(الصفحة 64)
بناء على مسلكه ضرورة انّ عمدة الدليل عنده هي الصحيحة وقد قطع النظر عن ذيلها على ما هو المفروض وصدرها وارد في ماء البئر والروايات الواردة في عنوان الماء الجاري بين ما يكون مشتملاً على الخلل من حيث السند أو الضعف من حيث الدلالة كما في رواية تنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري حيث حكم بكون هذا التنزيل ناظراً إلى الكثرة ومرجعه إلى أنّه لا خصوصية للماء الجاري أصلاً فنسأل عنه ـ حينئذ ـ انّه أي دليل ورد في الماء الجاري وحكم باعتصامه حتى يكون التصرّف فيه موجباً لإلغاء العنوان وهو ممّا لا يمكن حمل كلام الحكيم عليه، نعم هذا الكلام يتمّ بناء على ما ذكرنا من وجود دليل في الماء الجاري حاكم عليه بالاعتصام كرواية التنزيل ونحوها فافهم واغتنم.
المقام الثالث: في حكم النابع الواقف الذي حكم في المتن بلحوقه بالماء الجاري وظاهره انّه خارج عنه موضوعاً مشترك معه في الحكم، والحقّ انّه إن قلنا بكونه من مصاديق الماء الجاري كما نفينا البعد عنه أولاً تبعاً لصاحب المسالك(قدس سره)فاعتصامه مطلقاً ـ قليلاً كان أم كثيراً ـ يصير بلا ريب كسائر أفراد الماء الجاري، وإن قلنا بعدم كونه من مصاديقه كما استظهرناه أخيراً فالدليل على اللحوق الحكمي صحيحة ابن بزيع المتقدّمة الواردة في البئر بالتقريب الذي عرفت في استفادة حكم الماء الجاري منها لعدم اختصاصها به بل يجري في كلّ ماء له مادّة سواء كان التعليل ناظراً إلى الصدر ومتعرّضاً لحكم الدفع أو ناظراً إلى الذيل ومبيّناً لحكم الرفع كما عرفت فبملاحظة الصحيحة يجري حكم الاعتصام في جميع المياه التي كانت لها مادّة سواء كان ماءً جارياً أم لم يكن.
المقام الرابع: في حصول الانفعال للماء الجاري بسبب التغيّر وقد تكلّمنا في هذه المسألة بنحو الكلّية والعموم بحيث يشمل الماء الجاري وغيره ولا حاجة معه
(الصفحة 65)
إلى الإعادة.
بقي الكلام في هذه المسألة في حكم ماء البئر الذي حكم في المتن بلحوقه بالماء الجاري في الاعتصام مطلقاً ـ كثيراً كان أم قليلاً ـ ونقول: المعروف عند قدماء الأصحاب ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ هو نجاسة ماء البئر وانفعاله بمجرّد الملاقاة مع شيء من النجاسات وإن لم يتغيّر، كما أنّ المعروف المشهور بين المتأخّرين بل المتسالم عليه بينهم هو القول بالطهارة وعدم التنجّس بالملاقاة مع النجس مطلقاً ـ كرّاً كان أم قليلاً ـ ، وقد حكى عن الشيخ حسن البصروي من قدماء الأصحاب التفصيل بين ما إذا كان بالغاً حدّ الكرّ وما إذا لم يبلغ ذلك الحدّ بالحكم بالاعتصام في الأوّل والانفعال في الثاني، ومرجعه إلى أنّه لا خصوصية لعنوان ماء البئر أصلاً بل يجري عليه حكم سائر المياه الراكدة، وحكي عن الجعفي التفصيل بين ما إذا كان ماء البئر بمقدار ذراعين في ذراعين وما إذا كان أقلّ من ذلك باعتصام الأوّل وانفعال الثاني، والظاهر أنّ مرجعه إلى تفصيل البصروي لأنّ الكرّ عند الجعفي عبارة عن المقدار المذكور ـ وهو ذراعان في ذراعين فلا يكون تفصيلاً مغايراً له.
وعمدة أدلّة المتأخّرين الأخبار الكثيرة الدالّة ـ بالصراحة أو الظهور ـ على عدم النجاسة وحيث إنّها كثيرة ودلالة أكثرها صريحة، ومن خلل الحديث جلّها خالية فلا حاجة إلى نقلها لكنّا نقتصر على نقل واحدة منها وهي صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المروية بعدّة طرق عن الرضا(عليه السلام) قال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
ومن الظاهر أنّ المراد بقوله(عليه السلام) : «واسع» هي الواسعية من الجهة المرتبطة
(الصفحة 66)
بالإمام(عليه السلام) وهي بيان الحكم الشرعي والطهارة والنجاسة، كما أنّ المراد بقوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» ليس هو نفي الافساد بما يكون في نظر العرف متّصفاً بالفساد بل نفيه بما يرتبط به(عليه السلام) وليس إلاّ الطهارة والنجاسة، وعليه فيمكن أن يكون هذا القول تأكيداً للقول الأوّل ومرجع كليهما إلى اعتصام ماء البئر وعدم تأثّره بملاقاة شيء من النجاسات، ويمكن أن يكون القول الأوّل ناظراً إلى طهارته الأصلية والثاني إلى اعتصامه وعدم انفعاله بالملاقاة.
وامّا ما حكي عن الشيخ الطوسي(قدس سره) من أنّ معنى قوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» انّه لا يفسده شيء إفساداً غير قابل للإصلاح والزوال، والبئر تقبل الاصلاح بنزح المقدرات فجوابه ما أفاده المحقّق الهمداني(قدس سره) في المصباح من أنّ هذا الكلام لو كان صدر من متكلِّم عادي لأجل تفهيم المعنى المدّعى كان مضحكاً عند أبناء المحاورة فكيف يصدر مثله عن الإمام الذي هو أفصح المتحاورين.
ثمّ إنّ صدر الرواية وحده يكفي في مقام الاستدلال للمتأخّرين لأنّ مقتضى إطلاقه عدم الفرق بين الكرّ والقليل، وامّا التعليل بأنّ له مادّة فلا دخالة له في الاستدلال وإنّما يكون أثره في مورده وهو ماء البئر بيان عدم كون الاعتصام ناشئاً عن الكثرة والكرية فيؤكد إطلاق الصدر بحيث لا يبقى معه مجال لاحتمال مدخلية الكرية في هذا الحكم بناء على رجوع التعليل إلى الصدر وكذا بناء على رجوعه إلى الذيل بالتقريب المتقدّم فنتيجة التعليل إنّما تظهر في مقام المعارضة ولا فائدة له في المقام إلاّ من جهة نفي الاحتمال الناشئ عن دعوى الانصراف كما سيجيء وإلاّ فإطلاق الصدر يثبت الحكم من دون حاجة إلى التعليل.
فانقدح ممّا ذكرنا تمامية الصحيحة من جهة الدلالة، وامّا من جهة السند فقد نوقش فيها بأن إعراض القدماء من الأصحاب عن الرواية مع كونها بمرئى منهم
(الصفحة 67)
وعدم الفتوى على طبقها يوجب الوهن فيها بل يخرجها عن الحجّية نظراً إلى أنّ عدم الإعراض من شرائط الحجّية، ولكن المناقشة مدفوعة بعدم ثبوت الاعراض إذ لعلّ عدم الفتوى على وفقها كان لأجل ترجيح المعارضات عندهم أو لأجل عدم وضوح دلالتها على الاعتصام عندهم وقد عرفت تفسير الشيخ الطوسي(قدس سره)قوله(عليه السلام): «لا يفسده شيء» بما لا ينافي التأثّر والانفعال فالأعراض غير ثابت والرواية وحدها كافية في إثبات الاعتصام مطلقاً وقد عرفت عدم انحصار دليل المتأخّرين بها والمهمّ في المقام بيان الروايات التي استدلّ بها على النجاسة ليظهر حالها من حيث الدلالة على مطلوبهم ـ أوّلاً ـ ومن حيث صلاحيتها للمعارضة على تقدير تمامية دلالتها ـ ثانياً ـ فنقول:
منها: صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع أيضاً قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا(عليه السلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شيء من عذرة كالبعرة ونحوها، ما الذي يطهّرها حتى يحلّ الوضوء منها للصلاة؟ فوقّع(عليه السلام) بخطّه في كتابي: ينزح دلاء منها.
وتقريب الاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: انّه لا إشكال في أنّ الأمر بالنزح وإيجابه ليس تعبّدياً بل وجوبه شرطي والأمر به إنّما هو لأن تحصل الطهارة للبئر بسببه فمرجعه إلى توقّف الطهارة الزائلة وعودها على النزح فتدلّ على حصول النجاسة بمجرّد الملاقاة وهو المدعى.
ثانيهما: إقراره(عليه السلام) السائل على قوله: «ما الذي يطهرها...» الظاهر في نجاسة البئر بمجرّد وقوع قطرة أو قطرات من البول أو الدم فيها، والإمام(عليه السلام) لم ينكر عليه ذلك بل أقرّه عليه.
والجواب عنه أوّلاً: انّ الأمر بنزح الدلاء من غير تعيين مقداره قرينة على عدم
(الصفحة 68)
كون الحكم وجوبياً ضرورة انّ الإجمال ـ على فرض الوجوب ـ غير مناسب لمقام الإمامة ومقام البيان، مع أنّ الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر أصلاً.
وثانياً: انّه يستفاد من تعداد السائل «البعرة» الظاهرة في فضلات البهائم في عداد الأعيان النجسة كالبول والدم أنّ المراد من قوله: «ما الذي يطهّرها» هو الطهارة بمعنى النظافة لا الطهارة في مقابل النجاسة، ومنشأ السؤال احتماله أن يكون في الشرع طريق لرفع هذه المرتبة القليلة من القذارة فالسؤال إنّما وقع عنه لا عن المطهر بمعنى المزيل للنجاسة العارضة بسبب وقوع قطرة من البول أو الدم أو غيرهما كما لا يخفى.
وثالثاً: وهو العمدة انّ هذه الرواية هي بعينها الصحيحة المتقدّمة على نقل المفيد عن ابن قولوله عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا(عليه السلام) فقال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
فإنّ الظاهر خصوصاً مع اتحاد العبارة وحذف مورد السؤال في الأخيرة اتحاد الروايتين بمعنى كونهما مكاتبة واحدة، والمستفاد من الجواب في الأخيرة انّ السؤال إنّما وقع عن نجاسة البئر وطهارته.
وبالجملة ففي المكاتبة إنّما سئل الإمام(عليه السلام) عن شيئين، والسؤال في إحداهما وإن كان غير مذكور إلاّ أنّه ـ مضافاً إلى دلالة الجواب ـ لا ارتباط له بالمقام وعليه فالجمع بين الجوابين اللذين أحدهما صريح في عدم ناسة البئر والآخر ظاهر في وجوب نزح دلاء قرينة على عدم وجوب النزح وكونه مستحبّاً فالرواية ـ حينئذ ـ