(الصفحة 450)
صاحب السلس والمبطون والمستحاضة ودائم النجاسة».
لكن عن ظاهر الصدوق وصريح جملة من المتأخّرين بل أكثرهم عدم اعتبار شيء من القيدين والعفوّ عنه مطلقاً حتّى يتحقّق البرء، وعن جملة من الأصحاب اعتبار أحد القيدين.
وربّما يورد على من اعتبر القيدين معاً بأنّه على هذا التقدير لا تبقى خصوصية للدمين لأنّ كلّ دم بل كل نجاسة يكون معفوّاً عنها مع وجود هذين القيدين مع انّ ظاهرهم ثبوت الخصوصية لهما وان أفرادهما بالذكر لأجل هذه الخصوصية لا بمجرّد متابعة الرواية في التعرّض لهما ومن هنا يحتمل بل يغلب على الظنّ أن لا يكون مرادهم من المشقّة ما هو ظاهرها من المشقّة الفعلية بل المشقّة النوعية كما انّه ربّما يحتمل أن يكون مرادهم بالسيلان ومثله من التعابير المختلفة الواردة في الكلمات هو ما كان له استعداد الجريان لا ما كان جارياً بالفعل.
وكيف كان فالمتبع هي الروايات الواردة في الباب وما يفهم منها فنقول:
منها: رواية أبي بصير قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو يصلّي فقال لي قائدي: إنّ في ثوبه دماً فلمّا انصرف قلت له: إنّ قائدي أخبرني انّ بثوبك دماً، فقال لي: إنّ بي دماً ميل ولست أغسل ثوبي حتّى تبرء. وهذه الرواية مطلقة من جهة القيدين فانّه وإن كان من المحتمل وجود كلا القيدين في الدماميل التي كانت بالإمام (عليه السلام) إلاّ انّ بيان الحكم بصورة الإطلاق وعدم التقييد بشيء منهما ظاهر في عدم مدخليته مع انّ وجود القيد الثاني مظنون العدم لأنّه من المستبعد أن تكون إزالة الدم من الثوب أو تبديله مشقّة مشقّة على الإمام (عليه السلام). وبالجملة فالرواية خالية عن اعتبار شيء من القيدين بل جعلت الغاية فهيا البرء.
ومنها: صحيحة ليث المرادي قال: قلت لأبي عبدالله (عليه السلام) : الرجل تكون به
(الصفحة 451)
الدماميل والقروح فجلده وثيابه مملوّة دماً وقيحاً وثيابه بمنزلة جلده فقال: يصلّي في ثبابه ولا يغسلها ولا شيء عليه. ودلالتها على الإطلاق كالرواية المتقدّمة.
ومنها: صحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن الرجل يخرج به القروح فلا تزال تدمى كيف يصلّي؟ فقال: يصلّي وإن كانت الدماء تسيل. فإنّ المفروض في كلام الراوي وإن كان هو استمرار الادماء إلاّ انّ تعميم الحكم في الجواب بكلمة «ان» الوصلية ينفي اعتباره بل مقتضى الكلمة انّ جواز الصلاة مع عدمالاستمرار يكون أظهر وبنحو أولى مع انّ الظاهر انّه ليس المراد من القيد هو استمراره بنحو لا يكون في البين فترة بمقدار الصلاة أيضاً، بل المتفاهم عند العرف هو تكرّر الخروج وشيوعه في مقابل انقطاعه بالمرّة.
ومنها: موثقة عمّار عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: سألته عن الدمل يكون بالرجل فينفجر وهو في الصلاة، قال: يمسحه ويمسح يده بالحائط أو بالأرض ولا يقطع الصلاة. والأمر بمسحه كذا مسح يده بالحائط أو بالأرض ليس لأجل مدخليتهما في الصلاة بل انّما هو لأجل انّه لا مانع من مسحه ليزول ألمه بخروج القيح والدم مضافاً إلى عدم تلوث الثوب به لأنّه لا داعي إليه كما انّه الوجه في الأمر بمسح اليد فتدبّر.
ومنها: موثقة سماعة بن مهران عن أبي عبدالله (عليه السلام) قال: إذا كان بالرجل جرح سائل فأصاب ثوبه من دمه فلا يغسله حتّى يبرء وينقطع الدمّ.
وقد استشهد بهذه الرواية للقول باعتبار السيلان نظراً إلى توصيف الجرح بالسائل في موضوع القضية الشرطية وإلى عطف انقطاع الدم على البرء الظاهر في كونه من قبيل عطف الخاصّ على العامّ فالمراد بالبرء ـ حينئذ ـ وقوف الدم عن السِّيلان وإمساكه الصادق على الفترات الحاصلة في الأثناء.
والجواب انّ توصيف الجرح بالسائل انّما هو لكون المراد من الرواية نفي وجوب
(الصفحة 452)
غسل الثوب ومن المعلوم انّه مع عدم السيلان لا يصيب الثوب قهراً فالشرطية مسوقة لبيان الموضوع ولا مفهوم لها ـ حينئذ ـ وإن قلنا بثبوت المفهوم لها في غير هذه الصورة مع انّ جعل الغاية هو البرء الظاهر في انقطاع الدمّ من أصل وعدم جريانه ولو مع فترة ظاهر في عدم مدخلية السيلان وإلاّ لكان المناسب جعل الغاية غير البرء، ومنه يظهر انّ العطف يوجب حمل الانقطاع على الانقطاع الكلّي المساوق للبرء لا الانقطاع الموقّت الصادق مع الفترة أيضاً.
وبالجملة: لا مجال للاستشهاد بظهور الرواية على مدخلية قيد السيلان في العفو كما انّه لا دلالة على ذلك لرواية إسماعيل الجعفي قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام)يصلّي والدم يسيل من ساقه. ضرورة انّها حكاية فعل ولا تنافي الإطلاق بوجه.
ومنها: موثقة سماعة المضمرة قال: سألته عن الرجل به الجرح والقرح فلا يستطيع أن يربطه ولا يغسل دمه قال: يصلّي ولا يغسل ثوبه كل يوم إلاّ مرّة فانّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة.
ومثلها المضمر المرويّ في مستطرفات السرائر عن البزنطي عن العلاء عن محمد بن مسلم، قال: قال: إنّ صاحب القرحة التي لا يستطيع ربطها ولا حبس دمها يصلّي ولا يغسل ثوبه في اليوم أكثر من مرّة.
وقد استدلّ بقوله (عليه السلام) في مضمرة سماعة: فانّه لا يستطيع أن يغسل ثوبه كلّ ساعة، تارة على اعتبار السّيلان نظراً إلى انّ الغسل كل ساعة انّما يكون مع السيلان وعدم الفترة في البين إذ مع وجودها لا حاجة إلى الغسل كلّ ساعة، واُخرى على اعتبار المشقّة وعدم الاستطاعة لظهوره في كونه علّة للعفو وعدم وجوب الغسل فيدلّ على انّ الملاك هو المشقّة وهي الموجبة للعفو.
والجواب عن الأوّل وضوح عدم كونه بظاهره علّة للحكم ضرورة انّه مع
(الصفحة 453)
الاستطاعة وعدم ثبوت المشقّة أيضاً لا يجب عليه الغسل كلّ ساعة لعدم وجوب الصلاة التي تكون طهارة الثوب شرطاً لها واجبة في كلّ ساعة فاللازم أن يكون المراد امّا ساعات وجوب الصلاة وامّا حمله على كونه تعبيراً عرفياً كناية عن التكرّر والتعدّد كما هو المتداول في تعبيراتنا العرفية في هذه الأزمنة أيضاً وعلى التقديرين لا دلالة له على اعتبار السيلان المدعى في المقام.
واُجيب عن الثاني تارة ـ كما في شرح بعض الأعلام على العروة ـ بأنّ الإمام (عليه السلام)انّما ذكر ذلك لأجل انّه مفروض السؤال فإنّ سماعة انّما سأله عمّن به جرح أو قرح لا يستطيع أن يغسله ويربطه فكأنّه (عليه السلام) قال: وحيث انّ مفروض المسألة عدم تمكّن الرجل من الغسل فلا يغسله إلاّ مرّة في كلّ يوم لا لأجل اعتباره في العفوّ.
واُخرى ـ كما في المستمسك ـ بأنّ الظاهر من قوله: ولا يغسل دمه انّه معطوف على «يربطه» ويكون التقدير ولا يستطيع أن يغسل دمه ولكنّه ينافيه الأمر بغسل الثوب في كلّ يوم مرّة لامتناع التكلف بغير المستطاع فلابدّ أن يحمل إرادة نفي الاستطاعة على الغسل في كلّ يوم مرّة ويشهد به التعليل بقوله (عليه السلام): فإنّه لا يستطيع الخ. فتدلّ الرواية على العفو عن الدم إذا كان التطهير في مجموع المدّة غير مستطاع وهذا أجنبي عن اعتبار المشقّة في كلامهم حتّى لو حمل نفي الاستطاعة على المشقّة لأنّ المشقّة في تمام المدّة غير ما يظهر من المشقّة في كلامهم التي هي المشقّة في كلّ وقت من أوقات الابتلاء مع قطع النظر عن غيره.
وأنت خبير بأنّ الاستطاعة المنفية في السؤال غير الاستطاعة المنفية في الجواب، فإنّ المراد منها في السؤال هي الاستطاعة على غسل الدم عن محلّه الذي هو البدن وبتعبير آخر هو حبس الدم وقطعه كما وقع التعبير به في رواية محمد بن مسلم والاستطاعة المذكورة في الجواب راجعة إلى استطاعة غسل الثوب وتطهيره
(الصفحة 454)
عن الدم. ومن المعلوم انّه لا ملازمة بين الاستطاعتين وعليه فلا يبقى مجال لشيء من الجوابين.
والإنصاف ظهور المضمرة ـ بعد حملها التعليل فيها على ما ذكرنا وبعد وضوح كون المراد من الاستطاعة هي الاستطاعة العرفية التي تكون نقيضاً للمشقّة العرفية وبعد عدم كون المفروض في السؤال عدم ثبوت هذه الاستطاعة للرجل وهو يدلّ على كون المراد هي الاستطاعة النوعية لا الشخصية كما لا يخفى ـ في انّ الملاك للعفو هي المشقّة العرفية في غسل الثوب متعدّداً وبالإضافة إلى كلّ صلاة ولا يقدح في الاستدلال بها الإضمار بعد كون منشأه ذكر الإمام (عليه السلام) المروي عنه في أوّل الكتاب ثمّ الإشارة بالضمير إليه في باقي الكتاب ويؤيّده تكثّر مضمراته. نعم هي دالّة على وجوب غسل كلّ يوم مرّة. ومن المعلوم انّ المراد باليوم فيه هو اليوم والليلة ولم يلتزم به الأصحاب وسيأتي البحث فيه.
وممّا ذكرنا ظهر حال صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة المروية في السرائر وانّه لا دلالة لقوله (عليه السلام) : ولا حبس دمها على استمرار السيلان ودوام الجريان فانّ الظاهر انّ المراد منه هو الحبس بنحو الانقطاع الكلّي المساوق للبرء لا حبسه ولو في ساعة أو لحظة ـ مثلاً ـ وقد عرفت انّ عطف الانقطاع على البرء في بعض الروايات عطف تفسير وتوضيح. نعم يبقى الدلالة على وجوب غسل الثوب في كل يوم مرّة ولا مانع من الحمل على الاستحباب لصراحة بعض الروايات المتقدّمة في عدم الوجوب كرواية أبي بصير المشتملة على قوله (عليه السلام) : ولست أغسل ثوبي حتّى تبرء وغيرها ممّا يأبى عن تقييده بالغسل مرّة في كلّ يوم مع انّ ظهورهما في الوجوب في نفسه ضعيف لأنّهما مسوقتان لنفي وجوب الزائد على المرّة لا لإفادة وجوبها كما لا يخفى.