(الصفحة 58)
الجاري مطلقاً.
ثمّ إنّه أيّد المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح ما ذهب إليه المشهور بصحيحة ابن مسلم الواردة في الثوب الذي يصيبه البول: «وإن غسلته في ماء جار فمرّة» قال في تقريبه: «إذ لو كان ملاقاة الماء للنجاسة سبباً لتنجّسه لكان على الإمام(عليه السلام) التنبيه عليه في مثل هذه الفروض ولو لم يكن مقصوداً بالسؤال، هذا إذا لم نقل باعتبار ورود الماء القليل في تطهير الثوب النجس وإلاّ فالصحيحة الأخيرة بإطلاقها مثبتة للمطلوب، ودعوى انصراف مثل هذه الأخبار عن العيون التي لا يكون مائها كراً ممنوعة».
وأورد عليه بأنّ بيان طهارة الأشياء ونجاستها وإن كان وظيفة الإمام(عليه السلام) إلاّ أنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان في مقام البيان من هذه الجهة وليس في مثل الصحيحة بصدد بيان حكم الماء بل بصدد بيان كيفية تطهير الثوب المتنجّس بالبول وعليه فكيف يمكن أن يستفاد من السكوت طهارة الماء، وبأنّه لا مانع من الالتزام بتخصيص ما دلّ على اعتبار ورود الماء على النجس في مقام التطهير بإطلاق الصحيحة ويحكم بعدم اعتبار الورود في خصوص الجاري القليل فإنّ اعتباره على تقدير القول به لم يثبت بدليل لفظي مطلق حتى تقع بينهما المعارضة.
أقول: امّا الإيراد الأوّل فمدفوع بأنّه وإن كان يشترط في التمسّك بالإطلاق كونه وارداً في مقام البيان إلاّ أنّه مع ذلك لا مجال للمناقشة في أنّ المتفاهم العرفي من مثل الصحيحة الحكم ببقاء الماء على طهارته السابقة فإنّه وإن لم يكن إلاّ في مقام بيان تطهير الثوب إلاّ أنّ ظاهره العرفي ليس حصول الطهارة له وزوالها عن الماء بل بقاء الماء على طهارته الأوّلية وحدوث أمر واحد وهو زوال النجاسة عن الثوب فتدبّر.
وامّا الإيراد الثاني فمدفوع بأنّ الاستدلال إنّما يبتني على فرض اعتبار ورود الماء
(الصفحة 59)
في مقام التطهير مطلقاً وعليه فالالتزام بالتخصيص مناف لمبنى الاستدلال كالالتزام بعدم اعتبار الورود أصلاً كما لا يخفى هذا كلّه في مستند المشهور.
وامّا العلاّمة(قدس سره) فقد استند لما ذهب إليه من التفصيل بمفهوم الأخبار الكثيرة الدالّة على أنّ الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء. فإنّ مفادها أنّ العلّة المنحصرة والسبب الوحيد لعدم تنجّس الماء واعتصامه هو بلوغه قدر الكرّ فينتفي مع انتفائها من دون فرق بين الجاري وغيره.
وتحقيق الجواب يتوقّف على بيان حال المفهوم وأنّه هل يصلح لأن يعارض المنطوق أم لا؟ ـ وإن كان هذا البحث خارجاً عن البحث الفقهي ـ فنقول: قد اشتهر بين المتأخّرين من الأصوليين انّ تعليق الحكم على شرط أو وصف أو غيرهما من القيود يفيد كون ذلك الشرط أو الوصف أو القيد الآخر علّة منحصرة لثبوت الحكم بحيث ينتفي الحكم بمجرّد انتفاء ما علّق عليه كانتفاء كلّ معلول بانتفاء علّته المنحصرة.
وهذا المعنى المعروف مناف لما يقتضيه التتبّع في الاستعمالات العرفية فإنّ الظاهر أنّه بحسبها لا يفيد تعليق الحكم على مثل الشرط إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، امّا كون ذلك الشرط علّة فلا يستفاد منه فضلاً عن أن يكون علّة منحصرة، ألا ترى انّه لو قيل: «إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة» لا يستفاد منه كون طلوع الشمس علّة منحصرة لحدوث الحرارة وإلاّ لزم أن تكون هذه القضية كاذبة مخالفة للواقع ـ وهو خلاف الواقع ـ فبعد فرض الصدق وعدم كون الاستعمال مجازياً ـ كما هو واضح ـ يدلّ ذلك على أنّ التعليق بالشرط لا يفيد إلاّ مجرّد دخالته في الحكم، وهذا هو الموافق لحكم العقل أيضاً فإنّه يحكم بأنّ المتكلّم المختار إذا أخذ في موضوع حكمه قيداً فاللاّزم الحكم بدخالة القيد في الحكم المذكور صوناً لكلامه
(الصفحة 60)
عن اللغوية عكس باب الإطلاق فإنّ مقتضى حكم العقل في ذلك الباب انّه إذا فرض كون المتكلم في مقام البيان ولم يأخذ قيداً في متعلّق الحكم فاللاّزم الحكم بكون موضوع حكمه نفس الطبيعة بلا قيد، وكما أنّ تقييد الموضوع بدليل آخر لا ينافي ذلك الإطلاق بل الواجب حمله عليه، فكذلك ثبوت الحكم فيما نحن فيه مع قيد آخر لا ينافي تعليقه على القيد الأوّل فتدبّر.
وفي المقام نقول: لا يستفاد من تلك الأخبار إلاّ مجرّد أنّ بلوغ الماء قدر كرّ له دخالة في الاعتصام وعدم التأثّر ولا ينافي ذلك انّ اتصافه بكونه جارياً أيضاً موجباً لعدم الانفعال، نعم المستفاد من تلك الأخبار انّ ذلك الحكم لا يكاد يترتّب على طبيعة الماء من دون مدخلية أي قيد لما عرفت من أنّه يلزم أن يكون أخذ القيد لغواً منافياً لشأن المتكلِّم الملتفت المختار.
فانقدح من جميع ذلك انّ المفهوم لا يصلح لأن يعارض المنطوق أصلاً وإن شئت فقل: إنّه ليس هناك مفهوم حتى يتّصف بالمعارضة للمنطوق فلا تعارض بين الأدلّة في المقام بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الماء الجاري والحكم باعتصام القليل منه أيضاً.
ثمّ إنّه لو قيل بإفادة تعليق الحكم على شرط ونحوه كون ذلك الشرط علّة وحيدة لترتّب الجزاء وسبباً منحصراً لثبوت الحكم بحيث ينتفي بانتفائه ففي مثل المقام يقع التعارض بين الأدلّة ولا تكون لإحدى الطائفتين حكومة على الاُخرى، لأنّ الحكومة مرجعها إلى كون دليل الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم ومفسِّراً له شارحاً إيّاه ـ بحسب الموضوع أو المحمول أو المراتب المتقدّمة أو المتأخّرة كما حقّقناه في محلّه ـ ولا ريب في عدم تحقّق هذا المعنى هنا، ضرورة أنّ مقتضى أدلّة الجاري ثبوت حكمه بالإضافة إلى جميع مصاديقه، ومقتضى هذه الأدلّة انفعال الماء
(الصفحة 61)
غير البالغ حدّ الكر كذلك ـ أي بالنسبة إلى جميع أفراده ـ فلا محالة يقع بينهما التعارض في خصوص مادة الاجتماع ـ وهي الماء القليل الجاري ـ من دون أي تفسير وتعرّض من أحدهما بالنسبة إلى الآخر أصلاً.
ويظهر من الشيخ(قدس سره) في كتاب الطهارة أنّه بعد فرض كون التعارض بينهما بالعموم من وجه يكون الأولى تقييد إطلاقات الجاري حيث قال: «والتقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة بل بنفسه كرّاً قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة فإنّه إخراج للفرد المتعارف، ودعوى أنّ الخارج عن أحد الإطلاقين هو الجاري القليل، ولا يتفاوت الحال بين خروجه عن إطلاقات الجاري أو عن تلك الإطلاقات، مدفوعة بأنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله(عليه السلام) بعد السؤال عن الماء الذي لا ينجّسه شيء: إنّه الكرّ من الماء، وقوله(عليه السلام) : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ونحو ذلك هو مطلق الجاري فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد، وهذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ حدّ الكر كما لا يخفى على المنصف».
وعلّل ذلك ـ أي كون الخارج عن إطلاقات أدلّة الاعتصام هو مطلق الجاري لا خصوص القليل منه ـ في المصباح بأنّ تخصيص المفهوم بما عدا القليل الجاري يستلزم تقييد الماء في منطوق القضية بالراكد، إذ لا يعقل شمول المنطوق لكثير الجاري وعدم شمول المفهوم لقليله لأنّ المفاهيم من قبيل اللبّيات، منشأها الاستلزامات المقحّقة بين المناطق ومفاهيمها فلا يعقل التصرّف فيها ـ ولو بالتخصيص ـ إلاّ بالتصرّف في المنطوق.
أقول: امّا ما ذكره في المصباح تعليلاً لكون الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة هو مطلق الجاري فلم يعلم له وجه إذ ليس المفهوم بحيث لا يجوز التصرّف
(الصفحة 62)
فيه إلاّ بالتصرّف في المنطوق لأنّه ليس إلاّ ظهوراً للمنطوق ويمكن رفع اليد عنه ـ كلّية أو بالإضافة إلى بعض أفراده ـ ألا ترى انّه لو قيل: أكرم العلماء العدول، الدالّ بمفهومه ـ بناء على ثبوت مفهوم الوصف ـ على عدم وجوب أكرم العالم الفاسق ثمّ ورد: أكرم الفقهاء ـ مثلاً ـ الشامل بإطلاقه لما إذا كان الفقيه فاسقاً، فمجرّد وقوع التعارض بين ذاك المفهوم وهذا المنطوق هل يستلزم أن لا يكون منطوق الأوّل شاملاً للفقيه لتقيّد مفهومه ـ مثلاً ـ بما عدا الفقيه أو لأجل نفس المعارضة ومن المعلوم خلافه.
وامّا ما أفاده الشيخ(قدس سره) من دوران الأمر بين إخراج الفرد النادر وبين إخراج الفرد المتعارف والثاني أبعد من الأوّل. ففيه أنّ مجرّد ذلك لا يوجب الأخذ بإطلاق أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ما لم يكن ذلك مقتضى الجمع العرفي، فإنّ اللاّزم في أمثال هذه الموارد اتباع ما هو المتفاهم عند العرف، وقلّة الأفراد وكثرتها لا توجب مزية لأحدهما على الآخر.
وبالجملة فالظاهر انّه بعد ثبوت المفهوم ـ بمعنى العلّية المنحصرة ـ لتلك الإطلاقات يقع التعارض بينها وبين إطلاقات أدلّة الجاري بالعموم من وجه ولا خصوصية للمقام تقتضي تعين الأخذ بأحد الإطلاقين والتصرّف في الآخر فالواجب الرجوع إلى قواعد باب التعارض فنقول: إن قلنا بدخول هذا القسم من التعارض ـ وهو التعارض بالعموم من وجه ـ في موضوع الأخبار العلاجية، لأنّهما يعدّان بنظر العرف من «المتعارضين» أو «المتخالفين» فالواجب الأخذ بإطلاقات أدلّة الجاري لكونها موافقة لفتوى المشهور ـ وقد ثبت في محلّه انّ أوّل المرجحات هي الشهرة من حيث الفتوى ـ وإن قلنا بخروج مثل المقام عن مورد أخبار العلاج لأنّ المتفاهم من مثل عنوان «المتعارضين» هو ما كان الدليلان متعارضين بتمام