(الصفحة 259)
المحصورة ظهر انّ حال أطرافها أوسع من حال الشبهة البدوية أيضاً فإنّه إذا تردّد مائع ـ مثلاً ـ بين كونه ماءً أو لبناً لا يجوز التوضّي بذلك المائع لعدم إحراز الماء المطلق ـ الذي هو شرط في صحّة الوضوء ـ بخلاف ما لو تردّد لبن بين المياه الكثيرة فإنّه يجوز الوضوء بكلّ واحد من الأطراف وإن احتمل كونه لبناً لوجود الامارة العقلائية على الخلاف كما عرفت.
ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين ذكر في ضابط الشبهة غير المحصورة ـ على ما في التقريرات المنسوبة إليه ـ انّ ضابطها هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّاً لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك، وهذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال، فتارة يعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّة منها فهذا لا يكون من الشبهة غير المحصورة لإمكان استعمال الحقة من الحنطة بطحن وخبز وأكل، مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف، واُخرى يعلم بنجاسة إماء من لبن البلد فهذا يكون من الشبهة غير المحصورة ولو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف لعدم التمكّن العادي من جمع الأواني في الاستعمال وإن كان المكلّف متمكّناً من آحادها، فليس العبرة بقلّة العدد وكثرته فقط إذ ربّ عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة كالحقة من الحنطة، كما أنّه لا عبرة بعدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط إذ ربما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لابدّ في الشبهة غير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين وهما كثرة العدد وعدم التمكّن من جمعه في الاستعمال انتهى.
ولا يخفى انّه إن كان المراد بالتمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال هو إمكان جمعها دفعة أي في أكل واحد أو شرب واحد أو لبس واحد وهكذا فهذا
(الصفحة 260)
يوجب خروج أكثر الشبهات المحصورة ومنها المثال الذي ذكره لها، وإن كان المراد هو عدم التمكّن من جمعها ولو تدريجاً بحسب مرور الأيّام والدهور ومضي السنين والشهور فلازمه خروج أكثر الشبهات غير المحصورة عن كونها كذلك ودخولها في الشبهة المحصورة فلا محيص عن الالتزام بكون المناط في الحصر وعدمه ما ذكرنا فتدبّر.
ثمّ إنّهم ذكروا لوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة شروطاً واعتبروا فيه اُموراً:
منها: تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي على كلّ تقدير بأن يكون كلّ واحد منهما ـ مثلاً ـ بحيث لو علم تفصيلاً بكونه هو المحرم الواقعي لوجب الاجتناب عنه، وامّا لو لم يكن كذلك بأن لم يكلّف به أصلاً كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إنائين أحدهما بول أو متنجّس بالبول أو كثير لا ينفعل بالملاقاة لم يجب الاجتناب عن الآخر لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب، وكذا لو كان التكليف في أحدهما معلوماً لكن لا على وجه التنجّز بل معلّقاً على تمكّن المكلّف منه، فإنّ ما لا يتمكّن المكلّف من ارتكابه لا يكلّف منجّزاً بالاجتناب عنه كما إذا تردّد النجس بين إنائه وإناء آخر لا دخل للمكلّف فيه أصلاً، فإنّ التكليف بالاجتناب عن الاناء الآخر غير منجز عرفاً وإن كان متمكّناً منه عقلاً ولهذا لا يحسن التكليف المنجّز بما ليس من شأن المكلّف الابتلاء به، نعم يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّداً بتحقّق الابتلاء.
والحاصل انّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك مختصة بحكم العقل والعرف بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها ولذا يعدّ خطاب غيره بالترك مستهجناً، والسرّ في ذلك انّ غير المبتلى تارك للمنهي عنه بنفس عدم الابتلاء فلا حاجة إلى
(الصفحة 261)
نهيه أصلاً فإذا علم بوقوع النجاسة في هذا الإناء أو الاناء الواقع في أقصى بلاد المغرب ـ مثلاً ـ لم يعلم تنجّز التكليف على كلّ تقدير . هذه خلاصة ما أفاده الشيخ الأعظم(قدس سره) في الرسالة.
وذكر المحقّق النائيني(قدس سره) على ما في التقريرات ما حاصله: «انّه لا إشكال في اعتبار القدرة العقلية في كلّ من الأمر والنهي، ويختص الثاني بقيد زائد وهي القدرة العادية على فعل المنهي عنه وتركه، ولا يكفي في صحّة النهي مجرّد القدرة العقلية، فإنّ التكليف المطلق بترك ما يكون منتركاً عادةً يكون كالتكليف المطلق بترك ما يكون منتركاً عقلاً من حيث اللغوية والاستهجان، وإنّما زيد هذا القيد في النواهي دون الأمر لأنّ الأمر بالفعل ليس إلاّ لأجل اشتماله على المصلحة الملزمة، ولا يقبح من المولى التكليف بإيجاد ما اشتمل على المصلحة بأيّ وجه أمكن ولو بتحصيل الأسباب الخارجة عن القدرة العادية مع التمكّن العقلي من تحصيلها، وامّا النهي فلأنّه حيث كان الغرض منه مجرّد عدم حصول ما اشتمل على المفسدة، ومع عدم التمكّن العادي من فعله لا تكاد تحصل المفسدة فلا موجب للنهي عنه بل لا يمكن لاستهجانه عرفاً.
فإن قلت: يلزم على هذا عدم صحّة النهي عن كلّ ما لا يحصل الداعي إلى إيجاده كما لو فرض انّ المكلّف بحسب طبعه لا يميل إلى شرب الخمر أصلاً ولو لم يتعلّق به نهي كما يشاهد نظيره بالنسبة إلى ستر العورة وأمثالها ممّن يأبى عن كشفها ولو لم يكن نهي، وذلك ممّا لا يمكن الالتزام به فإنّ لازمه قصر النواهي على من تنقدح في نفسه إرادة الفعل بل وقصر الأوامر على من لم يكن مريداً للفعل مع قطع النظر عن الأمر أصلاً وهو كما ترى.
قلت: فرق بين عدم القدرة عادة على الفعل وبين عدم الإرادة عادة فإنّ القدرة
(الصفحة 262)
من شرائط حسن الخطاب ولابدّ من أخذها قيداً في التكليف، وامّا إرادة الفعل فليس لها دخل في حسن الخطاب، ولا يعقل أخذها قيداً في التكليف ـ وجوداً أو عدماً ـ لأنّ التكليف إنّما هو لبعث الإرادة فلا يمكن أن يكون مقيّداً بحال وجودها ولا بحال عدمها، فقياس باب الإرادة بباب القدرة ليس في محلّه لعدم استهجان النهي عن فعل ما لا يحصل الداعي إلى إيجاده عادةً، واستهجانه عن فعل ما لا يتمكّن من فعله كذلك، والذي يدلّك على هذا ملاحظة النواهي في الموالي العرفية فإنّه يحسن من المولى النهي عن شرب التتن ـ مثلاً ـ ولو فرض انّ العبد بحسب طبعه لا يميل إلى شرب التتن، بخلاف ما لو لم يكن قادراً على شربه لكونه في أقصى بلاد الهند ـ مثلاً ـ ولا تصل يده إليه» انتهى ملخّص ما في التقريرات.
إذا عرفت ما ذكروه من حديث الابتلاء وشرطيته لتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال فاعلم انّ التحقيق في هذا الباب ما أفاده سيّدنا العلاّمة الاستاذ الماتن ـ دام ظلّه ـ في بحثه الشريف من أنّ الخطابات على قسمين:
القسم الأوّل: هي الخطابات الجزئية المتوجّهة إلى آحاد المكلّفين كلّ واحد منهم مستقلاًّ عن الآخر كالخطاب إلى زيد بالنهي عن شرب الخمر ـ مثلاً ـ وفي هذا القسم لا مجال للإشكال في اشتراط صحّة النهي وحسن الخطاب بعدم كونه تاركاً له لداع نفساني لأنّ النهي إنّما هو لإيجاد الداعي بالنسبة إلى المكلّف، ومع ثبوت الداعي له على الترك يستهجن تكليفه بالنهي عنه فإنّه من القبيح تكليف صاحب المروة الذي لا يكشف العورة بمنظر من الناس ومراهم بالنهي عن الكشف والأمر بالستر وكذا في مثال الخمر يكون التكليف بالاجتناب عن شربه مستهجناً بالإضافة إلى من يجتنب عنه للعلم بإثمه ومضارّه وآثاره السيئة وتبعاته القبيحة، وكذلك باب الأوامر فإنّ الغرض من البعث ليس إلاّ مجرّد إيجاد الداعي للعبد نحو
(الصفحة 263)
الفعل ومع كونه فاعلاً له ولو مع قطع النظر عن الأمر لداع شهواني نفساني يستهجن ذلك التكليف كما لو أمر المولى عبده بالتنفّس مع صدوره منه عادة وثبوت الداعي له إلى إيجاده دائماً.
نعم فيما إذا كان قصد التقرّب معتبراً في حصول الغرض وسقوط الأمر لما كان وجوده بداعي غير الأمر مؤثّراً في تحقّق المقصود من الأمر ـ الذي هو مجرّد وجود المأمور به من العبد وصدوره في الخارج ـ إلاّ انّ مرجعه أيضاً إلى عدم تحقّق المأمور به بتمام خصوصياته المعتبرة فيه ـ بناء على إمكان أخذ قصد التقرّب في المتعلّق وأخذه فيه كما قد حقّقناه في الاُصول ـ والكلام إنّما هو مع فرض صدور المأمور به من العبد في الخارج بتمام شرائطه وخصوصياته.
القسم الثاني: هي الخطابات الكلّية المتوجّهة إلى عموم المخاطبين بحيث كان الخطاب واحداً والمخاطب متعدّداً كجميع الخطابات الشرعية المتوجّهة إلى عموم الناس فإنّ الخطاب فيها واحد متوجّه إلى العناوين المنطبقة على الناس بعمومهم أو خصوص طائفة منهم كقوله: يا أيّها الناس افعلوا كذا وكذا، أو يا أيّها المستطيع يجب عليك الحجّ.
وبالجملة لا إشكال في وحدة الخطابات الواقعة في الشريعة بمعنى عدم انحلالها إلى خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين، وـ حينئذ ـ فالاستهجان المستلزم لامتناع التكليف ـ بل الخطاب ـ من الشارع الحكيم وعدمه لابدّ وأن يلاحظ بالإضافة إلى ذلك الخطاب العام الواحد المتوجّه إلى المخاطبين المتعدّدين، فإذا فرض أنّهم لا يقدرون ـ بالقدرة العادية ـ على الإتيان بالمنهي عنه بوجه يكون الخطاب منه قبيحاً بعدما عرفت من أنّ النهي إنّما هو لغرض عدم حصول المنهي عنه في الخارج، ومع عدم تحقّقه ولو مع قطع النظر عن النهي ـ كما هو المفروض ـ