمه طريقاً يتردّد بسببه في انّ الرطوبة من البلل المتنجّس أو من غيره.
والظاهر انّ المراد من قوله (عليه السلام) : فامسح ذكرك بريقك ليس هو الأمر بمسح الموضع المتنجّس منه وهو رأسه فانّه جزء منه بل المراد منه هو مسح موضع آخر منه غير متنجّس حتّى لا يعلم انّ الرطوبة من الموضع المتنجّس أو من غيره، وعلى تقدير عدم ظهوره في ذلك ـ وإن كان عدم الظهور في خلافه يكفي لسقوط الاستدلال ـ تكون المفروغية والتقرير قرينة على كون المراد منه ذلك كما لا يخفى.
ومنها: رواية سماعة قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السلام) : إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار فيجيء مني البلل ما يفسد سراويلي؟ قال: ليس به بأس. فإنّ نفي البأس عن البلل مع العلم بملاقاته للموضع المتنجّس بالبول لا يتمّ إلاّ على القول بعدم تنجيس المتنجّس.
وفيه أوّلاً: انّها ضعيفة من حيث السند.
وثانياً: انّه يحتمل أن يكون نظر السائل انّ المسح بالأحجار يوجب حصول الطهارة لمخرج البول كمخرج الغائط كما يقول به العامّة، وعليه فلابدّ من أن تحمل الرواية على التقية لموافقتها مع مذهب العامّة.
ومنها: صحيحة حكم بن حكيم انّه سأل أبا عبدالله (عليه السلام) فقال له: أبول فلا أصيب الماء وقد أصاب يدي شيء من البول فامسحه بالحائط والتراب ثمّ تعرف يدي فأمسح (فامسّ ـ خ ل) به وجهي أو بعض جسدي، أو يصيب ثوبي؟ قال: لا بأس به. فإنّ نفي البأس عن مسح الوجه أو بعض الجسد أو إصابة الثوب باليد المتنجّسة الرطبة لوجود العرق فيها مرجعه إلى عدم صلاحية المتنجّس للتنجيس ولو كان
(الصفحة 427)
هناك رطوبة متّصفة بالسراية كما هو المفروض في الرواية.
وقد اُجيب عن ذلك بأنّ السائل لم يفرض في كلامه ان مسح وجهه أو بعض جسده أو ما أصاب الثوب انّما كان بما هو الموضع المتنجّس من يده لأنّه بعد ملاحظة انّ مسح الوجه أو بعض الجسد لم يكن بجميع أجزاء اليد حتّى يحصل العلم بملاقاة الموضع المتنجّس من اليد لهما وملاحظة انّ اليد لا يتنجس جميعها بسبب تنجّس موضع منها وتعرقها كما عرفت سابقاً نقول: إنّ الموضع المتنجّس من اليد امّا أن يكون معيناً معلوماً بالتفصيل، وامّا أن لا يكون كذلك، بل يعلم إجمالاً بنجاسة بعض أجزائها، ففي الصورة الاُولى يكون نفي البأس راجعاً إلى عدم العلم بكون الجزء الملاقى من اليد هل كان هو الجزء المتنجّس أو غيره من المواضع الطاهرة من اليد. ومن المعلوم انّ مقتضى الأصل في مثل ذلك من موارد الشكّ هي الطهارة، وفي الصورة الثانية نقول إنّ ملاقاة بعض أطراف الشبهة المحصورة في باب النجاسة لا يوجب الحكم بنجاسة الملاقى وبوجوب الاجتناب عنه ـ كما قد حقّق في محلّه ـ ففي كلتا الصورتين لم يظهر من الرواية ما ينطبق على نظر المستدلّ.
ويمكن أن يجاب عنه أيضاً بأنّ نفي البأس في الجواب انّما هو في فرض عدم إصابة الماء وانّه في هذا الفرض وإن كانت اليد والوجه وبعض الجسد متنجّساً جميعها ـ بعضها بالواسطة وبعضها من دونها ـ إلاّ انّه مع عدم القدرة على التطهير لفرض فقدان الماء حتّى بالمقدار الذي يكفي في تطهير مخرج البول الذي هو مثلاً ما على الحشفة من البلل كما مرّ لا مناص من الحكم بنفي البأس حتّى فيما إذا أصاب الثوب فإنّ الصلاة عارياً مع انحصار الساتر بالنجس انّما هي فيما إذا كان البدن طاهراً، وامّا مع نجاسة البدن أيضاً فالحكم بلزوم الصلاة كذلك يبتني على لزوم تقليل النجاسة بالمقدار الممكن ولابدّ من البحث فيه.
(الصفحة 428)
وبالجملة فالرواية لا دلالة لها على مدعى القائل.
ومنها: صحيحة العيص بن القاسم قال: سألت أبا عبدالله (عليه السلام) عن رجل بال في موضع ليس فيه ماء فمسح ذكره بحجر وقد عرق ذكره وفخذاه؟ قال: قال: يغسل ذكره وفخذيه، وسألته عمّن مسح ذكره بيده ثمّ عرقت يده فأصابه ثوبه، يغسل ثوبه؟ قال: لا. حيث حكم (عليه السلام) بعدم وجوب غسل الثوب الذي لاقته اليد المتنجّسة بمسح الذكر.
وفيه: انّ صدرها صريح في منجسية المتنجس للأمر بغسل الذكر والفخذين مع انّهما متنجّسان، ونفي لزوم غسل الثوب في الذيل امّا لعدم العلم بإصابة اليد للموضع المتنجس من الذكر، وامّا لعدم العلم بإصابة الموضع المتنجّس من اليد للثوب مع انّه لو سلّمنا انّ الذيل مطلق لترك الاستفصال فيه ومقتضى الإطلاق عدم تنجيس المتنجّس إلاّ انّه لا مناص من تقييد إطلاقه بما دلّ على منجسية المتنجّس ومنه صدر هذه الرواية. وإن شئت قلت: إنّ الجمع بين الصدر والذيل يقتضي حمل الذيل على صورة عدم العلم لئلا يلزم المنافاة كما هو ظاهر.
ومنها: ما رواه علي بن مهزيار قال: كتب إليه سليمان بن رشيد يخبره انّه بال في ظلمة الليل وانّه أصاب كفّه برد نقطة من البول لم يشكّ انّه أصابه ولم يره وانّه مسحه بخرقة ثمّ نسى أن يغسله وتمسّح بدهن فمسح به كفّيه ووجهه ورأسه ثمّ توضّأ وضوء الصلاة فصلّى؟ فأجابه بجواب ـ قرأته بخطّه ـ : امّا ما توهّمت ممّا أصاب يدك فليس بشيء إلاّ ما تحقّق، فإن حقّقت ذلك كنت حقيقاً أن تعيد الصلوات اللواتي كنت صلّيتهن بذلك الوضوء بعينه ما كان منهن في وقتها، وما فات وقتها فلا إعادة عليك لها من قبل انّ الرجل إذا كان ثوبه نجساً لم يعد الصلاة إلاّ ما كان في وقت، وإذا كان جنباً أو صلّى على غير وضوء فعليه إعادة الصلوات