(الصفحة 380)
عموميّة الحكم أو اختصاصه بخصوص الصلاة فيما تتمّ فيه الصلاة منفرداً كما هو الظاهر من السؤال ، فعلى الأوّل تكون رواية الحلبي حاكمة عليهما كما عرفت . وعلى الثاني الذي يكون ظاهر الرواية ـ ويؤيّده أخذ التقييد بالمحضيّة في السؤال في إحداهما ، إذ لا يجتمع مع الجهل بأصل الحكم ، وإن كان يمكن أن يجاب عنه بأنّ التقييد بها إنّما هو باعتبار أنّ الحرمة التكليفية كانت مقيدة به كما هو المعروف بين الفريقين ـ يقع التعارض بينهما .
ويمكن الجمع بينهما بأن يقال إنّه لمّا كان بطلان الصلاة في الحرير غير معروف عند العامة ، وإنّما ذهب إليه بعضهم استناداً إلى أنّ حرمة لبسه تقتضي بطلان الصلاة فيه ، وإنّما المعروف بينهم حرمة لبس الحرير مطلقاً ، ومن المعلوم عدم الفرق عندهم بين ما لا تتمّ وغيره أصلا كما أنّهم لا يفرّقون في بعض الموانع الذي يقولون به بينهما كالنجاسة وغيرها .
وحينئذ فيمكن أن يقال بأنّ الجواب عن السؤال بالجواز فيما لا تتمّ حيث يشعر ببطلان الصلاة في غيره لم يذكر فيهما ، لأنّه مناف للتقية ، فعدل الإمام(عليه السلام)عنه إلى بيان حرمة الصلاة في الحرير المحض المسلّمة عندهم، وإن كانت لا تقتضي الفساد بنظرهم.
هذا ، مضافاً إلى أنّ السؤال باعتبار كونه سؤالا عن حكم خصوص ما لا تتمّ فيه الصلاة كما هو المفروض ، وهو يشعر باعتقاده بطلان الصلاة في غيره لعلّه كان سبباً لالتجائه(عليه السلام) إلى ذلك ، وحينئذ فلا يستفاد من الرواية المذكورة أزيد من حكم كلّي غير مناف لحكومة دليل آخر عليه مبيّن لموضوعه من حيث السعة والضيق .
ثمّ إنّ ما ذكرنا يكفي في مقام دفع المعارضة بينهما من دون افتقار إلى ادّعاء أنّ الحريرعلى ما يظهر من اللّغة هو الثوب المنسوج من الأبريسم ، وهو لا يصدق على القلنسوةوالتكّة وغيرهما ممّا لا تتمّ فيه الصلاة، كما يظهر من صاحب الجواهر(قدس سره)(1).
- (1) جواهر الكلام 8 : 124 .
(الصفحة 381)
ثمّ لو فرض عدم إمكان الجمع بينهما بوجه ، فاللاّزم الرجوع إلى المرجّحات والذي يظهر من كلماتهم أنّ المرجّح الموجود في المقام هو مخالفة إحدى الروايتين للعامّة، وإن اختلفوا في تعيين الرواية المخالفة ، فعن بعضهم كصاحب الحدائق وجماعة أنّها هي المكاتبتان(1) ، وعن بعض آخر كصاحبي الجواهر والمصباح أنّها هي رواية الحلبي(2) وهو الأقوى، كما يظهر بملاحظة فتاوى العامة في مسألة اللبس والصلاة وملاحظة مداركها ، لأنّ الحكم فيها وهو عدم البأس ثابت بالنسبة إلى خصوص ما لا تتمّ فيه الصلاة منفرداً، وهو يدلّ على ثبوت البأس في غيره .
والتفصيل بينهما مخالف لفتاوى العامة على اختلافها ، لأنّك عرفت سابقاً أنّ المسلّم بينهم هو حرمة لبس الحرير مطلقاً ، وأمّا بطلان الصلاة فيه فالمعروف بينهم العدم . نعم ذهب إليه بعضهم(3) استناداً إلى اقتضاء النهي عن اللبس له عقلا من غير فرق بين ما تتمّ وغيره، فالقول بالجواز في الثاني الدالّ على الحرمة في الأوّل مناف لكلا القولين ، فالرواية مخالفة للعامّة .
وأمّا المكاتبتان فالجواب فيهما ـ وهو عدم حلية الصلاة في الحرير المحض ـ لا ينافي فتاواهم ، لأنّهم أيضاً يقولون بذلك ، غاية الأمر أنّ النهي لا يقتضي الفساد عند كثير منهم ، فهما موافقتان لمذهبهم من دون المخالفة لمذهبنا أيضاً .
ثمّ لا يخفى أنّ الرجوع إلى مخالفة العامة إنّما هو لو لم نقل بتحقّق الشهرة على الجواز ، وأمّا لو قلنا بتحقّقها فلا تصل النوبة إليها بناءً على ما حققناه في محلّه ، من أنّ أول المرجّحات الخبريّة هي الشهرة في الفتوى ، وانقدح ممّا ذكرنا أنّ الحق في المسألة هو القول بالجواز والتفصيل بين ما تتمّ وغيره كما عرفت .
- (1) مجمع الفائدة والبرهان 2: 14; مدارك الأحكام 3: 179; الحدائق 7: 97.
- (2) جواهر الكلام 8 : 125. مصباح الفقيه كتاب الصلاة: 137; مستند الشيعة 4: 347.
- (3) وهو أحمد في رواية; المغني لابن قدامة 1: 661; الشرح الكبير 1: 505; المجموع 3: 180; تذكرة الفقهاء 2: 470 مسألة 124.
(الصفحة 382)الأمر الرابع : عدم كون لباس الرجل المصلّي من الذهب
من الاُمور المعتبرة في لباس المصلّي أن لا يكون ذهباً ، إن كان المصلّي رجلا ، في هذا الأمر جهتان من الكلام ، جهة في الحكم التكليفي المتعلّق بلبسه للرجال مطلقاً ، واُخرى في الحكم الوضعي الراجع إلى بطلان صلاتهم فيه .
ولا يخفى أنّ هذه المسألة لم تكن مذكورة في الكتب الفقهيّة الاُصوليّة الموضوعة لنقل فتاوى الأئمة(عليهم السلام) بعين الألفاظ الصادرة عنهم ، بل لم يتعرّض لها قدماء الأصحاب رضوان الله عليهم إلاّ شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي في كتاب المبسوط ـ المعدّ لبيان أحكام الفروع الخارجة عن موارد النصوص اجتهاداً فيها واستنباطاً منها كما أفاده في مقدّمة الكتاب ـ وكذا لم يتعرّض لها المتأخّرون عنه إلى زمان المحقّق والعلاّمة إلاّ نادراً منهم .
وكيف كان فظاهر المبسوط بل صريحه أنّه يحرم لبس الذهب على الرجال ، حيث قال في أواخر كتاب الصلاة : لبس الذهب محرّم على الرجال سواء كان خاتماً
(الصفحة 383)
أو طرازاً على كل حال ، وإن كان مموّهاً أو مجرى فيه ويكون قد اندرس وبقى أثره لم يكن به بأس(1) . انتهى .
وظاهره باعتبار عدم التعرّض له في ضمن ما لا تجوز الصلاة فيه عدم بطلان الصلاة فيه . وقال العلاّمة في التذكرة في الفرع الأوّل من فروع مسألة حرمة لبس الحرير للرجال : الثوب المموّه بالذهب لا تجوز الصلاة فيه للرجال وكذا الخاتم المموّه به ، للنهي عن لبسه . وقال في الفرع الأخير منها : لو كان في يده خاتم من ذهب أو مموّه به بطلت صلاته للنهي عن الكون فيه ، ولقول الصادق(عليه السلام) : «جعل الله الذهب في الدنيا زينة النساء، فحرّم على الرجال لبسه والصلاة فيه»(2) ،(3)انتهى .
وكيف كان فالظاهر أنّ حرمة لبس الذهب على الرجال محلّ وفاق بين من تعرّض من الخاصة(4) للمسألة وبين العامة(5) ، نعم ذهب بعضهم إلى الجواز(6) ، استناداً إلى رواية لا تقاوم الشهرة المحقّقة، بل الاجماع المحقّق ، مضافاً إلى عدم دلالتها على الجواز كما يظهر لمن راجعها .
هذا ، ومورد الفتاوى غالباً هو خاتم الذهب ، ولكنّ الظاهر أنّ حرمته من حيث كونه لباساً لمن يتختّم به لا لخصوصيّة فيه ، فلا اختصاص للتحريم به بل يعمّ مطلق اللباس ، مضافاً إلى دلالة بعض الأخبار على التعميم ، مثل ما رواه العامة
- (1) المبسوط 1: 168 .
- (2) التهذيب 2: 227 ح894 ; الوسائل 4: 414. أبواب لباس المصلّي ب30 ح5.
- (3) تذكرة الفقهاء 2: 471 و 476.
- (4) الخلاف 1 : 507; المعتبر 2: 92; تذكرة الفقهاء 2: 471; الذكرى 3: 47; مستند الشيعة 4: 356; جواهر الكلام 8 : 109; الحدائق 7 : 101 .
- (5) المجموع 4: 441 .
- (6) المعتبر 2 : 92 .
(الصفحة 384)
عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)(1) ، ومن طريق الخاصة ما قد تقدّم في كلام العلاّمة وغيره ، فلا ينبغي الإشكال في عموم التحريم لمطلق اللباس ، هذا في التكليف النفسي المتعلّق بلبسه مطلقاً .
وأمّا الحرمة الوضعية الراجعة إلى بطلان الصلاة فيه، ففيها إشكال، وقد تقدّم من العلاّمة البطلان ، وقد يستدلّ له بلزوم اجتماع الأمر والنهي(2) وهو غير جائز ، لأنّ المفروض أنّ النهي تعلّق بلبسه ، والأمر تعلّق بالصلاة ، وهما أي اللبس والصلاة متّحدان ، فيلزم أن يكون مورد الاجتماع متعلّقاً للأمر والنهي معاً وهو غير جائز ، فالصلاة فيه باطلة نظير الصلاة في الدار المغصوبة .
أقول : قد حقّقنا في الأصول جواز اجتماع الأمر والنهي المتعلّقين بالعنوانين المتصادقين على مصداق واحد ، ولكن قلنا ببطلان العبادة فيما إذا اتّحدت مع عنوان محرّم، لأنّ المبغوض لا يمكن أن يصير مقرّباً ، نعم في الواجبات التوصليّة التي لا يكون قصد التقرّب معتبراً في صحّتها ، يتحقّق الموافقة ولو اجتمعت مع المحرم .
هذا ، ولكن بطلان العبادة إنّما هو فيما إذا كانت متّحدة مع شيء من العناوين المحرمة ، كما في مثل الصلاة في الدار المغصوبة ، وليس المقام من هذا القبيل ، لأنّ اللبس عبارة عن كون شيء محيطاً بالإنسان وهو محاط له ، ولا شكّ أنّ هذا لا يتّحد مع شيء من أجزاء الصلاة أصلا ، ولذا ذكرنا أنّ الصلاة في الدار المغصوبة أيضاً لا تكون كذلك من جهة الغصب ، لأنّ الغصب عبارة عن استيلاء الإنسان على مال الغير، ولو لم يكن متصرّفاً فيه أصلا .
ومن الواضح عدم اتحاد الاستيلاء مع أجزاء الصلاة ، وإنّما المتّحد معها هو التصرّف المحرم لكونه تصرّفاً في مال الغير بغير إذنه ، فالنهي المتعلّق بالتصرّف في
- (1) سنن أبي داوود 4: 47 ح4044 وص49 ح4051; سنن ابن ماجة 2: 1187 ب16 ح3590.
- (2) جواهر الكلام 8 : 110 .