(الصفحة 199)
امّا الجهة الاُوى فقد نوقش فيها بأنّ في سندها أحمد بن هلال وقد نسب إلى الغلو ـ تارة ـ وإلى النصب ـ اُخرى ـ وقال الشيخ الأنصاري(قدس سره): «وبعد ما بين المذهبين لعلّه يشهد بأنّه لم يكن له مذهب رأساً» وقد صدر عن العسكري(عليه السلام)اللعن في حقّه فهو ملعون زنديق والرواية ساقطة عن الاعتبار.
ولكن الشيخ الأنصاري(قدس سره) أقام قرائن على انّ هذه الرواية موثقة وإن كان أحمد بن هلال ملعوناً لا مذهب له:
منها: انّ الراوي عن أحمد بن هلال هو الحسن بن علي وهو من بني فضال وبنو فضّال ممّن ورد في شأنهم ـ في الحسن كالصحيح ـ عن العسكري(عليه السلام): «خذوا ما رووا وذروا ما رأوا» مع أنّ هذه الحسنة ممّا يمكن أن يستدلّ بها على جواز العمل بروايات مثل ابن هلال ممّا روى حال الاستقامة، ولذا استدلّ بها الشيخ الجليل أبو القاسم بن روح(قدس سره) حيث أفتى أصحابه بجواز العمل بكتب الشلمغاني فقال ـ بعد السؤال عن كتبه ـ : أقول فيها ما قاله العسكري(عليه السلام) لمّا سُئِل عن كتب بني فضّال: خذوا ما رووا...
وفيه أوّلاً: انّه لم يثبت انّ الحسن بن علي الواقع في سند هذه الرواية هو حسن بن علي الفضّال بل ربما يستظهر عدم كونه من بني فضّال لاختلاف الطبقة.
وثانياً: انّ قوله: خذوا ما رووا يفيد مجرّد وثاقتهم وعدم كذبهم في نقل الأحاديث وعدم صدور الجعل والافتراء منهم في مقام نقل الرواية فهم في هذا المقام كسائر الرواة الموثقين فما نقله عن أحمد بن هلال فهو صادق في نقله عنه بمعنى انّه قد سمع منه واقعاً ولا دلالة في هذا الكلام على صدور الحديث وصدق من رووا عنه كأحمد بن هلال وإلاّ لصار حالهم أعلى بمراتب من مثل زرارة ضرورة انّ مثله لو روى عن ضعيف أو مجهول لا يعتمد على روايته وإن كان هو في أعلى مراتب
(الصفحة 200)
الوثاقة كما هو ظاهر. والشيخ الجليل لم يستدلّ بهذه الحسنة أصلاً بل أورد مفادها في كتب الشلمغاني من غير إشعار بدلالة الحسنة عليه.
ومنها: انّ الراوي عن ابن فضّال هنا سعد بن عبدالله الأشعري وهو ممّن طعن على ابن هلال حتى قال: ما سمعنا بمتشيّع يرجع من التشيّع إلى النصب إلاّ أحمد بن هلال، وهو في شدّة اهتمامه بترك روايات المخالفين بحيث حكي عنه انّه قال: لقى ابن إبراهيم بن عبد الحميد أبا الحسن الرضا(عليه السلام) فلم يرو عنه فتركت روايته لأجل ذلك فكيف يجوز أن يسمع من ابن فضّال الفطحي ما يرويه عن ابن هلال الناصبي إلاّ أن تكون الرواية في كتاب معتبر مقطوع الانتساب إلى مؤلّفه بحيث لا يحتاج إلى ملاحظة حال الواسطة أو محفوفة بقرائن موجبة للوثوق بها.
وفيه انّ غاية مدلول هذه القرينة كون النقل في حال التشيّع لأنّ اهتمامه إنّما هو بترك روايات المخالفين فالنقل عنه دليل على تشيّعه حال النقل ولكن ذلك لا يكفي في الاعتماد بالرواية لأنّ مجرّد التشيّع غير كاف بل لابدّ من إحراز وثاقة الراوي والنقل عنه لا يكون مثبتاً لذلك.
ومنها: ان ابن هلال روى هذه الرواية عن ابن محبوب، والظاهر قراءته عليه في كتاب ابن محبوب ـ المسمّى بالمشيخة ـ الذي هو أحد الاُصول الموصوفة في أوّل الفقه بالصحّة واعتماد الطائفة عليها، وحكى عن ابن الغضائري الطاعن كثيراً فيمن لا يطعن فيه غيره انّ الأصحاب لم يعتمدوا على روايات ابن هلال إلاّ ما يرويه عن مشيخة ابن محبوب ونوادر ابن أبي عمير، وحكى عن السيد الداماد إلحاق ما يرويه ابن هلال عن الكتابين بالصحاح.
وفيه انّه لا دلاليل على هذا الاستظهار فلعلّه قد رواها عن كتابه الآخر أو سمعها منه ونقلها، مع أنّه لا دليل على اعتبار كلام ابن الغضائري فيه فإنّه يستكشف من
(الصفحة 201)
كثرة قدحه جدّاً انّ شيئاً من مدحه وقدحه لم يكن على أساس صحيح.
ومنها: اعتماد القمّيين على الرواية كالصدوقين وابن الوليد وسعيد بن عبدالله، وقد عدّوا ذلك من أمارات صحّة الرواية باصطلاح القدماء، قال ـ بعد ذلك ـ : «فالإنصاف انّ الوثوق الحاصل من تزكية الراوي خصوصاً من واحد ليس بأزيد ممّا تفيده هذه القرائن، فالطعن فيها بضعف السند كما في المعتبر والمنتهى مع عدم دورانهم مدار تزكية الراوي محلّ نظر».
وفيه انّه لو كان المراد من اعتمادهم عليها هو نقلهم لها في كتبهم فمن الواضح انّ مجرّد نقل الرواية في الكتاب المعدّ لنقلها لا يدلّ على الاعتماد عليها، ولو كان المراد هو العمل على طبقها والفتوى بمضمونها فالمقدار الثابت هو فتوى الصدوقين والشيخين وعمل هؤلاء الأربعة وإن كانوا من أجلّة علمائنا الإمامية لا يوجب الانجبار بمجرّده في مقابل سائر الأصحاب الذاهبين إلى خلاف مفاد الرواية.
فالإنصاف انّ هذه القرائن لا تكاد تلحق الرواية بالصحاح كما ادّعاه ولو كان تمسّكه في ذلك إلى ما ذكره النجاشي في ترجمة أحمد بن هلال من كون الرجل صالح الرواية لكان أولى مع أنّه لا يحصل الوثوق والاطمئنان بمجرّده أيضاً خصوصاً مع ملاحظة ورود ذمائم كثيرة في حقّه وطعن كثير من علماء الرجال فيه، فالرواية من حيث السند غير قابلة للاعتماد عليها.
وامّا من الجهة الثانية وهي الدلالة فنقول: قد بيّن الإمام(عليه السلام) على طبق الرواية حكمين لثلاثة مياه مستعملة:
الأوّل: الماء المستعمل ـ بنحو الإطلاق.
الثاني: الماء المستعمل الذي غسل به الثوب، والثالث الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الرجل من الجنابة، وامّا المستعمل في غسل الوجه واليد المجتمع في شيء
(الصفحة 202)
طاهر فهو أمر رابع مذكور في ذيل الرواية ومنفي عنه البأس ولا ارتباط له بالمقام فالعمدة هي الثلاثة المذكورة قبل الذيل ولابدّ من أن يكون المراد من كلّ منها غير الآخر حتّى يستقيم التفصيل.
والظاهر انّ المراد من الأوّل مطلق الماء المستعمل ولذا لو سكت الإمام(عليه السلام) ولم يصدر منه غير الفقرة الاُولى لاستفدنا منها عدم البأس بالتوضؤ من الماء المستعمل مطلقاً هذا بالنظر إلى نفس هذه الفقرة ولكنّه يستفاد من الفقرة الثانية والثالثة انّ المراد من الماء المستعمل في الفقرة الاُولى هو الماء الذي غسل فيه أو به القذارات العرفية غير النجسة شرعاً.
كما انّ الظاهر انّ المراد من الثاني هو الماء الذي غسل به الثوب النجس بداهة انّه لا فرق بين الثوب والبدن لو كانا طاهرين وإن كانا كثيفين.
والمراد من الثالث هو الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الرجل من الجنابة من دون نظر إلى كون الجنب حاملاً للنجاسة الظاهرية بداهة انّه لو كان المراد من الجنب خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية وكان عدم جواز التوضّي منه لأجل كونه مستعملاً في رفع الخبث وغسل النجاسة الظاهرية لأصبحت الفقرة الثانية والثالثة واردتين في مورد واحد وكان مفادهما شيئاً واحداً وهو عدم جواز التوضّي بالماء المستعمل الذي غسل فيه المتنجّس فلا فائدة في التفصيل أصلاً فلا محيص من أن تكون الفقرة الثالثة لبيان حكم الماء المستعمل الذي اغتسل فيه الجنب بما هو جنب من دون التفات إلى نجاسة بدنه أصلاً.
وبتقريب آخر المراد من قوله(عليه السلام) : الماء الذي يغسل به الثوب هو غسل الثوب من النجاسة الحاصلة فيه فإنّ المنصرف من لفظ الغسل الوارد في الأخبار هو هذا المعنى وإن كان بحسب معناه اللغوي أعمّ منه وهذا بخلاف لفظ «المستعمل» في
(الصفحة 203)
قوله: «لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل» فإنّه ليس له حقيقة خاصّة في اصطلاح الشرع، بل المراد معناه اللغوي، والمراد من قوله: «أو يغتسل به الرجل من الجنابة» ظاهره الذي هو عبارة عن الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة لا ما يغسل به المني نظراً إلى الملازمة العادية بين حدوث الجنابة ونجاسة البدن بالمني واجتماع غسالتهما ـ نوعاً ـ في مكان واحد، وذلك ـ مضافاً إلى منع الملازمة ـ لأنّ الحكم مترتّب على هذا العنوان أي ما يستعمل في رفع حدث الجنابة فمجرّد الملازمة لا يوجب صرف الحكم عنه إلى عنوان آخر مضافاً إلى أنّه لو كان المراد غسالة المني لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر بعد ذكر غسالة النجاسات قبله كما عرفت.
فحاصل مدلول الرواية عدم جواز التوضّي بغسالة النجاسات ولا بالماء المستعمل في رفع حدث الجنابة أو ما يعمّها ـ بناءً على أن يكون قوله: «وأشباهه» معطوفاً على الضمير المجرور في قوله: «يتوضّأ منه» حتى يكون مكسوراً كما عرفت انّه الأظهر، وامّا التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء إذا اجتمع في محلّ نظيف لم يكن نجساً فهو جائز صحيح، وفيه إشعار على خلاف ما زعمه أبو حنيفة من نجاسة ماء الوضوء كما تقدّم، فتصير الرواية بناءً على ما ذكرنا متعرّضة لحكم ثلاث مسائل: التوضّي بغسالة النجاسات وبالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر وبالماء المستعمل في الوضوء.
وممّا ذكرنا يظهر ما في كلام بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ من أنّ المراد من الرجل هو خصوص الجنب الذي في بدنه نجاسة ظاهرية دون مطلق الجنب نظراً إلى قيام القرينة الداخلية والخارجية عليه:
امّا القرينة الخارجية فهي الأخبار الكثيرة الواردة لبيان كيفية غسل الجنابة الآمرة بأخذ كفّ من الماء وغسل الفرج به ثمّ غسل أطراف البدن حيث إنّها دلّت