(الصفحة 45)
يترتّب عليه الحكم بالانفعال.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ جعل التغيّر طريقاً إلى المقدار المعيّن وكاشفاً عن كم خاص مع عدم العلم بذلك المقدار أحالة على أمر مجهول، وإلى منافاة هذا التوجيه لما يستفاد من ظواهر الأدلّة فإنّ ظاهرها انّ الموضوع المؤثّر في الانفعال إنّما هو عنوان التغيّر، وجعله كاشفاً وأمارة على الموضوع يحتاج إلى مؤونة زائدة لم يدلّ عليه الدليل أصلاً ـ .
انّه من المعلوم انّ ما يوجب استقذار العرف إنّما هو حصول التغيّر في الماء كما نشاهده بالوجدان ضرورة ثبوت الفرق البين من حيث الاستقذار والتنفّر وعدمه بين الماء المتغيّر وبين الماء غير المتغيّر الصالح له لولا المانع، فإذا ثبت الفرق بينهما في نظر العرف تحتمل مدخلية هذه المرتبة من الاستقذار في ثبوت الانفعال ومعه لا يمكن رفع اليد عن الظاهر بدون وجود دليل على خلافه.
ومن ذلك يظهر الجواب عن الاستبعاد الذي ربّما يذكر ويقال في وجهه: انّه لو فرض حوضان من الماء متساويان في المقدار أحدهما مائه صاف لطيف والآخر كدر كثيف فلو فرض وقوع بعض أجزاء الميتة في الأوّل وصار موجباً لتغيّره لكمال صفائه ولطافته ووقع ميتة كاملة في الثاني ولم يتغيّر بسببه لكثافته وعدم لطافته فهل يمكن الالتزام بانفعال الماء الأوّل وعدم انفعال الثاني؟! وهل هو إلاّ القول بمدخلية الكثافة في الاعتصام؟! ومن الواضح منافاته لما هو المعهود من مذاق الشرع.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّه مجرّد استبعاد ولا يجوز رفع اليد عن ظواهر الأدلّة بسببه ـ انّ التفصيل بين المائين والحكم بوجود الفرق في البين موافق للاعتبار أيضاً فإنّ الاستقذار الحاصل بالنسبة إلى الماء الأوّل أشدّ من الاستقذار المتحقّق بالإضافة
(الصفحة 46)
إلى الثاني، وحينئذ تحتمل مدخلية تلك المرتبة الشديدة في الحكم بالنجاسة فلا يجوز رفع اليد عن الظواهر إلاّ بدليل والمفروض انتفائه.
وممّا ذكرنا يظهر الخلل في التفصيل الذي أفاده بعض الأعلام في شرح العروة ـ على ما في تقريراته ـ وهو الفرق بين ما إذا كان التقدير الذي يعبّر عنه بكلمة «لو» في المقتضى وما إذا كان في الشرط وما إذا كان في المانع بالحكم بعدم ثبوت الانفعال في الأوّلين وثبوته في الأخيرين كما في الأمثلة المذكورة في العروة.
وقد عرفت عدم الفرق وانّه لا يتحقّق الانفعال في الأخير أيضاً كما في المثال المذكور في تقريب الاستبعاد، نعم ربما لا يكون التغيّر ظاهراً لمانع كما إذا جعل أحد على عينيه نظارة حمراء أو جعل الماء في آنية حمراء وفي مثله لا مجال للخدشة في الحكم بالانفعال وهذا بخلاف ما إذا ك ان المانع مانعاً عن حصول أصل التغيّر كمثال المائين فقياس أحدهما على الآخر قياس مع الفارق.
وربما يقال: إنّ المعتبر في الانفعال هو التغيّر الواقعي النفس الأمري ولو كان مستوراً عن الحس.
وفيه: انّه إن كان المراد هو التغيّر بحيث يكون يعرفه العرف فهو راجع إلى ما ذكرنا، وإن كان المراد التغيّر الواقعي ولو لم يعد تغيّراً في نظر العرف فاللاّزم الحكم بنجاسة البحر لو وقعت فيه قطرة دم إذ لا يعقل انفكاك التأثير عن هذه القطرة بحسب الواقع والنظر الدقّي الفلسفي، غاية الأمر انّ العرف لا يراه متغيّراً.
وبالجملة فالظاهر انّه لا إشكال في أنّ المدار هو التغيّر الفعلي الذي يعدّ بنظر العرف تغيّراً والأدلّة التي اُقيمت على عدم الاختصاص بين ما يرجع إلى مجرّد الاستبعاد وما هو خلاف الظواهر.
الثاني: انّه هل يكفي في الحكم بالانفعال بسبب التغيّر، مجرّد تغيّر الماء عن وصفه
(الصفحة 47)
الثابت له فعلاً ولو كان وصفاً عرضياً له بحيث لو تغيّر بسبب الملاقاة للنجس عن وصفه العرضي وصار متّصفاً بالوصف الثابت لطبيعة الماء مع قطع النظر عن العوارض كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب وقوع المسكر الصافي أو البول الصافي فيه وصار صافياً كسائر المياه الباقية على الوصف الطبيعي يكون مشمولاً لتلك الأدلّة ومحكوماً بالتأثّر والانفعال، أو انّه يعتبر في الحكم المذكور تغيّر الماء عن الوصف الذاتي الثابت لطبيعة الماء ف لو تبدّل وصفه العرضي إلى الوصف الذاتي بسبب الملاقاة للنجس كما في المثال المذكور، أو إلى وصف عرضي آخر كما إذا تغيّر في المثال إلى الخضرة ـ فرضاً ـ لم يترتّب عليه الحكم بالنجاسة؟ وجهان بل قولان.
والمستند للقول الثاني النبوي المعروف المتقدّم: «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» فإنّه يدلّ على أنّ طبيعة الماء مجرّدة عن كافّة القيود طاهرة لا ينجسها شيء من النجاسات لا أن يكون التجرّد مأخوذاً في الموضوع بل حيث إنّه جعل موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا أخذ قيد فيه ـ مع كون المتكلّم فاعلاً مختاراً ـ يستفاد منه انّ الموضوع نفس الطبيعة و ـ حينئذ ـ فتدلّ الرواية على طهارته إلى أن يتغيّر اللون أو الطعم أو الريح الثابتة لتلك الطبيعة بسبب الملاقاة مع النجاسة.
وبالجملة فالضمير في قوله(صلى الله عليه وآله) : «إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» يرجع إلى ماجعل موضوعاً للطهارة وهي نفس طبيعة الماء، فتدلّ الرواية على أنّ الماء لو تغيّر بعض صفاته الثابتة لطبيعته بسبب الملاقاة يترتّب عليه الحكم بالنجاسة، فالمناط خروج الماء عن أحد أوصافه الأصلية الثابتة لطبيعته وصيرورته معروضاً لبعض العوارض الخارجية.
ومستند القول الأوّل إطلاق ما يستفاد من بعض الروايات، فإنّ ظاهره انّ
(الصفحة 48)
المناط تغيّر الماء عن الحالة التي كان عليها قبل الملاقاة بسببها ولو رجع إلى الحالة الثابتة لنفس طبيعة الماء فإنّ رواية أبي بصير المتقدّمة التي سئل فيها عن الماء النقيع تبول فيه الدواب ربّما يستفاد منها ذلك نظراً إلى أنّ المياه الواقعة في أطراف المدينة كانت خارجة عن أوصافها الأصلية غالباً لاسيما مع ملاحظة الحرارة الشديدة وكثرة الحاجة إليها و ـ حينئذ ـ فلو كان التغيّر إلى تلك الأوصاف غير قادح لزم أن يفصل الإمام(عليه السلام) بينه وبين التغيّر إلى غيرها فترك الاستفصال والتفصيل دليل على العموم.
مضافاً إلى أنّ لازم القول الثاني انّه لو تغيّر الماء عن الوصف العرضي الثابت له فعلاً إلى وصف عرضي آخر كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب الملاقاة للنجاسة وصار أصفر ـ مثلاً ـ عدم كون هذا النحو من التغيّر مؤثراً في رفع الاعتصام وحصول الانفعال، ومن المعلوم انّ الالتزام بذلك مشكل جدّاً، وإلى أنّ الأوصاف الأصلية للماء غير مضبوطة فقد يكون الماء حلواً قابلاً للشرب وقد يكون مالحاً غير قابل له وهكذا الأوصاف الاُخر فالأظهر بناء على ما ذكر هو القول الأوّل.
(الصفحة 49)
مسألة 8 ـ الماء الجاري وهو النابع السائل لا ينجس بملاقاة النجس كثيراً كان أو قليلاً; ويلحق به النابع الواقف كبض العيون وكذلك البئر على الأقوى، فلا ينجس المياه المزبورة إلاّ بالتغيّر كما مرّ1.
1 ـ الكلام في هذه المسألة يقع في مقامات:
المقام الأوّل: في تحقيق موضوع الماء الجاري وبيان حقيقته، وقد عرفه جماعة من الأصحاب بل قيل إنّه المشهور بينهم بأنّه هو النابع السائل على الأرض ولو في الباطن سيلاناً معتدّاً به، وقد صرّح بذلك في كلام صاحب الجواهر(قدس سره) ويظهر من الشيخ الأعظم في طهارته. وقد يفسّر ـ كما عن المسالك ـ بأنّه هو النابع غير البئر سواء كان جارياً على الأرض أم لم يكن كذلك، وتسميته ـ حينئذ ـ جارياً امّا حقيقة عرفية خاصة أو من باب التغليب لتحقّق الجريان في كثير من أفراده، وعليه فمثل العيون التي لا تدخل تحت عنوان «البئر» ولم يكن مائه جارياً على الأرض فعلاً يكون من الجاري.
أقول: لا إشكال في عدم إطلاق الماء الجاري على الماء الخارج من مثل الابريق اتفاقاً، نعم يقال: الماء جار منه باعتبار معناه الحدثي ولا يقال: الماء الجاري، وهذا يدلّ على عدم كون هذا المشتق تابعاً لفعله في الإطلاق، بل يعتبر فيه خصوصية زائدة كإطلاق التاجر ـ مثلاً ـ فإنّه لا يقال على من صدرت منه التجارة دفعة أو دفعتين من دون أن يتّخذها حرفة وصنعة انّه تاجر بل يعتبر في صدقه اشتغاله بالتجارة بحيث صارت حرفة له.
وبالجملة: المشتقات على قسمين: قسم يصحّ إطلاقه بمجرّد تحقّق مبدئه وحدوثه من الفاعل كالضارب والقاتل ونحوهما، وقسم لا يكفي مجرّد حدوث المبدأ وصدوره في صحّة جريه وإطلاقه كمثال التاجر، والظاهر انّ عنوان