(الصفحة 13)
لم يقدر على الماء وكان نبيذ فإنّي سمعت حريزاً يذكر في حديث انّ النبي(صلى الله عليه وآله) قد توضّأ بنبيذ ولم يقدر على الماء. قال الشيخ(قدس سره) : «أجمعت العصابة على أنّه لا يجوز الوضوء بالنبيذ» لكن عن ابن أبي عقيل الفتوى بالجواز استناداً إلى الرواية.
وقد اُجيب عنها: بأنّه ليس المراد بالنبيذ فيها هو النبيذ المعروف الذي يكون نجساً، بل المراد به ما بيّنه الإمام(عليه السلام) في رواية الكلبي النسّابة المنقولة في الوسائل بعد هذه الرواية من أنّ أهل المدينة شكوا إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله) تغيّر الماء وفساد طبائعهم فأمرهم أن ينبذوا فكان الرجل يأمر خادمه أن ينبذ له فيعمد إلى كف من تمر فيقذف به في الشن فمنه شربه ومنه طهوره وكان يسع الشن ما بين الأربعين إلى الثمانين إلى ما فوق ذلك رطلاً عراقياً وكانت الكف مشتملة على واحدة من التمر أو اثنتين. ضرورة انّ النبيذ بهذا المعنى لا يكون خارجاً عن الماء المطلق أصلاً كما لا يخفى.
ولكن تمكن المناقشة في هذا الجواب بأنّه على هذا التقدير لا يكون الحكم بجواز الوضوء به مشروطاً بعدم القدرة على الماا بل يجوز التوضّي به ابتداءً كما في الرواية الدالّة على أنّ منه شربه ومنه طهوره فتخصيص الحكم بالجواز بما إذا لم يقدر على الماء كما في الفتوى والرواية ممّا لا وجه له ـ حينئذ ـ أصلاً:
وربّما يقال في مقام الجواب: إنّه لم يعلم أنّ المراد ببعض الصادقين هو الإمام(عليه السلام); لأنّ الظاهر كون الصادقين بصيغة الجمع وإطلاقه على الأئمّة(عليهم السلام) غير معهود، نعم الصادقين بصيغة التثنية يطلق على الإمامين الهمامين الباقر وابنه الصادق(عليهما السلام)ويؤيّده ذيلها المشتمل على النقل عن حريز ولو فرض عدم ثبوت كون الذيل من الإمام بملاحظة النقل يسقط عن الاعتبار لأنّه لا يمكن لحريز النقل عن النبي من دون واسطة وهو غير معلوم على أنّه لو فرض تسليم جميع ذلك لم يثبت كون ما
(الصفحة 14)
نقله الإمام(عليه السلام) عن حريز مورداً لامضائه وإلاّ لما كان وجه لاسناده إلى حريز بل كان يحكم بعدم البأس من قبله، فاسناده إليه مشعر بعدم رضائه وانّه نقله تقية.
والحق انّ اضطراب متن الرواية ومناقضة صدرها وذيلها مانع عن الأخذ بها خصوصاً في مثل هذا الحكم الذي يكون خلافه مجمعاً عليه بين الأصحاب لو لم يبلغ الضرورة، والمناقضة إنّما هي باعتبار دلالة صدر الرواية على انحصار الحكم بالماء أو التيمّم في مورد فرض عدم القدرة على الماء، وعليه فكيف يجتمع معه الحكم بجواز الوضوء بالنبيذ في هذا الفرض مع ظهورها في عدم كونه ماء ولا تراباً كما لا يخفى. هذا كلّه فيما يتعلّق بعدم ارتفاع الحدث بالماء المضاف.
وامّا عدم ارتفاع الخبث به فهو المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع، نعم قد ينقل الخلاف عن المفيد والسيّد(قدس سرهما) كما أنّه ربّما يعدّ المحدِّث الكاشاني(قدس سره) موافقاً لهما ولكنّه لا يخفى انّ خلافه راجع إلى أمر آخر وهو انّه لا يجب الاجتناب إلاّ عن خصوص الأعيان النجسة وانّ النجس لا يكون منجساً بحيث يجب غسل ملاقيه بعد زوال العين إلاّ في خصوص ما قام الدليل على وجوب غسله بعد الزوال أيضاً كالثوب والبدن فلا يجزي فيه ـ حينئذ ـ إلاّ الماء، وامّا العلمان فذهبا إلى أنّ غسل ملاقي النجاسات وإن كان واجباً شرعاً إلاّ أنّ الغسل لا يلزم أن يكون بالماء بل يجوز الغسل بالمضاف بل بكلّ ما يكفي في إزالة العين فالكلام ـ حينئذ ـ يقع في مقامين:
المقام الأوّل: وجوب غسل ما لاقاه النجس مع الرطوبة وعدمه، وبعبارة اُخرى ملاقاة شيء من الأعيان النجسة مع الرطوبة هل توجب سراية النجاسة إلى الملاقى بالفتح بحيث يجب غسل ذلك الشيء بعد إزالة العين عنه إن كانت منتقلة إليه أو غسله ابتداء مع فرض عدم انتقال العين أو لا توجب السراية بوجه، بل تجب إزالة العين فقط ففي الحقيقة: الواجب هي الإزالة دون الغسل إلاّ فيما قام الدليل
(الصفحة 15)
الخاص فيه على وجوب الغسل بعد الإزالة كما في الثوب والبدن؟
وملخّص الكلام في المقام: انّ تأثير الأعيان النجسة في نجاسة ملاقيها مع فرض الرطوبة حكم مغروس في أذهان المتشرّعة خلفاً عن سلف، ويظهر أيضاً بالتتبّع في الأخبار فإنّه وإن لم يرد نص على هذا الحكم بعمومه إلاّ أنّ استفادته من الأخبار الواردة في الموارد الجزئية ممّا لا ينبغي أن ينكر فإنّ العرف بعد ملاحظة تلك الأخبار يستفيد عمومية الحكم وجريانه في كلّ شيء نظراً إلى أنّ المناط هي السراية وهي غير مختصّة بتلك الموارد، كيف ولو اقتصر على خصوص تلك الموارد من دون أن يتعدّى عنها يلزم تأسيس فقه جديد.
هذا مضافاً إلى أنّ ما اعترف به في الثوب والبدن من وجوب غسلهما بملاقاتهما مع النجاسة خلاف ما هو ظاهر الدليل فإنّه لم يرد نص على هذا الحكم بعمومه فيهما وإنّما ورد النصّ في الاُمور الجزئية كملاقاة الثوب مع الدم مثلاً، فالواجب ـ حينئذ ـ الاقتصار على خصوص المورد الذي قام عليه الدليل وورد فيه النص من دون أن يجوز التعدّي حتى في الثوب والبدن، ومن المعلوم انّه لا يلتزم به أصلاً.
ولو نوقش فيما ذكرنا من الفهم العرفي والمغروسية في أذهان المتشرّعة يمكن الاستدلال لعدم الاختصاص بما رواه الصدوق باسناده عن عمّار بن موسى الساباطي انّه سأل أبا عبدالله(عليه السلام) عن رجل يجد في إناءه فأرة وقد توضّأ من ذلك الاناء مراراً أو اغتسل منه أو غسل ثيابه وقد كانت الفأرة متسلخة؟ فقال: إن كان رآها في الإناء قبل أن يغتسل أو يتوضّأ أو يغسل ثيابه ثم يفعل ذلك بعدما رآها في الإناء فعليه أن يغسل ثيابه ويغسل كلّ ما أصابه ذلك الماء ويعيد الوضوء والصلاة الحديث. فإنّ مورد السؤال وإن كان هو الثوب إلاّ أنّ الحكم في الجواب بلزوم غسل كلّ ما أصابه ذلك الماء خصوصاً بعد الحكم بلزوم غسل الثياب ظاهر في
(الصفحة 16)
جريان الحكم في كلّ شيء وعدم الاختصاص بالثوب ودعوى احتمال الاختصاص بخصوص الفأرة المتسلّخة أو مطلق الفأرة أو مطلق الميتة واضحة المنع.
المقام الثاني: في لزوم الغسل بالماء المطلق وعدم جوازه بالماء المضاف فضلاً عن غيره وعدمه بعد الفراغ عن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس وفرض تحقّق السراية وقد عرفت انّ المخالف في هذا المقام هما العلمان المفيد والسيّد(قدس سرهما)حيث ذهبا إلى عدم لزوم الغسل بالماء المطلق.
ويدلّ على القول المشهور ـ مضافاً إلى أنّ مقتضى استصحاب بقاء النجاسة المفروض حدوثها ـ لأنّ الكلام إنّما هو بعد الفراغ عنه ـ بقائها إلى أن يعلم المزيل وبالغسل بغير الماء لا يتحقّق العلم بالإزالة وحصول الطهارة وقد حقّق في محلّه جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية أيضاً ـ الروايات الكثيرة الواردة في مقامات مختلفة من الثوب والبدن والاناء وغيرها من المتنجسات الدالّة على لزوم غسلها بالماء مرّة أو مرّتين أو مرّات، مع التعفير أو بدونه حسب اختلاف الموارد، ولا مجال للارتياب في دلالتها على عدم كفاية غير الماء في مقام التطهير إلاّ في بعض الموارد كالاستنجاء بالأحجار. ومن المعلوم انّه لا موقع لاحتمال الاختصاص بتلك الموارد بل المستفاد منها ولو بضميمة عدم القول بالفصل عموم الحكم وشموله لجميع المتنجّسات كما لا يخفى.
وامّا العلمان فقد استدلّ على مرامهما بوجوه:
منها: الأخبار الآمرة بالغسل من دون التعرّض لخصوصية المغسول به ـ من الماء أو غيره ـ فإنّ مقتضى إطلاقاتها وعدم التقييد بالماء انّ الواجب مجرّد الغسل وانّه يكفي في مقام تطهير المتنجسات من دون أن يكون هناك خصوصية للماء.
(الصفحة 17)
والجواب أوّلاً: انّ هذه الأخبار تنصرف عن الغسل بغير الماء لأنّه خارج عن المتعارف، ودعوى انصرافها عن الغسل بمثل ماء الكبريت والنفط أيضاً مع قيام الإجماع على جواز الغسل بهما، مدفوعة بمنع الانصراف لأنّ انصراف الذهن عنه إنّما هو لندرة وجود نظير انصراف الذهن إلى الماء الموجود في بلده ـ مثلاً ـ ومثل ذلك لا يكاد يضرّ بالإطلاق أصلاً وهذا بخلاف الغسل باللبن والخلّ ونظائرهما بل وبماء الورد وماء الرمّان وشبههما فإنّه لا يكون متعارفاً ولا يلتفت إليه المخاطب أصلاً.
وقد انقدح ممّا ذكرنا: انّه ليس الملاك في الانصراف الذي ذكرنا هو ندرة الوجود وقلّة الافراد حتّى يقال كما في شرح بعض الأعلام انّ ذلك لا يمنع عن صدق الاسم على الافراد لأنّ الغسل ليس من المفاهيم المشككة حتى يدعى انّ صدقه على بعض أفراده أجلى من بعضها الآخر.
وذلك لأنّ الانصراف كما عرفت لا يدور مدار القلّة والكثرة ولا مدار التشكيك بل مبناه الخروج عن المتعارف وعدم التفات المخاطب بحيث إذا اُريد إفهام الفرد المنصرف عنه لكان اللاّزم التقييد وعدم الاقتصار على الإطلاق، ألا ترى انّه لو غسل ثوبه بماء الرمّان ـ مثلاً ـ هل يجوز عند العقلاء أن يقتصر في مقام الاخبار على قوله: غسلت ثوبي أو لابدّ من التقييد بماء الرمّان وهذا بخلاف الغسل بالماء فتدبّر.
وثانياً: انّ هذه الأخبار على تقدير الإطلاق وعدم الانصراف تقيّد بالأخبار المتقدّمة الدالّة على لزوم الغسل بالماء في الموارد المتعدّدة بعدما عرفت من عدم خصوصية لتلك الموارد حتى عند العلمين، فمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد تقييدها بها والحكم على طبق المشهور كما هو واضح.