(الصفحة 148)
والنزاهة ، جعلت ذلك للنبيّ الأعظم وابنته العزيزة والأئمّة الاثنى عشر ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ دون سائر الخلق ، ولمّا كان المراد لايتخلّف عن الإرادة الإلهية فهو متحقّق لا محالة ، فمن المؤكّد أنّك ستجد هذه الصوفة الطاهرة تتمتّع بروح عالية ونفس منيعة وصدر رحب يتّسع للهموم والمشكلات ، وقلب متّقد وضّاء مفعم بالعلم ، خال من موانع وحواجز إدراك الحقائق وفهم القرآن .
إنّهم بعيدو المدى ، مطّلعون على خفايا الحوادث ، واقفون على أسرار الدين ورموز القرآن وإشاراته ، لا يقربون الفواحش ولا يدنون الأرجاس من حقد وبخل وحسد وجهل وشكّ وخرافة ، لا يعتريهم شك ولا يأخذهم ضعف ولا وهن ، إذ يتمتّعون بروح عالية وعظمة تنأى بهم عن القبائح والذنوب ، بل تأبى مجرّد توهّم ذلك وقصده! إنّها قلوب طاهرة مطمئنّة لا تخفق إلاّ بحبّ الله ولا يخترق سماءها ذرّة من الهوى وحبّ الشهوات ، إنّ الأئمّة (عليهم السلام) يمثِّلون القمّة في التسليم لله والغاية في الإخلاص له ، وفي رحاب النبيّ والأئمّة(عليهم السلام)لا تجد للحقد والبخل والحسد محلاًّ ، بل ما هي إلاّ الرحمة والرأفة بالناس ، وكرم وعطاء لا يقف عند حدود ، يهب البشرية الخير وهو يرسم لها طريق السعادة ، ويحدّد لها ما يُنجيها ، ويحقّق لها الخلاص بما عرفوه ووقفوا عليه من علوم القرآن وأسراره ، وما استلهموه من مدرسة الوحي والتنزيل ، فهم المعدّون لهداية الناس وإرشادهم وتوجيههم وقيادتهم لسعادة الدارين .
إنّ الرسول الأكرم وآله الأطهار(عليهم السلام) يمتلكون روحيات تحلّق فوق القداسة والطهر ، وهكذا عيّنات ونماذج طاهرة مطهّرة هي التي يمكنها أن تأخذ بيد المجتمع وتقوده نحو الطهارة والسعادة . إنّهم من الطهارة
(الصفحة 149)
بمكان لا يدنوه ذنب ولا يقربه رجس ، فلا تعلّق بأذيالهم ذرّة غبار من معصية ، ولا تؤثر على أرواحهم النزيهة ، ولا شكّ في أنّ أمثال هؤلاء الرجال يسيرون بالاُمّة إلى الطهارة الفكرية والعملية .
إنّها مشيئة الربّ وإرادته جلّ وعلا ، التي قضت أن لا يعتلي عرش الفضيلة إلاّ
«أهل البيت»(عليهم السلام) ، ولا يتربّع على قمّة المجد والطهارة غيرهم ، فيتمتّعون بالقلوب السليمة ، التي تولّى الله رياضتها والأنفس العالية التي تنعكس فيها الحقائق الربانية ، ولا يعتريها شكّ ولا يؤثر فيها حدث مهما كبر وعظم .
إنّهم العالمون بجميع شرائع وأحكام الدين ، الواقفون على رموز التكوين ، والمكنون من أسرار القرآن العظيم ، لا لبس في حياتهم ولا إبهام ولا جهل ، ولم يفسحوا الطريق لأدنى شكّ أو ريبة لتحول بينهم وبين دوام إخلاصهم وتوجّههم لباريهم الحيّ القيّوم .
وهؤلاء هم
«أهل البيت»(عليهم السلام) فقط ، الذين شاء الله أن يفصل بينهم وبين الذنوب والمعاصي والرذائل و وساوس الشيطان بمساحة شاسعة لا تقطعها ملايين الفراسخ ، وهذا الفاصل هو الذي أمّن حصانتهم وحصّل لهم العصمة من الخطأ والزلل ، فهم لا يزلّون كيلا يزلّ المجتمع ، ولا يتزلزلون أمام الدنيا وزخرفها كيلا تتزلزل أمّة بكاملها .
هذا هو مفاد آية التطهير الكريمة ، الذي جاءت به إرادة الحصر ، وإطلاق كلمة «الرجس» ، ومعنى تعلّق إرادة الحقّ تعالى بإذهاب الرجس عنهم ، وتأكيد الطهارة ، على صورة جملة
{وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرَاً} .
من هنا يتّضح السرّ وتظهر الحكمة الإلهية جليّة في هذه الإفاضات الخاصّة ، التي جعلت هذه الثلّة المباركة تسبح فوق قمم الفضيلة
(الصفحة 150)
والطهارة ، وما هي إلاّ خطّة وضعت لتحقيق نتائج غاية في الأهمّية جعلت أهل البيت يبدون على هذا القدر من الجمال والكمال ، إنّها مسألة زعامة المسلمين وقضية قيادة الاُمّة الإسلامية . فما خلعه البارئ عزّوجلّ على
«أهل البيت»(عليهم السلام) من الطهارة والعصمة ، وما سلّحهم به من سعة الصدر وسلامة النفس وعظمة الروح ، وزوّدهم به من علم بالواقع وبصيرة ثاقبة سيعود بالنفع على الاُمّة أوّلاً وآخراً ، وهو من أتمّ مظاهر لطف الله بهذه الأمّة المرحومة ، إذ منَّ الله بهم علينا فجعلهم
{فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرفَعَ وَيُذكَرَ فِيهَا اسمُه}(1) ، فيغترف المسلمون من معين علومهم الزلال ، وينهلون من فيض عدالتهم وكرمهم وطهارتهم ، فيسري شعاعهم ويعمّ الأمّة فترقى في طريق الطهارة والتقى ، وتسلك درب السعادة الأبدية وتحقّق لنفسها النجاة في الدارين . فتربية
«أهل البيت»(عليهم السلام) تربية للأمّة وعطاء الله سبحانه وتعالى الذي اختصّهم به هو عطاء سيشمل الأمّة ويعمّها خيره إن هي أحسنت وامتثلت أمر باريها باتباع سبيلهم ، وبقيت مسؤولية الأمّة في الاتباع واستثمار هذا اللطف والعناية الإلهية التي وضعت هذه الخطّة لقيادة الأمّة وتحقيق خلاصها .
إثبات ولاية أهل البيت(عليهم السلام) بالآية
أنّ آية التطهير تثبت ولاية
«أهل البيت»(عليهم السلام) وتقرّر زعامتهم ، بل
- (1) عيون أخبار الرضا(عليه السلام) 2: 275 قطعة من ح1 ، بحار الأنوار 102 : 130 ح4 ، والآية في سورة النور آية 36 .
(الصفحة 151)
هي بصدد طرح قضية الإمامة والزعامة ولفت الأنظار إليها ، وإلاّ لما كان لإرادة البارئ عزّوجلّ أن تصبّ كلّ هذا الاهتمام وتولّي كلّ هذه العناية ، ولتوضيح هذا المطلب الجوهري نشير إلى أمرين:
الأوّل:
رأينا كيف أنّ أمير المؤمنين(عليه السلام) استند إلى آية التطهير في إثبات إمامته وحقّه وصلاحيته في خلافة رسول الله(صلى الله عليه وآله) في قصّة السقيفة والشورى . وأنّ الإمام الحسن(عليه السلام) طرح الآية ولفت الأنظار إليها في أوّل مؤتمر عام عقد لإعلان خلافته ، أمّا الإمام الصادق(عليه السلام)فقد قال بشأن آية التطهير:
«نزلت هذه الآية في النبيّ وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة(عليهم السلام) ، فلمّا قبضَ الله عزّوجلّ نبيّه(صلى الله عليه وآله) كان أمير المؤمنين ثم الحسن ثم الحسين(عليهم السلام) . . . فطاعتهم طاعة الله عزّوجلّ ومعصيتهم معصية الله»(1) . وقد قرأنا في رواية الحلبي عن الإمام الصادق(عليه السلام)(2) أنّه تكلّم في تفسير الآية فتطرّق إلى الإمامة والولاية .
ويستفاد من مجموع كلام الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الصادق(عليهم السلام) أنّ آية التطهير إنّما كانت في معرض بيان حكم الإمامة والولاية ، وأنّها تثبته لأهل هذا البيت .
الثاني:
لقد أوضحنا فيما مضى من البحث أنّ مجموع الآيات التي تحدّثت عن نساء النبيّ(صلى الله عليه وآله) رسمت المنهج الذي يجب عليهنّ أن يعملن
- (1) علل الشرائع: 205 ب 156 ح2 ، تفسير نور الثقلين 4 : 273 رواية عبد الرحمن بن كثير .
- (2) تقدّمت في ص142 .
(الصفحة 152)
به ، وأنّ آية التطهير التي تخلّلت تلك الآيات في مقام التدوين وضّحت موقع
«أهل البيت»(عليهم السلام) ، وهذه الصيغة الصريحة في البلاغ تعكس أهمّية الموقف وخطورته ، فمستقبل الإسلام يفرض أن تعلم زوجات النبيّ(صلى الله عليه وآله)بتكاليفهنّ ويعملن ويتقيّدن بها ، وفي المقابل أن يعلم عموم المسلمين موقع
«أهل البيت»(عليهم السلام) وخصوصيّتهم والدور المناط بهم .
إذن هذه الآيات كانت تلحظ وتضع الخطة لمستقبل الإسلام ، وهي تحسم أمر عائلة الرسول(صلى الله عليه وآله) ككلّ في موقع واحد ، فقسم عليه أن يبقى في الخدر وراء الحجاب ، بعيداً عن شؤون السياسة والدولة ، وثلّة خاصّة اُنيط بها حفظ الإسلام وقيادته وهداية المسلمين وإمامتهم ، وقد أولاهم البارئ المدبِّر عزّوجلّ المنزلة الرفيعة وبلغ بهم حدّاً محيّراً وعجيباً من الطهارة والعصمة في سبيل أن يبقى الدين منزّهاً عن الزلل والخطأ ، بعيداً عن التلوّث والانحراف ، الذي قد يلحقه به أدعياء الإمامة ومغتصبو الخلافة من عبدة الشهوات .
وقد زوّدهم سبحانه وتعالى بصدور رحبة وهمم عالية وقلوب منيعة ، ليتمكّنوا من الاستقامة والصمود أمام ما ينتظرهم من حوادث مرعبة ، ومقاومة الأحداث القاهرة التي ستأتي على الإسلام والمسلمين ، فلا ينثنوا عن مسؤوليّتهم ولا يستسلموا . لقد حباهم الله علماً جمّاً وبصيرة نافذة ليمكِّنهم من الدفاع عن حياض دينه والنهوض باحتجاجات ومخاصمات الأعداء ويردّوهم على أعقابهم خائبين مفحَمين ، وبما يمكِّنهم من وضع منهج ديني متوافق مع مبادئ القرآن الكريم ، وبوقوفهم على أسرار الوحي يمكنهم أن يحيلوا كلّ عسير من مشاكل الاُمّة سهلاً يسيراً ، ويخرجوا الناس من متاهات الحيرة