(الصفحة 159)
المشهور وعلى تقدير التعارض بين دليلهم ودليل القمّيين بدعوى كونه رواية مستقلّة معتبرة لأنّ ابن سنان فيها هو عبدالله لا محمّد أو انّ محمّداً أيضاً ثقة كما اختاره بعض المتأخّرين من الرجاليين ودلالتها أيضاً على الأبعاد الثلاثة ظاهرة لكان الترجيح أيضاً مع دليل المشهور لموافقته للشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات ـ على ما هو التحقيق ـ فالأحوط بل الأقوى ما عليه المشهور.
بقي الكلام فيما هو المهمّ في المقام من رفع التنافي بين الروايات الدالّة على تقدير الكر بالأشبار وبين ما يدلّ على تقديره بالوزن، حيث إنّ تقديره بالوزن يكون ـ دائماً أو غالباً ـ أقلّ من ثلاث وأربعين شبراً كما حكي عن الأمين الاسترابادي انّه قدر ماء المدينة بالوزن المعيّن في الكر فلم يبلغ إلاّ ستّة وثلاثين شبراً، وعن ظاهر «مرآة العقول» للمجلسي(قدس سره) انّ وزنه يساوي ثلاثة وثلاثين شبراً تقريباً، وعن بعض أفاضل المتأخّرين أقلّ من ذلك.
وتحقيق المقام أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ أضبط التقديرات هو التقدير بالوزن، إذ ليس الوزن قابلاً لطرو الزيادة والنقصان عليه أصلاً، وهذا بخلاف غيره، وـ حينئذ ـ فنقول: ظاهر الروايات الواردة في تقدير الكر بالوزن انّ حدّ الكر بحسب الواقع هو هذا المقدار الذي لا يقبل الزيادة النقيصة، والروايات الدالّة على التقدير بالأشبار وإن كان ظاهرها أيضاً انّ حدّ الكرّ هو هذا المقدار الذي يكون مدلولاً لها إلاّ انّه من الواجب صرفها عن هذا الظهور باعتبار تفاوت الأشبار جدّاً، ولا ينحصر التفاوت بالأشخاص غير المتعارفة من حيث الشبر بل الأفراد المتعارفة المتوسطة تكون أشبارهم متفاوتة، وهذا التفاوت وإن كان قليلاً في شبر واحد إلاّ أنّه بالإضافة إلى ثلاث وأربعين شبراً ربّما يبلغ أشباراً متعدّدة وـ حينئذ ـ يعلم انّ بناء هذا التقدير كان على المسامحة والتسهيل بالإضافة إلى المكلّفين من حيث تعذّر
(الصفحة 160)
الوزن أو تعسّره غالباً، ومع ذلك فقد جعل هذا التقدير أمارة على المقدار الواقعي للكر بمعنى انّ التقدير بالأشبار يبلغ إلى ذلك المقدار الواقعي في جميع الأوقات، بل يكون أزيد منه غالباً فبناء التقدير بالأشبار وإن كان على التسهيل إلاّ أنّه مع ذلك قد روعي فيه الاحتياط بالإضافة إلى المقدار الواقعي للكر، وهذا الاحتياط إنّما هو للتحفّظ على الواقع والوصول إليه دائماً نظير الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، وليس من باب الاحتياط في الحكم ـ الذي لا يمكن وقوعه من الإمام(عليه السلام) ـ فالأخبار الواردة في المقام لا تكون متعارضة بعد التأمّل أصلاً، بل ما يدلّ منها على التقدير بالأشبار إنّما هو ناظر إلى التقدير بالوزن ـ الذي هو الأصل في باب التقادير ـ .
هذا مضافاً إلى أنّه من الواضح كون الحكم كلّياً مترتّباً على جميع المياه الموجودة في العالم فيمكن أن يكون الماء في الخفة إلى حدّ يكون تقديره بالوزن بالغاً إلى تكسير الأشبار المعيّنة في الكر إذ لا تكون المياه متساوية من حيث الوزن بل يختلف وزنها حسب اختلافها في الخفة وعليه يحمل الاختلاف فيما حكي عن الاعلام المتقدّمين في توزين ماء المدينة والنجف فتدبّر. وبهذا يجاب عمّا أورد على رفع التنافي بالنحو المذكور من أنّ التفاوت بين التحديدين حيث يكون ممّا لا يتسامح به لكثرته وبعد الفاصلة بينهما فلا مجال لأن يجعل أحدهما طريقاً ومعرفاً لما هو ناقص عنه بكثير.
وذلك ـ أي الجواب عن الإيراد ـ ما عرفت من أنّ كثرة التفاوت وبُعد الفاصلة إن كانت دائمية أو غالبية فهو يقدح في جعل الكثير طريقاً وأمارة لما هو الناقص عنه بكثير، وامّا إذا كان التفاوت مختلف والفاصلة متفاوتة فقد يكون أكثر وقد يكون أقلّ وقد لا يكون أصلاً لما عرفت من كون الحكم كلّياً من طرف وانّ المياه
(الصفحة 161)
الموجودة في العالم متفاوتة من حيث الخفّة جدّاً من طرف آخر فلا مانع من جعل الكثير طريقاً وأمارة أصلاً.
وبما ذكرنا يمكن الجمع بين نفس الروايات الكثيرة المتعارضة الواردة في خصوص التقدير بالأشبار بأن يقال: إنّ الحكم بالتقدير بالأقلّ من المقدار المشهور يمكن أن يكون لأجل خصوصية في المياه التي كانت موردة لابتلاء السائل، بها يبلغ المقدار الواقعي للكر ولو كان أقلّ من المقدار المشهور.
ويمكن الجمع بينها بنحو آخر وهو انّ الاختلاف بينها إنّما هو في نتيجة ضرب الأبعاد لا في نفس الأشكال المختلفة وإلاّ فهي متباينة، والمجعول علامة ليس هو النتيجة، ويؤيّد ذلك انّك لا تجد رواية من روايات الباب تعرّضت لذكر النتيجة، بل الجميع تضمّن التقدير بخصوص المسامحة الخاصة ولو كان المقصود التقدير بالنتيجة كان ذكرها هو المتعيّن فإنّه أخصر وأصرح وأفيد لكن لمّا كان تطبيق النتيجة من الاُمور الصعبة على أكثر الناس أهمل التعرّض لها فلم تجعل بياناً للمقدار ولا علامة على وجود المقدار أصلاً، وإنّما ذكر في البيان، الشكل الخاص لسهولة معرفته وترتّب الفائدة على بيانه، والأشكال كلّها متبائنات فلا مانع من أن يكون كلّ واحد منها علامة على وجود الكر المقدر حقيقة بالوزن لا انّه تقدير للكر.
ولكن الجمع بهذا النحو الأخير إنّما يتفرّع على كون موارد الروايات الواردة في الأشبار مختلفة من حيث الشكل الهندسي ولم يكن مورد واحد وشكل فارد قد ورد فيه روايتان مختلفتان وإلاّ فلا مجال لهذا الجمع وقد عرفت ثبوت الاختلاف في مورد واحد أيضاً، فالجمع الأوّل هو المتعيّن وإن حقّق الأخير صاحب المستمسك(قدس سره)فتدبّر جيّداً.
(الصفحة 162)
مسألة 15 ـ الماء المشكوك الكرية إن علم حالته السابقة يبنى على تلك الحالة، وإلاّ فالأقوى عدم تنجّسه بالملاقاة وإن لم يجر عليه باقي أحكام الكر1.
1 ـ لا خفاء في أنّ الماء المشكوك الكرية إن كانت حالته السابقة من القلّة أو الكثرة معلومة لكان اللاّزم البناء على تلك الحالة للاستصحاب الذي لا إشكال في جريانه في مثله.
وامّا مع عدم العلم بالحالة السابقة فقد قوى سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ عدم التأثّر بالملاقاة وإن لم يجر عليه باقي أحكام الكر، والوجه في عدم الانفعال بعد قصور شمول أدلّة الاعتصام وكذا أدلّة الانفعال للمقام لكونه شبهة مصداقية لكلتا الحجّتين هو جريان استصحاب الطهارة أو قاعدتها والتفكيك بينه وبين جريان سائر أحكام الكر ككفاية إلقائه على ما يتوقّف تطهيره على إلقاء الكر عليه أو زوال نجاسة المتنجّس المغسول به بإيقاعه فيه لا مانع منه بالإضافة إلى الأحكام الظاهرية كما في غيره من الموارد الكثيرة.
ولكن جماعة من الأصحاب ذهبوا إلى الانفعال ونجاسة الماء المشكوك الكرية لوجوه كثيرة قد تقدّمت مع جوابها في بعض المسائل السابقة كالتمسك بالعام في الشبهة المصداقية أو بقاعدة المقتضى والمانع أو بغيرهما.
ويمكن أن يورد على المتن بأنّ عدم جريان باقي أحكام الكر عليه لا يتمّ على إطلاقه فإنّه إذا ألقى الماء المشكوك الكرية على ماء متنجّس لا مانع من دعوى حصول الطهارة بسببه وإن لم تثبت كريته ولو بالأصل نظراً إلى أنّ المعتبر في المطهر ليست هي الكرية بل الاعتصام وعدم الانفعال بالملاقاة وذلك لما دلّ عليه التعليل في صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر الظاهرة في أنّ ثبوت المادّة المعتصمة وامتزاجها بالماء المتنجّس الموجود في البئر يكفي في طهارته وزوال نجاسته فإنّ
(الصفحة 163)
الماء المشكوك في المقام وإن لم تثبت كريته إلاّ انّه ثبت اعتصامه على ما هو المفروض فيكفي إلقائه في الماء المتنجّس لأجل التطهير وتحصل الطهارة له وكذا في كلّ مورد لم يكن للكرية موضوعية بل كان المناط هو الاعتصام وعدم التأثّر.
ولقائل أن يقول بأنّ هذا الايراد غير وارد على المتن لعدم الإشارة إلى مثله فيه، غاية الأمر الحكم فيه بعدم جريان باقي أحكام الكر عليه وظاهره الأحكام المترتّبة على الكر بعنوانه لا بما هو ماء معتصم، فالإيراد إنّما يردعلى مثل صاحب العروة(قدس سره)الذي صرّح بعدم الكفاية في المورد المذكور لا على مثل المتن فتأمّل.