(الصفحة 54)
السؤال في هذه الرواية وإن كان هو الماء النقيع وهو الماء الراكد المجتمع في موضع إلاّ أنّ العدول في الجواب عن بيان حكم هذا المورد بخصوصه والتعبير بالقضية الكلّية ربّما يدلّ على المطلب، وحمل تعريف «الماء» في الجواب على العهد خلاف الظاهر ولذا يستفاد من هذه الرواية حكم صورة التغيّر والانفعال بالنسبة إلى الجاري بل كلّ ماء كما لا يخفى.
ومنها: رواية سماعة قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء قال: يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة. ودلالتها على حكم المقام ظاهرة.
ومنها: وهي العمدة صحيحة محمد بن إسماعيل عن الرضا(عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
فإنّه لا ريب في أنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «لا يفسده شيء» ليس هو الاخبار عن أنّه لا يفسد بماء هو مفسد في نظر العرف بل المراد به بيان الحكم وهو الاعتصام وعدم الانفعال وحينئذ فامّا أن يقال بأنّ التعليل بأنّ له مادّة يكون تعليلاً لهذا الحكم وعليه فالرواية لها دلالة ظاهرة على حكم الماء الجاري نظراً إلى التعليل لأنّه يستفاد منها أنّ العلّة في الاعتصام وعدم الانفعال كون الماء متّصفاً بأنّ له مادّة، ومن المعلوم وجود هذه العلّة في الماء الجاري لو لم يكن بنحو أقوى وبطريق أولى خصوصاً لو خصصنا موضوع الماء الجاري بما إذا كانت له مادّة أرضية.
وامّا أن يقال بكونه تعليلاً لما يترتّب على ذهاب الريح وطيب الطعم وهي طهارة الماء لأنّه لا يناسب أن يكون تعليلاً لنفس ذهاب الريح وطيب الطعم فتأمّل، وعليه فتدلّ الرواية أيضاً على اعتصام الماء الجاري ولو كان قليلاً غير بالغ حدّ الكر لدلالتها على أنّ العلّة في طهارة الماء بعد فرض عدم تغيّره أو ذهابه إنّما هو كونه ذا
(الصفحة 55)
مادّة والمفروض اشتراك الجاري مع البئر في هذه الجهة فالعلّة تدلّ على عموم الحكم لجميع موارد ثبوتها.
ودعوى أنّه على التقدير الثاني يكون الاشتمال على المادّة رافعاً للنجاسة الحاصلة بالتغيّر بعد ذهابه والغرض هو الاعتصام وعدم مجيء النجاسة أصلاً، مدفوعة بأنّه على هذا التقدير تكون دلالة الرواية على حكم المقام بالأولوية القطعية نظراً إى أنّ الدفع أهون من الرفع وما يصلح للثاني فهو صالح للأوّل بالأولوية.
ومنها: الروايات الواردة في البول في الماء الجاري الدالّة على عدم البأس وقد استدلّ بها المحقّق الهمداني(قدس سره) وهي بين ما يدلّ على نفي البأس عن البول في الماء الجاري وهي أكثرها وما يدلّ على عدم البأس بالماء الجاري الذي يبال فيه وهي رواية سماعة قال: سألته عن الماء الجاري يبال فيه؟ قال: لا بأس به. والطائفة الاُولى لا دلالة لها على حكم المقام فإنّ جواز البول في الماء الجاري في مقابل الحرمة والكراهة لا يلازم الاعتصام وعدم الانفعال بوجه، ورواية سماعة باعتبار كون السؤال فيها عن حكم الماء الجاري بعد البول فيه تدلّ على اعتصامه إلاّ أن يقال إنّ التعبير بعدم البأس إنّما يلائم الحكم التكليفي لا الوضعي فلا فرق بينها وبين الطائفة الاُولى، أو يقال بأنّ السؤال إنّما هو المحمول والمسند والضمير في الجواب يرجع إلى البول المستفاد من جملة «يبال فيه» الذي هو المسند وعليه فلا فرق بين الطائفتين أيضاً.
ومنها: صحيحة داود بن سرحان قال: قلت لأبي عبدالله(عليه السلام) : ما تقول في ماء الحمّام؟ قال: هو بمنزلة الماء الجاري. والاستدلال بهذه الرواية على اعتصام الماء الجاري مطلقاً يتوقّف على ثلاث مقدّمات:
(الصفحة 56)
إحداها: أنّ التنزيل والتشبيه إنّما هو في الاعتصام لا في الانفعال لأنّه المشهور والمعروف بالنسبة إلى الماء الجاري ولو لم نقل باعتصام القليل منه.
ثانيتها: إنّ المنزل إنّما هي الحياض الصغيرة التي كانت موردة لابتلاء الناس بها في الحمّام، لا المخزن المتّصل بها، ولا المجموع منه ومن تلك الحياض الصغيرة، أمّا الأوّل فواضح.
وامّا الثاني فلأنّ تنزيله منزلة الماء الجاري يكون ـ حينئذ ـ بلا وجه لعدم المناسبة بينهما وعدم ثبوت وجه الشبه بوجه، بخلاف ما إذا كان التنزيل بالنسبة إلى الحياض الصغيرة وحدها فإنّ وجه الشبه ـ حينئذ ـ كون كلّ منهما مشتملاً على مادّة يخرج منها الماء، هذا مضافاً إلى أنّ المخزن المتّصل بالحياض لم يكن مورداً للابتلاء حتى يسأل عنه، وإنّما كان محلّ الابتلاء خصوص تلك الحياض الصغيرة الواقعة في الحمّام.
ثالثتها: كون ماء تلك الحياض غير بالغ حدّ الكر غالباً وهو كذلك على ما هو المتعارف الموجود في الخارج، ويؤيّده وقوع السؤال عنه في الأخبار الكثيرة مع أنّه لو كان بالغاً حدّ الكرّ لم يحتج إلى السؤال لوضوح حكم الكرّ وعدم خصوصية لماء الحمّام ـ حينئذ ـ كما هو ظاهر.
وبعد ثبوت هذه المقدّمات يستفاد من الرواية ثبوت الحكم في الماء الجاري وعدم الفرق بين قليله وكثيره لاشتماله على المادّة، وينقدح بطلان ما أورد أو يمكن أن يورد على الاستدلال بالرواية مثل المناقشة في دلالتها والحكم بإجمالها نظراً إلى عدم معلومية وجه الشبه وانّه لم يعلم انّ الإمام (عليه السلام) شبّه ماء الحمّام بالماء الجاري في أي شيء، ومثل ما أفاده بعض الأعلام من أنّ الظاهر أنّ المياه الجارية في أراضي العرب والحجاز منحصرة بالماء الجاري الكثير ولا يوجد فيها جار قليل وإن كان
(الصفحة 57)
يوجد في أراضي العجم كثيراً فالتشبيه بلحاظ أنّ الجاري الكثير كما أنّه معتصم لكثرته ويتقوّى بعضه ببعض ـ لا بمادّته فإنّها ليست بماء ـ كذلك ماء الحمّام يتقوّى بعضه ببعض ولو لأجل مجرّد الاتصال بانبوب أو بغيره فوزان هذه الرواية وزان ما ورد من أنّ ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً.
بمعنى أنّه يمنع عن عروض النجاسة عليه لكثرته في نفسه لا لأجل مادّته فإذاً لا نظر في الرواية إلى اعتصام الجاري بالمادّة مطلقاً قليلاً كان أم كثيراً، وتشبيه ماء الحمّام به من هذه الجهة.
أقول: أمّا المناقشة في الدلالة ودعوى إجمال الرواية فواضحة المنع بملاحظة المقدّمة الاُولى.
وامّا ما أفاده بعض الأعلام فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع كون الغلبة في المياه الجارية في أراضي العرب مع الكثرة فضلاً عن دعوى الانحصار، وإلى عدم اختصاص الحكم بتلك المياه، وإلى ما عرفت من كون مورد السؤال خصوص الماء الموجود في الحياض الصغيرة وانّه هو الذي يعبّر عنه بماء الحمّام لا المجموع منه ومن الماء الموجود في المخزن ـ انّ التشبيه لو كان بلحاظ الكثرة لم يكن وجه لتخصيص الماء الجاري بالذكر بعد ثبوت هذه الجهة في الكرّ الراكد أيضاً فإنّه لأجل كثرته يتقوّى بعضه ببعض ويمنع عن عروض النجاسة عليه فالتشبيه بالجاري إنّما هو لأجل خصوصية موجودة فيه مفقودة في مثل الكرّ الراكد وليست تلك الخصوصية إلاّ مجرّد الاشتمال على المادّة والاتصال بها ونظر الرواية إلى أنّ المادّة الجعلية الموجودة في الحمّامات بمنزلة المادّة الأصلية الطبيعية الثابتة في الماء الجاري فكما أنّ الثانية نشأت منها الاعتصام في الماء الجاري فكذلك الأولى يوجب الاعتصام لماء الحوض الصغير في الحمّام فالإنصاف تمامية دلالة مثل الرواية على عدم انفعال
(الصفحة 58)
الجاري مطلقاً.
ثمّ إنّه أيّد المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح ما ذهب إليه المشهور بصحيحة ابن مسلم الواردة في الثوب الذي يصيبه البول: «وإن غسلته في ماء جار فمرّة» قال في تقريبه: «إذ لو كان ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لتنجّسه لكان على الإمام(عليه السلام) التنبيه عليه في مثل هذه الفروض ولو لم يكن مقصوداً بالسؤال، هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس وإلاّ فالصحيحة الأخيرة بإطلاقها مثبتة للمطلوب، ودعوى انصراف مثل هذه الأخبار عن العيون التي لا يكون مائها كراً ممنوعة».
وأورد عليه بأنّ بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام(عليه السلام) إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان في مقام البيان من هذه الجهة وليس في مثل الصحيحة بصدد بيان حكم الماء بل بصدد بيان كيفية تطهير الثوب المتنجّس بالبول وعليه فكيف يمكن أن يستفاد من السكوت طهارة الماء، وبأنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ورود الماء على النجس في مقام التطهير بإطلاق الصحيحة ويحكم بعدم اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل فإنّ اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة.
أقول: امّا الإيراد الأوّل فمدفوع بأنّه وإن كان يشترط في التمسّك بالإطلاق كونه وارداً في مقام البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال للمناقشة في أنّ المتفاهم العرفي من مثل الصحيحة الحكم ببقاء الماء على طهارته السابقة فإنّه وإن لم يكن إلاّ في مقام بيان تطهير الثوب إلاّ أنّ ظاهره العرفي ليس حصول الطهارة له وزوالها عن الماء بل بقاء الماء على طهارته الأوّلية وحدوث أمر واحد وهو زوال النجاسة عن الثوب فتدبّر.
وامّا الإيراد الثاني فمدفوع بأنّ الاستدلال إنّما يبتني على فرض اعتبار ورود الماء