مجمع
البيان ج : 3 ص : 180
هكذا
أنشده الحسن بن علي المغربي و هو استفعال من الفتيا و هو الفتوى و أفتى في المسألة
بين حكمها .
الإعراب
« و ما
يتلى عليكم » موضعه رفع بالابتداء تقديره الله يفتيكم فيهن « و ما يتلى عليكم » في
الكتاب أيضا يفتيكم فيهن و قال الفراء يجوز أن يكون موضعه جرا عطفا على المضمر
المجرور في « فيهن » و هذا بعيد لأن الظاهر لا يحسن عطفه على الضمير المجرور و قيل
يجوز أن يكون عطفا على النساء في قوله « و يستفتونك في النساء » أي و يستفتونك فيما
يتلى عليكم و في المستضعفين قال الواحدي قوله « في يتامى النساء » قيل أن تقديره في
النساء اليتامى فأضيفت الصفة إلى الموصوف نحو قولك كتاب الكامل و مسجد الجامع و يوم
الجمعة و هذا قول الكوفيين و عند المحققين لا يجوز إضافة الصفة إلى الموصوف بل
النساء هنا أمهات اليتامى أضيف إليهن أولادهن و أقول يجوز أيضا أن يضاف اليتامى إلى
النساء إذا كن من جملتهن فيكون الإضافة بمعنى من كما يقال خيار النساء و شرار
النساء و صغار النساء و هذا أشبه بما ينساق إليه معنى الآية « و المستضعفين » جر
عطفا على يتامى النساء « و أن تقوموا لليتامى بالقسط » في موضع جر أيضا و التقدير و
ما يتلى عليكم من الآيات في يتامى النساء و في المستضعفين و في أن تقوموا لليتامى
بالقسط يفتيكم الله فيهن .
المعنى
ثم عاد
كلام الله تعالى إلى ذكر النساء و الأيتام و قد جرى ذكرهم في أول السورة فقال « و
يستفتونك » أي يسألونك الفتوى و هو تبيين المشكل من الأحكام « في النساء » و
يستخبرونك يا محمد عن الحكم فيهن و عما يجب لهن و عليهن و إنما حذف ذلك لإحاطة
العلم بأن السؤال في أمر الدين إنما يقع عما يجوز و عما لا يجوز و عما يجب و عما لا
يجب « قل الله يفتيكم فيهن » معناه قل يا محمد الله يبين لكم ما سألتم في شأنهن « و
ما يتلى عليكم في الكتاب » أي و يفتيكم أيضا ما يقرأ عليكم في الكتاب أي القرآن و
تقديره و كتابه يفتيكم أي يبين لكم الفرائض المذكورة « في يتامى النساء » أي الصغار
« اللاتي » لم يبلغن و قوله « اللاتي لا تؤتونهن » أي لا تعطونهن « ما كتب لهن » و
اختلف في تأويله على أقوال ( أولها ) أن المعنى و ما يتلى عليكم في توريث صغار
النساء و هو آيات الفرائض التي في أول السورة و كان أهل الجاهلية لا يورثون المولود
حتى يكبر و لا يورثون المرأة و كانوا
مجمع
البيان ج : 3 ص : 181
يقولون
لا نورث إلا من قاتل و دفع عن الحريم فأنزل الله آية المواريث في أول السورة و هو
معنى قوله « لا تؤتونهن ما كتب لهن » أي من الميراث عن ابن عباس و سعيد بن جبير و
مجاهد و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) ( و ثانيها ) أن المعنى اللاتي
لا تؤتونهن ما وجب لهن من الصداق و كانوا لا يؤتون اليتامى اللاتي يكون لهن من
الصداق فنهى الله عن ذلك بقوله و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا من غيرهن
ما طاب لكم و قوله « و ما يتلى عليكم » هو ما ذكره في أول السورة من قوله و إن خفتم
ألا تقسطوا الآية عن عائشة و هو اختيار أبي علي الجبائي و اختار الطبري القول الأول
و اعترض على هذا القول بأن قال ليس الصداق مما كتب الله للنساء إلا بالنكاح فمن لم
تنكح فلا صداق لها عند أحد ( و ثالثها ) أن المراد بقوله « لا تؤتونهن ما كتب لهن »
النكاح الذي كتب الله لهن في قوله و أنكحوا الأيامى الآية فكان الولي يمنعهن من
التزويج عن الحسن و قتادة و السدي و أبي مالك و إبراهيم قالوا كان الرجل يكون في
حجره اليتيمة بها دمامة و لها مال و كان يرغب عن أن يتزوجها و يحبسها طمع أن تموت
فيرثها قال السدي و كان جابر بن عبد الله الأنصاري له بنت عم عمياء دميمة و قد ورثت
عن أبيها مالا فكان جابر يرغب عن نكاحها و لا ينكحها مخافة أن يذهب الزوج بمالها
فسأل النبي عن ذلك فنزلت الآية و قوله « و ترغبون أن تنكحوهن » معناه على القول
الأول و الثالث و ترغبون عن أن تنكحوهن أي عن نكاحهن و لا تؤتونهن نصيبهن من
الميراث فيرغب فيهن غيركم فقد ظلمتموهن من وجهين و في قول عائشة معناه و ترغبون في
أن تنكحوهن أي في نكاحهن لجمالهن أو لمالهن « و المستضعفين من الولدان » معناه و
يفتيكم في المستضعفين من الصبيان الصغار أن تعطوهم حقوقهم و كانوا لا يورثون صغيرا
من الغلمان و لا من الجواري لأن ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله « و آتوا
اليتامى أموالهم » يدل على الفتيا في إعطاء حقوق الصغار من الميراث « و أن تقوموا
لليتامى بالقسط » أي و يفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالقسط في أنفسهم و في مواريثهم
و أموالهم و تصرفاتهم و إعطاء كل ذي حق منهم حقه صغيرا كان أو كبيرا ذكرا كان أو
أنثى و فيه إشارة إلى قوله سبحانه « و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى » الآية « و
ما تفعلوا من خير » أي مهما فعلتم من خير أيها المؤمنون من عدل و بر في أمر النساء
و اليتامى و انتهيتم في ذلك إلى أمر الله و طاعته « فإن الله كان به عليما » أي لم
يزل به عالما و لا يزال كذلك يجازيكم به و لا يضيع عنده شيء منه .
مجمع
البيان ج : 3 ص : 182
وَ إِنِ
امْرَأَةٌ خَافَت مِن بَعْلِهَا نُشوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا
أَن يُصلِحَا بَيْنهُمَا صلْحاً وَ الصلْحُ خَيرٌ وَ أُحْضرَتِ
الأَنفُس الشحَّ وَ إِن تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيراً(128)
القراءة
قرأ أهل
الكوفة « أن يصلحا » بضم الياء و كسر اللام و سكون الصاد و الباقون يصالحا بتشديد
الصاد و فتح الياء و اللام .
الحجة
الأعرف
في الاستعمال يصالحا و زعم سيبويه أن بعضهم قرأ يصلحا فيصلحا يفتعلا و افتعل و
تفاعل بمعنى و لذلك صحت الواو في اجتوروا و اعتوروا لما كان بمعنى تجاوروا و
تعاوروا فهذا حجة لمن قرأ أن يصالحا و من قرأ « يصلحا » فإن الإصلاح عند التنازع قد
استعمل كما في قوله سبحانه فأصلح بينهم و قوله « صلحا » يكون مفعولا على قراءة من
قرأ « يصلحا » كما تقول أصلحت ثوبا و من قرأ يصالحا فيجوز أن يكون صلحا مفعولا أيضا
لأن تفاعل قد جاء متعديا و يجوز أن يكون مصدرا حذفت زوائده كما قال :
فإن
تهلك فذلك كان قدري ) أي تقديري و يجوز أن يكون قد وضع المصدر موضع الاسم كما وضع
الاسم موضع المصدر في نحو قوله :
باكرت
حاجتها الدجاج بسحرة ) و قوله :
و بعد
عطاءك المائة الرتاعا ) .
اللغة
النشوز
مر ذكره في هذه السورة و الشح إفراط في الحرص على الشيء و يكون بالمال و بغيره من
الأعراض يقال هو شحيح بمودتك أي حريص على دوامها و لا يقال في ذلك بخيل و البخل
يكون بالمال خاصة قال الشاعر :
مجمع
البيان ج : 3 ص : 183
لقد كنت
في قوم عليك أشحة
بفقدك
إلا أن من طاح طائح
يودون
لو خاطوا عليك جلودهم
و هل
يدفع الموت النفوس الشحائح .
الإعراب
« و إن
امرأة خافت » امرأة ارتفعت بفعل مضمر يفسره الفعل الظاهر بعدها و هو إضمار قبل
الذكر على شريطة التفسير و تقديره و إن خافت لو قلت إن امرأة تخف ففرقت بين إن
الجزاء و الفعل المستقبل فذلك قبيح لأن إن لا يفصل بينها و بين ما تجزم ذلك في
الشعر جايز في إن و غيرها قال الشاعر :
فمتى
واغل ينبهم يحيوه
و تعطف
عليه كأس الساقي فأما الماضي فإن غير عاملة في لفظه و إن لم تكن من حروف الجزاء
فجاز أن يفرق بينها و بين الفعل فأما غير إن فالفصل يقبح فيه مع الماضي و المستقبل
جميعا .
النزول
كانت
بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج و كانت قد دخلت في السن و كانت عنده امرأة شابة
سواها فطلقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال إن شئت راجعتك و صبرت على
الأثرة و إن شئت تركتك قالت بل راجعني و أصبر على الأثرة فراجعها فذلك الصلح الذي
بلغنا إن الله تعالى أنزل فيه هذه الآية عن أبي جعفر و سعيد بن المسيب و قيل خشيت
سودة بنت زمعة أن يطلقها رسول الله فقالت لا تطلقني و أجلسني مع نسائك و لا تقسم لي
و اجعل يومي لعائشة فنزلت الآية عن ابن عباس .
المعنى
لما
تقدم حكم نشوز المرأة بين سبحانه تعالى نشوز الرجل فقال « و إن امرأة خافت » أي
علمت و قيل ظنت « من بعلها » أي من زوجها « نشوزا » أي استعلاء و ارتفاعا بنفسه
عنها إلى غيرها إما لبغضه و إما لكراهته منها شيئا إما دمامتها و إما علو سنها أو
غير ذلك « أو إعراضا » يعني انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه و قيل
يعني بإعراضه عنها هجرانه إياها و جفاها و ميله إلى غيرها « فلا جناح عليهما » أي
لا حرج و لا
مجمع
البيان ج : 3 ص : 184
إثم على
كل واحد منهما من الزوج و الزوجة « أن يصلحا بينهما صلحا » بأن تترك المرأة له
يومها أو تضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة أو كسوة أو غير ذلك لتستعطفه بذلك و
تستديم المقام في حباله « و الصلح خير » معناه و الصلح بترك بعض الحق خير من طلب
الفرقة بعد الألفة هذا إذا كان بطيبة من نفسها فإن لم يكن كذلك فلا يجوز له إلا ما
يسوغ في الشرع من القيام بالكسوة و النفقة و القسمة و إلا طلقها و بهذه الجملة قالت
الصحابة و التابعون منهم علي و ابن عباس و عائشة و سعيد بن جبير و قتادة و مجاهد و
غيرهم « و أحضرت الأنفس الشح » اختلف في تأويله فقيل معناه و أحضرت أنفس النساء
الشح على انصبائهن من أنفس أزواجهن و أموالهن و أيامهن منهم عن ابن عباس و سعيد بن
جبير و عطا و السدي و قيل معناه و أحضرت أنفس كل واحد من الرجل و المرأة الشح بحقه
قبل صاحبه فشح المرأة يكون بترك حقها من النفقة و الكسوة و القسمة و غيرها و شح
الرجل بإنفاقه على التي لا يريدها و هذا أعم و به قال ابن وهب و ابن زيد « و أن
تحسنوا » خطاب للرجال أي و إن تفعلوا الجميل بالصبر على ما تكرهون من النساء « و
تتقوا » من الجور عليهن في النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف و قيل أن تحسنوا في
أقوالكم و أفعالكم و تتقوا معاصي الله « فإن الله كان بما تعملون خبيرا » أي هو
سبحانه خبير بما يكون منكم في أمرهن بحفظه لكم و عليكم حتى يجازيكم بأعمالكم .
وَ لَن
تَستَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَينَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصتُمْ فَلا
تَمِيلُوا كلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِن تُصلِحُوا وَ
تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَّحِيماً(129) وَ إِن يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كلاًّ مِّن سعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ وَسِعاً حَكِيماً(130)
اللغة
الاستطاعة و القوة و القدرة نظائر و السعة
خلاف الضيق و الواسع في صفات القديم اختلف في معناه و قيل أنه واسع العطاء أي
المكرمة و قيل هو واسع الرحمة و يؤيده قوله تعالى « و رحمتي وسعت كل شيء » و قيل
أنه واسع المقدور .
مجمع
البيان ج : 3 ص : 185
المعنى
لما
تقدم ذكر النشوز و الصلح بين الزوجين عقبه سبحانه بأنه لا يكلف من ذلك ما لا يستطاع
فقال « و لن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء و لو حرصتم » أي لن تقدروا أن تسووا بين
النساء في المحبة و المودة بالقلب و لو حرصتم على ذلك كل الحرص فإن ذلك ليس إليكم و
لا تملكونه فلا تكلفونه و لا تؤاخذون به عن ابن عباس و الحسن و قتادة و قيل معناه
لم تقدروا أن تعدلوا بالتسوية بين النساء في كل الأمور من جميع الوجوه من النفقة و
الكسوة و العطية و المسكن و الصحبة و البر و البشر و غير ذلك و المراد به أن ذلك لا
يخفف عليكم بل يثقل و يشق لميلكم إلى بعضهن « فلا تميلوا كل الميل » أي فلا تعدلوا
بأهوائكم عن من لم تملكوا محبة منهن كل العدول حتى يحملكم ذلكم على أن تجوروا على
صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق القسمة و النفقة و الكسوة و العشرة
بالمعروف « فتذروها كالمعلقة » أي تذروا التي لا تميلون إليها كالتي هي لا ذات زوج
و لا أيم عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و غيرهم و هو المروي عن أبي جعفر و
أبي عبد الله و ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره أنه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر
الأحول عن قوله سبحانه « فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة » ثم قال « و لن تستطيعوا أن
تعدلوا بين النساء و لو حرصتم » و بين القولين فرق قال فلم يكن عندي جواب في ذلك
حتى قدمت المدينة فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فسألته عن ذلك فقال
أما قوله « فإن خفتم ألا تعدلوا » فإنه عنى في النفقة و أما قوله « و لن تستطيعوا
أن تعدلوا » فإنه عنى في المودة فإنه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودة
قال فرجعت إلى الرجل فأخبرته فقال هذا ما حملته من الحجاز و روى أبو قلابة عن النبي
(صلى الله عليهوآلهوسلّم) أنه كان يقسم بين نسائه و يقول اللهم هذه قسمتي
فيما أملك فلا تلمني فيما تملك و لا أملك قوله « و أن تصلحوا » يعني في القسمة بين
الأزواج و التسوية بينهن في النفقة و غير ذلك « و تتقوا » الله في أمرهن و تتركوا
الميل الذي نهاكم الله عنه في تفضيل واحدة على الأخرى « فإن الله كان غفورا رحيما »
يستر عليكم ما مضى منكم من الحيف في ذلك إذا تبتم و رجعتم إلى الاستقامة و التسوية
بينهن و يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك و كذلك كان يفعل فيما مضى مع غيركم و روي عن
جعفر الصادق (عليه السلام) عن آبائه أن النبي
(صلى الله عليهوآلهوسلّم) كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهن و
روي أن عليا كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضأ في بيت الأخرى و كان
معاذ بن جبل له امرأتان ماتتا في الطاعون فأقرع بينهما أيهما تدفن قبل الأخرى و
قوله « و إن يتفرقا يغن الله كلا من سعته » يعني إذا أبى كل واحد من الزوجين مصلحة
الآخر بأن تطالب المرأة بنصيبها من القسمة و النفقة
مجمع
البيان ج : 3 ص : 186
و
الكسوة و حسن العشرة و يمتنع الرجل من إجابتها إلى ذلك و يتفرقا حينئذ بالطلاق فإنه
سبحانه يغني كل واحد منهما من سعته أي من سعة فضله و رزقه « و كان الله واسعا حكيما
» أي لم يزل واسع الفضل على العباد حكيما فيما يدبرهم به و في هذه الآية دلالة على
أن الأرزاق كلها بيد الله و هو الذي يتولاها بحكمته و إن كان ربما أجراها على يدي
من يشاء من بريته .
وَ
للَّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصيْنَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَب مِن قَبْلِكمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِن
تَكْفُرُوا فَإِنَّ للَّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ كانَ
اللَّهُ غَنِياًّ حَمِيداً(131) وَ للَّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى
الأَرْضِ وَ كَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً(132)
المعنى
ثم ذكر
سبحانه بعد إخباره بإغناء كل واحد من الزوجين بعد الافتراق من سعة فضله ما يوجب
الرغبة إليه في ابتغاء الخير منه فقال « و لله ما في السماوات و ما في الأرض »
إخبارا عن كمال قدرته و سعة ملكه أي فإن من يملك ما في السماوات و ما في الأرض لا
يتعذر عليه الإغناء بعد الفرقة و الإيناس بعد الوحشة ثم ذكر الوصية بالتقوى فإن بها
ينال خير الدنيا و الآخرة فقال « و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم » من
اليهود و النصارى و غيرهم « و إياكم » أي و أوصيناكم أيها المسلمون في كتابكم « أن
اتقوا الله » و تقديره بأن اتقوا الله أي اتقوا عقابه باتقاء معاصيه و لا تخالفوا
أمره و نهيه « و أن تكفروا » أي تجحدوا وصيته إياكم و تخالفوها « فإن لله ما في
السماوات و ما في الأرض » لا يضره كفرانكم و عصيانكم و هذه إشارة إلى أن أمره جميع
الأمم بطاعته و نهيه إياهم عن معصيته ليس استكثارا بهم عن قلة و لا استنصارا بهم عن
ذلة و لا استغناء بهم عن حاجة فإن له ما في السماوات و ما في الأرض ملكا و ملكا و
خلقا لا يلحقه العجز و لا يعتريه الضعف و لا تجوز عليه الحاجة و إنما أمرنا و نهانا
نعمة منه علينا و رحمة بنا « و كان الله غنيا » أي لم يزل سبحانه غير محتاج إلى
خلقه بل الخلائق كلهم محتاجون إليه « حميدا » أي مستوجبا
مجمع
البيان ج : 3 ص : 187
للحمد
عليكم بصنائعه الحميدة إليكم و آلائه الجميلة لديكم فاستديموا ذلك باتقاء معاصيه و
المسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به ثم قال « و لله ما في السماوات و ما في الأرض و
كفى بالله وكيلا » أي حافظا لجميعه لا يعزب عنه علم شيء منه و لا يؤوده حفظه و
تدبيره و لا يحتاج مع سعة ملكه إلى غيره و أما وجه التكرار لقوله « و لله ما في
السماوات و ما في الأرض » في الآيتين ثلاث مرات فقد قيل أنه للتأكيد و التذكير و
قيل أنه للإبانة عن علل ثلاث ( أحدها ) بيان إيجاب طاعته فيما قضى به لأن له ملك
السماوات و الأرض ( و الثاني ) بيان غناه عن خلقه و حاجتهم إليه و استحقاقه الحمد
على النعم لأن له ما في السموات و ما في الأرض ( و الثالث ) بيان حفظه إياهم و
تدبيره لهم لأن له ملك السماوات و الأرض .
إِن
يَشأْ يُذْهِبْكمْ أَيهَا النَّاس وَ يَأْتِ بِئَاخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ
عَلى ذَلِك قَدِيراً(133) مَّن كانَ يُرِيدُ ثَوَاب الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ
ثَوَاب الدُّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سمِيعَا بَصِيراً(134)
المعنى
لما ذكر
سبحانه غناه عن الخلق بأن له ملك السماوات و الأرض عقب ذلك بذكر كمال قدرته على
خلقه و إن له الإهلاك و الإنجاء و الاستبدال بعد الإفناء فقال « إن يشأ يذهبكم »
يعني أن يشأ الله يهلككم « أيها الناس » و يفنكم و قيل فيه محذوف أي إن يشأ أن
يذهبكم يذهبكم أيها الناس « و يأت ب آخرين » أي بقوم آخرين غيركم ينصرون نبيه
و يوازرونه و يروى أنه لما نزلت هذه الآية ضرب النبي يده على ظهر سلمان و قال هم
قوم هذا يعني عجم الفرس « و كان الله على ذلك قديرا » أي لم يزل سبحانه و لا يزال
قادرا على الإبدال و الإفناء و الإعادة ثم ذكر سبحانه عظم ملكه و قدرته بأن جزاء
الدارين عنده فقال « من كان يريد ثواب الدنيا » أي الغنيمة و المنافع الدنيوية أخبر
سبحانه عمن أظهر الإيمان بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) من أهل النفاق
يريد عرض الحياة الدنيا بإظهار ما أظهره من الإيمان بلسانه « فعند الله ثواب الدنيا
و الآخرة » أي يملك سبحانه الدنيا و الآخرة فيطلب المجاهد الثوابين عند الله عن أبي
علي الجبائي و قيل أنه وعيد للمنافقين و ثوابهم في الدنيا ما يأخذونه من الفيء و
الغنيمة إذا شهدوا الحرب مع المسلمين و أمنهم على نفوسهم و أموالهم و ذراريهم و
ثوابهم في الآخرة النار « و كان الله سميعا بصيرا » أي لم يزل على صفة يجب لأجلها
أن
مجمع
البيان ج : 3 ص : 188
يسمع
المسموعات و يبصر المبصرات عند الوجود و هذه الصفة هي كونه حيا لا آفة به و قيل
إنما ذكر هذا ليبين أنه يسمع ما يقول المنافقون إذا خلوا إلى شياطينهم و يعلم ما
يسرونه من نفاقهم .
* يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا
قَوَّمِينَ بِالْقِسطِ شهَدَاءَ للَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنفُسِكُمْ أَوِ
الْوَلِدَيْنِ وَ الأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ
أَوْلى بهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الهَْوَى أَن تَعْدِلُوا وَ إِن
تَلْوُا أَوْ تُعْرِضوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً(135)
القراءة
قرأ ابن
عامر و حمزة أن تلوا بضم اللام و واو واحدة ساكنة و الباقون « تلووا » بواوين
الأولى مضمومة و الثانية ساكنة .
الحجة
من قرأ
بواو واحدة فحجته أن يقول أنه من الولاية و ولاية الشيء إقبال عليه و خلاف الإعراض
عنه فيكون المعنى إن تقبلوا أو تعرضوا فإن الله خبير بأعمالكم يجازي المحسن المقبل
بإحسانه و المسيء المعرض بإعراضه و تركه الإقبال على ما يلزمه أن يقبل عليه قال و
إذا قرأت « تلووا » فهي من اللي و اللي مثل الأعراض فيكون كالتكرير أ لا ترى أن
قوله « لووا رءوسهم و رأيتهم يصدون » معناه الإعراض و ترك الانقياد للحق و من قرأ «
تلووا » من لوى فحجته أن يقول لا ينكر أن يتكرر اللفظان بمعنى واحد نحو قوله « فسجد
الملائكة كلهم أجمعون » و قول الشاعر :
و هند
أتى من دونها الناي و البعد ) و قول آخر :
و ألفى
قولها كذبا و مينا ) و قيل أن تلوا يجوز أن يكون تلووا و إن الواو التي هي عين همزت
لانضمامها كما همزت في أدؤر ثم طرحت الهمزة و ألقيت حركتها على اللام التي هي فاء
فصارت تلوا كما تطرح الهمزة في أدؤر و تلقي حركتها على الدال فتصير آدر .
اللغة
القسط و
الأقساط العدل يقال أقسط الرجل إقساطا إذا عدل و أتى بالقسط و قسط الرجل يقسط قسوطا
إذا جار و يقال قسط البعير يقسط قسطا إذا يبست يده و يد قسطاء أي يابسة فكان معنى
أقساط أقام الشيء على حقيقته في التعديل و كان قسط أي جار معناه يبس الشيء و أفسد
جهته المستقيمة و القوام فعال من القيام و هو أن يكون عادته القيام و اللي
مجمع
البيان ج : 3 ص : 189
الدفع
يقال لويت فلانا حقه إذا دفعته و مطلته و منه الحديث لي الواجد ظلم أي مطل الغني
جور .
الإعراب
شهداء
نصب على الحال من الضمير في قوله « قوامين » و هو ضمير « الذين آمنوا » و يجوز أن
يكون خبر كان على أن لها خبرين نحو هذا حلو حامض و يجوز أن يكون صفة لقوامين إن يكن
غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما لم يقل به لأنه أراد فالله أولى بغناء الغني و فقر
الفقير لأن ذلك منه سبحانه و قيل إنما ثني الضمير لأن أو في هذا الموضع بمعنى الواو
و قيل أنه لم يقصد غنيا بعينه و لا فقيرا بعينه فهو مجهول و ما ذلك حكمه يجوز أن
يعود إليه الضمير بالتوحيد و التثنية و قد ذكر أن في قراءة أبي فالله أولى بهم و
قيل إنما قال بهما لأنهما قد ذكرا كما قال و له أخ أو أخت فلكل واحد منهما و قيل
إنما جاز ذلك لأنه أضمر فيه من خاصم على ما تذكره في المعنى مشروحا و « إن تعدلوا »
يجوز أن يكون في موضع نصب بأنه مفعول له أي هربا من أن تعدلوا و كراهة أن تعدلوا و
يجوز أن يكون في موضع جر على معنى فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا .
المعنى
لما ذكر
سبحانه أن عنده ثواب الدنيا و الآخرة عقبه بالأمر بالقسط و القيام بالحق و ترك
الميل و الجور فقال « يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط » أي دائمين على
القيام بالعدل و معناه و لتكن عادتكم القيام بالعدل في القول و الفعل « شهداء لله »
و هو جمع شهيد أمر الله تعالى عباده بالثبات و الدوام على قول الحق و الشهادة
بالصدق تقربا إليه و طلبا لمرضاته و عن ابن عباس كونوا قوالين بالحق في الشهادة على
من كانت و لمن كانت من قريب أو بعيد « و لو على أنفسكم » أي و لو كانت شهادتكم على
أنفسكم « أو الوالدين و الأقربين » أي على والديكم و على أقرب الناس إليكم فقوموا
فيها بالقسط و العدل و أقيموها على الصحة و الحق و لا تميلوا فيها لغنى غني أو لفقر
فقير فإن الله قد سوى بين الغني و الفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكل واحد
منهما بالعدل و في هذا دلالة على جواز شهادة الولد لوالده و الوالد لولده و عليه و
شهادة كل ذي قرابة لقريبه و عليه و إليه ذهب ابن عباس في قوله أمر الله سبحانه
المؤمنين أن يقولوا الحق و لو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم و لا يحابوا غنيا
لغناه و لا مسكينا لمسكنته و قال ابن شهاب الزهري كان سلف المسلمين على ذلك حتى
دخل
مجمع
البيان ج : 3 ص : 190
الناس
فيما بعدهم و ظهرت منهم أمور حملت الولاة على تهامهم فتركت شهادة من يتهم و أما
شهادة الإنسان على نفسه فيكون بالإقرار للخصم فإقراره له شهادة منه على نفسه و
شهادته لنفسه لا تقبل « إن يكن غنيا أو فقيرا » معناه أن يكن المشهود عليه غنيا أو
فقيرا أو المشهود له غنيا أو فقيرا فلا يمنعكم ذلك عن قول الحق و الشهادة بالصدق و
فائدة ذلك أن الشاهد ربما امتنع عن إقامة الشهادة للغني على الفقير لاستغناء
المشهود له و فقر المشهود عليه فلا يقيم الشهادة شفقة على الفقير و ربما امتنع عن
إقامة الشهادة للفقير على الغني تهاونا للفقير و توقيرا للغني أو خشية منه أو حشمة
له فبين سبحانه بقوله « فالله أولى بهما » إنه أولى بالغني و الفقير و أنظر لهما من
سائر الناس أي فلا تمتنعوا من إقامة الشهادة على الفقير شفقة عليه و نظرا له و لا
من إقامة الشهادة للغني لاستغنائه عن المشهود به فإن الله تعالى أمركم بذلك مع علمه
بغناء الغني و فقر الفقير فراعوا أمره فيما أمركم به فإنه أعلم بمصالح العباد منكم
« فلا تتبعوا الهوى » يعني هوى الأنفس في إقامة الشهادة فتشهدوا على إنسان الإحنة
بينكم و بينه أو وحشة أو عصبية و تمتنعوا الشهادة له لأحد هذه المعاني و تشهدوا
للإنسان بغير حق لميلكم إليه بحكم صداقة أو قرابة « أن تعدلوا » أي لأن تعدلوا يعني
لأجل أن تعدلوا في الشهادة قال الفراء هذا كقولهم لا تتبع هواك لترضي ربك أي كيما
ترضي ربك و قيل أنه من العدول الذي هو الميل و الجور و معناه و لا تتبعوا الهوى في
أن تعدلوا عن الحق أو لأن تعدلوا عن الحق « و إن تلووا » أي تمطلوا في أداء الشهادة
« أو تعرضوا » عن أدائها عن ابن عباس و مجاهد و قيل إن الخطاب للحكام أي و إن تلووا
أيها الحكام في الحكم لأحد الخصمين على الآخر « أو تعرضوا » عن أحدهما إلى الآخر عن
ابن عباس و السدي و قيل معناه « إن تلووا » أي تبدلوا الشهادة « أو تعرضوا » أي
تكتموها عن ابن زيد و الضحاك و هو المروي عن أبي جعفر « فإن الله كان بما تعملون
خبيرا » معناه أنه كان عالما بما يكون منكم من إقامة الشهادة أو تحريفها و الإعراض
عنها و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و سلوك طريقة
العدل في النفس و الغير و قد روي عن ابن عباس في معنى قوله « و أن تلووا أو تعرضوا
» إنهما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي و إعراضه لأحدهما عن الآخر
.
مجمع
البيان ج : 3 ص : 191
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا ءَامِنُوا
بِاللَّهِ وَ رَسولِهِ وَ الْكِتَبِ الَّذِى نَزَّلَ عَلى رَسولِهِ وَ الْكتَبِ
الَّذِى أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَ مَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلَئكَتِهِ وَ
كُتُبِهِ وَ رُسلِهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ فَقَدْ ضلَّ ضلَلا بَعِيداً(136)
القراءة
قرأ ابن
كثير و ابن عامر و أبو عمرو أنزل بالضم و كسر الزاي و الباقون « نزل » و « أنزل »
بفتحهما .
الحجة
من قرأ
بالضم فحجته قوله سبحانه « لتبين للناس ما نزل إليهم و يعلمون أنه منزل من ربك
بالحق » و من قرأ « نزل » و « أنزل » فحجته أنا نحن نزلنا الذكر و أنا له لحافظون و
أنزلنا إليك الذكر .
المعنى
« يا
أيها الذين آمنوا آمنوا بالله و رسوله » قيل فيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) و هو الصحيح
المعتمد عليه أن معناه يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله و رسوله آمنوا
في الباطن ليوافق باطنكم ظاهركم و يكون الخطاب للمنافقين الذين كانوا يظهرون خلاف
ما يبطنون « و الكتاب الذي نزل على رسوله » و هو القرآن « و الكتاب الذي أنزل من
قبل » هو التوراة و الإنجيل عن الزجاج و غيره ( و ثانيها ) أن يكون الخطاب للمؤمنين
على الحقيقة ظاهرا و باطنا فيكون معناه أثبتوا على هذا الإيمان في المستقبل و
داوموا عليه و لا تنتقلوا عنه عن الحسن و اختاره الجبائي قال لأن الإيمان الذي هو
التصديق لا يبقى و إنما يستمر بأن يجدده الإنسان حالا بعد حال ( و ثالثها ) إن
الخطاب لأهل الكتاب أمروا بأن يؤمنوا بالنبي و الكتاب الذي أنزل عليه كما آمنوا بما
معهم من الكتب و يكون قوله « و الكتاب الذي أنزل من قبل » إشارة إلى ما معهم من
التوراة و الإنجيل و يكون وجه أمرهم بالتصديق بهما و إن كانوا مصدقين بهما أحد
أمرين إما أن يكون لأن التوراة و الإنجيل فيهما صفات نبينا و تصديقه و تصحيح نبوته
فمن لم يصدقه و لم يصدق القرآن لا يكون مصدقا بهما لأن في تكذيبه تكذيب التوراة و
الإنجيل و أما أن يكون الله تعالى أمرهم بالإقرار بمحمد
(صلى الله عليهوآلهوسلّم) و بالقرآن و بالكتاب الذي أنزل من قبله و هو
الإنجيل و ذلك لا يصح إلا بالإقرار بعيسى أيضا و هو نبي مرسل و يعضد هذا الوجه ما
روي عن عبد الله بن عباس أنه قال إن الآية نزلت في مؤمني أهل
مجمع
البيان ج : 3 ص : 192
الكتاب
عبد الله بن سلام و أسد و أسيد ابني كعب و ثعلبة بن قيس و ابن أخت عبد الله بن سلام
و يامين بن يامين و هؤلاء من كبار أهل الكتاب قالوا نؤمن بك و بكتابك و بموسى و
بالتوراة و عزير و نكفر بما سواه من الكتب و بمن سواهم من الرسل فقيل لهم بل آمنوا
بالله و رسوله الآية ف آمنوا كما أمرهم الله « و من يكفر بالله » أي يجحده أو
يشبهه بخلقه أو يرد أمره و نهيه « و ملائكته » أي ينفيهم أو ينزلهم منزلة لا يليق
بهم كما قالوا أنهم بنات الله « و كتبه » فيجحدها « و رسله » فينكرهم « و اليوم
الآخر » أي يوم القيامة « فقد ضل ضلالا بعيدا » أي ذهب عن الحق و بعد قصد السبيل
ذهابا بعيدا و قال الحسن الضلال البعيد هو ما لا ائتلاف له و المعنى أن من كفر
بمحمد و جحد نبوته فكأنه جحد جميع ذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق بشيء مما أمر
الله به بالإيمان به و بما أنزل الله عليه و في هذا تهديد لأهل الكتاب و إعلام لهم
إن إقرارهم بالله و وحدانيته و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر لا ينفعهم مع
جحدهم نبوة محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و يكون وجوده و عدمه سواء .
النظم
وجه
اتصال هذه الآية بما قبلها أن الله سبحانه لما بين الإسلام عقبه بالدعاء إلى
الإيمان و شرائطه و قيل أنها تتصل بقوله « كونوا قوامين بالقسط » و القيام بالقسط
هو الإيمان على الوجه المذكور .
إِنَّ
الَّذِينَ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ءَامَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
ازْدَادُوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لهَُمْ وَ لا لِيهْدِيهُمْ
سبِيلا(137) بَشرِ الْمُنَفِقِينَ بِأَنَّ لهَُمْ عَذَاباً أَلِيماً(138) الَّذِينَ
يَتَّخِذُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ
يَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً(139)
اللغة
أصل
البشارة الخبر السار الذي يظهر به السرور في بشرة الوجه ثم يستعمل في الخبر الذي
يغم أيضا وضع إخبارهم بالعذاب موضع البشارة لهم و العرب تقول تحيتك الضرب و عتابك
السيف أي تضع الضرب موضع التحية و السيف موضع العتاب قال الشاعر :
مجمع
البيان ج : 3 ص : 193
و خيل
قد دلفت لهم بخيل
تحية
بينهم ضرب وجيع و أصل العزة الشدة و منه قيل للأرض الصلبة الشديدة عزاز و منه قيل
عز علي أن يكون كذا أي شد علي و عز الشيء إذا صعب وجوده و اشتد حصوله و اعتز فلان
بفلان إذا اشتد ظهره به و العزيز القوي المنيع بخلاف الذليل .
المعنى
ثم قال
تعالى « إن الذين آمنوا ثم كفروا » قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أنه عنى به الذين
آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل و غير ذلك « ثم آمنوا » يعني النصارى بعيسى « ثم
كفروا » به « ثم ازدادوا كفرا » بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن قتادة
( و ثانيها ) أنه عنى به الذين آمنوا بموسى ثم كفروا بعد موسى ثم آمنوا بعزير ثم
كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) عن الزجاج و
الفراء ( و ثالثها ) أنه عنى به طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك نفر من أصحاب
رسول الله فكانوا يظهرون الإيمان بحضرتهم ثم يقولون قد عرضت لنا شبهة أخرى فيكفرون
ثم ازدادوا كفرا بالثبات عليه إلى الموت عن الحسن و ذلك معنى قوله تعالى « و قالت
طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار و أكفروا آخره
لعلهم يرجعون » ( و رابعها ) أن المراد به المنافقون آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم
ارتدوا ثم ماتوا على كفرهم عن مجاهد و ابن زيد و قال ابن عباس دخل في هذه الآية كل
منافق كان في عهد النبي في البحر و البر « لم يكن الله ليغفر لهم » بإظهارهم
الإيمان فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد « و لا ليهديهم
سبيلا » معناه و لا يهديهم إلى سبيل الجنة كما قال فيما بعد و لا ليهديهم طريقا إلا
طريق جهنم و يجوز أن يكون المعنى أنه يخذلهم و لا يلطف بهم عقوبة لهم على كفرهم
المتقدم ثم قال « بشر المنافقين » أي أخبرهم يا محمد « بأن لهم » في الآخرة « عذابا
أليما » أي وجيعا إن ماتوا على كفرهم و نفاقهم و في هذه الآية دلالة على أن الآية
المتقدمة نزلت في شأن المنافقين و أنه الأصح من الأقوال المذكورة ثم وصف هؤلاء
المنافقين فقال « الذين يتخذون الكافرين » أي مشركي العرب و قيل اليهود « أولياء »
أي ناصرين و معينين و أخلاء « من دون المؤمنين » أي من غيرهم « أ يبتغون عندهم
العزة » أي أ يطلبون عندهم القوة و المنعة باتخاذهم هؤلاء أولياء من دون الإيمان
بالله تعالى ثم أخبر سبحانه أن العزة و المنعة له فقال « فإن العزة لله جميعا »
يريد سبحانه أنهم لو آمنوا
مجمع
البيان ج : 3 ص : 194
مخلصين
له و طلبوا الاعتزاز بالله تعالى و بدينه و رسوله و المؤمنين لكان أولى بهم من
الاعتزاز بالمشركين فإن العزة جميعا لله سبحانه و من عنده يعز من يشاء و يذل من
يشاء .
وَ قَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكمْ فى الْكِتَبِ أَنْ إِذَا سمِعْتُمْ ءَايَتِ اللَّهِ يُكْفَرُ
بهَا وَ يُستهْزَأُ بهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتى يخُوضوا فى حَدِيث
غَيرِهِ إِنَّكمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ
الْمُنَفِقِينَ وَ الْكَفِرِينَ فى جَهَنَّمَ جَمِيعاً(140)
القراءة
قرأ
عاصم و يعقوب « نزل » بالفتح و الباقون نزل بضم النون و كسر الزاي .
الحجة
و الوجه
في القراءتين ما ذكرناه قبل .
الإعراب
إذا
قرأت « نزل » بالفتح فإن في موضع نصب لأن تقديره نزل الله ذلك و إذا قرأت نزل فإن
في موضع الرفع و إن هذه هي المخففة من الثقيلة .
النزول
كان
المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن فنهاهم الله تعالى عن ذلك عن
ابن عباس .
المعنى
لما
تقدم ذكر المنافقين و موالاتهم الكفار عقب ذلك بالنهي عن مجالستهم و مخالطتهم فقال
« و قد نزل عليكم في الكتاب » أي في القرآن « أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها و
يستهزء بها » أي يكفر بها المشركون و المنافقون و يستهزءون بها « فلا تقعدوا معهم »
أي مع هؤلاء المستهزءين الكافرين « حتى يخوضوا في حديث غيره » أي حتى يأخذوا في
حديث غير الاستهزاء بالدين و قيل حتى يرجعوا إلى الإيمان و يتركوا الكفر و
الاستهزاء و المنزل في الكتاب هو قوله سبحانه في سورة الأنعام « و إذا رأيت الذين
يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره » و في هذا دلالة على تحريم
مجالسة الكفار عند كفرهم ب آيات الله و استهزائهم بها و على إباحة مجالستهم
عند خوضهم في حديث غيره و روي عن الحسن أن إباحة القعود مع الكفار عند خوضهم في
حديث آخر غير كفرهم و استهزائهم بالقرآن منسوخ بقوله تعالى فلا تقعد بعد الذكرى مع
مجمع
البيان ج : 3 ص : 195
القوم
الظالمين « إنكم إذا مثلهم » يعني إنكم إذا جالستموهم على الخوض في كتاب الله و
الهزء به فأنتم مثلهم و إنما حكم بأنهم مثلهم لأنهم لم ينكروا عليهم مع قدرتهم على
الإنكار و لم يظهروا الكراهة لذلك و متى كانوا راضين بالكفر كانوا كفارا لأن الرضا
بالكفر كفر و في الآية دلالة على وجوب إنكار المنكر مع القدرة و زوال العذر و إن من
ترك ذلك مع القدرة عليه فهو مخطىء آثم و فيها أيضا دلالة على تحريم مجالسة الفساق و
المبتدعين من أي جنس كانوا و به قال جماعة من أهل التفسير و ذهب إليه عبد الله بن
مسعود و إبراهيم و أبو وايل قال إبراهيم و من ذلك إذا تكلم الرجل في مجلس يكذب
فيضحك منه جلساؤه فيسخط الله عليهم و به قال عمر بن عبد العزيز و روي أنه ضرب رجلا
صائبا كان قاعدا مع قوم يشربون الخمر و روى العياشي بإسناده عن علي بن موسى الرضا
(عليهماالسلام) في تفسير هذه الآية قال إذا سمعت الرجل يجحد الحق و يكذب به و يقع
في أهله فقم من عنده و لا تقاعده و روي عن ابن عباس أنه قال أمر الله تعالى في هذه
الآية باتفاق و نهى عن الاختلاف و الفرقة و المراء و الخصومة و به قال الطبري و
البلخي و الجبائي و جماعة من المفسرين و قال الجبائي و أما الكون بالقرب منهم بحيث
يسمع صوتهم و لا يقدر على إنكارهم فليس بمحظور و إنما المحظور مجالستهم من غير
إظهار كراهية لما يسمعه أو يراه قال و في الآية دلالة على بطلان قول نفاة الأعراض و
قولهم ليس هاهنا شيء غير الأجسام لأنه قال « حتى يخوضوا في حديث غيره » فأثبت غيرا
لما كانوا فيه و ذلك هو العرض « أن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم جميعا »
أي إن الله يجمع الفريقين من أهل الكفر و النفاق في القيامة في النار و العقوبة
فيها كما اتفقوا في الدنيا على عداوة المؤمنين و المظاهرة عليهم .
الَّذِينَ يَتَرَبَّصونَ بِكُمْ فَإِن
كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَ لَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَ إِن كانَ
لِلْكَفِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَ لَمْ نَستَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُم
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يحْكُمُ بَيْنَكمْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ
وَ لَن يجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَفِرِينَ عَلى المُْؤْمِنِينَ سبِيلاً(141)
مجمع
البيان ج : 3 ص : 196
اللغة
التربص
الانتظار و الاستحواذ الغلبة و الاستيلاء يقال حاذ الحمار أتنه إذا استولى عليها و
جمعها و كذلك حازها قال العجاج يصف ثورا و كلابا
يحوذهن
و له حوذي و روي
يحوزهن
و له حوزي و استحوذ مما خرج عن أصله فمن قال أحاذ يحيذ لم يقل إلا استحاذ يستحيذ و
من قال أحوذ كما قيل أحوذت و أطيبت بمعنى أحذت و أطيبت فأخرجه على الأصل قال استحوذ
و الأحوذي الحاذ المنكمش الخفيف في أموره .
المعنى
قد وصف
الله سبحانه المنافقين و الكافرين فقال « الذين يتربصون بكم » أي ينتظرون لكم أيها
المؤمنون لأنهم كانوا يقولون سيهلك محمد (صلى الله عليهوآلهوسلّم) و
أصحابه فنستريح منهم و يظهر قومنا و ديننا « فإن كان لكم فتح من الله » أي فإن اتفق
لكم فتح و ظفر على الأعداء « قالوا أ لم نكن معكم » نجاهد عدوكم و نغزوهم معكم
فأعطونا نصيبنا من الغنيمة فقد شهدنا القتال « و إن كان للكافرين نصيب » أي حظ
بإصابتهم من المؤمنين « قالوا » يعني المنافقين أي قال المنافقون للكافرين « أ لم
نستحوذ عليكم » أي أ لم نغلب عليكم عن السدي و معناه أ لم نغلبكم على رأيكم
بالموالاة لكم « و نمنعكم من » الدخول في جملة « المؤمنين » و قيل معناه أ لم نبين
لكم أنا على ما أنتم عليه أي أ لم نضمكم إلى أنفسنا و نطلعكم على أسرار محمد
(صلى الله عليهوآلهوسلّم) و أصحابه و نكتب إليكم بأخبارهم حتى غلبتم
عليهم فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم عن الحسن و ابن جريج « و نمنعكم من المؤمنين » أي
ندفع عنكم صولة المؤمنين بتحديثنا إياهم عنكم و كوننا عيونا لكم حتى انصرفوا عنكم و
غلبتموهم « فالله يحكم بينكم يوم القيامة » هذا إخبار منه سبحانه عن نفسه بأنه الذي
يحكم بين الخلائق يوم القيامة و يفصل بينهم بالحق « و لن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا » قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن المراد لن يجعل الله لليهود على
المؤمنين نصرا و لا ظهورا عن ابن عباس و قيل لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا بالحجة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوة لكن المؤمنين منصورون بالدلالة و الحجة عن
السدي و الزجاج و البلخي قال الجبائي و لو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا لأن
غلبة الكفار للمؤمنين ليس مما فعله الله فإنه لا يفعل القبيح و ليس كذلك غلبة
المؤمنين للكفار فإنه يجوز أن ينسب إليه سبحانه و قيل لن يجعل لهم في الآخرة عليهم
سبيلا لأنه مذكور عقيب قوله « فالله يحكم بينكم يوم القيامة » بين الله سبحانه أنه
إن يثبت
مجمع
البيان ج : 3 ص : 197
لهم
سبيل على المؤمنين في الدنيا بالقتل و القهر و النهب و الأسر و غير ذلك من وجوه
الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا بحال .
إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ يخَدِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خَدِعُهُمْ وَ إِذَا قَامُوا إِلى
الصلَوةِ قَامُوا كُسالى يُرَاءُونَ النَّاس وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا
قَلِيلاً(142) مُّذَبْذَبِينَ بَينَ ذَلِك لا إِلى هَؤُلاءِ وَ لا إِلى
هَؤُلاءِ وَ مَن يُضلِلِ اللَّهُ فَلَن تجِدَ لَهُ سبِيلاً(143)
القراءة
في
الشواذ قراءة عبد الله بن أبي إسحاق يرأون مثل يرعون و القراءة المشهورة « يراءون »
مثل يراعون و قراءة ابن عباس مذبذبين بكسر الذال الثانية .
الحجة
قال ابن
جني يراءون يفعلون من رأيت و معناه يبصرون الناس و يحملونهم على أن يروهم يفعلون ما
يتعاطون و هو أقوى من يراءون بالمد على يفاعلون لأن معناه يتعرضون لأن يروهم «
يراءون » معناه يحملونهم على أن يروهم قال الشاعر :
ترى و
تراءى عند معقد غرزها
تهاويل
من أجلاد هر مؤوم و قوله « مذبذبين » مثل قول الشاعر :
مسيرة
شهر للبريد المذبذب ) أي المهتز القلق الذي لا يثبت في مكان فكذلك هؤلاء .
اللغة
يقال
ذبذبته فتذبذب أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق قال النابغة :
أ لم تر
أن الله أعطاك سورة
ترى كل
ملك دونها يتذبذب .
الإعراب
كسالى
منصوب على الحال من الواو في « قاموا » و مذبذبين نصب على الحال من المنافقين .
مجمع
البيان ج : 3 ص : 198
المعنى
ثم بين
سبحانه أفعالهم القبيحة فقال « إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم » قد ذكرنا
معناه في أول البقرة و على الجملة خداع المنافقين لله إظهارهم الإيمان الذي حقنوا
به دماءهم و أموالهم و قيل معناه يخادعون النبي كما قال إنما يبايعون الله فسمى
مبايعة النبي مبايعة الله للاختصاص و لأن ذلك بأمره عن الحسن و الزجاج و معنى خداع
الله إياهم أن يجازيهم على خداعهم كما قلناه في قوله الله يستهزىء بهم و قيل هو
حكمه بحقن دمائهم مع علمه بباطنهم و قيل هو أن يعطيهم الله نورا يوم القيامة يمشون
به مع المسلمين ثم يسلبهم ذلك النور و يضرب بينهم بسور عن الحسن و السدي و جماعة من
المفسرين « و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى » أي متثاقلين « يراءون الناس »
يعني أنهم لا يعملون شيئا من أعمال العبادات على وجه القربة إلى الله و إنما يفعلون
ذلك إبقاء على أنفسهم و حذرا من القتل و سلب الأموال و إذا رآهم المسلمون صلوا
ليروهم أنهم يدينون بدينهم و إن لم يرهم أحد لم يصلوا و به قال قتادة و ابن زيد و
روى العياشي بإسناده عن مسعدة ابن زياد عن أبي عبد الله عن آبائه أن رسول الله سئل
فيم النجاة غدا قال النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه و
نفسه يخدع لو شعر فقيل له فكيف يخادع الله قال يعمل بما أمره الله ثم يريد به غيره
فاتقوا الرياء فإنه شرك بالله إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء يا كافر يا
فاجر يا غادر يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت
تعمل له « و لا يذكرون الله إلا قليلا » أي ذكرا قليلا و معناه لا يذكرون الله عن
نية خالصة و لو ذكروه مخلصين لكان كثيرا و إنما وصف بالقلة لأنه لغير الله عن الحسن
و ابن عباس و قيل لا يذكرون إلا ذكرا يسيرا نحو التكبير و الأذكار التي يجهر بها و
يتركون التسبيح و ما يخافت به من القراءة و غيرها عن أبي علي الجبائي و قيل إنما
وصف الذكر بالقلة لأنه سبحانه لم يقبله و كل ما رده الله فهو قليل « مذبذبين بين
ذلك » أي مرددين بين الكفر و الإيمان يريد كأنه فعل بهم ذلك و إن كان الفعل لهم على
الحقيقة و قيل معنى مذبذبين مطرودين من هؤلاء و من هؤلاء من الذب الذي هو الطرد
وصفهم سبحانه بالحيرة في دينهم و أنهم لا يرجعون إلى صحة نية لا مع المؤمنين على
بصيرة و لا مع الكافرين على جهالة و قال رسول الله إن مثلهم مثل الشاة العايرة بين
الغنمين تتحير فتنظر إلى هذه و هذه لا تدري أيهما تتبع « لا إلى هؤلاء و لا إلى
هؤلاء » أي لا مع هؤلاء في الحقيقة و لا مع هؤلاء
مجمع
البيان ج : 3 ص : 199
يظهرون
الإيمان كما يظهره المؤمنون و يضمرون الكفر كما يضمره المشركون فلم يكونوا مع أحد
الفريقين في الحقيقة فإن المؤمنين يضمرون الإيمان كما يظهرونه و المشركون يظهرون
الكفر كما يضمرونه « و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا » أي طريقا و مذهبا و قد مضى
ذكر معنى الإضلال مشروحا في سورة البقرة عند قوله و ما يضل به إلا الفاسقين فلا
معنى لإعادته .
يَأَيهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا
تَتَّخِذُوا الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ
تُرِيدُونَ أَن تجْعَلُوا للَّهِ عَلَيْكمْ سلْطناً مُّبِيناً(144) إِنَّ
المُْنَفِقِينَ فى الدَّرْكِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَن تجِدَ لَهُمْ
نَصِيراً(145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَ أَصلَحُوا وَ اعْتَصمُوا بِاللَّهِ وَ
أَخْلَصوا دِينَهُمْ للَّهِ فَأُولَئك مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سوْف يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً(146)
القراءة
قرأ أهل
الكوفة إلا أبا بكر الدرك بسكون الراء و الباقون بفتحها .
الحجة
هما
لغتان كالنهر و النهر و الشمع و الشمع و القص و القصص .
اللغة
السلطان
الحجة قال الزجاج و هو يذكر و يؤنث قالوا قضت عليك السلطان و أمرك به السلطان و لم
يأت في القرآن إلا مذكرا و قيل للأمير سلطان و معناه ذو الحجة و أصل الدرك الحبل
الذي يوصل به الرشا و يعلق به الدلو ثم لما كان في النار سفال من جهة الصورة و
المعنى قيل له درك و درك و جمع الدرك أدراك و دروك و جمع الدرك أدرك .
المعنى
ثم نهى
سبحانه عن موالاة المنافقين فقال « يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء
» أي أنصارا « من دون المؤمنين » فتكونوا مثلهم « أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم
سلطانا مبينا » أي حجة ظاهرة و هو استفهام يراد به التقرير و فيه دلالة على أن الله
لا يعاقب أحدا إلا بعد قيام الحجة عليه و الاستحقاق و أنه لا يعاقب الأطفال بذنوب
الآباء و أنه كان لا حجة له على الخلق لو لا معاصيهم قال الحسن معناه أ تريدون أن
تجعلوا لله سبيلا
مجمع
البيان ج : 3 ص : 200
إلى
عذابكم بكفركم و تكذيبكم « إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار » أي في الطبق
الأسفل من النار فإن للنار طبقات و دركات كما أن للجنة درجات فيكون المنافق على
أسفل طبقة منها لقبح عمله عن ابن كثير و أبي عبيدة و جماعة و قيل إن المنافقين في
توابيت من حديد مغلقة عليهم في النار عن عبد الله بن مسعود و ابن عباس و قيل إن
الإدراك يجوز أن تكون منازل بعضها أسفل من بعض بالمسافة و يجوز أن يكون ذلك إخبارا
عن بلوغ الغاية في العقاب كما يقال إن السلطان بلغ فلانا الحضيض و بلغ فلانا العرش
يريدون بذلك انحطاط المنزلة و علوها لا المسافة عن أبي القاسم البلخي « و لن تجد
لهم نصيرا » و لا تجد يا محمد لهؤلاء المنافقين ناصرا ينصرهم فينقذهم من عذاب الله
إذ جعلهم في أسفل طبقة من النار ثم استثنى تعالى فقال « إلا الذين تابوا » من
نفاقهم « و أصلحوا » نياتهم و قيل ثبتوا على التوبة في المستقبل « و اعتصموا بالله
» أي تمسكوا بكتاب الله و صدقوا رسله و قيل وثقوا بالله « و أخلصوا دينهم لله » أي
تبرأوا من الآلهة و الأنداد و قيل طلبوا بإيمانهم رحمة الله و رضاه مخلصين عن الحسن
« فأولئك مع المؤمنين » أي فإنهم إذا فعلوا ذلك يكونون في الجنة مع المؤمنين و محل
الكرامة « و سوف يؤتي الله المؤمنين أجرا عظيما » سوف كلمة ترجئة و عدة و إطماع و
هي من الله إيجاب لأنه أكرم الأكرمين و وعد الكريم إنجاز و لم يشرط على غير
المنافقين في التوبة من الإصلاح و الاعتصام ما شرطه عليهم ثم شرط عليهم بعد ذلك
الإخلاص لأن النفاق ذنب القلب و الإخلاص توبة القلب ثم قال « فأولئك مع المؤمنين »
و لم يقل فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين غيظا عليهم ثم أتى بلفظ « سوف » في أجر
المؤمنين لانضمام المنافقين إليهم هذا إذا عنى به جميع المؤمنين من تقدم منه الكفر
و من لم يتقدم و يحتمل أن يكون المراد به زيادة الثواب لمن لم يسبق منه كفر و لا
نفاق .
مَّا
يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكمْ إِن شكَرْتُمْ وَ ءَامَنتُمْ وَ كانَ اللَّهُ
شاكراً عَلِيماً(147)
المعنى
خاطب
سبحانه بهذه الآية المنافقين الذين تابوا و آمنوا و أصلحوا أعمالهم فقال « ما يفعل
الله بعذابكم » أي ما يصنع الله بعذابكم و المعنى لا حاجة لله إلى عذابكم و جعلكم
في الدرك الأسفل من جهنم لأنه لا يجتلب بعذابكم نفعا و لا يدفع به عن نفسه ضررا إذ
هما يستحيلان عليه « أن شكرتم » أي أديتم الحق الواجب لله عليكم و شكرتموه على نعمه
« و آمنتم » به و برسوله و أقررتم بما جاء به من عنده « و كان الله شاكرا » يعني
لم
مجمع
البيان ج : 3 ص : 201
يزل
سبحانه مجازيا لكم على الشكر فسمى الجزاء باسم المجزي عليه « عليما » بما يستحقونه
من الثواب على الطاعات فلا يضيع عنده شيء منها عن قتادة و غيره و قيل معناه أنه
يشكر القليل من أعمالكم و يعلم ما ظهر و ما بطن من أفعالكم و أقوالكم و يجازيكم
عليها و قال الحسن معناه أنه يشكر خلقه على طاعتهم مع غناه عنهم فيعلم بأعمالهم .
* لا يحِب اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلا مَن ظلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سمِيعاً عَلِيماً(148) إِن
تُبْدُوا خَيراً أَوْ تخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَن سوء فَإِنَّ اللَّهَ كانَ
عَفُوًّا قَدِيراً(149)
القراءة
القراءة
على ضم الظاء من « ظلم » و روي عن ابن عباس و سعيد بن جبير و الضحاك و عطاء بن
السائب و غيرهم إلا من ظلم بفتح الظاء و اللام .
الحجة
قال ابن
جني « ظلم » و ظلم جميعا على الاستثناء المنقطع أي لكن من ظلم فإن الله لا يخفى
عليه أمره و دل عليه قوله « و كان الله سميعا عليما » و موضع من نصب في الوجهين
جميعا قال الزجاج فيكون المعنى لكن المظلوم يجهر بظلامته تشكيا و لكن الظالم يجهر
بذلك ظلما قال و يجوز أن يكون موضع من رفعا على معنى لا يحب الله أن يجهر بالسوء من
القول إلا من ظلم فيكون من بدلا من معنى أحد و المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد
بالسوء من القول إلا المظلوم قال و فيها وجه آخر لا أعلم أحدا من النحويين ذكره و
هو أن يكون على معنى لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول .
المعنى
« لا
يحب الله الجهر بالسوء من القول » قيل في معناه أقوال ( أحدها ) لا يحب الله الشتم
في الانتصار « إلا من ظلم » فلا بأس له أن ينتصر ممن ظلمه بما يجوز الانتصار به في
الدين عن الحسن و السدي و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) و نظيره و
انتصروا من بعد ما ظلموا قال الحسن و لا يجوز للرجل إذا قيل له يا زاني أن يقابل له
بمثل ذلك من أنواع الشتم ( و ثانيها ) إن معناه لا يحب الله الجهر بالدعاء على أحد
إلا أن يظلم إنسان
مجمع
البيان ج : 3 ص : 202
فيدعو
على من ظلمه فلا يكره ذلك عن ابن عباس و قريب منه قول قتادة و يكره رفع الصوت بما
يسوء الغير إلا المظلوم يدعو على من ظلمه ( و ثالثها ) إن المراد لا يحب أن يذم
أحدا أحد أو يشكوه أو يذكره بالسوء إلا أن يظلم فيجوز له أن يشكو من ظلمه و يظهر
أمره و يذكره بسوء ما قد صنعه ليحذره الناس عن مجاهد و روي عن أبي عبد الله
(عليه السلام) أنه الضيف ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فلا جناح عليه في أن
يذكره بسوء ما فعله « و كان الله سميعا » لما يجهر به من سوء القول « عليما » بصدق
الصادق و كذب الكاذب فيجازي كلا بعمله و في هذه الآية دلالة على أن الرجل إذا هتك
ستره و أظهر فسقه جاز إظهار ما فيه و قد جاء في الحديث قولوا في الفاسق ما فيه
يعرفه الناس و لا غيبة لفاسق و فيها ترغيب في مكارم الأخلاق و نهي عن كشف عيوب
الخلق و إخبار بتنزيه ذاته تعالى عن إرادة القبائح فإن المحبة إذا تعلقت بالفعل
فمعناها الإرادة ثم خاطب سبحانه جميع المكلفين فقال « أن تبدوا » أي تظهروا « خيرا
» أي حسنا جميلا من القول لمن أحسن إليكم شكرا على إنعامه عليكم « أو تخفوه » أي
تتركوا إظهاره و قيل معناه إن تفعلوا خيرا أو تعزموا عليه و قيل يريد بالخير المال
أي تظهروا صدقة أو تخفوها « أو تعفوا عن سوء » معناه أو تصفحوا عمن أساء إليكم مع
القدرة على الانتقام منه فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي أذنت لكم في أن تجهروا
به « فإن الله كان عفوا » أي صفوحا عن خلقه يصفح لهم عن معاصيهم « قديرا » أي قادرا
على الانتقام منهم و هذا حث منه سبحانه منه لخلقه على العفو عن المسيء مع القدرة
على الانتقام و المكافاة فإنه تعالى مع كمال قدرته يعفو عنهم ذنوبا أكثر من ذنب من
يسيء إليهم و قد تضمنت الآية التي قبلها إباحة الانتصاف من الظالم بشرط أن يقف فيه
على حد الظلم و موجب الشرع .
النظم
الوجه
في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه لما سبق ذكر أهل النفاق و هو الإظهار خلاف
الإبطان بين سبحانه أنه ليس كلما يقع في النفس يجوز إظهاره فإنه ربما يكون ظنا فإذا
تحقق ذلك جاز إظهاره عن علي بن عيسى .
مجمع
البيان ج : 3 ص : 203
إِنَّ
الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَينَ
اللَّهِ وَ رُسلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْض وَ نَكفُرُ بِبَعْض وَ
يُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَينَ ذَلِك سبِيلاً(150) أُولَئك هُمُ الْكَفِرُونَ
حَقًّا وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً(151) وَ الَّذِينَ
ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَينَ أَحَد مِّنهُمْ أُولَئك
سوْف يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً(152)
القراءة
قرأ حفص
« يؤتيهم » بالياء و الباقون نؤتيهم بالنون .
الحجة
حجة حفص
قوله سوف يؤت الله المؤمنين و حجة من قرأ نؤتيهم قوله و آتيناه أجرا عظيما أولئك
سنؤتيهم أجرا .
المعنى
لما قدم
سبحانه ذكر المنافقين عقبه بذكر أهل الكتاب و المؤمنين فقال « إن الذين يكفرون
بالله و رسله » من اليهود و النصارى « و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله » أي
يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه و أوحى إليهم و ذلك معنى إرادتهم التفريق
بين الله و رسله « و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض » أي يقولون نصدق بهذا و نكذب
بذاك كما فعل اليهود صدقوا بموسى و من تقدمه من الأنبياء و كذبوا بعيسى و محمد و
كما فعلت النصارى صدقوا عيسى و من تقدمه من الأنبياء و كذبوا بمحمد « و يريدون أن
يتخذوا بين ذلك سبيلا » أي طريقا إلى الضلالة التي أحدثوها و البدعة التي ابتدعوها
يدعون جهال الناس إليه « أولئك هم الكافرون حقا » أي هؤلاء الذين أخبرنا عنهم بأنهم
يؤمنون ببعض و يكفرون ببعض هم الكافرون حقيقة فاستيقنوا ذلك و لا ترتابوا بدعوتهم
أنهم يقرون بما زعموا أنهم مقرون به من الكتب و الرسل فإنهم لو كانوا صادقين في ذلك
لصدقوا جميع رسل الله و إنما قال تعالى « أولئك هم الكافرون حقا » على وجه التأكيد
لئلا يتوهم متوهم أن قولهم « نؤمن ببعض » يخرجهم من جنس الكفار و يلحقهم بالمؤمنين
« و أعتدنا » أي أعددنا و هيأنا « للكافرين عذابا مهينا » يهينهم و يذلهم « و الذين
آمنوا بالله و رسله » أي صدقوا الله و وحدوه و أقروا بنبوة رسله « و لم يفرقوا بين
أحد منهم » بل آمنوا بجميعهم « أولئك سوف نؤتيهم » أي سنعطيهم أجورهم و سمى الله
الثواب أجرا دلالة على أنه مستحق أي
مجمع
البيان ج : 3 ص : 204
نعطيهم
ثوابهم الذي استحقوه على إيمانهم بالله و رسله « و كان الله غفورا رحيما » أي لم
يزل كان « غفورا » لمن هذه صفتهم ما سلف لهم من المعاصي و الآثام « رحيما » متفضلا
عليهم بأنواع الإنعام هاديا لهم إلى دار السلام .
يَسئَلُك أَهْلُ الْكِتَبِ أَن تُنزِّلَ
عَلَيهِمْ كِتَباً مِّنَ السمَاءِ فَقَدْ سأَلُوا مُوسى أَكْبرَ مِن ذَلِك
فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصعِقَةُ بِظلْمِهِمْ
ثُمَّ اتخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَت فَعَفَوْنَا عَن
ذَلِك وَ ءَاتَيْنَا مُوسى سلْطناً مُّبِيناً(153) وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ
الطورَ بِمِيثَقِهِمْ وَ قُلْنَا لهَُمُ ادْخُلُوا الْبَاب سجَّداً وَ قُلْنَا
لهَُمْ لا تَعْدُوا فى السبْتِ وَ أَخَذْنَا مِنهُم مِّيثَقاً غَلِيظاً(154)
القراءة
قرأ أهل
المدينة لا تعدوا بتسكين العين و تشديد الدال و روى ورش عن نافع لا تعدوا بفتح
العين و تشديد الدال و قرأ الباقون « لا تعدوا » خفيفة .
الحجة
من قرأ
لا تعدوا فأصله لا تعتدوا فأدغم التاء في الدال لتقاربهما و لأن الدال تزيد على
التاء في الجهر قال أبو علي و كثير من النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان
الثاني منهما مدغما و لا يكون الأول حرف مد و لين نحو دابة و أصيم و تمود الثوب و
يقولون أن المد يصير عوضا من الحركة و قد قالوا ثوب بكر و جيب بكر فأدغموا المد
الذي فيهما أقل من المد الذي يكون فيهما إذا كان حركة ما قبلهما منهما فإذا جاز ذلك
مع نقصان المد الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو لا تعدوا و يقوي ذلك
جواز نحو أصيم و دويبة و مديق و من قرأ لا تعدوا فإن الأصل فيه لا تعتدوا فسكن
التاء ليدغمها في الدال و نقل حركتها إلى العين الساكنة قبلها فصار لا تعدوا و من
قرأ « لا تعدوا » فهو لا تفعلوا مثل قوله تعالى
مجمع
البيان ج : 3 ص : 205
« إذ
يعدون في السبت » و حجة الأولين و قوله « اعتدوا منكم في السبت » .
اللغة
قال أبو
زيد يقول عدا علي اللص أشد العدو و العدوان و العداء و العدو إذا سرقك و ظلمك و عدا
الرجل يعدو عدوا في الحضر ، و قد عدت عينه عن ذلك أشد العدو تعدو ، و عدا يعدو إذا
جاوز يقال ما عدوت إن زرتك أي ما جاوزت ذلك .
الإعراب
قوله «
جهرة » يجوز أن يكون صفة لقولهم أي قالوا جهرة أي مجاهرة أرنا الله و يجوز أن يكون
على أرنا الله رؤية ظاهرة .
النزول
روي أن
كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا يا محمد إن كنت نبيا فأتنا بكتاب من السماء
جملة أي كما أتى موسى بالتوراة جملة فنزلت الآية عن السدي .
المعنى
لما أنكر سبحانه على
اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان عقبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع
ظهور الآيات و المعجزات فقال « يسئلك » يا محمد « أهل الكتاب » يعني اليهود « أن
تنزل عليهم كتابا من السماء » و اختلف في معناه على أقوال ( أحدها ) أنهم سألوا أن
ينزل عليهم كتابا من السماء مكتوبا كما كانت التوراة مكتوبة من عند الله في الألواح
عن محمد بن كعب و السدي ( و ثانيها ) أنهم سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم
كتبا يأمرهم الله تعالى فيها بتصديقه و اتباعه عن ابن جريج و اختاره الطبري ( و
ثالثها ) أنهم سألوا أن ينزل عليهم كتابا خاصا لهم عن قتادة و قال الحسن إنما سألوا
ذلك للتعنت و التحكم في طلب المعجزات لا لظهور الحق و لو سألوه ذلك استرشادا لا
عنادا لأعطاهم الله ذلك « فقد سألوا موسى أكبر من ذلك » أي لا يعظمن عليك يا محمد
مسألتهم إياك إنزال الكتب عليهم من السماء فإنهم سألوا موسى يعني اليهود أعظم من
ذلك بعد ما أتاهم بالآيات الظاهرة و المعجزات القاهرة التي يكفي الواحد منها في
معرفة صدقه و صحة نبوته فلم يقنعهم ذلك « فقالوا أرنا الله جهرة » أي معاينة «
فأخذتهم الصاعقة بظلمهم » أنفسهم بهذا القول و قد ذكرنا قصة هؤلاء و تفسير أكثر ما
في الآية في سورة البقرة عند قوله « لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة » الآية قوله « و
إذ أخذنا ميثاقكم و رفعنا فوقكم الطور » الآية « ثم اتخذوا العجل » أي عبدوه و
اتخذوه إلها « من بعد ما جاءتهم البينات » أي الحجج الباهرات قد دل الله بهذا على
جهل القوم و عنادهم « فعفونا عن ذلك » مع عظم جريمتهم و خيانتهم و قد أخبر الله
بهذا عن سعة رحمته و مغفرته و تمام نعمته