(الصفحة 149)
فيه إنّما هو بالإضافة إلى إحدى الدلالتين، وامّا بالإضافة إلى الاُخرى فهي صريحة وصراحة كلّ منهما ترفع الإجمال عن الاُخرى.
فدلالة الصحيحة على العقد الإيجابي ـ وهو كون الكر ستمائة رطل ـ مجملة لعدم ظهور المراد بالرطل فيها، وعلى العقد السلبي ـ وهو عدم كون الكر زائداً على ذلك المقدار ـ صريحة لصراحتها في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكي.
والمرسلة دلالتها على العقد الإيجابي أيضاً مجملة، وعلى العقد السلبي وهو عدم كون الكر أقلّ من ذلك المقدار ولو بأقلّ محتملاته الذي هو الرطل العراقي صريحة، وحيث إنّ الصحيحة صريحة في عقدها السلبي تكون مبيّنة لإجمال المرسلة في عقدها الإيجابي وتدلّ على أنّ الرطل فيها ليس بمعنى المدني أو المكي وإلاّ لزاد الكر عن ستمائة رطل، كما أنّ المرسلة لمّا كانت صريحة في عدم كون الكر أقلّ من المقدار المذكور فيها كانت مبيّنة لإجمال الصحيحة في عقدها الإيجابي وبياناً على أنّ المراد بالرطل فيها خصوص الأرطال المكّية وإلاّ لنقص عن المقدار المذكور فيها وهذا من الوضوح بمكان وجمع عرفي مقدم على الطرح بالضرورة.
ويرد عليه انّ الجمع بهذا الطريق ليس جمعاً عرفياً عقلائياً فإنّ معنى الجمع العرفي أن لا يتحيّر العرف بعد ملاحظة الدليلين أو أزيد ولا يرى معارضة في البين وفي المقام ليس كذلك فإنّ التحديد بالأكثر والتحديد بالأقلّ متنافيان وإن كان الرطل المأخوذ فيهما مجملاً كما هو غير خفي.
مع عدم صحّته في نفسه فإنّه إذا كانت دلالة الصحيحة على العقد الإيجابي مجملة باعتبار عدم ظهور المراد من الرطل فيه فكيف تعقل أن تكون صريحة في عقدها السلبي مع ثبوت اللفظ المجمل فيه أيضاً وهل يكون هذا اللفظ في العقد السلبي
(الصفحة 150)
خارجاً عن الإجمال مع أنّ دعوى الصراحة في عدم زيادة الكر عن ستمائة رطل ولو بأكثر محتملاته الذي هو الرطل المكّي إن كانت مستندة إلى نفس الصحيحة فلابدّ وأن يكون منشأها الوقوع في مقام التحديد لأنّ العدد لا مفهوم له ومن المعلوم انّ الوقوع في مقام التحديد غايته الظهور في عدم الزيادة ولا وجه لادّعاء الصراحة وإن كانت مستندة إلى ملاحظة المرسلة وفتوى الأصحاب فيرد عليها ـ مضافاً إلى احتمال أن يكون الرطل فيها هو الرطل المكّي وقد عرفت فتوى بعض الأصحاب بأنّ الكرّ ألف وثمانمائة رطلاً بالرطل العراقي ـ انّه لابدّ في مقام ملاحظة دلالة الرواية من النظر إلى نفسها من دون لحاظ رواية اُخرى أو فتوى الأصحاب أصلاً فدعوى صراحة الصحيحة فيما أفاده ممنوعة جدّاً ومنه يظهر النظر فيما أفاده في المرسلة من ثبوت الدلالتين ووجود دلالة صريحة في البين ترفع الإجمال عن الصحيحة.
فالإنصاف انّه مع قطع النظر عمّا ذكرنا لابدّ من حمل الروايتين على الرطل العراقي بملاحظة رواية الكلبي النسّابة المتقدّمة الظاهرة في أنّ الإطلاق يحمل على العراقي وبعده تتحقّق المعارضة والترجيح مع المرسلة لموافقته للشهرة الفتوائية بين الأصحاب التي هي أوّل المرجّحات في باب تعارض الروايتين وبالنتيجة يحكم بأنّ مقدار الكر بالوزن ألف ومأتا رطل بالرطل العراقي كما هو ظاهر هذا كلّه في التقدير بالوزن.
وامّا تقديره بحسب المساحة والاشبار فقد اختلفت فيه الأقوال ومقتضى النصوص متفاوت جدّاً بل كلّ نصّ يدلّ على غير ما يدلّ عليه الآخر ـ كما سيجيء نقلها ـ والمشهور بينهم بل ربّما يحكي دعوى الإجماع عليه انّ الكر هو ما كان كلّ واحد من طوله وعرضه وعمقه ثلاثة أشبار ونصفاً فيكون مجموع المساحة اثنين
(الصفحة 151)
وأربعين شبراً وسبعة أثمان شبر.
وقيل: ما بلغ مكعبه إلى مائة شبر وهو المنقول عن ابن الجنيد. وقيل: هو ما كان كلّ واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار فيكون المجموع سبعة وعشرين شبراً وهذا هو الذي نسب إلى القمّيين واختاره جماعة من المحقّقين كالعلاّمة والشهيد وثاني المحقّقين، وذهب المحقّق وصاحب المدارك(قدس سرهما) إلى أنّه ما بلغ مكعبه ستّة وثلاثين شبراً، وعن قطب الراوندي انّه ما بلغ أبعاده إلى عشرة ونصف ولم يعتبر التكسير، وقيل: أو احتمل أن يكون ما بلغ مكعبه إلى ثلاثة وثلاثين شبراً وخمسة أثمان ونصف ثمن.
والمهمّ في المقام نقل الروايات الواردة فيه وبيان مدلولها ووجه الجمع بينهما فنقول:
منها: صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : الماء الذي لا ينجسه شيء؟ قال: ذراعان عمقه في ذراع وشبر وسعة (سعته خ ل).
والظاهر انّ المراد بالسعة هي كلّ واحد من الطول والعرض، والدليل عليه ـ مضافاً إلى أنّ المفهوم منها عند العرف هو هذا المعنى ـ ذكرها في مقابل العمق فقط، وكسره بناء عليه يبلغ إلى ست وثلاثين شبراً لأنّ الذراع عبارة عن مقدار شبرين.
وقد استظهر بعض الأعلام من هذه الصحيحة مذهب القمّيين الذي اختاره أيضاً نظراً إلى أنّه ليس المراد بالسعة الوارد فيها هو الطول والعرض لأنّ الظاهر انّ مفروض كلامه(عليه السلام) هو المدور لأنّه فرض أن سعته ذراع وشبر مطلقاً أي من جميع الجوانب والأطراف وهذا لا يتصوّر إلاّ في الدائرة لأنّها التي تكون نسبة أحد أطرافها إلى الآخر بمقدار معيّن مطلقاً لا تزيد عنه ولا تنقص وهذا بخلاف سائر الأشكال من المربع والمستطيل وغيرهما على أنّ مقتضى طبع الماء أيضاً ذلك، وإنّما
(الصفحة 152)
يتشكّل بسائر الأشكال بقسر قاسر ثمّ أفاد في ذيل كلامه انّ تحصيل المساحة على هذه الكيفية ينتج سبعة وعشرين شبراً بلا زيادة ولا نقصان إلاّ في مقدار يسير وهو لا محيص عن المسامحة فيه لأنّ النسبة بين القطر والمحيط ممّا لم تظهر حقيقتها لمهرة الفنّ والهندسة فكيف يعرفها العوام إلاّ بهذا الوجه المسامحي التقريبي الذي يكون بناء الحكم عليه بعد جعل المعرف مثل الشبر الذي يكون في المتوسطين أيضاً مختلفاً في الجملة.
وأنت خبير بأنّ الحمل على الدائرة خلاف الظاهر لأنّه خلاف ما هو المتفاهم عند العرف خصوصاً مع ملاحظة ذكر العمق في كثير من الروايات الواردة في المقام في مقابل الطول والعرض كما سيظهر ومع ملاحظة انّ مساحة الماء إنّما تكون بتبع مساحة الظرف الواقع فيه، غاية الأمر بمقداره وكون مقتضى طبع الماء الاستدارة لا يؤيّد ذلك بعد كون طبيعة كلّ جسم مقتضية للاستدارة من دون اختصاص ذلك بالماء فلابدّ من ملاحظة الظرف مع أنّ سعة الدائرة لا يكون من جميع الجوانب متساوية بل في كلّ جانب لوحظ مع ما هو مقابله من الجانب الآخر وإلاّ فالنسبة بين بعض الأقواس مع البعض الآخر لا يكون كذلك.
وبالجملة لا وجه لدعوى ظهور الرواية في الدائرة وعلى تقديره فالنتيجة إنّما هي ثمانية وعشرون شبراً وربع شبر تقريباً لأنّ حاصل ضرب مساحة الدائرة المحقّقة من ضرب الشعاع في نفسه والحاصل في عدد 14,3 في العمق يكون زائداً على السبعة والعشرين بشبر وربع شبر وهذا المقدار ممّا لا تنبغي المسامحة فيه بوجه كما هو ظاهر فالرواية على هذا التقدير لا تكون مفتى بها لأحد من الأصحاب.
ومنها: المرسلة التي ذكرها الصدوق في المجالس قال: روى انّ الكر هو ما يكون ثلاثة أشبار طولاً في ثلاثة أشبار عرضاً في ثلاثة أشبار عمقاً. وكسره يبلغ سبعاً
(الصفحة 153)
وعشرين شبراً.
ومنها: المرسلة المذكورة في كتاب «المقنع» قال: روى انّ الكر ذراعان وشبر في ذراعين وشبر. وكسره يبلغ ـ باعتبار ـ إلى خمس وعشرين شبراً، وـ باعتبار آخر ـ خمساً وعشرين شبراً بعد المائة، و ـ باعتبار ثالث ـ ثمانية وتسعون شبراً وثمن شبر تقريباً.
ومنها: رواية إسماعيل بن جابر قال: سألت أبا عبدالله(عليه السلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شيء، فقال: كر، قلت: وما الكر؟ قال: ثلاثة أشبار في ثلاثة أشبار.
وقد ادّعى بعض الأعلام صراحتها في الدلالة على مدّعاه، لأنّها وإن لم تشتمل على ذكر شيء من الطول والعرض والعمق إلاّ انّ السائل كغيره يعلم انّ الماء من الأجسام وكلّ جسم مكعّب يشتمل على أبعاد ثلاثة لا محالة ولا معنى لكونه ذا بعدين فإذا قيل: ثلاثة في ثلاثة مع عدم ذكر البُعد الثالث علم انّه أيضاً ثلاثة، وعليه إذا ضربنا الثلاثة في الثلاثة ثمّ الحاصل في الثلاثة يبلغ سبعة وعشرين شبراً.
وليت شعري انّه ما الفرق بين هذه الرواية وصحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة حيث حمل الاُولى على الدائرة وهذه على غيرها وهل مجرّد ذكر العمق فيها قرينة عليه أو انّ ذكر كلمة «السعة» أوجب الحمل على الدائرة ففي هذه الرواية وإن لم تكن هذه الكلمة مذكورة إلاّ أنّ الاقتصار على ذكر البُعدين لِمَ لا يكون قرينة على كون المراد هي الدائرة مع كون الأصل في الأجسام سيّما الماء على قوله هي الاستدارة ولعمري انّه تحكّم صرف كما أنّ ذكر العمق في الاُولى لا يكاد يصلح قرينة على الحمل المذكور بعد وضوح كون المراد من أحد البُعدين في هذه الرواية هو العمق لا محالة.
نعم في الرواية أمران آخران: