(الصفحة 68)
كون الحكم وجوبياً ضرورة انّ الإجمال ـ على فرض الوجوب ـ غير مناسب لمقام الإمامة ومقام البيان، مع أنّ الدلاء جمع يصدق على الثلاثة لا محالة ولا قائل من الفريقين بمطهرية الدلاء الثلاثة للبئر أصلاً.
وثانياً: انّه يستفاد من تعداد السائل «البعرة» الظاهرة في فضلات البهائم في عداد الأعيان النجسة كالبول والدم أنّ المراد من قوله: «ما الذي يطهّرها» هو الطهارة بمعنى النظافة لا الطهارة في مقابل النجاسة، ومنشأ السؤال احتماله أن يكون في الشرع طريق لرفع هذه المرتبة القليلة من القذارة فالسؤال إنّما وقع عنه لا عن المطهر بمعنى المزيل للنجاسة العارضة بسبب وقوع قطرة من البول أو الدم أو غيرهما كما لا يخفى.
وثالثاً: وهو العمدة انّ هذه الرواية هي بعينها الصحيحة المتقدّمة على نقل المفيد عن ابن قولوله عن أبيه عن سعد بن عبدالله عن أحمد بن محمد عن محمد بن إسماعيل بن بزيع قال: كتبت إلى رجل أسأله أن يسأل أبا الحسن الرضا(عليه السلام) فقال: ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أن يتغيّر ريحه أو طعمه فينزح منه حتى يذهب الريح ويطيب طعمه لأنّ له مادّة.
فإنّ الظاهر خصوصاً مع اتحاد العبارة وحذف مورد السؤال في الأخيرة اتحاد الروايتين بمعنى كونهما مكاتبة واحدة، والمستفاد من الجواب في الأخيرة انّ السؤال إنّما وقع عن نجاسة البئر وطهارته.
وبالجملة ففي المكاتبة إنّما سئل الإمام(عليه السلام) عن شيئين، والسؤال في إحداهما وإن كان غير مذكور إلاّ أنّه ـ مضافاً إلى دلالة الجواب ـ لا ارتباط له بالمقام وعليه فالجمع بين الجوابين اللذين أحدهما صريح في عدم ناسة البئر والآخر ظاهر في وجوب نزح دلاء قرينة على عدم وجوب النزح وكونه مستحبّاً فالرواية ـ حينئذ ـ
(الصفحة 69)
من أدلّة الطهارة لا النجاسة.
ومنها: رواية عبدالله بن أبي يعفور، وعنبسة بن مصعب عن أبي عبدالله(عليه السلام)قال: إذا أتيت البئر وأنت جنب فلم تجد دلواً ولا شيئاً تغرف به فتيمّم بالصعيد فإنّ ربّ الماء ربّ السعيد، ولا تقع في البئر ولا تفسد على القوم مائهم.
وتقريب الاستدلال بها أنّ المراد بالإفساد ـ المنهي عنه ـ هو التنجّس كما في صحيحة محمد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة، فمدلولها النهي عن وقوع الجنب في البئر لاقتضائه نجاسة البئر ومائه مورد لاحتياج الناس.
وفيه ـ مضافاً إلى أنّ الجنب لا يكون دائماً نجساً بل كثيراً ما يكون بدنه طاهراً خصوصاً في الأزمنة المتقدّمة التي كان الغسل بالماء القليل غالباً ولا محالة كانوا يغسلون أبدانهم قبله و ـ حينئذ ـ فترك الاستفصال دليل على أنّ المراد بالإفساد ليس هو التنجيس ـ انّ ظاهر الرواية دوران الأمر بين الوقوع في البئر والغسل بمائه والصلاة وبين عدم الوقوع فيه والتيمّم بدل الغسل والصلاة مع التيمّم لئلا يلزم إفساد الماء على القوم مع أنّه لو انفعل البئر بمجرّد الوقوع فيه لأجل نجاسة بدن الجنب لامتنع الغسل بمائه لعدم صحّة الغسل بالماء المتنجّس، وعلى فرض الاغتسال يلزم ـ مضافاً إلى بطلانه ـ تنجّس تمام بدنه حتى مواضع التيمّم فيبطل التيمّم أيضاً.
وبعبارة اُخرى مفاد الرواية انّ المنع عن الوقوع في البئر ليس إلاّ لأجل أنّ الوقوع مستلزم لإفساد الماء على القوم بحيث لو لم يكن الوقوع مستلزماً لذلك لكان الواجب الغسل بماء البئر مع أنّه لو قيل بنجاسة البئر لكان الحكم التيمّم لما ذكر من عدم صحّة الغسل المستلزم لعدم صحّة التيمّم أيضاً و ـ حينئذ ـ يندقح أنّ المراد من الإفساد ليس هو التنجيس بل امّا الاستقذار الحاصل للقوم بالنسبة إلى
(الصفحة 70)
الشرب والاستعمال لأجل اغتسال الجنب منه وامّا اختلاطه بالوحل والكثافة المجتمعة في قعره بسبب الوقوع فيه وهذا بخلاف الصحيحة المتقدّمة فإنّه لا محيص عن أن يكون المراد من الإفساد المنفي فيها هو التنجيس لأنّه مضافاً إلى ظهوره فيه في نفسه وإلى أنّ غيره لا يناسب شأن الإمام(عليه السلام) يكون استثناء صورة التغير والأمر بالنزح من القرائن الواضحة على كون المراد من الإفساد هو التنجيس كما هو ظاهر.
ومنها: حسنة زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير قالوا: قلنا له: بئر يتوضّأ منها يجري البول قريباً منها أينجسها؟ قال: فقال: إن كانت البئر في أعلى الوادي والوادي يجري فيه البول من تحتها فكان بينهما قدر ثلاثة أذرع أو أربعة أذرع لم ينجس ذلك شيء، وإن كان أقلّ من ذلك نجّسها. قال: وإن كانت البئر في أسفل الوادي ويمرّ الماء عليها وكان بين البئر وبينه تسعة أذرع لم ينجسها، وما كان أقلّ من ذلك فلا يتوضّأ منه. قال زرارة: فقلت له: فإن كان مجرى البول يلصقها وكان لا يثبت على الأرض؟ فقال: ما لم يكن له قرار فليس به بأس، وإن استقر منه قليل فإنّه لا يثقب الأرض ولا قعر له حتى يبلغ البئر، وليس على البئر منه بأس فيتوضّأ منه إنّما ذلك إذا استنقع كلّه.
أقول: يحتمل أن يكون المراد من السؤال انّ مجرّد جريان البول قريباً من البئر يوجب تنجّسها ويؤثر في انفعالها بمعنى انّه كما أنّ الوصول والملاقاة موجب لذلك هل يكون التقارب أيضاً مؤثِّراً في الانفعال أم لا؟
ويحتمل أن يكون المراد منه أنّ مجرّد جريان البول في قرب البئر هل يوجب التعدّي والسراية إلى البئر فيؤثر في انفعالها أم لا؟
ويحتمل أن يكون المراد منه انّ جريان البول قريباً من البئر هل يكون أمارة
(الصفحة 71)
شرعية تعبّدية على نجاسة مائها أم لا؟
والاحتمالات الثلاثة كلّها بعيدة:
أمّا الأوّل فلأنّه من البعيد أن يكون مجرّد تقارب الشيء مع النجاسة مورداً لتوهّم سرايتها إليه وحصول الانفعال له خصوصاً من مثل هؤلاء الثلاثة الذين هم من عظماء الرواة وفقهاء المحدِّثين.
وامّا الثاني فلأنّ شأن الرواة ووظيفتهم في مقام السؤال عن الإمام(عليه السلام) إنّما هو السؤال عمّا يرتبط بشأنه(عليه السلام) ممّا يتعلّق بحكم من الأحكام الإلهية لا السؤال عن الموضوعات الخارجية والاُمور العادية، فالسؤال عن سراية البول وعدمها لا يناسب شأن الراوي خصوصاً إذا كان من أمثال هؤلاء المذكورين.
وامّا الثالث ـ فمضافاً إلى كونه خلاف ظاهر السؤال، فإنّ ظاهره أنّ جريان البول هل يكون مؤثِّراً في نجاسة البئر امّا لكون مجرّد التقارب كذلك وامّا للسراية، لا أنّه امارة على نجاستها واقعاً ـ انّ مضمون الرواية بناءً على هذا الاحتمال ممّا لم يقل به أحد حتى القائلين بنجاسة البئر فهل يرضى أحد ـ ولو كان منهم ـ بالقول بأنّه إذا كانت البئر في أعلى الوادي، والوادي يجري فيه البول من تحتها وكان بينهما أقلّ من ثلاثة أذرع يكون ذلك أمارة شرعية على نجاسة البئر مضافاً إلى أنّ في ذيل الرواية قرائن تدلّ على نفي هذا الاحتمال فتأمّل جيّداً.
فظهر من جميع ذلك انّ الاحتمالات الثلاثة كلّها بعيدة ولا يمكن حمل الرواية على شيء منها.
والذي يقوى في النظر في معنى الرواية أن يقال: إنّ غرض السائلين ومنشأ سؤالهم إنّما هو احتمال أن يكون قرب مجرى البول إلى البئر موجباً لحصول قذارة قليلة وثبوت كراهة ضعيفة، فكما أنّ تقارب شيء مطبوع مشتاق إليه مع القذارات
(الصفحة 72)
الصورية العرفية يصير موجباً للاستقذار والتنفّر منه بحيث ربّما يزول الاشتياق بالكلّية وتتبدّل المطبوعية إلى التنفّر والانزجار فكذلك كان هذا المعنى موجباً لقياس الشرعيات إلى العرفيات وباعثاً على سؤالهم عن ذلك، وعليه فالمراد بالنجاسة ليس ما يقابل الطهارة بل المراد منها تحقّق القذارة الضعيفة في موارد ثبوتها وـ حينئذ ـ فالرواية غير قابلة للاستناد إليها على النجاسة المصطلحة.
ومنها: الأخبار الكثيرة الواردة في النزح الدالّة على وجوبه، فإنّ حملها على الوجوب التعبّدي ـ مضافاً إلى كونه بعيداً في نفسه ـ مناف لما ورد في بعضها من التعبير بالتطهير بالنزح مثل رواية علي بن يقطين عن أبي الحسن موسى بن جعفر(عليهما السلام) قال: سألته عن البئر تقع فيها الحمامة والدجاجة أو الكلب أو الهرة فقال: يجزيك أن تنزح منها دلاء فإنّ ذلك يطهّرها إن شاء الله تعالى.
هذا والظاهر انّ النزح ليس بواجب بل مستحبّ والدليل عليه اختلاف هذه الروايات في مقداره في مورد واحد بل الترديد في رواية واحدة بين الأقلّ والأكثر مضافاً إلى القرائن الموجودة في بعضها كالحكم بصحّة الوضوء الواقع قبل النزح وعدم وجوب غسل الثوب المغسول به قبله وعليه فتحمل هذه الأخبار على مرتبة ضعيفة من النجاسة لا تمنع عن شربه ولا عن الوضوء والغسل به ولا ترتفع بغير النزح ولا نحملها على مرتبة قوية من النجاسة كي تمنع عن استعمال الماء مطلقاً.
هذا ولكنّه ربّما يناقش في حمل أخبار النزح على الاستحباب بأنّ مقتضى الصناعة العلمية الأخذ بالأقلّ وحمله على الوجوب إذ لا معارض له في شيء ويحمل المقدار الأكثر على الاستحباب. كما أنّه يناقش في الحمل على المرتبة الضعيفة لأجل القرائن المذكورة بأنّ هذا ليس بجمع عرفي يفهمه أهل اللسان مع أنّه