قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
مجمع
البيان ج : 2 ص : 699
الاختبار من قولهم فتنت الذهب بالنار أي اختبرته و قيل
معناه خلصته و التأويل و التفسير و أصله المرجع و المصير من قولهم آل أمره إلى كذا
يؤول أولا إذا صار إليه و أولته تأويلا إذا صيرته إليه قال الأعشى : على أنها
كانت تأول حبها تأول ربعي السقاب فأصحبا أي كان حبها صغيرا ف آل إلى العظم كما
آل السقب و هو الصغير من أولاد النوق إلى الكبر و الراسخون الثابتون يقال رسخ رسوخا
إذا ثبت في موضعه و أرسخه غيره .
الإعراب
منه آيات جملة من مبتدإ و خبر
في موضع النصب على الحال من أنزل و تقديره أنزل الكتاب محكما و متشابها « هن أم
الكتاب » جملة في موضع الرفع لكونها صفة لآيات و آخر عطف على آيات و هو صفة مبتدإ
محذوف و تقديره و منه آيات أخر و متشابهات صفة بعد صفة و أخر غير منصرف قال سيبويه
أن أخر فارقت أخواتها و الأصل الذي عليه بناء أخواتها لأن أخر أصلها أن يكون صفة
بالألف و اللام كما يقال الصغرى و الصغر فلما عدل عن مجرى الألف و اللام و أصل أفعل
منك و هي مما لا تكون إلا صفة منعت الصرف و قال الكسائي إنما لم تصرف لأنه صفة و
هذا غلط لأن قولهم مال لبد و حطم منصرفان مع كونهما صفة و ابتغاء نصب لأنه مفعول له
في الموضعين « و كل من عند ربنا » مبتدأ و خبر و هو اسم دال على المضاف إليه كثير
في الكلام حذف المضاف إليه منه عند البصريين و لا يجيزون إنا كلا فيها على الصفة و
أجازه الكوفيون لأنه إنما حذف عندهم لدلالته عليه اسما كان أو صفة و إنما بني قبل
على الغاية و لم يبن كل و إن حذف من كل واحد منهما المضاف إليه لأن قبل ظرف يعرف و
ينكر ففرق بين ذلك بالبناء الذي يدل على تعريفه بالمضاف إليه و الإعراب الذي يدل
على تنكيره بالانفصال و ليس كذلك كل لأنه معرفة في الأفراد دون نكرة فأما ليس غير
فمشبه بحسب لما فيه من معنى الأمر .
المعنى
لما تقدم بيان إنزال القرآن
عقبه بيان كيفية إنزاله فقال « هو الذي أنزل عليك » يا محمد « الكتاب » أي القرآن «
منه » أي من الكتاب « آيات محكمات هن أم الكتاب » أي أصل الكتاب « و أخر متشابهات »
قيل في المحكم و المتشابه أقوال ( أحدها ) أن المحكم ما علم المراد بظاهره من غير
قرينة تقترن إليه و لا دلالة تدل على المراد به لوضوحه نحو قوله تعالى « إن الله لا
يظلم الناس شيئا » و « لا يظلم مثقال ذرة »
مجمع البيان ج : 2 ص : 700
و
نحو ذلك مما لا يحتاج في معرفة المراد به إلى دليل و المتشابه ما لا يعلم المراد
بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله « و أضله الله على
علم » فإنه يفارق قوله و أضلهم السامري لأن إضلال السامري قبيح و إضلال الله تعالى
حسن و هذا معنى قول مجاهد المحكم ما لم تشتبه معانيه و المتشابه ما اشتبهت معانيه و
إنما يقع الاشتباه في أمور الدين كالتوحيد و نفي التشبيه و الجور أ لا ترى أن قوله
« ثم استوى على العرش » يحتمل في اللغة أن يكون كاستواء الجالس على سريره و أن يكون
بمعنى القهر و الاستيلاء و الوجه الأول لا يجوز عليه سبحانه ( و ثانيها ) أن المحكم
الناسخ و المتشابه المنسوخ عن ابن عباس ( و ثالثها ) إن المحكم ما لا يحتمل من
التأويل إلا وجها واحدا و المتشابه ما يحتمل وجهين فصاعدا عن محمد بن جعفر بن
الزبير و أبي علي الجبائي ( و رابعها ) إن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه و المتشابه ما
تكرر ألفاظه كقصة موسى و غير ذلك عن ابن زيد ( و خامسها ) إن المحكم ما يعلم تعيين
تأويله و المتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله كقيام الساعة عن جابر بن عبد الله و
إنما وحد أم الكتاب و لم يقل هن أمهات الكتاب لوجهين ( أحدهما ) أنه على وجه الجواب
كأنه قيل ما أم الكتاب فقال هن أم الكتاب كما يقال من نظير زيد فيقال نحن نظيره ( و
الثاني ) إن الآيات بمجموعها أصل الكتاب و ليست كل آية محكمة أم الكتاب و أصله
لأنها جرت مجرى شيء واحد في البيان و الحكمة و مثله قوله « و جعلنا ابن مريم و أمه
» آية و لم يقل آيتين لأن شأنهما واحد في أنها جاءت به من غير ذكر فلم تكن الآية
لها إلا به و لا له إلا بها و لو أراد أن كل واحد منهما آية على التفصيل لقال آيتين
« فأما الذين في قلوبهم زيغ » أي ميل عن الحق و إنما يحصل الزيغ بشك أو جهل «
فيتبعون ما تشابه منه » أي يحتجون به على باطلهم « ابتغاء الفتنة » أي لطلب الضلال
و الإضلال و إفساد الدين على الناس و قيل لطلب التلبيس على ضعفاء الخلق عن مجاهد و
قيل لطلب الشرف و المال كما سمى الله المال فتنة في مواضع من كتابه و قيل المراد
بالفتنة هاهنا الكفر و هو المروي عن أبي عبد الله و قول الربيع و السدي « و ابتغاء
تأويله » و لطلب تأويله على خلاف الحق و قيل لطلب مدة أكل محمد على حساب الجمل و
ابتغاء معاقبته و يدل على ذلك قوله ذلك خير و أحسن تأويلا أي عاقبة و قول العرب
تأول الشيء إذا انتهى و قال الزجاج معنى ابتغائهم تأويله أنهم طلبوا تأويل بعثهم و
إحيائهم فأعلم الله أن ذلك لا يعلمه إلا الله و يدل على ذلك قوله هل ينظرون إلا
تأويله و اختلف في
مجمع البيان ج : 2 ص : 701
الذين عنوا بهذا فقيل عني به
وفد نجران لما حاجوه في أمر عيسى و سألوه فقالوا أ ليس هو كلمة الله و روحا منه
فقال بلى فقالوا حسبنا فأنزل الله « فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
» يعني أنهم قالوا أن الروح ما فيه بقاء البدن فأجروه على ظاهره و المسلمون يحملونه
على أن بقاء البدن كان في وقته به كما أن بقاء البدن بالروح و قد قامت الدلالة على
أن القديم تعالى ليس بذي أجزاء و أعضاء و إنما يضاف الروح إليه تشريفا للروح كما
يضاف البيت إليه ثم أنزل أن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب عن الربيع و
قيل هم اليهود طلبوا علم أكل هذه الأمة و استخرجه بحساب الجمل عن الكلبي و قيل هم
المنافقون عن ابن جريح و قيل بل كل من احتج بالمتشابه لباطله فالآية فيه عامة
كالحرورية و السبائية عن قتادة « و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم »
أي الثابتون في العلم الضابطون له المتقنون فيه و اختلف في نظمه و حكمه على قولين (
أحدهما ) أن الراسخون معطوف على الله بالواو على معنى أن تأويل المتشابة لا يعلمه
إلا الله و إلا الراسخون في العلم فإنهم يعلمونه « و يقولون » على هذا في موضع
النصب على الحال و تقديره قائلين « آمنا به كل من عند ربنا » كقول ابن المفرغ
الحميري :
الريح تبكي شجوة
و البرق يلمع في غمامة أي و البرق يبكي
أيضا لامعا في غمامة و هذا قول ابن عباس و الربيع و محمد بن جعفر بن الزبير و
اختيار أبي مسلم و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) فإنه قال كان رسول الله
أفضل الراسخين في العلم قد علم جميع ما أنزل الله عليه من التأويل و التنزيل و ما
كان الله لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله و هو و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله و
مما يؤيده هذا القول أن الصحابة و التابعين أجمعوا على تفسير جميع آي القرآن و لم
نرهم توقفوا على شيء منه و لم يفسروه بأن قالوا هذا متشابه لا يعلمه إلا الله و كان
ابن عباس يقول في هذه الآية أنا من الراسخين في العلم و القول الآخر أن الواو في
قوله « و الراسخون » واو الاستئناف فعلى هذا القول يكون تأويل المتشابه لا يعلمه
إلا الله تعالى و الوقف عند قوله « و ما يعلم تأويله إلا الله » و يبتدي « و
الراسخون في العلم يقولون آمنا به » فيكون مبتدأ و خبرا و هذا قول عائشة و عروة بن
الزبير و الحسن و مالك و اختيار الكسائي و الفراء و الجبائي و قالوا إن الراسخين لا
يعلمون تأويله و لكنهم يؤمنون به فالآية راجعة على هذا التأويل إلى العلم بمدة أكل
هذه الأمة و وقت قيام الساعة و فناء الدنيا و وقت طلوع الشمس من مغربها و نزول
مجمع
البيان ج : 2 ص : 702
عيسى و خروج الدجال و نحو ذلك مما استأثر الله بعلمه و
يكون التأويل على هذا القول بمعنى المتأول كقوله هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي
تأويله يعني الموعود به و قوله « كل من عند ربنا » معناه المحكم و المتشابه جميعا
من عند ربنا « و ما يذكر » أي و ما يتفكر في آيات الله و لا يرد المتشابه إلى
المحكم « إلا أولوا الألباب » أي ذوو العقول فإن قيل لم أنزل الله تعالى في القرآن
المتشابه و هلا جعله كله محكما فالجواب أنه لو جعل جميعه محكما لا تكل الناس كلهم
على الخبر و استغنوا عن النظر و لكان لا يتبين فضل العلماء على غيرهم و لكان لا
يحصل لهم ثواب النظر و إتعاب الخواطر في استنباط المعاني و قال القاضي الماوردي قد
وصف الله تعالى جميع القرآن بأنه محكم بقوله « الر كتاب أحكمت آياته » و وصف جميعه
أيضا بأنه متشابه بقوله الله « نزل أحسن الحديث كتابا متشابها » فمعنى الأحكام
الإتقان و المنع أي هو ممنوع بإتقانه و إحكام معانيه عن اعتراض خلل فيه فالقرآن كله
محكم من هذا الوجه و قوله متشابها أي يشبه بعضه بعضا في الحسن و الصدق و الثواب و
البعد عن الخلل و التناقض فهو كله متشابه من هذا الوجه . رَبَّنَا لا تُزِغْ
قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ هَب لَنَا مِن لَّدُنك رَحْمَةً إِنَّك أَنت
الْوَهَّاب(8) رَبَّنَا إِنَّك جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم لا رَيْب فِيهِ إِنَّ
اللَّهَ لا يُخْلِف الْمِيعَادَ(9)
اللغة
الهبة تمليك الشيء من غير مثامنة
و الهبة و النحلة و الصلة نظائر و في لدن خمس لغات لدن و لدن بضم اللام و الدال و
لدن بفتح اللام و الدال و لدن بفتح اللام و سكون الدال و كسر النون و لدن بحذف
النون و الميعاد بمعنى الوعد كما إن الميقات بمعنى الوقت .
الإعراب
اللام في قوله « ليوم لا ريب فيه » معناه في يوم و إنما جاز ذلك لما دخل الكلام
من اللام فإن تقديره جامع الناس للجزاء في يوم لا ريب فيه فلما حذف لفظ الجزاء دخلت
على ما يليه فأغنت عن في لأن حروف الإضافة متواخية لما يجمعها من معنى الإضافة و قد
كان يجوز فتح أن في قوله « إن الله لا يخلف » على تقدير « جامع الناس ليوم لا ريب
فيه » لأن الله لا يخلف الميعاد و لم يقرأ به .
مجمع البيان ج : 2 ص : 703
المعنى
« ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا » هذه حكاية عن قول الراسخين في
العلم الذين ذكرهم الله في الآية الأولى و ذكر في تأويله وجوه ( أحدها ) إن معناه
لا تمنعنا لطفك الذي معه تستقيم القلوب فتميل قلوبنا عن الإيمان بعد إذ وفقتنا
بألطافك حتى هديتنا إليك و هذا دعاء بالتثبيت على الهداية و الأمداد بالألطاف و
التوفيقات و يجري مجرى قولهم اللهم لا تسلط علينا من لا يرحمنا و المعنى لا تخل
بيننا و بين من لا يرحمنا فيسلط علينا فكأنهم قالوا لا تخل بيننا و بين نفوسنا
بمنعك التوفيق و الألطاف عنا فنزيغ و نضل و إنما يمنع ذلك بسبب ما يكتسبه العبد من
المعصية و يفرط فيه من التوبة كما قال فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ( و ثانيها ) إن
معناه لا تكلفنا من الشدائد ما يصعب علينا فعله و تركه فتزيغ قلوبنا بعد الهداية و
نظيره فلما كتب عليهم القتال تولوا فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه لأن
ذلك يكون عند تشديده تعالى المحنة عليهم كما قال سبحانه فزادتهم رجسا إلى رجسهم و
لم يزدهم دعائي إلا فرارا ( و ثالثها ) ما قاله أبو علي الجبائي إن المراد لا تزغ
قلوبنا عن ثوابك و رحمتك و هو ما ذكره الله من الشرح و السعة بقوله يشرح صدره
للإسلام و ذكر أن ضد هذا الشرح هو الضيق و الحرج اللذان يفعلان بالكفار عقوبة و من
ذلك التطهير الذي يفعله في قلوب المؤمنين و يمنعه الكافرين كما قال تعالى أولئك
الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم و من ذلك كتابته الإيمان في قلوب المؤمنين كما
قال أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و ضد هذه الكتابة هي سمات الكفر التي في قلوب
الكافرين فكأنهم سألوا الله أن لا يزيغ قلوبهم عن هذا الثواب إلى ضده من العقاب ( و
رابعها ) أن الآية محمولة على الدعاء بأن لا يزيغ القلوب عن اليقين و الإيمان و لا
يقتضي ذلك أنه تعالى سئل عما لو لا المسألة لجاز أن يفعله لأنه غير ممتنع أن يدعوه
على سبيل الانقطاع إليه و الافتقار إلى ما عنده بأن يفعل ما نعلم أن يفعله و بأن لا
يفعل ما نعلم أنه واجب أن لا يفعله إذا تعلق بذلك ضرب من المصلحة كما قال سبحانه «
قل رب احكم بالحق » و قال « ربنا و آتنا ما وعدتنا على رسلك » و قال حاكيا عن
إبراهيم و لا تخزني يوم يبعثون فإن قيل هلا جاز على هذا أن يقول ( ربنا لا تظلمنا و
لا تجر علينا ) فالجواب إنما لم يجز ذلك لأن فيه تسخطا من السائل و إنما يستعمل ذلك
فيمن جرت عادته بالجور و الظلم و ليس كذلك ما نحن فيه « و هب لنا من لدنك رحمة » أي
من عندك لطفا نتوصل به إلى الثبات على الإيمان إذ لا نتوصل إلى الثبات على الإيمان
إلا بلطفك كما لا يتوصل إلى ابتدائه إلا بذلك و قيل نعمة « إنك أنت الوهاب » المعطي
للنعمة الذي شأنه الهبة و العطية « ربنا » أي و يقولون يا سيدنا و خالقنا « إنك
جامع الناس »
مجمع البيان ج : 2 ص : 704
للجزاء « ليوم » أي في يوم « لا
ريب فيه » أي ليس فيه موضع ريب و شك لوضوحه و هذا يتضمن إقرارهم بالبعث « إن الله
لا يخلف الميعاد » أي لا يخلف الوعد و قيل هو متصل بما قبله من دعاء الراسخين في
العلم و إن خالف آخر الكلام أوله في الخطاب و الغيبة فيكون مثل قوله حتى إذا كنتم
في الفلك و جرين بهم و تقديره فاغفر لنا إنك لا تخلف ما وعدته و قيل أنه على
الاستيناف و هو اختيار الجبائي فيكون إخبارا عن الله تعالى . إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا لَن تُغْنىَ عَنْهُمْ أَمْوَلُهُمْ وَ لا أَوْلَدُهُم مِّنَ اللَّهِ
شيْئاً وَ أُولَئك هُمْ وَقُودُ النَّارِ(10)
اللغة
الوقود الحطب و الوقود
إيقاد النار .
المعنى
ثم بين تعالى حال الذين في قلوبهم زيغ فقال « إن
الذين كفروا » ب آيات الله و رسله « لن تغني » أي لن تدفع « عنهم أموالهم و لا
أولادهم من الله شيئا » قال أبو عبيدة من هنا بمعنى عند و قال المبرد و هي على
أصلها لابتداء الغاية و تقديره لن تغني عنهم غنا ابتداء و انتهاء و قيل معناه من
عذاب الله شيئا « و أولئك هم وقود النار » أي حطب النار تتقد النار بأجسامهم كما
قال في موضع آخر حصب جهنم . كدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ
شدِيدُ الْعِقَابِ(11)
اللغة
الدأب العادة يقال دأب يدأب دأبا و دأبا إذا
اعتاد الشيء و تمرن عليه و الدأب الاجتهاد يقال دأب في كذا دأبا و دئوبا إذا اجتهد
فيه و بالغ و نقل من هذا إلى العادة لأنه بالغ فيه حتى صار عادة له قال زهير :
لأرتحلن بالفجر ثم لأدئبن إلى الليل إلا أن يعرجني طفل
مجمع البيان ج :
2 ص : 705
و الذنب و الجرم واحد يقال أذنب فهو مذنب و الذنب تلو الشيء يقال
ذنبه يذنبه إذا تلاه و الذنوب الدلو لأنها تالية للحبل في الجذب و الذنوب النصيب
لأنه كالدلو في الأنعام و الذنوب الفرس الوافر شعر الذنب و أصل الباب التلو فالذنب
الجرم لما يتلوه من استحقاق الذم كما أن العقاب سمي بذلك لأنه يستحق عقيب الذنب .
الإعراب
الكاف في قوله « كدأب » متعلق بمحذوف و تقديره عادتهم كعادة آل
فرعون فيكون الكاف في موضع رفع بأنها خبر مبتدإ و لا يجوز أن يعمل فيها كفروا لأن
صلة الذين قد انقطعت بالخبر و لكن جاز أن يكون في موضع نصب بوقود النار لأن فيه
معنى الفعل على تقدير تتقد النار بأجسامهم كما تتقد بأجسام آل فرعون كذبوا جملة في
موضع الحال و العامل فيه المعنى في دأب آل فرعون و قد مقدرة معه .
المعنى
عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك و بما أنزل إليك « كدأب آل فرعون » أي كعادة
آل فرعون في التكذيب برسولهم و ما أنزل إليه عن ابن عباس و عكرمة و مجاهد و الضحاك
و السدي و قيل معناه اجتهاد هؤلاء الكفار في قهرك و إبطال أمرك كاجتهاد آل فرعون في
قهر موسى عن الأصم و الزجاج و قيل كعادة الله في آل فرعون في إنزال العذاب بهم بما
سلف من إجرامهم و قيل كسنة آل فرعون عن الربيع و الكسائي و أبي عبيدة و قيل كأمر آل
فرعون و شأنهم عن الأخفش و قيل كحال آل فرعون عن قطرب « و الذين من قبلهم » يعني
كفار الأمم الماضية « كذبوا ب آياتنا فأخذهم الله بذنوبهم » أي عاقبهم الله بذنوبهم
و سمي المعاقبة مؤاخذة لأنها أخذ بالذنب فالأخذ بالذنب عقوبة « و الله شديد العقاب
» لمن يعاقبه . قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا ستُغْلَبُونَ وَ تُحْشرُونَ إِلى
جَهَنَّمَ وَ بِئْس الْمِهَادُ(12)
القراءة
قرأ أهل الكوفة غير عاصم
سيغلبون و يحشرون بالياء فيهما و الباقون بالتاء .
الحجة
من اختار
التاء فلقوله قد كان لكم آية فأجرى الجميع على الخطاب و من اختار الياء فللتصرف في
الكلام و الانتقال من خطاب المواجهة إلى الخبر بلفظ الغائب و يؤيده قوله « قل للذين
كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف » « قل للذين آمنوا يغفروا » و قيل إن الخطاب
لليهود و الضمير في « ستغلبون » للمشركين لأن اليهود أظهروا
مجمع البيان ج : 2
ص : 706
السرور بما كان من المشركين يوم أحد فعلى هذا لا يكون إلا بالياء لأن
المشركين غيب .
اللغة
الحشر الجمع مع سوق و منه يقال للنبي الحاشر لأنه
يحشر الناس على قدميه كأنه يقدمهم و هم خلفه لأنه آخر الأنبياء فيحشر الناس في
زمانه و ملته و جهنم اسم من أسماء النار و قيل أخذ من الجهنام و هي البئر البعيدة
القعر و المهاد القرار و هي الموضع الذي يتمهد فيه أي ينام فيه مثل الفراش .
النزول
روى محمد بن إسحاق بن يسار عن رجاله قال لما أصاب رسول الله
قريشا ببدر و قدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال يا معشر اليهود احذروا من
الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم و قد عرفتم أني
نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم
لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة أنا و الله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله
هذه الآية و روي أيضا عن عكرمة و سعيد بن جبير عن ابن عباس و رواه أصحابنا أيضا و
قيل نزلت في مشركي مكة ستغلبون يوم بدر عن مقاتل و قيل بل نزلت في اليهود لما قتل
الكفار ببدر و هزموا قالت اليهود أنه النبي الأمي الذي بشرنا به موسى و نجده في
كتابنا بنعته و صفته و أنه لا ترد له راية ثم قال بعضهم لبعض لا تعجلوا حتى تنظروا
إلى وقعة أخرى فلما كان يوم أحد و نكب أصحاب رسول الله شكوا و قالوا لا و الله ما
هو به فغلب عليهم الشقاء فلم يسلموا و قد كان بينهم و بين رسول الله عهد إلى مدة لم
تنقض فنقضوا ذلك العهد قبل أجله و انطلق كعب بن الأشرف إلى مكة في ستين راكبا
فوافقوهم و أجمعوا أمرهم على رسول الله لتكونن كلمتنا واحدة ثم رجعوا إلى المدينة
فأنزل الله فيهم هذه الآية عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس .
المعنى
لما تقدم ذكر ما أصاب القرون الخالية بالتكذيب للرسل من العذاب حذر هؤلاء من أن
يحل بهم ما حل بأولئك فقال تعالى « قل للذين كفروا » إما مشركي مكة أو اليهود على
ما تقدم ذكره « ستغلبون » أي ستهزمون و تصيرون مغلوبين في الدنيا « و تحشرون » أي
تجمعون « إلى جهنم » في الآخرة و قد فعل الله ذلك فاليهود غلبوا بوضع الجزية عليهم
و المشركون غلبوا بالسيف و إذا قرىء سيغلبون بالياء فقد يمكن أن يكون المغلوبون و
المحشورون من غير المخاطبين و أنهم قوم آخرون و يمكن أن يكونوا
مجمع البيان ج :
2 ص : 707
إياهم قال الفراء يقال قل لعبد الله أنه قائم و أنك قائم و إذا قرىء
بالتاء فلا يجوز أن يظن هذا فلا يكونون غير المخاطبين « و بئس المهاد » أي بئس ما
مهد لكم و بئس ما مهدتم لأنفسكم عن ابن عباس و قيل معناه بئس القرار عن الحسن و قيل
بئس الفراش الممهد لهم و في الآية دلالة على صحة نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأن مخبره قد خرج على وفق خبره فدل ذلك على صدقه و لا يكون ذلك على
وجه الاتفاق لأنه بين أخبارا كثيرة من الاستقبال فخرج الجميع كما قال فكما أن كل
واحد منها كان معجزا إذ الله لا يطلع على غيبه إلا من ارتضى من رسول كذلك هذه الآية
و إذا ثبت صدقه على أحد الخبرين و هو أنهم سيغلبون ثبت صدقه في الخبر الآخر و هو
أنهم يحشرون إلى جهنم . قَدْ كانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فى فِئَتَينِ الْتَقَتَا
فِئَةٌ تُقَتِلُ فى سبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرَى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ
رَأْى الْعَينِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصرِهِ مَن يَشاءُ إِنَّ فى ذَلِك
لَعِبرَةً لأُولى الأَبْصرِ(13)
القراءة
قرأ أهل المدينة و البصرة عن أبي
عمرو ترونهم بالتاء و الباقون بالياء و روي في الشواذ عن ابن عباس يرونهم بضم الياء
.
الحجة
قال أبو علي ( ره ) من قرأ « يرونهم » بالياء فلأن بعد الخطاب
غيبة و هو قوله « فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة يرونهم » أي ترى الفئة
المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثليهم و مما يؤكد الياء قوله « مثليهم » و لو
كان على التاء لكان مثليكم و إن كان قد جاء و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله
فأولئك هم المضعفون و رأيت هنا هي المتعدية إلى مفعول واحد و يدل على ذلك تقييده
برأي العين و إذا كان كذلك كان انتصاب مثليهم على الحال لا على أنه مفعول ثان و أما
مثل فقد يفرد في موضع التثنية و الجمع فمن الأفراد في التثنية قوله : و ساقيين
مثل زبل و جعل ) و من إفراده على الجمع قوله إنكم إذا مثلهم و من جمعه قوله ثم لا
يكونوا أمثالكم و من قرأ ترونهم فللخطاب الذي قبله و هو قوله « قد كان لكم آية »
ترونهم مثليهم فالضمير في ترونهم للمسلمين و الضمير المنصوب للمشركين أي ترون أيها
المسلمون المشركين مثلي المسلمين فأما قراءة ابن عباس يرونهم فوجهه ما قاله
مجمع البيان ج : 2 ص : 708
ابن جني أن أريت و أرى أقوى في اليقين من رأيت
تقول أرى أن سيكون كذا أي هذا غالب ظني و أرى أن سيكون كذا أي أعلمه و أتحققه .
اللغة
قد ذكرنا معنى الفئة عند قوله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة و
الالتقاء و التلاقي و الاجتماع واحد و الأيد القوة و منه قوله تعالى « و داود ذا
الأيد » يقال أدته أئيده أيدا أي قويته و أيدته أؤيده تأييدا بمعناه و العبرة الآية
يقال اعتبرت بالشيء اعتبارا و عبرة و العبور النفوذ من أحد الجانبين إلى الآخر و
سميت الآية عبرة لأنه يعبر عنها من منزل العلم إلى منزل الجهل و المعتبر بالشيء
تارك جهله و واصل إلى علمه بما رأى و العبارة الكلام يعبر بالمعنى إلى المخاطب و
العبارة تفسير الرؤيا و التعبير وزن الدراهم و غيرها و العبرة الدمعة و أصل الباب
النفوذ .
الإعراب
قوله « فئة » تحتمل ثلاثة أوجه من الإعراب الرفع على
الاستئناف بتقدير منهم فئة كذا و أخرى كذا و الجر على البدل و النصب على الحال كقول
كثير : و كنت كذي رجلين رجل صحيحة و رجل رمى فيها الزمان فشلت أنشد بالرفع
و الجر و قال ابن مفرغ : و كنت كذي رجلين رجل صحيحة و رجل رماها صائب
الحدثان فأما التي صحت فأزد شنوءة و أما التي شلت فأزد عمان و قال آخر :
إذا مت كان الناس صنفين شامت و آخر مئن بالذي كنت أصنع و لا يجوز أن يقول
مررت بثلاثة صريع و جريح بالجر لأنه لم يستوف العدة و يجوز بالرفع على تقدير منهم
صريع و منهم جريح فإن قلت مررت بثلاثة صريع و جريح و سليم جاز الرفع و الجر فإن زدت
فيه اقتتلوا جاز الأوجه الثلاثة و القراءة بالرفع لا غير و قوله « رأي العين » يجوز
أن يكون مصدرا ليرى و العين في موضع الرفع بأنه الفاعل و يجوز أن يكون ظرفا للمكان
كما يقول ترونهم أمامكم .
النزول
نزلت الآية في قصة بدر و كان المسلمون
ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا على
مجمع البيان ج : 2 ص : 709
عدة أصحاب طالوت
الذين جاوزوا معه النهر سبعة و سبعون رجلا من المهاجرين و مائتان و ستة و ثلاثون
رجلا من الأنصار و كان صاحب لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و المهاجرين
علي بن أبي طالب (عليه السلام) و صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة و كانت الإبل في
جيش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) سبعين بعيرا و الخيل فرسين فرس للمقداد بن
أسود و فرس لمرثد بن أبي مرثد و كان معهم من السلاح ستة أدرع و ثمانية سيوف و جميع
من استشهد يومئذ أربعة عشر رجلا من المهاجرين و ثمانية من الأنصار و اختلف في عدة
المشركين فروي عن علي (عليه السلام) و ابن مسعود أنهم كانوا ألفا و عن قتادة و عروة
بن الزبير و الربيع كانوا بين تسعمائة إلى ألف و كانت خيلهم مائة فرس و رأسهم عتبة
بن ربيعة بن عبد شمس و كان حرب بدر أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و كان سبب ذلك عير أبي سفيان .
المعنى
لما وعد سبحانه
الظفر لأهل الإيمان بين ما فعله يوم بدر بأهل الكفر و الطغيان فقال « قد كان لكم
آية » قيل الخطاب لليهود الذين نقضوا العهد أي كان لكم أيها اليهود دلالة ظاهرة و
قيل الخطاب للناس جميعا ممن حضر الوقعة و قيل للمشركين و اليهود آية أي حجة و علامة
و معجزة دالة على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) « في فئتين التقتا » أي فرقتين
اجتمعتا ببدر من المسلمين و الكافرين « فئة » فرقة « تقاتل » تحارب « في سبيل الله
» في دينه و طاعته و هم الرسول و أصحابه « و أخرى » أي فرقة أخرى « كافرة » و هم
المشركون من أهل مكة « يرونهم مثليهم » أي ضعفهم « رأي العين » أي في ظاهر العين و
اختلف في معناه فقيل معناه يرى المسلمون المشركين مثلي عدد أنفسهم قللهم الله في
أعينهم حتى رأوهم ستمائة و ستة و عشرين رجلا تقوية لقلوبهم و ذلك أن المسلمين قد
قيل لهم فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين فأراهم الله عددهم حسب ما حد لهم من
العدد الذي يلزمهم أن يقدموا عليهم و لا يحجموا عنهم و قد كانوا ثلاثة أمثالهم ثم
ظهر العدد القليل على العدد الكثير عن ابن مسعود و جماعة من العلماء و قيل أن
الرؤية للمشركين يعني يرى المشركون المسلمين ضعفي ما هم عليه فإن الله تعالى قبل
القتال قلل المسلمين في أعينهم ليجترئوا عليهم و لا ينصرفوا فلما أخذوا في القتال
كثرهم في أعينهم ليجبنوا و قلل المشركين في أعين المسلمين ليجترئوا عليهم و تصديق
ذلك قوله تعالى « و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم »
الآية و ذلك أحسن أسباب النصر للمؤمنين و الخذلان للكافرين و هذا قول السدي و إنما
يتأتى هذا القول على قراءة من قرأ بالياء فأما قول من قرأ بالتاء فلا يحتمله إلا
قول الأول على أن يكون الخطاب لليهود الذين لم يحضروا و هم المعنيون بقوله « قل
للذين كفروا ستغلبون
مجمع البيان ج : 2 ص : 710
و تحشرون » و هم يهود بني
قينقاع فكأنه قال ( ترون أيها اليهود المشركين مثلي المسلمين مع أن الله أظهرهم
عليهم فلا تغتروا بكثرتكم ) و اختار البلخي هذا الوجه أو يكون الخطاب للمسلمين الذي
حضروا الوقعة أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي المسلمين و قال الفراء يحتمل
قوله « يرونهم مثليهم » يعني ثلاثة أمثالهم لأنك إذا قلت عندي ألف و أحتاج إلى
مثلها فأنت تحتاج إلى ألفين لأنك تريد أحتاج إلى مثلها مضافا إليها لا بمعنى بدلا
منها فكأنك قلت أحتاج إلى مثليها و إذا قلت أحتاج إلى مثليها فأنت تحتاج إلى ثلاثة
آلاف فكذلك في الآية المعنى يرونهم مثليهم مضافا إليهم فذلك ثلاثة أمثالهم قال و
المعجز فيه إنما كان من جهة غلبة القليل الكثير و أنكر هذا الوجه الزجاج لمخالفته
لظاهر الكلام و ما جاء في آية الأنفال من تقليل الأعداد فإن قيل كيف يصح تقليل
الأعداد مع حصول الرؤية و ارتفاع الموانع و هل هذا إلا قول من جوز أن يكون عنده
أجسام لا يدركها أو يدرك بعضها دون بعض قلنا يحتمل أن يكون التقليل في أعين
المؤمنين بأن يظنوهم قليلي العدد لا أنهم أدركوا بعضا دون بعض لأن العلم بما يدركه
الإنسان جملة غير العلم بما يدركه مفصلا و لأنا قد ندرك جمعا عظيما بأسرهم و نشك في
أعدادهم حتى يقع الخلاف في حرز عددهم فعلى هذا يكون الوجه تأويل تقليل الأعداد و
قوله « و الله يؤيد بنصره من يشاء » النصر منه سبحانه على الأعداء يكون على ضربين
نصر بالغلبة و نصر بالحجة فالنصر بالغلبة إنما كان بغلبة العدد القليل للعدد الكثير
على خلاف مجرى العادة و بما أمدهم الله به من الملائكة و قوى به نفوسهم من تقليل
العدة و النصر بالحجة و هو وعده المتقدم بالغلبة لإحدى الطائفتين لا محالة و هذا ما
لا يعلمه إلا علام الغيوب « إن في ذلك » أي في ظهور المسلمين مع قتلهم على المشركين
مع كثرتهم و تقليل المشركين في أعين المسلمين و تكثير المسلمين في أعين المشركين «
لعبرة لأولي الأبصار » أي لذوي العقول كما يقال لفلان بصير بالأمور و لا يراد به
الأبصار بالحواس الذي يشترك فيه سائر الحيوان . زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُب
الشهَوَتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَنَطِيرِ الْمُقَنطرَةِ مِنَ
الذَّهَبِ وَ الْفِضةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسوَّمَةِ وَ الأَنْعَمِ وَ الْحَرْثِ
ذَلِك مَتَعُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ اللَّهُ عِندَهُ حُسنُ الْمَئَابِ(14)
مجمع البيان ج : 2 ص : 711
اللغة
الشهوات جمع شهوة و هي توقان
النفس إلى المشتهى يقال اشتهى يشتهي شهوة و اشتهاء و الشهوة من فعل الله و لا يقدر
عليها أحد من البشر و هي ضرورية فينا فإنه لا يمكننا دفعها عن نفوسنا و القناطير
جمع قنطار و هو المال الكثير العظيم و أصله من الأحكام يقال قنطرت الشيء أحكمته و
القنطر الداهية و قيل أصله من القنطرة و هو البناء المعقود للعبور و المقنطرة
المحصلة من قناطير كقولهم دراهم مدرهمة أي مجعولة كذلك و دنانير مدنرة و قيل إنما
ذكر المقنطرة للتأكيد و قد يؤتى بالمفعول و الفاعل تأكيدا فالمفعول مثل قوله حجرا
محجورا و نسيا منسيا و الفاعل كقولهم شعر شاعر و موت مائت و المراد بالجميع
المبالغة و التأكيد و سميت الخيل خيلا لاختيالها في مشيها و الاختيار من التخيل
لأنه يتخيل به صاحبه في صورة من هو أعظم منه كبرا و المسومة من قولهم أسمت الماشية
و سومتها إذا رعيتها و السيماء الحسن و السيمياء بمعناه قال الشاعر : غلام رماه
الله بالحسن يافعا له سيمياء لا تشق على البصر و السيمياء العلامة و هو أصل
الباب و الم آب المرجع من الأوب و هو الرجوع .
المعنى
ثم أنزل الله
تعالى ما أخبر به عن السبب الذي دعا الناس إلى العدول عن الحق و الهدى و الركون إلى
الدنيا فقال « زين للناس حب الشهوات » أي حب المشتهيات و لم يرد بها نفس الشهوة و
لهذا فسرها بالنساء و البنين و غيرهما ثم اختلف فيمن زينها لهم فقيل الشيطان عن
الحسن قال فو الله ما أجد أذم للدنيا ممن خلقها و قيل زينها الله تعالى لهم بما جعل
في الطباع من الميل إليها و بما خلق فيها من الزينة محنة و تشديدا للتكليف كما قال
سبحانه إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و قيل زين الله
تعالى ما يحسن منه و زين الشيطان ما يقبح عن أبي علي الجبائي ثم قدم سبحانه ذكر
النساء فقال « من النساء » لأن الفتنة بهن أعظم و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء و قال النساء حبائل
الشيطان و قال أمير المؤمنين (عليه السلام) المرأة شر كلها و شر ما فيها أنه لا بد
منها و هي عقرب حلوة اللسعة ثم قال « و البنين » لأن حبهم يدعو إلى جمع الحرام و
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) للأشعث بن قيس هل لك من ابنة حمزة من ولد قال
نعم لي منها غلام و لوددت أن لي من جفنة من طعام أطعمها من معي من بني جبلة فقال
لئن قلت ذاك إنهم لثمرة القلوب و قرة الأعين و إنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة « و
القناطير » جمع قنطار و اختلف في مقداره فقيل ألف و مائتا أوقية عن معاذ بن جبل و
أبي بن كعب و عبد الله بن عمر و قيل ألف و مائتا مثقال عن ابن عباس و الحسن و
الضحاك و قيل ألف
مجمع البيان ج : 2 ص : 712
دينار أو اثنا عشر ألف درهم عن
الحسن بخلاف و قيل ثمانون ألفا من الدراهم أو مائة رطل عن قتادة و قيل سبعون ألف
دينار عن مجاهد و عطاء و قيل هو ملء مسبك ثور ذهبا عن أبي نضرة و به قال الفراء و
هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله و « المقنطرة » المضاعفة عن قتادة و قيل هي
تسعة قناطير عن الفراء و قيل هي الأموال المنضد بعضها فوق بعض عن الضحاك و قيل
الكاملة المجتمعة و قيل هي من الذهب و الفضة عن الزجاج و لا يصح قول من قال من
الذهب خاصة لأن الله ذكر القنطار فيهما جميعا و جميع الأقوال يرجع إلى الكثرة « و
الخيل المسومة » قيل معناه الأفراس الراعية عن سعيد بن جبير و ابن عباس و الحسن و
الربيع و قيل هي الحسنة من السيمياء و هو الحسن عن مجاهد و عكرمة و السدي و قيل هي
المعلمة عن قتادة و في رواية عن ابن عباس المعدة للجهاد عن ابن زيد « و الأنعام » و
هي جمع النعم و هي الإبل و البقر و الغنم من الضأن و المعز و لا يقال لجنس منها على
الانفراد نعم إلا للإبل خاصة لأنها يغلب عليه جملة و تفصيلا « و الحرث » معناه
الزرع هذه كلها محببة إلى الناس كما ذكر الله تعالى ثم بين أن ذلك كله مما يتمتع به
في الحياة ثم يزول عن صاحبه و المرجع إلى الله فأجدر بالإنسان أن يزهد فيه و يرغب
فيما عند ربه فقال « ذلك متاع الحياة الدنيا » يعني كل ما سبق ذكره مما يستمتع به
في الحياة الدنيا ثم يفنى « و الله عنده حسن الم آب » يعني حسن المرجع فالماب مصدر
سمي به موضع الإياب . * قُلْ أَ ؤُنَبِّئُكم بِخَير مِّن ذَلِكمْ لِلَّذِينَ
اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّتٌ تَجْرِى مِن تحْتِهَا الأَنْهَرُ خَلِدِينَ
فِيهَا وَ أَزْوَجٌ مُّطهَّرَةٌ وَ رِضوَنٌ مِّنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرُ
بِالْعِبَادِ(15)
القراءة
قرأ أبو بكر عن عاصم و رضوان بضم الراء كل القرآن
و الباقون بكسر الراء .
الحجة
الرضوان مصدر فمن كسره جعله كالرئمان و
الحرمان و من ضمه جعله كالرجحان و الشكران و الكفران .
مجمع البيان ج : 2 ص
: 713
الإعراب
منتهى الاستفهام في « أ ؤنبئكم » عند قوله « عند ربهم » ثم
استأنف « جنات تجري » على تقدير الجواب كأنه قيل ما ذلك الخير قال هو جنات و قيل
منتهى الاستفهام عند قوله « بخير من ذلكم » ثم ابتدأ فقال « للذين اتقوا عند ربهم
جنات » و يجوز في العربية في بإعراب جنات الرفع و الجر فالجر على أن يكون آخر
الكلام « عند ربهم » و لا يجوز الجر على الوجه الآخر للفصل باللام كما لا يجوز أمرت
لك بألفين و لأخيك مائتين حتى يقول بمائتين و لو قدمت فقلت و مائتين لأخيك لجاز و
خالدين نصب على الحال .
المعنى
لما صغر تعالى الدنيا و زهد فيها في
الآية الأولى عظم الآخرة و شرفها و رغب فيها في هذه الآية فقال « قل » يا محمد
لأمتك « أ ؤنبئكم » أخبركم « بخير من ذلكم » بأنفع لكم مما سبق ذكره في الآية
المتقدمة من شهوات الدنيا و لذاتها و زهراتها « للذين اتقوا » ما حرم الله عليهم «
عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار » أي من تحت أشجارها الأنهار و على القول
الآخر أخبركم بخير مما سبق « للذين اتقوا عند ربهم » ثم ابتدأ فقال « جنات » أي ذلك
الخير جنات تجري من تحت أبنيتها الأنهار و بين الله بهذا أن أنهار الجنة جارية أبدا
ليست كأنهار الدنيا التي يجري ماؤها تارة و ينقطع أخرى « خالدين فيها » أي مقيمين
في تلك الجنات « و أزواج مطهرة » من الحيض و النفاس و جميع الأقذار و الأدناس و
الطبائع الذميمة و الأخلاق اللئيمة « و رضوان من الله » و وراء هذه الجنات رضوان من
الله « و الله بصير بالعباد » أي خبير بأفعالهم و أحوالهم . الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَ قِنَا
عَذَاب النَّارِ(16) الصبرِينَ وَ الصدِقِينَ وَ الْقَنِتِينَ وَ الْمُنفِقِينَ وَ
الْمُستَغْفِرِينَ بِالأَسحَارِ(17)
اللغة
المغفرة هي الستر للذنب برفع
التبعة و الذنب و الجرم بمعنى واحد و الفرق بينهما أن أصل الذنب الاتباع فهو مما
يتبع عليه العبد من قبيح عمله كالتبعة و الجرم أصله القطع فهو القبيح الذي ينقطع به
عن الواجب و الفرق بين القول و الكلام أن القول فيه معنى الحكاية و ليس كذلك الكلام
و الصابر الحابس نفسه عن جميع معاصي الله و المقيم على ما أوجب عليه من العبادات و
الصادق المخبر بالشيء على ما هو به و القانت المطيع
مجمع البيان ج : 2 ص : 714
و الأسحار جمع سحر و هو الوقت الذي قبل طلوع الفجر أصله الخفاء لخفاء الشخص في
ذلك الوقت و السحر منه أيضا لخفاء سببه و السحر الرئة لخفاء موضعها .
الإعراب
يجوز في موضع الذين الرفع و النصب و الجر للإتباع للذين اتقوا
و الرفع و النصب على المدح و كذلك باقي الصفات و يجوز أن يكون جرا على الصفة للذين
اتقوا .
المعنى
ثم وصف المتقين الذين سبق ذكرهم في قوله للذين اتقوا
فقال « الذين يقولون » أي المتقين القائلين « ربنا إننا آمنا » أي صدقنا الله و
رسوله « فاغفر لنا ذنوبنا » أي استرها علينا و تجاوزها عنا « و قنا » أي و ادفع عنا
« عذاب النار » ثم وصفهم بصفات أخر و مدحهم و أثنى عليهم فقال « الصابرين » أي على
فعل ما أمرهم الله به و ترك ما نهاهم عنه و إن شئت قلت الصابرين على الطاعة و عن
المعصية « و الصادقين » في إيمانهم و أقوالهم « و القانتين » قيل المطيعين عن قتادة
و قيل الدائمين على الطاعة و العبادة عن الزجاج و قيل القائمين بالواجبات عن القاضي
« و المنفقين » أموالهم في سبيل الخير و يدخل فيه الزكاة المفروضة و التطوع
بالإنفاق « و المستغفرين بالأسحار » المصلين وقت السحر عن قتادة و رواه الرضا عن
أبيه (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل السائلين المغفرة في وقت
السحر عن أنس و قيل المصلين صلاة الصبح في جماعة عن زيد بن أسلم و قيل الذين ينتهي
صلاتهم إلى وقت السحر ثم يستغفرونه و يدعون عن الحسن و روي عن أبي عبد الله أن من
استغفر الله سبعين مرة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية و روى أنس بن مالك عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال إن الله عز و جل يقول إني لأهم بأهل الأرض
عذابا فإذا نظرت إلى عمار بيوتي و إلى المتهجدين و إلى المتحابين في و إلى
المستغفرين بالأسحار صرفته عنهم . شهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
وَ الْمَلَئكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قَائمَا بِالْقِسطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكيمُ(18) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاسلَمُ وَ مَا اخْتَلَف
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا
بَيْنَهُمْ وَ مَن يَكْفُرْ بِئَايَتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سرِيعُ
الحِْسابِ(19)
مجمع البيان ج : 2 ص : 715
القراءة
قرأ الكسائي أن
الدين بفتح الألف و الباقون بالكسر قال الزجاج و روي عن ابن عباس قال إنه لا إله
إلا هو بكسر الألف و القراءة « أنه » بالفتح .
الحجة
قال أبو علي الوجه
الكسر في إن لأن الكلام الذي قبله قد تم و من فتح أن جعله بدلا و البدل و إن كان في
تقدير جملتين فإن العامل لما لم يظهر أشبه الصفة فإذا جعلته بدلا جاز أن تبدله من
شيئين ( أحدهما ) من قوله « أنه لا إله إلا هو » فكان التقدير شهد الله أن الدين
عند الله الإسلام فيكون البدل من الضرب الذي الشيء فيه هو هو و إن شئت جعلته من بدل
الاشتمال لأن الإسلام يشتمل على التوحيد و العدل و إن شئت جعلته من القسط لأن الدين
الذي هو الإسلام قسط و عدل فيكون من البدل الذي الشيء فيه هو هو و قال غيره إن
الأولى و الثانية يجوز في العربية فتحهما جميعا و كسرهما جميعا و فتح الأولى و كسر
الثانية و كسر الأولى و فتح الثانية فمن فتحهما أوقع الشهادة على أن الثانية و حذف
الإضافة من الأولى و تقديره شهد الله أنه لا إله إلا هو أن الدين عند الله الإسلام
و من كسرهما اعترض بالأولى على التعظيم لله تعالى به كما قيل لبيك إن الحمد و
النعمة لك و كسر الثانية على الحكاية لأن معنى شهد معنى قال قال المؤرج شهد بمعنى
قال في لغة قيس عيلان و من فتح الأولى و كسر الثانية و هو الأجود و عليه أكثر
القراء أوقع الشهادة على الأولى و استأنف الثانية و من كسر الأولى أو فتح الثانية
اعترض بالأولى و أوقع الشهادة على الثانية .
اللغة
حقيقة الشهادة
الإخبار بالشيء عن مشاهدة أو ما يقوم مقام المشاهدة و معنى الدين هاهنا الطاعة و
أصله الجزاء و سميت الطاعة دينا لأنها للجزاء و منه الدين لأنه كالجزاء في وجوب
القضاء و الإسلام أصله السلم معناه دخل في السلم و أصل السلم السلامة لأنها انقياد
على السلامة و يصلح أن يكون أصله التسليم لأنه تسليم لأمر الله و التسليم من
السلامة لأنه تأدية الشيء على السلامة من الفساد فالإسلام هو تأدية الطاعات على
السلامة من الإدغال و الإسلام و الإيمان بمعنى واحد عندنا و عند المعتزلة غير أن
عندهم الواجبات من أفعال الجوارح من الإيمان و عندنا الإيمان من أفعال القلوب
الواجبة و ليس من أفعال الجوارح و قد شرحناه في أول البقرة و الإسلام يفيد الانقياد
لكل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من العبادات الشرعية و الاستسلام به
و ترك النكير عليه فإذا قلنا دين المؤمن هو الإيمان و هو الإسلام فالإسلام هو
الإيمان و نظير ذلك قولنا الإنسان بشر و الإنسان حيوان على الصورة الإنسانية
فالحيوان على الصورة الإنسانية بشر و الاختلاف ذهاب أحد النفسين إلى خلاف ما ذهب
إليه الآخر فهذا الاختلاف في الأديان فأما الاختلاف في الأجناس فهو امتناع
مجمع
البيان ج : 2 ص : 716
أحد الشيئين أن يسد مسد الآخر فيما يرجع إلى ذاته و البغي
طلب الاستعلاء بالظلم و أصله من بغيت الحاجة إذا طلبتها .
الإعراب
قيل
في نصب قائما قولان ( أحدهما ) أنه حال من اسم الله تعالى مؤكدة لأن الحال المؤكدة
يقع مع الأسماء في غير الإشارة تقول أنه زيد معروفا و هو الحق مصدقا و شهد الله
قائما بالقسط أي قائما بالعدل ( و الثاني ) أنه حال من هو من قوله « لا إله إلا هو
» و بغيا نصب على وجهين ( أحدهما ) على أنه مفعول له و المعنى « و ما اختلف الذين
أوتوا الكتاب » للبغي بينهم مثل حذر الشر و نحو ذلك و قيل أنه منصوب بما دل عليه و
ما اختلف كأنه لما قيل « و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب » دل على ( و ما بغى الذين
أوتوا الكتاب ) فحمل بغيا عليه .
المعنى
لما قدم تعالى ذكر أرباب الدين
أتبعه بذكر أوصاف الدين فقال « شهد الله أنه لا إله إلا هو » أي أخبر الله بما يقوم
مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب صنعته و بديع حكمته و قيل معنى شهد الله قضى
الله عن أبي عبيدة قال الزجاج و حقيقته علم الله و بين ذلك فإن الشاهد هو العالم
الذي يبين ما علمه و منه شهد فلان عند القاضي أي بين ما علمه فالله تعالى قد دل على
توحيده بجميع ما خلق و بين أنه لا يقدر أحد أن ينشىء شيئا واحدا مما أنشأه « و
الملائكة » أي و شهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته « و أولوا العلم » أي و شهد
أولوا العلم بما ثبت عندهم و تبين من صنعه الذي لا يقدر عليه غيره و روي عن الحسن
أن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير شهد الله أنه لا إله إلا هو « قائما بالقسط
» و شهدت الملائكة أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط و شهد أولوا العلم أنه « لا إله
إلا هو » قائما بالقسط و القسط العدل الذي قامت به السماوات و الأرض و رواه أصحابنا
أيضا في التفسير و أولوا العلم هم علماء المؤمنين عن السدي و الكلبي و قيل معنى
قوله « قائما بالقسط » أنه يقوم بإجراء الأمور و تدابير الخلق و جزاء الأعمال
بالعدل كما يقال فلان قائم بالتدبير أي يجري أفعاله على الاستقامة و إنما كرر قوله
« لا إله إلا هو » لأنه بين بالأول أنه المستحق للتوحيد لا يستحقه سواه و بالثاني
أنه القائم برزق الخلق و تدبيرهم بالعدل لا ظلم في فعله « العزيز الحكيم » من
تفسيره و تضمنت الآية الإبانة عن فضل العلم و العلماء لأنه تعالى قرن العلماء
بالملائكة و شهادتهم بشهادة الملائكة و خصهم بالذكر كأنه لم يعتد بغيرهم و المراد
بهذا العلم التوحيد و ما يتعلق به من علوم الدين لأن الشهادة وقعت عليه
مجمع
البيان ج : 2 ص : 717
و مما جاء في فضل العلم و العلماء من الحديث ما رواه جابر
بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال ساعة من عالم يتكىء على
فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما . و روى أنس بن مالك عنه
(صلى الله عليه وآله وسلّم) قال تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة و مدارسته تسبيح و
البحث عنه جهاد و تعليمه من لا يعلمه صدقة و تذكرة لأهله لأنه معالم الحلال و
الحرام و منار سبيل الجنة و النار و الأنيس في الوحشة و الصاحب في الغربة و المحدث
في الخلوة و الدليل على السراء و الضراء و السلاح على الأعداء و القرب عند الغرباء
يرفع الله به أقواما فيجعلهم في الخير قادة يقتدى بهم و يقتفي آثارهم و ينتهي إلى
رأيهم و ترغب الملائكة في خلتهم و بأجنحتها تمسحهم و في صلاتهم تستغفر لهم و كل رطب
و يابس يستغفر لهم حتى حيتان البحار و هوامها و سباع الأرض و أنعامها و السماء و
نجومها ألا و إن العلم حياة القلوب و نور الأبصار و قوة الأبدان يبلغ بالعبد منازل
الأحرار و مجلس الملوك و الفكر فيه يعدل بالصيام و مدارسته بالقيام و به يعرف
الحلال و الحرام و به توصل الأرحام و العلم إمام العمل و العمل تابعه يلهم السعداء
و يحرم الأشقياء و مما جاء في فضل هذه الآية ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال من قرأ « شهد الله » الآية عند منامه خلق الله منها سبعين ألف
خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة ، الزبير بن العوام قال قلت لأدنون هذه العشية من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و هي عشية عرفة حتى أسمع ما يقوله فحبست ناقتي
بين ناقة رسول الله و ناقة رجل كان إلى جنبه فسمعته يقول « شهد الله أنه لا إله إلا
هو » الآية فما زال يرددها حتى رفع . غالب القطان قال أتيت الكوفة في تجارة
فنزلت قريبا من الأعمش فكنت أختلف إليه فلما كنت ذات ليلة أردت أن انحدر إلى البصرة
قام من الليل يتهجد فمر بهذه الآية « شهد الله أنه لا إله إلا هو » الآية ثم قال
الأعمش و أنا أشهد بما شهد الله به و استودع الله هذه الشهادة و هي لي عند الله
وديعة « إن الدين عند الله الإسلام » قالها مرارا قلت لقد سمع فيها شيئا فصليت معه
و ودعته ثم قلت آية سمعتك ترددها فما بلغك فيها ؟ قال لا أحدثك بها إلى سنة فكتبت
على بابه ذلك اليوم أقمت سنة فلما مضت السنة قلت يا أبا محمد قد مضت السنة فقال
حدثني أبو وائل عن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يجاء
بصاحبها يوم القيامة فتقول الله إن لعبدي هذا عهدا عندي و أنا أحق من وفى بالعهد
أدخلوا عبدي هذا الجنة و قال سعيد بن جبير كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما
فلما نزلت « شهد الله أنه لا إله إلا هو » الآية خررن سجدا و قوله « إن الدين » أي
الطاعة « عند الله » هو « الإسلام » و قيل المراد بالإسلام التسليم لله و لأوليائه
و هو التصديق و روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له أنه قال لأنسبن
الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي الإسلام هو التسليم و التسليم هو اليقين
مجمع
البيان ج : 2 ص : 718
و اليقين هو التصديق و التصديق هو الإقرار و الإقرار هو
الأداء و الأداء هو العمل رواه علي بن إبراهيم في تفسيره قال ثم قال إن المؤمن أخذ
دينه عن ربه و لم يأخذه عن رأيه إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله و إن الكافر يعرف
كفرانه بإنكاره أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن
السيئة فيه تغفر و إن الحسنة في غيره لا تقبل « و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب »
معناه و ما اختلف اليهود و النصارى في صدق نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) لما
كانوا يجدونه في كتبهم بنعته و صفته و وقت خروجه « إلا من بعد ما جاءهم العلم » بعد
ما جاءهم للعلم ثم أخبر عن علة اختلافهم فقال « بغيا بينهم » أي حسدا و تقديره و ما
اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم و العلم المذكور
يجوز أن يراد به البينات التي هي طرق العلم فيدخل فيه المبطلون من أهل الكتاب علموا
أو لم يعلموا و يحتمل أن يراد به نفس العلم فلا يدخل فيه إلا من علم بصفة محمد (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) و كتمه عنادا و قيل المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود و
الكتاب التوراة لما عهد موسى (عليه السلام) إليهم و أقام فيهم يوشع بن نون و مضى
ثلاثة قرون و اختلفوا عن الربيع و قيل المراد ب « الذين أوتوا الكتاب » النصارى و
الكتاب الإنجيل و اختلفوا في أمر عيسى (عليه السلام) عن محمد بن جعفر بن الزبير و
قيل خرج مخرج الجنس و معناه كتب الله المتقدمة و اختلفوا بعدها في الدين عن الجبائي
« و من يكفر ب آيات الله » أي بحججه و قيل بالتوراة و الإنجيل و ما فيهما من صفة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و قيل بالقرآن و ما دل عليه « فإن الله سريع الحساب
» أي لا يفوته شيء من أعمالهم و قيل معناه سريع الجزاء و حقيقة الحساب أن تأخذ ما
لك و تعطي ما عليك . فَإِنْ حَاجُّوك فَقُلْ أَسلَمْت وَجْهِىَ للَّهِ وَ مَنِ
اتَّبَعَنِ وَ قُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب وَ الأُمِّيِّينَ ءَ أَسلَمْتُمْ
فَإِنْ أَسلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّ إِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْك
الْبَلَغُ وَ اللَّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ(20)
القراءة
حذف عاصم و حمزة و
الكسائي الياء من اتبعني اجتزاء بالكسرة و اتباعا للمصحف و أثبتها الباقون على
الأصل .
الحجة
حذف الياء في أواخر الآي أحسن لأنها تشبه القوافي و يجوز
في وسط الآي أيضا و أحسنها ما كان قبلها نون مثل قوله « و من اتبعن » فإن لم يكن
نون جاز أيضا نحو
مجمع البيان ج : 2 ص : 719
قولك هذا غلام و ما أشبه ذلك و
الأجود إثبات الياء و إن شئت أسكنت الياء و إن شئت فتحتها .
الإعراب
«
و من اتبعن » في محل الرفع عطفا على التاء في قوله « أسلمت » و لم يؤكد الضمير فلم
يقل أسلمت أنا و من اتبعن و لو قلت أسلمت و زيد لم يحسن إلا أن تقول أسلمت أنا و
زيد و إنما جاز هنا لطول الكلام فصار طوله عوضا من تأكيد الضمير المتصل بالمنفصل .
المعنى
لما قدم الله سبحانه ذكر الإيمان و الإسلام خاطب نبيه فقال «
فإن حاجوك » المعنى فإن حاجك و خاصك النصارى و هم وفد نجران « فقل » يا محمد «
أسلمت وجهي لله » و فيه وجهان ( أحدهما ) أن معناه انقدت لأمر الله في إخلاص
التوحيد له و الحجة فيه أنه ألزمهم على ما أقروا من أن الله خالقهم اتباع أمره في
أن لا يعبدوا إلا إياه ( و الثاني ) أن معناه أعرضت عن كل معبود دون الله و أخلصت
قصدي بالعبادة إليه و ذكر الأصل الذي يلزم جميع المكلفين الإقرار به لأنه لا يتبعض
فيما يحتاج إلى العمل عليه في الدين الذي هو طريق النجاة من العذاب إلى النعيم و
معنى وجهي هنا نفسي و أضاف الإسلام إلى الوجه لأن وجه الشيء أشرف ما فيه لأنه يجمع
الحواس و عليه يظهر آية الحزن و السرور فمن أسلم وجهه فقد أسلم كله و منه قوله كل
شيء هالك إلا وجهه « و من اتبعني » أي و من اهتدى بي في الدين من المسلمين فقد
أسلموا أيضا كما أسلمت « و قل » يا محمد « للذين أوتوا الكتاب » يعني اليهود و
النصارى « و الأميين » أي الذين لا كتاب لهم عن ابن عباس و غيره و هم مشركو العرب و
قد مر تفسير الأمي و اشتقاقه عند قوله و منهم أميون « أ أسلمتم » أي أخلصتم كما
أخلصت لفظه لفظ الاستفهام و هو بمعنى التوقيف و التهديد فيكون متضمنا للأمر فيكون
معناه أسلموا فإن الله تعالى أزاح العلل و أوضح السبل و نظيره فهل أنتم منتهون أي
انتهوا و هذا كما يقول الإنسان لغيره و قد وعظه بمواعظ أقبلت وعظي يدعوه إلى قبول
الوعظ « فإن أسلموا فقد اهتدوا » إلى طريق الحق « و إن تولوا » أي كفروا و لم
يقبلوا و أعرضوا عنه « فإنما عليك البلاغ » معناه فإنما عليك أن تبلغ و تقيم الحجة
و ليس عليك أن لا يتولوا « و الله بصير بالعباد » معناه هاهنا أنه لا يفوته شيء من
أعمالهم التي يجازيهم بها لأنه بصير بهم أي عالم بهم و بسرائرهم لا يخفى عليه خافية
و قيل معناه عالم بما يكون منك في التبليغ و منهم في الإيمان و الكفر .
مجمع البيان ج : 2 ص : 720
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِئَايَتِ
اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيرِ حَقّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشرْهُم بِعَذَاب أَلِيم(21) أُولَئك
الَّذِينَ حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى الدُّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مَا لَهُم مِّن
نَّصِرِينَ(22) القراءة قرأ حمزة يقاتلون بالألف و قيل إنما قرأها اتباعا
لمصحف عبد الله بن مسعود لأن فيه و قاتلوا الذين يأمرون و الباقون « يقتلون » و هي
القراءة الظاهرة .
الإعراب
إنما دخلت الفاء في قوله « فبشرهم » لشبه
الجزاء و إنما لم يجز ليت الذي يقوم فيكرمك و جاز أن الذي يقوم فيكرمك لأن الذي
إنما دخلت الفاء في خبرها لما في الكلام من معنى الجزاء و ليت تبطل معنى الجزاء و
ليس كذلك أن لأنها بمنزلة الابتداء .
المعنى
لما قدم سبحانه ذكر
الاحتجاج على أهل الكتاب و حسن الوعد لهم أن أسلموا و شدة الوعيد إن أبوا فصل في
هذه الآية كفرهم فقال « إن الذين يكفرون » أي يجحدون حجج الله تعالى و بيناته « و
يقتلون النبيين » قيل هم اليهود فقد روي عن أبي عبيدة بن الجراح قال قلت يا رسول
الله أي الناس أشد عذابا يوم القيامة فقال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى
عن منكر ثم قرأ « و يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس
» ثم قال (عليه السلام) يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيا من أول
النهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من
قتلهم بالمعروف و نهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم و هو
الذي ذكره الله تعالى « فبشرهم بعذاب أليم » أي أخبرهم بأن لهم العذاب الأليم و
إنما قال « بشرهم » على طريق الاتباع و الاستعارة و البشارة تكون في الخير دون الشر
لأن ذلك لهم مكان البشارة للمؤمنين و لأنها مأخوذة من البشرة و بشرة الوجه تتغير
بالسرور في الخير و بالغم في الشر و يقال كيف قال « فبشرهم » و إنما قتل الأنبياء
أسلافهم بالجواب لأنهم رضوا بأفعالهم و اقتدوا بهم فأجملوا معهم و قيل معناه بشر
هؤلاء بالعذاب الأليم لأسلافهم و قوله
مجمع البيان ج : 2 ص : 721
« بغير حق
» لا يدل على أن في قتل النبيين ما هو حق بل المراد بذلك أن قتلهم لا يكون إلا بغير
حق كقوله و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به و المراد بذلك تأكيد النفي و
المبالغة فيه كما يقال فلان لا يرجى خيره و الغرض في ذلك أنه لا خير عنده على وجه
من الوجوه و كما قال أبو ذؤيب : متفلق أنساؤها عن قانىء كالقرط صاو غبره لا
يرضع أي ليس له بقية لبن فيرضع و على هذا فقد وصف القتل بما لا بد أن يكون عليه من
الصفة و هو وقوعه على خلاف الحق و كذلك الدعاء في قوله تعالى « و من يدع مع الله
إلها آخر لا برهان له به » وصفه بأنه لا يكون إلا من غير برهان و قد استدل علي بن
عيسى بهذه الآية على جواز إنكار المنكر مع خوف القتل و بالخبر الذي رواه الحسن عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر يقتل
عليه و هذا فيه نظر لأن من شرط حسن إنكار المنكر أن لا يكون فيه مفسدة و متى أدى
إلى القتل فقد انتفى عنه هذا الشرط فيكون قبيحا و الوجه في الآية و الأخبار التي
جاءت في معناها أن يغلب على الظن أن إنكار المنكر لا يؤدي إلى مفسدة فيحسن ذلك بل
يجب و إن تعقبه القتل لأنه ليس من شرطه أن يعلم ذلك بل يكفي فيه غلبة الظن « أولئك
الذين » كفروا ب آيات الله و قتلوا الأنبياء و الأمرين بالمعروف « حبطت أعمالهم في
الدنيا و الآخرة » يريد بأعمالهم ما هم عليه من ادعائهم التمسك بالتوراة و إقامة
شريعة موسى (عليه السلام) و أراد ببطلانها في الدنيا أنها لم تحقن دماءهم و أموالهم
و لم ينالوا بها الثناء و المدح و في الآخرة أنهم لم يستحقوا بها مثوبة فصارت كأنها
لم تكن لأن حبوط العمل عبارة عن وقوعه على خلاف الوجه الذي يستحق عليه الثواب و
الأجر و المدح و حسن الذكر و إنما تحبط الطاعة حتى تصير كأنها لم تفعل إذا وقعت على
خلاف الوجه المأمور به « و ما لهم من ناصرين » يدفعون عنهم العذاب .
مجمع
البيان ج : 2 ص : 722
أَ لَمْ تَرَ إِلى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ
الْكتَبِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتَبِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلى
فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَ هُم مُّعْرِضونَ(23) ذَلِك بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسنَا
النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَّعْدُودَت وَ غَرَّهُمْ فى دِينِهِم مَّا كانُوا
يَفْترُونَ(24)
اللغة
النصيب الحظ من الشيء و هو القسم المجعول لمن أضيف
إليه و الدعاء استدعاء الفعل ثم قد يكون بصيغة الأمر و بالخبر و بالدلالة و الحكم و
الخبر الذي يفصل الحق من الباطل مأخوذ من الحكمة و هي المنع و الغرور الأطماع فيما
لا يصح غره يغره غرورا فهو مغرور و الغرور الشيطان لأنه يغر الناس و الغار الغافل
لأنه كالمغتر و الغرارة الدنيا تغر أهلها و الغر الغمر الذي لم يجرب الأمور و مصدره
الغرارة لأنه من شأنه أن يقبل الغرور و الغرر الخطر أخذ منه و الغر آثار طي الثوب
اطوه على غره أي على آثار طيه و الغر زق الطائر فرخه و الافتراء الكذب و فرى فلان
كذبا يفريه فرية و الفري الشق و فرية مفرية أي مشقوقة و قد تفرى خرزها أي تشفق و
فريت الأرض سرتها و قطعتها .
الإعراب
يدعون جملة في موضع الحال من
أوتوا « يتولى فريق » جملة معطوفة على يدعون « و هم معرضون » في موضع نصب أيضا على
الحال من يتولى أياما نصب على الظرف لأن مس النار يكون في تلك الأيام و معدودات صفة
الأيام .
المعنى
لما قدم تعالى ذكر الحجاج بين أنهم إذا عضتهم الحجة
فروا إلى الضجة و أعرضوا عن المحجة فقال « أ لم تر » معناها ينته علمك « إلى الذين
أوتوا نصيبا » أي أعطوا نصيبا أي حظا « من الكتاب » يدعون إلى كتاب الله اختلف فيه
فقيل معناه التوراة عن ابن عباس دعا إليها اليهود فأبوا لعلمهم بلزوم الحجة لهم لما
فيه من الدلالات على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و صدقه و إنما قال أعطوا
نصيبا من الكتاب لأنهم كانوا يعلمون بعض ما فيه و قيل معناه القرآن عن الحسن و
قتادة دعوا إلى القرآن لأن ما فيه موافق لما في التوراة من أصول الديانة و أركان
الشريعة و في الصفة التي تقدمت البشارة بها « ليحكم بينهم » يحتمل ثلاثة أشياء (
أحدها ) أن معناه ليحكم بينهم في نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن أبي مسلم و
جماعة ( و الثاني ) أن معناه ليحكم بينهم في أمر إبراهيم و أن دينه الإسلام ( و
الثالث ) معناه ليحكم بينهم في أمر الرجم فقد روي عن ابن عباس أن رجلا و امرأة من
أهل خيبر زنيا و كانا ذوي شرف فيهم و كان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما و
رجوا أن يكون عند رسول الله
مجمع البيان ج : 2 ص : 723
رخصة في أمرهما
فرفعوا أمرهما إلى رسول الله فحكم عليهما بالرجم فقال له النعمان بن أوفى و بحري بن
عمرو جرت عليهما يا محمد ليس عليهما الرجم فقال لهم رسول الله بيني و بينكم التوراة
قالوا قد أنصفتنا قال فمن أعلمكم بالتوراة قالوا رجل أعور يسكن فدك يقال له ابن
صوريا فأرسلوا إليه فقدم المدينة و كان جبرائيل قد وصفه لرسول الله فقال له رسول
الله أنت ابن صوريا قال نعم قال أنت أعلم اليهود قال كذلك يزعمون قال فدعا رسول
الله بشيء من التوراة فيها الرجم مكتوب فقال له اقرأ فلما أتى على آية الرجم وضع
كفه عليها و قرأ ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله قد جاوزها و قام إلى ابن
صوريا و رفع كفه عنها ثم قرأ على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و على اليهود
بأن المحصن و المحصنة إذا زنيا و قامت عليهما البينة رجما و إن كانت المرأة حبلى
أنتظر بها حتى تضع ما في بطنها فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) باليهوديين
فرجما فغضب اليهود لذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية « ثم يتولى فريق منهم » أي
طائفة منهم عن الداعي « و هم معرضون » عن اتباع الحق « ذلك » معناه شأنهم ذلك فهو
خبر مبتدإ محذوف فالله تعالى بين العلة في إعراضهم عنه مع معرفتهم به و السبب الذي
جرأهم على الجحد و الإنكار « بأنهم قالوا لن تمسنا النار » أي لن تصيبنا النار «
إلا أياما معدودات » و فيه قولان ( أحدهما ) أنها الأيام التي عبدوا فيها العجل و
هي أربعون يوما عن الربيع و قتادة و الحسن إلا أن الحسن قال سبعة أيام ( و الثاني )
أنهم أرادوا أياما منقطعة عن الجبائي « و غرهم في دينهم » أي أطمعهم في غير مطمع «
ما كانوا يفترون » أي افتراءهم و كذبهم و اختلفوا في الافتراء الذي غرهم على قولين
( أحدهما ) قولهم نحن أبناء الله و أحباؤه عن قتادة ( و الآخر ) قولهم « لن تمسنا
النار إلا أياما معدودات » عن مجاهد و هذا لا يدل على خلاف ما نذهب إليه من جواز
العفو و إخراج المعاقبين من أهل الصلاة من النار لأنا نقول أن عقاب من ثبت دوام
ثوابه بإيمانه لا يكون إلا منقطعا و إن لم يحط علما بقدر عقابه و لا نقول أيام
عقابه بعدد أيام عصيانه كما قالوا و بين القولين بون ظاهر . فَكَيْف إِذَا
جَمَعْنَهُمْ لِيَوْم لا رَيْب فِيهِ وَ وُفِّيَت كلُّ نَفْس مَّا كسبَت وَ هُمْ لا
يُظلَمُونَ(25)
اللغة
كيف موضوعة للسؤال عن الحال و معناه هاهنا التنبيه
بصيغة السؤال على حال من يساق إلى النار و فيه بلاغة و اختصار شديد لأن تقديره أي
حال يكون حال من اغتر
مجمع البيان ج : 2 ص : 724
بالدعاوي الباطلة حتى أداه
ذلك إلى الخلود في النار و نظيره قول القائل ( أنا أكرمك و إن لم تجىء فكيف إذا
جئتني ) معناه فكيف إكرامي لك إذا جئتني يريد عظم الإكرام و التقدير فكيف حالهم إذا
جمعناهم أي في وقت جمعهم لأنه خبر مبتدإ محذوف .
المعنى
ثم أكد سبحانه
ما تقدم فقال « فكيف » حالهم « إذا جمعناهم » أي وقت جمعهم و حشرهم « ليوم » أي
لجزاء يوم « لا ريب فيه » لا شك فيه لمن نظر في الأدلة إذ ليس فيه موضع ريبة و شك و
لو قال جمعناهم في يوم لم يدل على الجزاء و اللام يدل على ذلك كما يقال جئته ليوم
الخميس أي لما يكون في يوم الخميس و لا يعطي جئته في يوم الخميس هذا المعنى « و
وفيت كل نفس ما كسبت » فيه قولان ( أحدهما ) أن معناه و وفرت على كل نفس جزاء ما
كسبت من ثواب أو عقاب ( و الثاني ) أعطيت ما كسبت أي اجتلبت بعملها من الثواب و
العقاب كما يقال كسب فلان المال بالتجارة و الزراعة « و هم لا يظلمون » أي لا
ينقصون عما استحقوه من الثواب و لا يزادون على ما استحقوه من العقاب . قُلِ
اللَّهُمَّ مَلِك الْمُلْكِ تُؤْتى الْمُلْك مَن تَشاءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْك مِمَّن
تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَن تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَن تَشاءُ بِيَدِك الْخَيرُ إِنَّك عَلى
كلِّ شىْء قَدِيرٌ(26) تُولِجُ الَّيْلَ فى النَّهَارِ وَ تُولِجُ النَّهَارَ فى
الَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّت مِنَ
الْحَىِّ وَ تَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيرِ حِساب(27) فضل الآية
روى جعفر بن
محمد (عليهماالسلام) عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال
لما أراد الله أن ينزل فاتحة الكتاب و آية الكرسي و شهد الله و « قل اللهم مالك
الملك » إلى قوله « بغير حساب » تعلقن بالعرش و ليس بينهن و بين الله حجاب و قلن يا
رب تهبطنا إلى دار الذنوب و إلى من يعصيك و نحن معلقات بالطهور و بالعرش فقال و
عزتي و جلالي ما من عبد قرأكن في دبر كل صلاة مكتوبة إلا أسكنته حظيرة القدس على ما
كان فيه و إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة و إلا قضيت له في كل
يوم سبعين حاجة أدناها
مجمع البيان ج : 2 ص : 725
المغفرة و إلا أعذته من
كل عدو و نصرته عليه و لا يمنعه دخول الجنة إلا أن يموت و قال معاذ بن جبل احتبست
عن رسول الله يوما لم أصل معه الجمعة فقال يا معاذ ما يمنعك عن صلاة الجمعة قلت يا
رسول الله كان ليوحنا اليهودي علي أوقية من تبر و كان على بابي يرصدني فأشفقت أن
يحبسني دونك قال أ تحب يا معاذ أن يقضي الله دينك قلت نعم يا رسول الله قال « قل
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء » إلى قوله « بغير حساب » يا رحمان الدنيا و
رحيمهما تعطي منهما ما تشاء و تمنع منهما ما تشاء اقض عني ديني فإن كان عليك ملء
الأرض ذهبا لأداه الله عنك .
القراءة
قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص
و يعقوب « الميت » بالتشديد و الباقون بالتخفيف .
الحجة
قال المبرد لا
خلاف بين علماء البصرة أنهما سواء و أنشد لابن رعلاء الغساني : ليس من مات
فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا
باله قليل الرجاء فجمع بين اللغتين و ما مات و ما لم يمت في هذا الباب يستويان في
الاستعمال و قال بعضهم الميت بالتشديد الذي لم يمت بعد و بالتخفيف الذي قد مات و
الصحيح الأول أ لا ترى أنه قل ما جاء : و منهل فيه الغراب ميت سقيت منه
القوم و استقيت فهذا قد مات .
اللغة
النزع قلع الشيء عن الشيء يقال نزع
فلان إلى أخواله أي نزع إليهم بالشبه فصار واحدا منهم بشبهه لهم و النزاع الحنين
إلى الشيء و النزوع عن الشيء الترك له الإيلاج الإدخال يقال أولجه فولج ولوجا و
ولجا ولجة و الوليجة بطانة الرجل لأنه يطلعه على دخلة أمره و التولج كناس الظبي
لأنه يدخله و الولج و الولجة شيء يكون بين يدي فناء القوم .
الإعراب
اللهم بمعنى يا الله و الميم المشددة عند سيبويه و الخليل عوض عن يا لأن يا لا
يوجد مع الميم في كلامهم فعلم أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة يا في أولها
مجمع
البيان ج : 2 ص : 726
و الضمة التي في أولها ضمة الاسم المنادى المفرد و الميم
مفتوحة لسكونها و سكون الميم التي قبلها و قال الفراء أصله يا الله أم بخير فألقيت
الهمزة و طرحت حركتها على ما قبلها و مثله هلم إنما أصله هل أم و اعترض على قول
الخليل بأن الميم إنما تزاد مخففة في مثل فم و ابنم و بأنها اجتمعت مع يا في قول
الشاعر : و ما عليك أن تقولي كلما سبحت أو صليت يا اللهما اردد علينا
شيخنا مسلما و قال علي بن عيسى هذا ليس بشيء لأن الميم هاهنا عوض من حرفين فشددت
كما قيل قمتن و ضربتن لما كانت النون عوضا من حرفين في قمتموا أو ضربتموا فأما قمن
و ذهبن فالنون هناك عوض عن حرف واحد و أما البيت فإنما جاز ذلك فيه لضرورة الشعر و
أما هلم فإن الأصل فيه أن حرف التنبيه و هي ها دخلت على لم عند الخليل و قوله «
مالك الملك » أكثر النحويين على أنه منصوب بأنه منادى مضاف قال الزجاج و يحتمل أن
يكون صفة من اللهم لأن اللهم بمنزلة يا الله فيكون مثل قولك يا زيد ذا الجمة « تؤتي
الملك » فعل و فاعل و مفعول في موضع النصب على الحال و العامل فيه حرف النداء و ذو
الحال اللهم أو مالك و « من تشاء » مفعول ثان و التقدير تؤتي الملك من تشاء أن
تؤتيه و تنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه و كذا الباء في « بيدك الخير » مبتدأ و
خبر في موضع الحال أيضا و العامل فيه تؤتي و تنزع و تعز و تذل و ذو الحال الضمير
المستكن فيها .
النزول
قيل لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)
مكة و وعد أمته ملك فارس و الروم قال المنافقون و اليهود هيهات من أين لمحمد (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) ملك فارس و الروم أ لم يكفه المدينة و مكة حتى طمع في الروم و
فارس و نزلت هذه الآية عن ابن عباس و أنس بن مالك و قيل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) خط الخندق عام الأحزاب و قطع لكل عشرة أربعين ذراعا فاحتج المهاجرون
و الأنصار في سلمان الفارسي و كان رجلا قويا فقال المهاجرون سلمان منا و قال
الأنصار سلمان منا فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) سلمان منا أهل البيت قال
عمرو بن عوف كنت أنا و سلمان و حذيفة و نعمان بن مقرن المزني و ستة من الأنصار في
أربعين ذراعا فحفرنا حتى إذا كنا بجب ذي ناب أخرج الله من بطن الخندق صخرة مروة
كسرت حديدنا و شقت علينا فقلنا يا سلمان أرق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) و أخبره خبر هذه الصخرة فأما أن نعدل عنها فإن المعدل قريب و أما أن
يأمرنا فيه بأمره فإنا لا نحب أن نجاوز خطه قال فرقي سلمان إلى رسول الله و هو ضارب
عليه قبة تركية فقال يا رسول الله خرجت صخرة بيضاء مروة من بطن الخندق
مجمع
البيان ج : 2 ص : 727
فكسرت حديدنا و شقت علينا حتى ما يحتك فيها قليل و لا
كثير فمرنا فيها بأمرك فإنا لا نحب أن نجاوز خطك قال فهبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) مع سلمان الخندق و التسعة على شفة الخندق فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) المعول من يد سلمان فضربها به ضربة صدعها و برق منها برق أضاء ما
بين لابتيها حتى كان لكان مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) تكبيرة فتح و كبر المسلمون ثم ضربها رسول الله الثانية فكسرها و برق
منها برق أضاء ما بين لابتيها حتى لكان مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول الله (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) تكبيرة فتح و كبر المسلمون ثم ضربها رسول الله الثالثة فكسرها
فبرق منها برق أضاء بها ما بين لابتيها حتى لكان مصباحا في جوف بيت مظلم فكبر رسول
الله تكبير فتح و كبر المسلمون و أخذ بيد سلمان و رقي فقال سلمان بأبي أنت و أمي يا
رسول الله لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)
إلى القوم و قال رأيتم ما يقول سلمان قالوا نعم يا رسول الله قال ضربت ضربتي الأولى
فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة و مدائن كسرى كأنها أنياب الكلاب
فأخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت
لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنها أنياب الكلاب و أخبرني جبرائيل أن أمتي
ظاهرة عليها ثم ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور صنعاء كأنها
أنياب الكلاب و أخبرني جبرائيل أن أمتي ظاهرة عليها فأبشروا فاستبشر المسلمون و
قالوا الحمد لله موعد صدق وعدنا النصر بعد الحصر فقال المنافقون أ لا تعجبون يمنيكم
و بعدكم الباطل و يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى و أنها تفتح
لكم و أنتم إنما تحفرون الخندق من الفرق و لا تستطيعون أن تبرزوا فنزل القرآن و إذ
يقول المنافقون الذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله و رسوله إلا غرورا و أنزل الله
في هذه القصة « قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك » الآية رواه الثعلبي بإسناده عن
عمرو بن عوف .
المعنى
لما ذكر سبحانه مكائد أهل الكتاب علم رسوله
محاجتهم و كيف يجيبهم إذا سألوا و أجابوا فقال « قل » يا محمد « اللهم » يا الله «
مالك الملك » مالك كل ملك و ملك فكل مالك دونك هالك و كل ملك دونك يهلك و قيل مالك
العباد و ما ملكوا عن الزجاج و قيل مالك أمر الدنيا و الآخرة و قيل مالك النبوة عن
مجاهد و سعيد بن جبير « تؤتي الملك من تشاء » تعطي الملك من تشاء و فيه محذوف أي من
تشاء أن تؤتيه « و تنزع الملك ممن تشاء » أن تنزعه منه كما تقول خذ ما شئت و دع ما
شئت و معناه و تقطع الملك عمن تشاء أن تقطعه عنه على ما توجبه الحكمة و تقتضيه
المصلحة و اختلف في معناه فقيل
مجمع البيان ج : 2 ص : 728
تؤتي الملك و
أسباب الدنيا محمدا و أصحابه و أمته و تنزعه عن صناديد قريش و من الروم و فارس فلا
تقوم الساعة حتى يفتحها أهل الإسلام عن الكلبي و قيل تؤتي النبوة و الإمامة من تشاء
من عبادك و توليه التصرف في خلقك و بلادك و تنزع الملك على هذا الوجه من الجبارين
بقهرهم و إزالة أيديهم فإن الكافر و الفاسق و إن غلب أو ملك فليس ذلك بملك يؤتيه
الله لقوله تعالى « لا ينال عهدي الظالمين » و كيف يكون ذلك من إيتاء الله و قد أمر
بقصر يده عنه و إزالة ملكه « و تعز من تشاء » بالإيمان و الطاعة « و تذل من تشاء »
بالكفر و المعاصي و قيل تعز المؤمن بتعظيمه و الثناء عليه و تذل الكافر بالجزية و
السبي و قيل تعز محمدا و أصحابه و تذل أبا جهل و إضرابه من المقتولين يوم بدر في
القليب و قيل تعز من تشاء من أوليائك بأنواع العزة في الدنيا و الدين و تذل من تشاء
من أعدائك في الدنيا و الآخرة لأن الله تعالى لا يذل أولياءه و إن أفقرهم و ابتلاهم
فإن ذلك ليس على سبيل الإذلال بل ليكرمهم بذلك في الآخرة يعزهم و يجلهم غاية
الإعزاز و الإجلال « بيدك الخير » اللام للجنس أي الخير كله في الدنيا و الآخرة من
قبلك و إنما قال « بيدك الخير » و إن كان بيده كل شيء من الخير و الشر لأن الآية
تضمنت إيجاب الرغبة إليه فلا يحسن في هذه الحالة إلا ذكر الخير لأن الترغيب لا يكون
إلا في الخير و هذا كما يقال أمر فلان بيد فلان « إنك على كل شيء قدير » أي قادر
على جميع الأشياء لا يعجزك شيء تقدر على إيجاد المعدوم و إفناء الموجود و إعادة ما
كان موجودا « تولج الليل في النهار و تولج النهار في الليل » قيل في معناه قولان (
أحدهما ) أن معناه ينقص من الليل فيجعل ذلك النقصان زيادة في النهار و ينقص من
النهار فيجعل ذلك النقصان زيادة في الليل على قدر طول النهار و قصره عن ابن عباس و
الحسن و مجاهد و عامة المفسرين ( و الآخر ) معناه يدخل أحدهما في الآخرة بإتيانه
بدلا منه في مكانه عن أبي علي الجبائي « و تخرج الحي من الميت » أي من النطفة و هي
ميتة بدليل قوله « و كنتم أمواتا فأحياكم » « و تخرج الميت من الحي » أي النطفة من
الحي و كذلك الدجاجة من البيضة و البيضة من الدجاجة عن ابن عباس و ابن مسعود و
مجاهد و قتادة و السدي و قيل أن معناه تخرج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن عن
الحسن و روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام) « و ترزق
من تشاء بغير حساب » معناه بغير تقتير كما يقال فلان ينفق بغير حساب لأن من عادة
المقتر أن لا ينفق إلا بحساب ذكره الزجاج و قيل معناه بغير مخافة نقصان لما عنده
فإنه لا نهاية لمقدوراته فما يؤخذ منها لا ينقصها و لا هو على حساب جزء من كذا كما
يعطي الواحد منا العشرة من المائة و المائة من الألف و قيل أن المراد بمن يشاء أن
يرزقه ،
مجمع البيان ج : 2 ص : 729
أهل الجنة لأنه يرزقهم رزقا لا يتناوله
الحساب و لا العد و لا الإحصاء من حيث أنه لا نهاية له و يطابقه قوله فأولئك يدخلون
الجنة يرزقون فيها بغير حساب . لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ
أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك فَلَيْس مِنَ اللَّهِ
فى شىْء إِلا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكمُ اللَّهُ نَفْسهُ وَ
إِلى اللَّهِ الْمَصِيرُ(28)
القراءة
قرأ يعقوب و سهل تقية و هو قراءة
الحسن و مجاهد و الباقون « تقاة » و أمال الكسائي تقاة و قرأ نافع و حمزة بين
التفخيم و الإمالة و الباقون بالتفخيم .
الحجة
الأجود في تقاة التفخيم
من أجل الحرف المستعلي و هو القاف و إنما جازت الإمالة لتؤذن أن الألف منقلبة من
الياء و تقاة وزنها فعلة نحو تؤدة و تخمة فهما جميعا مصدرا اتقى تقية و تقاة و
اتقاء و تقوى و أصله وقاء إلا أن الواو المضمومة أبدلت تاء استثقالا لها فإنهم
يفرون من ضمة الواو إلى الهمزة و إلى التاء فأما التاء فلقربها من الواو مع أنها من
حروف الزيادات و أما الهمزة فلأنها نظيرتها في الطرف الآخر من مخارج الحروف مع حسن
زيادتها أولا و التقية الإظهار باللسان خلاف ما ينطوي عليه القلب للخوف على النفس .
الإعراب
معنى من ابتداء الغاية من قوله « من دون المؤمنين » على تقدير
لا تجعلوا ابتداء الولاية مكانا دون المؤمنين لأن مكان المؤمن الأعلى و مكان الكافر
الأدنى كما تقول زيد دونك و لست تريد أن زيدا في موضع مستفل أو أنه في موضع مرتفع
لكن جعلت الشرف بمنزلة الارتفاع و الخسة كالاستفال و قوله « فليس من الله في شيء »
من في « من الله » يتعلق بمحذوف و هو حال و العامل فيه ما يتعلق به في و تقديره
فليس في شيء من الله فمن الله في موضع الصفة لشيء فلما تقدمه انتصب على الحال و
قوله « أن تتقوا » في محل الجر بباء محذوف أو في محل النصب بحذف الباء على ما مر
أمثاله .
المعنى
لما بين سبحانه أنه مالك الدنيا و الآخرة و القادر على
الإعزاز و الإذلال نهى المؤمنين عن موالاة من لا إعزاز عندهم و لا إذلال من أعدائه
ليكون الرغبة فيما عنده
مجمع البيان ج : 2 ص : 730
و عند أوليائه المؤمنين
دون أعدائه الكافرين فقال « لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء » أي لا ينبغي
للمؤمنين أن يتخذوا الكافرين أولياء لنفوسهم و أن يستعينوا بهم و يلتجئوا إليهم و
يظهروا المحبة لهم كما قال في عدة مواضع من القرآن نحو قوله « لا تجد قوما يؤمنون
بالله و اليوم الآخر يوادون من حاد الله و رسوله » الآية و قوله « لا تتخذوا اليهود
و النصارى أولياء و لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء » و قوله « من دون المؤمنين »
معناه يجب أن يكون الموالاة مع المؤمنين و هذا نهي عن موالاة الكفار و معاونتهم على
المؤمنين و قيل نهي عن ملاطفة الكفار عن ابن عباس و الأولياء جمع الولي و هو الذي
يلي أمر من ارتضى فعله بالمعونة و النصرة و يجري على وجهين ( أحدهما ) المعين
بالنصرة ( و الآخر ) المعان فقوله تعالى « الله ولي الذين آمنوا » معناه معينهم
بنصرته و يقال المؤمن ولي الله أي معان بنصرته و قوله « و من يفعل ذلك » معناه من
اتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين « فليس من الله في شيء » أي ليس هو من أولياء
الله و الله بريء منه و قيل ليس هو من ولاية الله تعالى في شيء و قيل ليس من دين
الله في شيء ثم استثنى فقال « إلا أن تتقوا منهم تقاة » و المعنى إلا أن يكون
الكفار غالبين و المؤمنون مغلوبين فيخافهم المؤمن إن لم يظهر موافقتهم و لم يحسن
العشرة معهم فعند ذلك يجوز له إظهار مودتهم بلسانه و مداراتهم تقية منه و دفعا عن
نفسه من غير أن يعتقد ذلك و في هذه الآية دلالة على أن التقية جائزة في الدين عند
الخوف على النفس و قال أصحابنا إنها جائزة في الأحوال كلها عند الضرورة و ربما وجبت
فيها لضرب من اللطف و الاستصلاح و ليس تجوز من الأفعال في قتل المؤمن و لأن يعلم أو
يغلب على الظن أنه استفساد في الدين قال المفيد أنها قد تجب أحيانا و تكون فرضا و
يجوز أحيانا من غير وجوب و تكون في وقت أفضل من تركها و قد يكون تركها أفضل و إن
كان فاعلها معذورا و معفوا عنه متفضلا عليه بترك اللوم عليها و قال الشيخ أبو جعفر
الطوسي ( قده ) ظاهر الروايات تدل على أنها واجبة عند الخوف على النفس و قد روي
رخصة في جواز الإفصاح بالحق عنده و روى الحسن أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين من أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال لأحدهما أ تشهد أن محمدا رسول الله قال
نعم قال أ فتشهد أني رسول الله فقال نعم ثم دعا بالآخر فقال أ تشهد أن محمدا رسول
الله قال نعم ثم قال أ فتشهد أني رسول الله فقال إني أصم قالها ثلاثا كل ذلك يجيبه
بمثل الأول فضرب عنقه فبلغ ذلك رسول الله فقال أما ذلك المقتول فمضى على صدقه و
يقينه و أخذ بفضله فهنيئا له و أما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه فعلى هذا
تكون التقية رخصة و الإفصاح بالحق فضيلة و قوله « و يحذركم الله نفسه » يعني إياه
فوضع نفسه مكان إياه و معناه و يحذركم
مجمع البيان ج : 2 ص : 731
الله
عقابه على اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين و على سائر المعاصي و ذكر « نفسه
» لتحقيق الإضافة كما يقال احذر الأسد أي صولته و افتراسه دون عينه « و إلى الله
المصير » معناه و إلى جزاء الله المرجع و قيل إلى حكمه . قُلْ إِن تُخْفُوا مَا
فى صدُورِكمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ
مَا فى الأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كلِّ شىْء قَدِيرٌ(29)
اللغة
الصدر معروف
و هو أعلى مقدم كل شيء و الصدر الانصراف عن الماء بعد الري و التصدير حسام الرجل
لميله إلى الصدر و الصدار شبيه بالبقيرة تلبسها المرأة لأنه قصير يغطي الصدر و ما
حاذاه .
الإعراب
« يعلمه الله » جزم لأنه جواب الشرط و إن كان الله
يعلمه كان أو لم يكن و معناه يعلمه كائنا و لا يصح وصفه بذلك قبل أن يكون و رفع « و
يعلم ما في السماوات » على الاستئناف .
المعنى
لما تقدم النهي عن اتخاذ
الكفار أولياء خوفها من الإبطان بخلاف الإظهار فيما نهوا عنه فقال سبحانه « قل » يا
محمد « إن تخفوا » أي إن تستروا « ما في صدوركم » يعني ما في قلوبكم و إنما ذكر
الصدر لأنه محل القلب « أو تبدوه » أي تظهروه « يعلمه الله » فلا ينفعكم إخفاؤه و
هو مع ذلك « يعلم ما في السماوات و ما في الأرض » و إنما قال ذلك ليذكر بمعلوماته
على التفصيل فيتم التحذير إذ كان من يعلم ما في السماوات و ما في الأرض على التفصيل
يعلم الضمير « و الله على كل شيء قدير » فيقدر على أخذكم و مجازاتكم . يَوْمَ
تَجِدُ كلُّ نَفْس مَّا عَمِلَت مِنْ خَير محْضراً وَ مَا عَمِلَت مِن سوء تَوَدُّ
لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكمُ اللَّهُ
نَفْسهُ وَ اللَّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ(30)
مجمع البيان ج : 2 ص : 732
اللغة
الأمد الغاية التي ينتهي إليها قال النابغة : إلا لمثلك أو من
أنت سابقه سبق الجواد إذا استولى على الأمد .
الإعراب
في انتصاب
يوم وجوه ( أحدها ) أنه منصوب بيحذركم أي يحذركم الله نفسه يوم تجد ( و الثاني )
بالمصير تقديره إلى الله المصير يوم تجد ( و الثالث ) اذكر يوم تجد و قوله « ما
عملت » ما هاهنا بمعنى الذي لأنه عمل فيه تجد فهي في موضع نصب و يحتمل أن يكون مع
ما بعدها بمعنى المصدر و تقديره يوم تجد كل نفس عملها بمعنى جزاء عملها محضرا منصوب
على الحال من تجد إذا جعلته من الوجدان فإن جعلته من العلم فهو مفعول ثان و قوله «
و ما عملت من سوء » يصلح فيها معنى الذي و يقويه قوله « تود » بالرفع و لو كان
بمعنى الجزاء لكان تود مفتوحا أو مكسورا و الرفع جائز على ضعف و أقول أن جواب لو
هنا محذوف و تقدير الكلام تود أن بينها و بينه أمدا بعيدا لو ثبت ذلك لأن لو يقتضي
الفعل و لا يدخل على الاسم و أن مع اسمه و خبره بمنزلة مصدر فيكون تقديره لو ثبت أن
بينها و بينه أمدا بعيدا فيكون في ذكر فاعل الفعل المقدر بعد لو دلالة على مفعول
تود المحذوف و في لفظ تود دلالة على جواب لو هذا مما سنح لي الآن و هو واضح بحمد
الله تعالى و منه .
المعنى
لما حذر العقاب في الآية المتقدمة بين وقت
العقاب فقال « يوم تجد كل نفس ما عملت » في الدنيا « من » طاعة و « خير محضرا » و
نظيره قوله « و وجدوا ما عملوا حاضرا » و « علمت نفس ما أحضرت » ثم اختلف في كيفية
وجود العمل محضرا فقيل تجد صحائف الحسنات و السيئات عن أبي مسلم و غيره و هو اختيار
القاضي و قيل ترى جزاء عملها من الثواب و العقاب فأما أعمالهم فهي أعراض قد بطلت و
لا يجوز عليها الإعادة فيستحيل أن ترى محضرة « و ما عملت من سوء » معناه تجد كل نفس
الذي عملته من معصية محضرا « تود لو أن بينها و بينه » أي بين معصيتها « أمدا بعيدا
» أي غاية بعيدة أي تود أنها لم تكن فعلتها و قيل معناه مكانا بعيدا عن السدي و قيل
ما بين المشرق و المغرب عن مقاتل « و يحذركم الله نفسه » قد مر ذكره « و الله رءوف
بالعباد » أي رحيم بهم قال الحسن و من تمام رأفته بهم أن حظرهم عقابه على معاصيه .
مجمع البيان ج : 2 ص : 733
قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكمْ ذُنُوبَكمْ وَ اللَّهُ
غَفُورٌ رَّحِيمٌ(31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسولَ فَإِن تَوَلَّوْا
فَإِنَّ اللَّهَ لا يحِب الْكَفِرِينَ(32)
اللغة
المحبة هي الإرادة إلا
أنها تضاف إلى المراد تارة و إلى متعلق المراد أخرى تقول أحب زيدا و أحب إكرام زيد
و لا تقول في الإرادة ذلك لأنك تقول أريد إكرام زيد و لا تقول أريد زيدا و إنما كان
كذلك لقوة تصرف المحبة في موضع ميل الطباع الذي يجري مجرى الشهوة فعوملت تلك
المعاملة في الإضافة و محبة الله تعالى للعبد هي إرادة ثوابه و محبة العبد لله هي
إرادته لطاعاته و قالوا أحببت فلانا فهو محبوب استغنوا به عن محب كما استغنوا
بأحببت عن حببت و قال عنترة : و لقد نزلت فلا تظني غيره مني بمنزلة المحب
المكرم فجاء به على الأصل و حكى الزجاج عن الكسائي حببت من الثلاثي و قوله « و يغفر
لكم » لا يجوز في القياس إدغام الراء في اللام كما جاز إدغام اللام في الراء في هل
رأيت لأن الراء مكررة و لا يدغم الزائد في الناقص للإخلال به و الطاعة اتباع الداعي
فيما دعاه إليه بأمره أو إرادته و لذلك قد يكون الإنسان مطيعا للشيطان فيما يدعوه
إليه و إن لم يقصد أن يطيعه لأنه إذا مال مع ما يجده في نفسه من الدعاء إلى المعصية
فقد أطاع الداعي إليها .
النزول
قال محمد بن جعفر بن الزبير نزلت
الآيتان في وفد نجران من النصارى لما قالوا إنا نعظم المسيح حبا لله .
المعنى
ثم بين سبحانه أن الإيمان به لا يجدي إلا إذا قارنه الإيمان
برسوله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقال « قل » يا محمد « إن كنتم تحبون الله » كما
تزعمون « فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم » و قيل معناه إن كنتم تحبون دين
الله فاتبعوا ديني يزدد لكم حبا عن ابن عباس و قيل إن كنتم صادقين في دعوة محبة
الله تعالى فاتبعوني فإنكم إن فعلتم ذلك أحبكم الله و يغفر لكم « و الله غفور رحيم
» أي كثير المغفرة و الرحمة « قل أطيعوا الله و الرسول » أي قل يا محمد إن كنتم
تحبون الله كما تدعون فأظهروا دلالة صدقكم بطاعة الله و طاعة رسوله فذلك أمارة صدق
الدعوة « فإن تولوا » أي فإن أعرضوا عن طاعة الله و طاعة رسوله « فإن الله لا يحب
الكافرين » معناه أنه يبغضهم و لا يريد ثوابهم فدل بالنفي
مجمع البيان ج : 2 ص
: 734
على الإثبات و ذلك أبلغ لأنه لو قال يبغضهم لجاز أن يتوهم أنه يبغضهم من
وجه و يحبهم من وجه آخر كما يجوز أن يعلم الشيء من وجه و يجهل من وجه و في هذا
دلالة على بطلان مذهب المجبرة لأنه إذا لم يحب الكافرين من أجل كفرهم و لم يرد
ثوابهم لذلك فلا يريد إذا كفرهم لأنه لو أراد لم يكن نفي محبته لهم لكفرهم .
*
إِنَّ اللَّهَ اصطفَى ءَادَمَ وَ نُوحاً وَ ءَالَ إِبْرَهِيمَ وَ ءَالَ عِمْرَنَ
عَلى الْعَلَمِينَ(33) ذُرِّيَّةَ بَعْضهَا مِن بَعْض وَ اللَّهُ سمِيعٌ
عَلِيمٌ(34) اللغة الاصطفاء الاختيار و الاجتباء نظائر و هو افتعل من
الصفوة و هذا من أحسن البيان الذي يمثل به المعلوم بالمرئي و ذلك أن الصافي هو
النقي من شائب الكدر فيما يشاهد فمثل الله تعالى خلوص هؤلاء القوم من الفساد بخلوص
الصافي من شائب الأدناس و قد بينا معنى الآل فيما مضى عند قوله « و إذ نجيناكم من
آل فرعون » الآية و معنى الذرية و أصله عند قوله « من ذريتي » .
الإعراب
يحتمل نصب ذرية على وجهين ( أحدهما ) أن يكون حالا و العامل فيها اصطفى ( و
الثاني ) أن يكون على البدل من مفعول اصطفى .
المعنى
« إن الله اصطفى »
أي اختار و اجتبى « آدم و نوحا » لنبوته « و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين »
أي على عالمي زمانهم بأن جعل الأنبياء منهم و قيل اختار دينهم كقوله « و اسئل
القرية » عن الفراء و قيل اختارهم بالتفضيل على غيرهم بالنبوة و غيرها من الأمور
الجليلة التي رتبها الله لهم في ذلك من مصالح الخلق و قيل اختار آدم بأن خلقه من
غير واسطة و أسكنه جنته و أسجد له ملائكته و أرسله إلى الملائكة و الإنس و اختار
نوحا بالنبوة و طول العمر و إجابة دعائه و غرق قومه و نجاته في السفينة و اختار
إبراهيم بالخلة و تبريد النار و إهلاك نمرود و قوله « و آل إبراهيم و آل عمران »
قيل أراد به نفس إبراهيم و نفس عمران كقوله « و بقية مما ترك آل موسى و آل هارون »
يعني موسى و هارون و قيل آل إبراهيم أولاده إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط و
فيهم داود و سليمان
|