(الصفحة 60)
عن اللغوية عكس باب الإطلاق فإنّ مقتضى حكم العقل في ذلك الباب انّه إذا فرض كون المتكلم في مقام البيان ولم يأخذ قيداً في متعلّق الحكم فاللاّزم الحكم بكون موضوع حكمه نفس الطبيعة بلا قيد، وكما أنّ تقييد الموضوع بدليل آخر لا ينافي ذلك الإطلاق بل الواجب حمله عليه، فكذلك ثبوت الحكم فيما نحن فيه مع قيد آخر لا ينافي تعليقه على القيد الأوّل فتدبّر.
وفي المقام نقول: لا يستفاد من تلك الأخبار إلاّ مجرّد أنّ بلوغ الماء قدر كرّ له دخالة في الاعتصام وعدم التأثّر ولا ينافي ذلك انّ اتصافه بكونه جارياً أيضاً موجباً لعدم الانفعال، نعم المستفاد من تلك الأخبار انّ ذلك الحكم لا يكاد يترتّب على طبيعة الماء من دون مدخلية أي قيد لما عرفت من أنّه يلزم أن يكون أخذ القيد لغواً منافياً لشأن المتكلِّم الملتفت المختار.
فانقدح من جميع ذلك انّ المفهوم لا يصلح لأن يعارض المنطوق أصلاً وإن شئت فقل: إنّه ليس هناك مفهوم حتى يتّصف بالمعارضة للمنطوق فلا تعارض بين الأدلّة في المقام بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الماء الجاري والحكم باعتصام القليل منه أيضاً.
ثمّ إنّه لو قيل بإفادة تعليق الحكم على شرط ونحوه كون ذلك الشرط علّة وحيدة لترتّب الجزاء وسبباً منحصراً لثبوت الحكم بحيث ينتفي بانتفائه ففي مثل المقام يقع التعارض بين الأدلّة ولا تكون لإحدى الطائفتين حكومة على الاُخرى، لأنّ الحكومة مرجعها إلى كون دليل الحاكم ناظراً إلى دليل المحكوم ومفسِّراً له شارحاً إيّاه ـ بحسب الموضوع أو المحمول أو المراتب المتقدّمة أو المتأخّرة كما حقّقناه في محلّه ـ ولا ريب في عدم تحقّق هذا المعنى هنا، ضرورة أنّ مقتضى أدلّة الجاري ثبوت حكمه بالإضافة إلى جميع مصاديقه، ومقتضى هذه الأدلّة انفعال الماء
(الصفحة 61)
غير البالغ حدّ الكر كذلك ـ أي بالنسبة إلى جميع أفراده ـ فلا محالة يقع بينهما التعارض في خصوص مادة الاجتماع ـ وهي الماء القليل الجاري ـ من دون أي تفسير وتعرّض من أحدهما بالنسبة إلى الآخر أصلاً.
ويظهر من الشيخ(قدس سره) في كتاب الطهارة أنّه بعد فرض كون التعارض بينهما بالعموم من وجه يكون الأولى تقييد إطلاقات الجاري حيث قال: «والتقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر، لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة بل بنفسه كرّاً قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة فإنّه إخراج للفرد المتعارف، ودعوى أنّ الخارج عن أحد الإطلاقين هو الجاري القليل، ولا يتفاوت الحال بين خروجه عن إطلاقات الجاري أو عن تلك الإطلاقات، مدفوعة بأنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة في مثل قوله(عليه السلام) بعد السؤال عن الماء الذي لا ينجّسه شيء: إنّه الكرّ من الماء، وقوله(عليه السلام) : إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء ونحو ذلك هو مطلق الجاري فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد، وهذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ حدّ الكر كما لا يخفى على المنصف».
وعلّل ذلك ـ أي كون الخارج عن إطلاقات أدلّة الاعتصام هو مطلق الجاري لا خصوص القليل منه ـ في المصباح بأنّ تخصيص المفهوم بما عدا القليل الجاري يستلزم تقييد الماء في منطوق القضية بالراكد، إذ لا يعقل شمول المنطوق لكثير الجاري وعدم شمول المفهوم لقليله لأنّ المفاهيم من قبيل اللبّيات، منشأها الاستلزامات المقحّقة بين المناطق ومفاهيمها فلا يعقل التصرّف فيها ـ ولو بالتخصيص ـ إلاّ بالتصرّف في المنطوق.
أقول: امّا ما ذكره في المصباح تعليلاً لكون الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة هو مطلق الجاري فلم يعلم له وجه إذ ليس المفهوم بحيث لا يجوز التصرّف
(الصفحة 62)
فيه إلاّ بالتصرّف في المنطوق لأنّه ليس إلاّ ظهوراً للمنطوق ويمكن رفع اليد عنه ـ كلّية أو بالإضافة إلى بعض أفراده ـ ألا ترى انّه لو قيل: أكرم العلماء العدول، الدالّ بمفهومه ـ بناء على ثبوت مفهوم الوصف ـ على عدم وجوب أكرم العالم الفاسق ثمّ ورد: أكرم الفقهاء ـ مثلاً ـ الشامل بإطلاقه لما إذا كان الفقيه فاسقاً، فمجرّد وقوع التعارض بين ذاك المفهوم وهذا المنطوق هل يستلزم أن لا يكون منطوق الأوّل شاملاً للفقيه لتقيّد مفهومه ـ مثلاً ـ بما عدا الفقيه أو لأجل نفس المعارضة ومن المعلوم خلافه.
وامّا ما أفاده الشيخ(قدس سره) من دوران الأمر بين إخراج الفرد النادر وبين إخراج الفرد المتعارف والثاني أبعد من الأوّل. ففيه أنّ مجرّد ذلك لا يوجب الأخذ بإطلاق أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة ما لم يكن ذلك مقتضى الجمع العرفي، فإنّ اللاّزم في أمثال هذه الموارد اتباع ما هو المتفاهم عند العرف، وقلّة الأفراد وكثرتها لا توجب مزية لأحدهما على الآخر.
وبالجملة فالظاهر انّه بعد ثبوت المفهوم ـ بمعنى العلّية المنحصرة ـ لتلك الإطلاقات يقع التعارض بينها وبين إطلاقات أدلّة الجاري بالعموم من وجه ولا خصوصية للمقام تقتضي تعين الأخذ بأحد الإطلاقين والتصرّف في الآخر فالواجب الرجوع إلى قواعد باب التعارض فنقول: إن قلنا بدخول هذا القسم من التعارض ـ وهو التعارض بالعموم من وجه ـ في موضوع الأخبار العلاجية، لأنّهما يعدّان بنظر العرف من «المتعارضين» أو «المتخالفين» فالواجب الأخذ بإطلاقات أدلّة الجاري لكونها موافقة لفتوى المشهور ـ وقد ثبت في محلّه انّ أوّل المرجحات هي الشهرة من حيث الفتوى ـ وإن قلنا بخروج مثل المقام عن مورد أخبار العلاج لأنّ المتفاهم من مثل عنوان «المتعارضين» هو ما كان الدليلان متعارضين بتمام
(الصفحة 63)
مدلولهما، فمقتضى القاعدة التساقط والرجوع إلى عموم النبوي المعروف المتقدّم وهو قوله(صلى الله عليه وآله): «خلق الله الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه» ولو نوقش فيه من حيث السند ـ فرضاً ـ فمقتضى القاعدة الرجوع إلى استصحاب الطهارة أو قاعدتها، وبالنتيجة يثبت المطلوب وهو فتوى المشهور.
ثمّ إنّ بعض الأعلام سلك في مقام الجواب عن دليل العلاّمة(قدس سره) طريقاً آخر يرجع حاصله إلى أن صحيح ابن بزيع كالنص في اعتصام المياه التي لها مادّة وأدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة لا تكون بهذه المرتبة فالصحيح يصير قرينة وبياناً وبالإضافة إليها ولا تبقى بينهما معارضة بوجه، ولو بنى على التعارض بأن قطع النظر عن ذيل الصحيح واقتصر على صدره يمكن الاستدلال به أيضاً على طهارة ماء البئر مطلقاً فإنّ النسبة وإن كانت عموماً من وجه إلاّ أنّ الترجيح في مادّة الاجتماع مع الصحيح لأنّ تقديم الآخر يستلزم إلغاء العنوان المأخوذ فيه وهو ماء البئر ضرورة انّه لو اختص اعتصامه بصورة الكثرة لا يبقى لهذا العنوان في دليل الاعتصام موضوعية بوجه ويصبح لغواً غير مؤثِّر وهذا بخلاف التصرّف في الدليل الآخر فإنّه لا يوجب إلاّ تضييق دائرة الانفعال وهو ممّا لا محذور فيه بعد شيوع التخصيص والتقييد كما لا يخفى.
أقول: امّا اقوائية دلالة الصحيحة بحيث تكون كالنصّ فممنوعة جدّاً; لأنّ ظهور تلك الأدلّة في العلّية المنحصرة ـ بناء على ثبوت المفهوم ـ ليس بأضعف من ظهور التعليل في الصحيحة ولم يعلم وجه الاقوائية أصلاً.
وامّا الكلام الأخير فهو وإن كان صحيحاً إلاّ انّه يتمّ بالإضافة إلى عنوان «ماء البئر» المأخوذ في دليل الاعتصام وامّا بالإضافة إلى الماء الجاري الذي هو محلّ البحث فعلاً فلا يتمّ لعدم كونه مأخوذاً بنحو العنوانية في شيء من أدلّة الاعتصام
(الصفحة 64)
بناء على مسلكه ضرورة انّ عمدة الدليل عنده هي الصحيحة وقد قطع النظر عن ذيلها على ما هو المفروض وصدرها وارد في ماء البئر والروايات الواردة في عنوان الماء الجاري بين ما يكون مشتملاً على الخلل من حيث السند أو الضعف من حيث الدلالة كما في رواية تنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري حيث حكم بكون هذا التنزيل ناظراً إلى الكثرة ومرجعه إلى أنّه لا خصوصية للماء الجاري أصلاً فنسأل عنه ـ حينئذ ـ انّه أي دليل ورد في الماء الجاري وحكم باعتصامه حتى يكون التصرّف فيه موجباً لإلغاء العنوان وهو ممّا لا يمكن حمل كلام الحكيم عليه، نعم هذا الكلام يتمّ بناء على ما ذكرنا من وجود دليل في الماء الجاري حاكم عليه بالاعتصام كرواية التنزيل ونحوها فافهم واغتنم.
المقام الثالث: في حكم النابع الواقف الذي حكم في المتن بلحوقه بالماء الجاري وظاهره انّه خارج عنه موضوعاً مشترك معه في الحكم، والحقّ انّه إن قلنا بكونه من مصاديق الماء الجاري كما نفينا البعد عنه أولاً تبعاً لصاحب المسالك(قدس سره)فاعتصامه مطلقاً ـ قليلاً كان أم كثيراً ـ يصير بلا ريب كسائر أفراد الماء الجاري، وإن قلنا بعدم كونه من مصاديقه كما استظهرناه أخيراً فالدليل على اللحوق الحكمي صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر بالتقريب الذي عرفت في استفادة حكم الماء الجاري منها لعدم اختصاصها به بل يجري في كلّ ماء له مادّة سواء كان التعليل ناظراً إلى الصدر ومتعرّضاً لحكم الدفع أو ناظراً إلى الذيل ومبيّناً لحكم الرفع كما عرفت فبملاحظة الصحيحة يجري حكم الاعتصام في جميع المياه التي كانت لها مادّة سواء كان ماءً جارياً أم لم يكن.
المقام الرابع: في حصول الانفعال للماء الجاري بسبب التغيّر وقد تكلّمنا في هذه المسألة بنحو الكلّية والعموم بحيث يشمل الماء الجاري وغيره ولا حاجة معه