جستجو در تأليفات معظم له
 

قرآن، حديث، دعا
زندگينامه
کتابخانه
احكام و فتاوا
دروس
معرفى و اخبار دفاتر
ديدارها و ملاقات ها
پيامها
فعاليتهاى فرهنگى
کتابخانه تخصصى فقهى
نگارخانه
اخبار
مناسبتها
صفحه ويژه
تفسير مجمع البيان ـ ج4 « قرآن، حديث، دعا « صفحه اصلى  

<<        الفهرس        >>



مجمع البيان ج : 4 ص : 556
غاية يضرب به المثل فيها و إنما سمى الله تعالى الكافر ميتا لأنه لا ينتفع بحياته و لا ينتفع غيره بحياته فهو أسوء حالا من الميت إذ لا يوجد من الميت ما يعاقب عليه و لا يتضرر غيره به و سمي المؤمن حيا لأن له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته و كذلك سمي الكافر ميتا و المؤمن حيا في عدة مواضع مثل قوله « إنك لا تسمع الموتى » و « لينذر من كان حيا » و قوله « و ما يستوي الأحياء و لا الأموات » و سمي القرآن و الإيمان و العلم نورا لأن الناس يبصرون بذلك و يهتدون به من ظلمات الكفر و حيرة الضلالة كما يهتدي بسائر الأنوار و سمي الكفر ظلمة لأن الكافر لا يهتدي بهداه و لا يبصر أمر رشده و هذا كما سمي الكافر أعمى في قوله « أ فمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى » و قوله « و ما يستوي الأعمى و البصير » « كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون » وجه التشبيه بالكافر أن معناه زين لهؤلاء الكفر فعملوه مثل ما زين لأولئك الإيمان فعملوه فشبه حال هؤلاء في التزيين بحال أولئك فيه كما قال سبحانه كل حزب بما لديهم فرحون و روي عن الحسن أنه قال زينه و الله لهم الشيطان و أنفسهم و استدل بقوله « و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم » و قوله « زين » لا يقتضي مزينا غيرهم لأنه بمنزلة قوله تعالى « أنى يصرفون » و « أنى يؤفكون » و قول العرب أعجب فلان بنفسه و أولع بكذا و مثله كثير « و كذلك جعلنا في كل قرية أكابر » أي مثل ذلك الذي قصصنا عليك زين للكافرين عملهم و مثل ذلك جعلنا في كل قرية أكابر « مجرميها » و جعلنا ذا المكر من المجرمين كما جعلنا ذا النور من المؤمنين فكل ما فعلنا بهؤلاء فعلنا بأولئك إلا أن أولئك اهتدوا بحسن اختيارهم و هؤلاء ضلوا بسوء اختيارهم لأن في كل واحد منهما الجعل بمعنى الصيرورة إلا أن الأول باللطف و الثاني بالتمكين من المكر و إنما خص أكابر المجرمين بذلك دون الأصاغر لأنه أليق بالاقتدار على الجميع لأن الأكابر إذا كانوا في قبضة القادر فالأصاغر بذلك أجدر و اللام في قوله « ليمكروا فيها » لام العاقبة و يسمى لام الصيرورة كما في قوله سبحانه « ليكون لهم عدوا و حزنا » و كما قال الشاعر :
فأقسم لو قتلوا مالكا
لكنت لهم حية راصدة
و أم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالدة « و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون » لأن عقاب ذلك يحل بهم و لا يصح أن يمكر الإنسان بنفسه على الحقيقة لأنه لا يصح أن يخفي عن نفسه معنى ما يحتال به عليها و يصح أن يخفي ذلك عن غيره و فائدة الآية أن أكابر مجرميها لم يمكروا بالمؤمنين على وجه
مجمع البيان ج : 4 ص : 557
المغالبة لله إذ هم كأنه سبحانه جعلهم ليمكروا و هذه مبالغة في انتفاء صفة المغالبة .
وَ إِذَا جَاءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتىَ رُسلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْث يجْعَلُ رِسالَتَهُ سيُصِيب الَّذِينَ أَجْرَمُوا صغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَ عَذَابٌ شدِيدُ بِمَا كانُوا يَمْكُرُونَ(124)

القراءة

قرأ ابن كثير و حفص « رسالته » على التوحيد و نصب التاء و الباقون رسالاته على الجمع .

الحجة

من وحد فلأن الرسالة تدل على القلة و الكثرة لكونها مصدرا و من جمع فلما تكرر من رسالات الله سبحانه مرة بعد أخرى .

اللغة

الأجرام الإقدام على القبيح بالانقطاع إليه لأن أصل الجرم القطع فكأنه قطع ما يجب أن يوصل من العمل و منه قيل للذنب الجرم و الجريمة و الصغار الذل الذي يصغر إلى المرء نفسه يقال صغر الإنسان يصغر صغارا و صغرا .

الإعراب

الله أعلم حيث يجعل رسالاته لا يخلو حيث هنا من أن يكون ظرفا متضمنا لحرفه أو غير ظرف فإن كان ظرفا فلا يجوز أن يعمل فيه أعلم لأنه يصير المعنى أعلم في هذا الموضع أو في هذا الوقت و لا يوصف تعالى بأنه أعلم في مواضع أو في أوقات كما يقال زيد أعلم في مكان كذا أو أعلم في زمان كذا و إذا كان الأمر كذلك لم يجز أن يكون حيث هنا ظرفا و إذا لم يكن ظرفا كان اسما و كان انتصابه انتصاب المفعول به على الاتساع و يقوي ذلك دخول الجار عليها فكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالاته ثم حذف الجار كما قال سبحانه أعلم بمن ضل عن سبيله و في موضع آخر أعلم من يضل عن سبيله فمن يضل معمول فعل مضمر دل عليه أعلم و لا يجوز أن يكون معمول أعلم لأن المعاني لا تعمل في مواضع الاستفهام و نحوه إنما تعمل فيها الأفعال التي تلغى فتعلق كما تلغى و مثل ذلك في أنه لا يكون إلا محمولا على فعل قوله :
و أضرب منا بالسيوف القوانس ) فالقوانس منصوب
مجمع البيان ج : 4 ص : 558
بفعل مضمر دل عليه قوله اضرب لأن المعاني لا تعمل في المفعول به و مما جعل حيث فيه اسما متمكنا غير ظرف متضمن لمعنى في قول الشاعر :
كان منها حيث تلوي المنطقا
حقفا نقا مالا على حقفي نقا أ لا ترى أن حيث هنا في موضع نصب بكان و حقفا نقا مرفوع بأنه خبره و قال القاضي أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه أن من العرب من يضيف حيث إلى المفرد فيجر ما بعدها و أنشد ابن الأعرابي بيتا آخره :
حيث لي العمايم ) و أنشد أيضا أبو سعيد و أبو علي في إخراج حيث من حد الظرفية بالإضافة إليها إلى حد الأسماء المحضة قول الشاعر يصف شيخا يقتل القمل :
يهز الهرانع عقده عند الخصى
بأذل حيث يكون من يتذلل و من ذلك قول الفرزدق :
فمحن به عذبا رضابا غروبه
رقاق و أعلى حيث ركبن أعجف و قوله « صغار عند الله » قال الزجاج عند متصلة بسيصيب أي سيصيبهم عند الله صغار و جاز أن يكون عند متصلة بصغار فيكون المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت لهم عند الله و لا يصلح أن يكون من محذوفة من عند إنما المحذوف من عند في إذا قلت زيد عند عمرو فالمعنى زيد في حضرة عمرو قال أبو علي إذا قلت أن عند معمول لصغار لم تحتج إلى تقدير محذوف في الكلام لكن نفس المصدر يتناوله و يعمل فيه و يكون التقدير أن يصغروا عند الله فلا وجه لتقدير ثابت في الكلام فإن قدرت صغارا موصوفا بعند لم يكن عند معمولا لصغار و لكن يكون متعلقا بمحذوف فلا بد على هذا من تقدير ثابت و نحوه ما يكون في الأصل صفة ثم حذف و أقيم الظرف مقامه للدلالة عليه و هذا كقولك و أنت تريد الصفة هذا رجل عندك فالمعنى ثابت عندك أو مستقر عندك و كلا الوجهين جائز .

مجمع البيان ج : 4 ص : 559

النزول

نزلت في الوليد بن المغيرة قال و الله لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا و أكثر منك مالا و قيل نزلت في أبي جهل بن هشام قال زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه و الله لا نؤمن به و لا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه عن مقاتل .

المعنى

ثم حكى سبحانه عن الأكابر الذين تقدم ذكرهم اقتراحاتهم الباطلة فقال « و إذا جاءتهم آية » أي دلالة معجزة من عند الله تعالى تدل على توحيده و صدق نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) « قالوا لن نؤمن » أي لن نصدق بها « حتى نؤتى » أي نعطي آية معجزة « مثل ما أوتي » أي أعطي « رسل الله » حسدا منهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ثم أخبر سبحانه على وجه الإنكار عليهم بقوله « الله أعلم حيث يجعل رسالته » أنه أعلم منهم و من جميع الخلق بمن يصلح لرسالاته و يتعلق مصالح الخلق ببعثه و أنه يعلم من يقوم بأعباء الرسالة و من لا يقوم بها فيجعلها عند من يقوم بأدائها و يحتمل ما يلحقه من المشقة و الأذى على تبليغها ثم توعدهم سبحانه فقال « سيصيب » أي سينال « الذين أجرموا » أي انقطعوا إلى الكفر و أقدموا عليه يعني بهم المشركين من أكابر القرى الذين سبق ذكرهم « صغار عند الله » أي سيصيبهم عند الله ذل و هوان و إن كانوا أكابر في الدنيا عن الزجاج و يجوز أن يكون المعنى سيصيبهم صغار معد لهم عند الله أو سيصيبهم أن يصغروا عند الله « و عذاب شديد بما كانوا يمكرون » في الدنيا أي جزاء على مكرهم .
فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهدِيَهُ يَشرَحْ صدْرَهُ لِلاسلَمِ وَ مَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يجْعَلْ صدْرَهُ ضيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصعَّدُ فى السمَاءِ كذَلِك يجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْس عَلى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ(125)

القراءة

قرأ ابن كثير ضيقا بتخفيف الياء و سكونها هاهنا و في الفرقان و الباقون بتشديدها و كسرها و قرأ أهل المدينة و أبو بكر و سهل حرجا بكسر الراء و الباقون بفتحها و قرأ ابن كثير يصعد بتخفيف الصاد و العين و سكون الصاد و قرأ أبو بكر يصاعد بتشديد الصاد و ألف بعدها و تخفيف العين و الباقون « يصعد » بتشديد الصاد و العين و فتح الصاد .

مجمع البيان ج : 4 ص : 560

الحجة

الضيق و الضيق بمعنى مثل الميت و الميت و من فتح الراء من حرج فقد وصف بالمصدر كما قيل في قمن و دنف و نحوهما من المصادر التي يوصف بها و من كسر الراء من حرج فهو مثل دنف و قمن و قراءة ابن كثير يصعد من الصعود و من قرأ « يصعد » أراد يتصعد فأدغم و معنى يتصعد أنه يثقل الإسلام عليه فكأنه يتكلف ما يثقل عليه شيئا بعد شيء كقولهم يتعفف و يتحرج و نحو ذلك مما يتعاطى فيه الفعل شيئا بعد شيء و يصاعد مثل يصعد في المعنى فهو مثل ضاعف و ضعف و ناعم و نعم و هما من المشقة و صعوبة الشيء و من ذلك قوله « يسلكه عذابا صعدا » و قوله « سأرهقه صعودا » أي سأغشيه عذابا صعودا و عقبة صعود أي شاقة و من ذلك قول عمر بن الخطاب ما تصعد في شيء كما تصعد في خطبة النكاح أي ما شق علي شيء مشقتها .

اللغة

الحرج و الحرج أضيق الضيق قال أبو زيد حرج عليه السحر يحرج حرجا إذ أصبح قبل أن يتسحر و حرم عليه حرما و هما بمعنى واحد و حرجت على المرأة الصلاة و حرمت بمعنى واحد و حرج فلان إذا هاب أن يتقدم على الأمر و قاتل فصبر و هو كاره و قد ذكرنا معاني الهداية و الهدى و الضلال و الإضلال في سورة البقرة و ما يجوز إسناده إلى الله تعالى من كلا الأمرين و ما لا يجوز عند قوله « و ما يضل به إلا الفاسقين » .

المعنى

لما تقدم ذكر المؤمنين و الكافرين بين عقبة ما يفعله سبحانه بكل من القبيلتين فقال « فمن يرد الله أن يهديه » قد ذكر في تأويل الآية وجوه ( أحدها ) أن معناه « فمن يرد الله أن يهديه » إلى الثواب و طريق الجنة « يشرح صدره » في الدنيا « للإسلام » بأن يثبت عزمه عليه و يقوي دواعيه على التمسك به و يزيل عن قلبه وساوس الشيطان و ما يعرض في القلوب من الخواطر الفاسدة و إنما يفعل ذلك لطفا له و منا عليه و ثوابا على اهتدائه بهدى الله و قبوله إياه و نظيره قوله سبحانه « و الذين اهتدوا زادهم هدى » « و يزيد الله الذين اهتدوا هدى » « و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا » يعني و من يرد أن يضله عن ثوابه و كرامته يجعل صدره في كفره ضيقا حرجا عقوبة له على ترك الإيمان من غير أن يكون سبحانه مانعا له عن الإيمان و سالبا إياه القدرة عليه بل ربما يكون ذلك سببا داعيا له إلى الإيمان فإن من ضاق صدره بالشيء كان ذلك داعيا له إلى تركه و الدليل على أن شرح الصدر قد يكون ثوابا قوله سبحانه « أ لم نشرح لك صدرك » الآيات و معلوم أن وضع الوزر و رفع الذكر يكون ثوابا على تحمل أعباء الرسالة و كلفها فكذلك ما قرن به من شرح الصدر
مجمع البيان ج : 4 ص : 561
و الدليل على أن الهدى قد يكون إلى الثواب قوله « و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم و يصلح بالهم » و معلوم أن الهداية بعد القتل لا تكون إلا إلى الثواب فليس بعد الموت تكليف و قد وردت الرواية الصحيحة أنه لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن شرح الصدر ما هو فقال نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له صدره و ينفسح قالوا فهل لذلك من أمارة يعرف بها قال (صلى الله عليه وآله وسلّم) نعم الإنابة إلى دار الخلود و التجافي عن دار الغرور و الاستعداد للموت قبل نزول الموت ( و ثانيها ) أن معنى الآية فمن يرد الله أن يثبته على الهدى يشرح صدره من الوجه الذي ذكرناه جزاء له على إيمانه و اهتدائه و قد يطلق لفظ الهدى و المراد به الاستدامة كما قلناه في قوله « اهدنا الصراط المستقيم » « و من يرد أن يضله » أي يخذله و يخلي بينه و بين ما يريده لاختياره الكفر و تركه الإيمان « يجعل صدره ضيقا حرجا » بأن يمنعه الألطاف التي ينشرح لها صدره لخروجه من قبولها بإقامته على كفره فإن قيل إنا نجد الكافر غير ضيق الصدر لما هو فيه و نراه طيب القلب على كفره فكيف يصح الخلف في خبره سبحانه قلنا أنه سبحانه بين أنه يجعل صدره ضيقا و لم يقل في كل حال و معلوم من حاله في أحوال كثيرة أنه يضيق صدره بما هو فيه من ورود الشبه و الشكوك عليه و عند ما يجازي الله تعالى المؤمن على استعمال الأدلة الموصلة إلى الإيمان و هذا القدر هو الذي يقتضيه الظاهر ( و ثالثها ) أن معنى الآية من يرد الله أن يهديه زيادة الهدى التي وعدها المؤمن « يشرح صدره » لتلك الزيادة لأن من حقها أن تزيد المؤمن بصيرة و من يرد أن يضله عن تلك الزيادة بمعنى يذهبه عنها من حيث أخرج هو نفسه من أن يصح عليه « يجعل صدره ضيقا حرجا » لمكان فقد تلك الزيادة لأنها إذا اقتضت في المؤمن ما قلناه أوجب في الكافر ما يضاده و يكون الفائدة في ذلك الترغيب في الإيمان و الزجر عن الكفر و هذا التأويل قريب مما تقدمه و قد روي عن ابن عباس أنه قال إنما سمى الله قلب الكافر حرجا لأنه لا يصل الخير إلى قلبه و في رواية أخرى لا تصل الحكمة إلى قلبه و لا يجوز أن يكون المراد بالإضلال في الآية الدعاء إلى الضلال و لا الأمر به و لا الإجبار عليه لإجماع الأمة على أن الله تعالى لا يأمر بالضلال و لا يدعو إليه فكيف يجبر عليه و الدعاء إليه أهون من الإجبار عليه و قد ذم الله تعالى فرعون و السامري على إضلالهما عن دين الهدى في قوله « و أضل فرعون قومه و ما هدى » و قوله « و أضلهم السامري » و لا خلاف في أن إضلالهما إضلال أمر و إجبار و دعاء و قد ذمهما الله تعالى عليه مطلقا فكيف يتمدح بما ذم عليه غيره قوله « كأنما يصعد في السماء » فيه وجوه ( أحدها ) أن معناه كأنه قد كلف أن يصعد إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق
مجمع البيان ج : 4 ص : 562
صدره عنه أو كان قلبه يصعد في السماء نبوا عن الإسلام و الحكمة عن الزجاج ( و ثانيها ) أن معنى يصعد كأنه يتكلف مشقة في ارتقاء صعود و على هذا قيل عقبة عنوت و كؤود عن أبي علي الفارسي قال و لا يكون السماء في هذا القول المظلة للأرض و لكن كما قال سيبويه القيدود الطويل في غير سماء أي في غير ارتفاع صعدا و قريب منه ما روي عن سعيد بن جبير أن معناه كأنه لا يجد مسلكا إلا صعدا ( و ثالثها ) أن معناه كأنما ينزع قلبه إلى السماء لشدة المشقة عليه في مفارقة مذهبه « كذلك يجعل الله الرجس » أي العذاب عن ابن زيد و غيره من أهل اللغة و قيل هو ما لا خير فيه عن مجاهد « على الذين لا يؤمنون » و في هذا دلالة على صحة التأويل الأول لأنه تعالى بين أن الإضلال المذكور في الآية كان على وجه العقوبة على الكفر و لو كان المراد به الإجبار على الكفر لقال كذلك لا يؤمن من جعل الله الرجس على قلبه و وجه التشبيه في قوله « كذلك يجعل الله الرجس » أنه يجعل الرجس على هؤلاء كما يجعل ضيق الصدر في قلوب أولئك و أن كل ذلك على وجه الاستحقاق و روى العياشي بإسناده عن أبي بصير عن خيثمة قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول أن القلب يتقلب من لدن موضعه إلى حنجرته ما لم يصب الحق فإذا أصاب الحق قر ثم قرأ هذه الآية .
وَ هَذَا صرَط رَبِّك مُستَقِيماً قَدْ فَصلْنَا الاَيَتِ لِقَوْم يَذَّكَّرُونَ(126) * لهَُمْ دَارُ السلَمِ عِندَ رَبهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ(127)

المعنى

ثم أشار تعالى إلى ما تقدم من البيان فقال « و هذا صراط ربك » أي طريق ربك و هو القرآن عن ابن مسعود و الإسلام عن ابن عباس و إنما أضافه إلى نفسه لأنه تعالى هو الذي دل عليه و أرشد إليه « مستقيما » لا اعوجاج فيه و إنما انتصب على الحال و إنما وصف الصراط الذي هو أدلة الحق بالاستقامة مع اختلاف وجوه الأدلة لأنها مع اختلافها تؤدي إلى الحق فكأنها طريق واحد لسلامة جميعها من التناقض و الفساد « قد فصلنا الآيات » أي بيناها و ميزناها « لقوم يذكرون » و أصله يتذكرون خص المتذكرين بذلك لأنهم المنتفعون بالحجج كما قال هدى للمتقين « لهم دار السلام » أي للذين تذكروا
مجمع البيان ج : 4 ص : 563
و تدبروا و عرفوا الحق و تبعوه دار السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة و بلية مما يلقاه أهل النار عن الزجاج و الجبائي و قيل أن السلام هو الله تعالى و دار الجنة عن الحسن و السدي « عند ربهم » أي هي مضمونة لهم عند ربهم يوصلهم إليها لا محالة كما يقول الرجل لغيره لك عندي هذا المال أي في ضماني و قيل معناه لهم دار السلام في الآخرة يعطيهم إياها « و هو وليهم » يعني الله يتولى إيصال المنافع إليهم و دفع المضار عنهم و قيل وليهم ناصرهم على أعدائهم و قيل يتولاهم في الدنيا بالتوفيق و في الآخرة بالجزاء « بما كانوا يعملون » المراد جزاء بما كانوا يعملون من الطاعات فحذف لظهور المعنى فإن من المعلوم أن ما لا يكون طاعة من الأعمال فلا ثواب عليه .
وَ يَوْمَ يحْشرُهُمْ جَمِيعاً يَمَعْشرَ الجِْنِّ قَدِ استَكْثرْتُم مِّنَ الانسِ وَ قَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الانسِ رَبَّنَا استَمْتَعَ بَعْضنَا بِبَعْض وَ بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِى أَجَّلْت لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَلِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ(128) وَ كَذَلِك نُوَلى بَعْض الظلِمِينَ بَعْضا بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ(129)

القراءة

قرأ حفص و روح « و يوم يحشرهم » بالياء و الباقون بالنون .

الحجة

من قرأ بالياء فلقوله عند ربهم و النون كالياء في المعنى و يقوي النون قوله « و حشرناهم » و « نحشره يوم القيامة أعمى » .

الإعراب

قال الزجاج « خالدين فيها » منصوب على الحال و المعنى النار مقامكم في حال خلود دائم قال أبو علي المثوى عندي في الآية اسم للمصدر دون المكان لحصول الحال في الكلام معملا فيها أ لا ترى أنه لا يخلو من أن يكون موضعا أو مصدرا فلا يجوز أن يكون موضعا لأن اسم الموضع لا يعمل عمل الفعل لأنه لا معنى للفعل فيه و إذا لم يكن موضعا ثبت أنه مصدر و المعنى النار ذات إقامتكم فيها خالدين أي أهل أن تقيموا أو تثووا خالدين فيها فالكاف و الميم في المعنى فاعلون و إن كان في اللفظ خفض بالإضافة .

مجمع البيان ج : 4 ص : 564

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما تقدم فقال « و يوم يحشرهم جميعا » أي يجمعهم يريد جميع الخلق و قيل الإنس و الجن لأنه يتعقبه حديثهم و قيل يريد الكفار و انتصب اليوم بالقول المضمر لأن المعنى « و يوم يحشرهم جميعا » يقول « يا معشر الجن » أي يا جماعة الجن « قد استكثرتم من الإنس » أي قد استكثرتم ممن أضللتموه من الإنس عن الزجاج و هو مأخوذ من قول ابن عباس معناه من إغواء الإنس و إضلالهم « و قال أولياؤهم » أي متبعوهم « من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض » أي انتفع بعضنا ببعض و قد قيل فيه أقوال ( أحدها ) أن استمتاع الجن بالإنس أن اتخذهم الإنس قادة و رؤساء فاتبعوا أهواءهم و استمتاع الإنس بالجن انتفاعهم في الدنيا بما زين لهم الجن من اللذات و دعوهم إليه من الشهوات ( و ثانيها ) أن استمتاع الإنس بالجن أن الرجل كان إذا سافر و خاف الجن في سلوك طريق قال أعوذ بسيد هذا الوادي ثم يسلك فلا يخاف و كانوا يرون ذلك استجارة بالجن و إن الجن تجيرهم كما قال الله تعالى و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا و استمتاع الجن بالإنس أن الجن إذا اعتقدوا أن الإنس يتعوذون بهم و يعتقدون أنهم ينفعونهم و يضرونهم كان في ذلك لهم سرور و نفع عن الحسن و ابن جريج و الزجاج و غيرهم ( و ثالثها ) أن المراد بالاستمتاع طاعة بعضهم لبعض و موافقة بعضهم بعضا عن محمد بن كعب قال البلخي و يحتمل أن يكون الاستمتاع مقصورا عن الإنس فيكون الإنس استمتع بعضهم ببعض دون الجن و قوله « و بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا » يعني بالأجل الموت عن الحسن و السدي و قيل البعث و الحشر لأن الحشر أجل الجزاء كما أن الموت أجل استدراك ما مضى قال الجبائي و في هذا دلالة على أنه لا أجل إلا واحد لأنه لو كان أجلان لكان الرجل إذا اقتطع دون الموت بأن يقتل لم يكن بلغ أجله و الآية تتضمن أنهم أجمع قالوا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا و قال علي بن عيسى و غيره من البغداديين لا دلالة في الآية على ذلك بل لا يمتنع أن يكون للإنسان أجلان ( أحدهما ) ما يقع فيه الموت ( و الآخر ) ما يقع فيه الحشر أو ما كان يجوز أن يعيش إليه « قال » الله تعالى لهم « النار مثواكم » أي مقامكم و الثواء الإقامة « خالدين فيها » أي دائمين مؤبدين فيها معذبين « إلا ما شاء الله » و قيل في معنى هذا الاستثناء أقوال ( أحدها ) ما روي عن ابن عباس أنه قال كان وعيد الكفار مبهما غير مقطوع به ثم قطع به لقوله تعالى « إن الله لا يغفر أن يشرك به » ( و ثانيها ) أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة لأن قوله « و يوم يحشرهم جميعا » هو يوم القيامة فقال « خالدين فيها » مذ يوم يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم و مقدار مدتهم في محاسبتهم عن الزجاج قال
مجمع البيان ج : 4 ص : 565
و جائز أن يكون المراد إلا ما شاء الله أن يعذبهم به من أضعاف العذاب ( و ثالثها ) أن الاستثناء راجع إلى غير الكفار من عصاة المسلمين الذين هم في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبهم بذنوبهم بقدر استحقاقهم عدلا و إن شاء عفا عنهم فضلا ( و رابعها ) إن معناه إلا ما شاء الله ممن آمن منهم عن عطاء « إن ربك حكيم عليم » أي محكم لأفعاله عليم بكل شيء و قيل حكيم في عقاب من يختار أن يعاقبه و العفو عمن يختار أن يعفو عنه عليم بمن يستحق الثواب و بمقدار ما يستحقه و بمن يستحق العقاب و بمقدار ما يستحقه « و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون » الكاف للتشبيه أي كذلك المهل بتخلية بعضهم عن بعض للامتحان الذي معه يصح الجزاء على الأعمال توليتنا بعض الظالمين بعضا بأن نجعل بعضهم يتولى أمر بعض للعقاب الذي يجري على الاستحقاق عن علي بن عيسى و قيل معناه أنا كما وكلنا هؤلاء الظالمين من الجن و الإنس بعضهم إلى بعض يوم القيامة و تبرأنا منهم فكذلك نكل الظالمين بعضهم إلى بعض يوم القيامة و نكل الأتباع إلى المتبوعين و نقول للأتباع قولوا للمتبوعين حتى يخلصوكم من العذاب عن أبي علي الجبائي قال و الغرض بذلك إعلامهم أنه ليس لهم يوم القيامة ولي يدفع عنهم شيئا من العذاب و قال غيره لما حكى الله تعالى ما يجري بين الجن و الإنس من الخصام و الجدال في الآخرة قال و كذلك أي و كما فعلنا بهؤلاء من الجمع بينهم في النار و تولية بعضهم بعضا نفعل مثله بالظالمين جزاء على أعمالهم و قال ابن عباس إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم و إذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم بما كانوا يكسبون من المعاصي أي جزاء على أعمالهم القبيحة و ذلك معنى قوله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و مثله ما رواه الكلبي عن مالك بن دينار قال قرأت في بعض كتب الحكمة أن الله تعالى يقول إني أنا الله مالك الملوك ، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة و من عصاني جعلتهم عليه نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك و لكن توبوا إلي أعطفهم عليكم و قيل معنى قوله نولي بعضهم بعضا نخلي بينهم و بين ما يختارونه من غير نصرة لهم و قيل معناه نتابع بعضهم بعضا في النار من الموالاة التي هي المتابعة أي يدخل بعضهم النار عقيب بعض عن قتادة .

مجمع البيان ج : 4 ص : 566
يَمَعْشرَ الجِْنِّ وَ الانسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسلٌ مِّنكُمْ يَقُصونَ عَلَيْكمْ ءَايَتى وَ يُنذِرُونَكمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شهِدْنَا عَلى أَنفُسِنَا وَ غَرَّتْهُمُ الحَْيَوةُ الدُّنْيَا وَ شهِدُوا عَلى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كفِرِينَ(130) ذَلِك أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّك مُهْلِك الْقُرَى بِظلْم وَ أَهْلُهَا غَفِلُونَ(131) وَ لِكلّ دَرَجَتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَ مَا رَبُّك بِغَفِل عَمَّا يَعْمَلُونَ(132)

القراءة

قرأ ابن عامر عما تعملون بالتاء و الباقون بالياء .

اللغة

الغفلة عن المعنى و السهو عنه و العزوب عنه نظائر و ضد الغفلة اليقظة و ضد السهو الذكر و ضد العزوب الحضور .

الإعراب

موضع « ذلك » يحتمل أن يكون رفعا على تقدير الأمر ذلك و يحتمل أن يكون نصبا على تقدير فعلنا ذلك و إن لم يكن أن هذه هي المخففة من الثقيلة و تقديره لأنه لم يكن كما في قول الشاعر :
في فتية كسيوف الهند قد علموا
أن هالك كل من يحفى و ينتعل و أن المفتوحة لا بد لها من إضمار الهاء لأنه لا معنى لها في الابتداء و إنما هي بمعنى المصدر المبني على غيره و المكسورة لا تحتاج إلى الهاء لأنها تصح أن تكون حرفا من حروف الابتداء فلا يحتاج إلى إضمار و إنما لم يبن كل إذا حذف منه المضاف إليه كما بني قبل و بعد لأن ما حذف منه المضاف إليه مثل قبل و بعد لم يكن في حال الإعراب على التمكن التام فإنه لا يدخله الرفع في تلك الحال فلما انضاف إلى ذلك نقصان التمكن بحذف المضاف إليه أخرج إلى البناء و ليس كذلك كل لأنه متمكن على كل حال فلذلك لم يبن .

المعنى

ثم بين عز و جل تمام ما يخاطب به الجن و الإنس يوم القيامة بأن يقول « يا معشر الجن و الإنس » و المعشر الجماعة التامة من القوم التي تشتمل على أصناف الطوائف و منه العرة لأنها تمام العقد « أ لم يأتكم رسل منكم » هذا احتجاج عليهم بأن بعث إليهم الرسل إعذارا و إنذارا و تأكيدا للحجة عليهم و أما قوله « منكم » و إن كان خطابا لجميعهم و الرسل
مجمع البيان ج : 4 ص : 567
من الإنس خاصة فإنه يحتمل أن يكون لتغليب أحدهما على الآخر كما قال تعالى « يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان » و إن كان اللؤلؤ يخرج من الملح دون العذب و كما يقال أكلت الخبز و اللبن و إنما يؤكل الخبز و يشرب اللبن و هو قول أكثر المفسرين و الزجاج و الرماني و قيل إنه أرسل رسل إلى الجن كما أرسل إلى الإنس عن الضحاك و قال الكلبي كان الرسل يرسلون إلى الإنس ثم بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) إلى الإنس و الجن و قال ابن عباس إنما بعث الرسول من الإنس ثم كان يرسل هو إلى الجن رسولا من الجن و قال مجاهد الرسل من الإنس و النذر من الجن « يقصون » أي يتلون و يقرءون « عليكم آياتي » أي حجبي و دلائلي و بيناتي « و ينذرونكم » أي يخوفونكم « لقاء يومكم هذا » أي لقاء ما تستحقونه من العقاب في هذا اليوم و حصولكم فيه يعني يوم القيامة « قالوا شهدنا على أنفسنا » بالكفر و العصيان في حال التكليف و لزوم الحجة و انقطاع المعذرة و اعترافنا بذلك « و غرتهم الحياة الدنيا » أي تزينت لهم بظاهرها حتى اغتروا بها « و شهدوا على أنفسهم » في الآخرة « أنهم كانوا كافرين » في الدنيا أي أقروا بذلك و شهدوا باستحقاقهم العقاب « ذلك » حكم الله تعالى « أن لم يكن ربك » أي لأنه لم يكن ربك « مهلك القرى بظلم و أهلها غافلون » و هذا يجري مجرى التعليل أي لأجل أنه لم يكن الله تعالى ليهلك أهل القرى بظلم يكون منهم حتى يبعث إليهم رسلا ينبهونهم على حجج الله تعالى و يزجرونهم و يذكرونهم و لا يؤاخذهم بغتة و هذا إنما يكون منه تعالى على وجه الاستظهار في الحجة دون أن يكون ذلك واجبا لأن ما فعلوه من الظلم قد استحقوا به العقاب و قيل معناه أنه تعالى لا يهلكهم بظلم منه على غفلة منهم من غير تنبيه و تذكير عن الفراء و الجبائي و مثله قوله و ما كان ربك ليهلك القرى بظلم و أهلها مصلحون و في هذا دلالة واضحة على أنه تعالى منزه عن الظلم و لو كان الظلم من خلقه لما صح تنزهه تعالى عنه « و لكل » أي و لكل عامل طاعة أو معصية « درجات مما عملوا » أي مراتب في عمله على حسب ما يستحقه فيجازى عليه إن كان خيرا فخير و إن كان شرا فشر و إنما سميت درجات لتفاضلها كتفاضل الدرج في الارتفاع و الانحطاط و إنما يعبر عن تفاضل أهل الجنة بالدرج و عن تفاضل أهل النار بالدرك إلا أنه لما جمع بينهم عبر عن تفاضلهم بالدرج تغليبا لصفة أهل الجنة « و ما ربك » يا محمد أو أيها السامع « بغافل » أي ساه « عما يعملون » أي لا يشذ شيء من ذلك عن عمله فيجازيهم على حسب ما يستحقونه من الجزاء و في هذا تنبيه و تذكير للخلق في كل أمورهم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 568
وَ رَبُّك الْغَنىُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشأْ يُذْهِبْكمْ وَ يَستَخْلِف مِن بَعْدِكم مَّا يَشاءُ كَمَا أَنشأَكم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْم ءَاخَرِينَ(133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لاَت وَ مَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ(134) قُلْ يَقَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكمْ إِنى عَامِلٌ فَسوْف تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظلِمُونَ(135)

القراءة

قرأ أبو بكر عن عاصم مكاناتكم على الجمع و الباقون « مكانتكم » على التوحيد و قرأ حمزة و الكسائي من يكون بالياء و الباقون بالتاء .

الحجة

وجه قراءة « مكانتكم » على التوحيد أنه مصدر و المصادر في أكثر الأمور مفردة و وجه الجمع أنه قد يجمع المصدر كقولهم الحلوم و الأحلام قال :
فأما إذا جلسوا في الندي
فأحلام عاد و أيد هضم و من قرأ من يكون بالياء فلأن العاقبة مصدر كالعافية و تأنيثه غير حقيقي فمن أنث فهو كقوله « فأخذتهم الصيحة » و من ذكر فكقوله و أخذ الذين ظلموا الصيحة و كلا الأمرين جائز .

اللغة

الإنشاء الابتداء أنشأ الله الخلق إذا خلقهم و ابتدأهم و منه قولهم أنشأ فلان قصيدة و النشأ الأحداث من الأولاد قال نصيب :
و لو لا أن يقال صبا نصيب
لقلت بنفسي النشأ الصغار و توعدون من الإيعاد و يحتمل أن يكون من الوعد و الوعد في الخير و الإيعاد في الشر و قال أبو زيد المكانة المنزلة يقال رجل مكين عند السلطان من قوم مكناء و قد مكن مكانة .

الإعراب

الكاف في قوله « كما أنشأكم » في موضع نصب أي مثل ما أنشأكم و من في قوله « و يستخلف من بعدكم » للبدل كقولهم أعطيتك من دينارك ثوبا أي مكان دينارك و بدله و من في قوله « من ذرية قوم آخرين » لابتداء الغاية و ما في قوله « إن ما توعدون » بمعنى الذي و من في قوله
مجمع البيان ج : 4 ص : 569
« من تكون له عاقبة الدار » في موضع رفع بالابتداء و خبره « تكون له عاقبة الدار » و تقديره أينا تكون له عاقبة الدار و يكون تعليقا و يحتمل أن يكون موضعه نصبا بتعلمون و يكون في معنى الذي .

المعنى

لما أمر سبحانه بطاعته و حث عليها و رغب فيها بين أنه لم يأمر بها لحاجة لأنه يتعالى عن النفع و الضر فقال « و ربك » أي خالقك و سيدك « الغني » عن أعمال عباده لا تنفعه طاعتهم و لا تضره معصيتهم لأن الغني عن الشيء هو الذي يكون وجود الشيء و عدمه و صحته و فساده عنده بمنزلة « ذو الرحمة » أي صاحب النعمة على عباده بين سبحانه أنه مع غناه عن عباده ينعم عليهم و أن إنعامه و إن كثر لا ينقص من ملكه و لا من غناه ثم أخبر سبحانه عن قدرته فقال « إن يشأ يذهبكم » أي يهلككم و تقديره يذهبكم بالإهلاك « و يستخلف من بعدكم ما يشاء » أي و ينشىء بعد هلاككم خلقا غيركم يكون خلفا لكم « كما أنشأكم » في الأول « من ذرية قوم آخرين » تقدموكم و هذا خطاب لمن سبق ذكره من الجن و الإنس و يحتمل أن يكون معناه و يستخلف جنسا آخر أي كما قدر على إخراج الجن من الجن و الإنس من الإنس فهو قادر على أن يخرج قوما آخر لا من الجن و لا من الإنس و في هذه الآية دلالة على أن خلاف المعلوم يجوز أن يكون مقدورا لأنه سبحانه بين أنه قادر على أن ينشىء خلقا خلاف الجن و الإنس و لم يفعل ذلك « إن ما توعدون » من القيامة و الحساب و الجنة و النار و الثواب و العقاب و تفاوت أهل الجنة في الدرجات و تفاوت أهل النار في الدركات « لآت » لا محالة « و ما أنتم بمعجزين » بفائتين و يقال بسابقين و يقال بخارجين من ملكه و قدرته و الإعجاز أن يأتي الإنسان بشيء يعجز خصمه عنه و يقصر دونه فيكون قد جعله عاجزا عنه فعلى هذا يكون المعنى لستم بمعجزين الله سبحانه عن الإتيان بالبعث و العقاب « قل » يا محمد لهم « يا قوم اعملوا على مكانتكم » أي على قدر منزلتكم و تمكنكم من الدنيا و معناه أثبتوا على ما أنتم عليه من الكفر و هذا تهديد و وعيد بصيغة الأمر و قيل على مكانتكم على طريقتكم و قيل على حالتكم عن الجبائي أي أقيموا على حالتكم التي أنتم عليها فإني مجازيكم « إني عامل » إخبار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أي عامل بما أمرني الله تعالى به و قيل إخبار عن الله تعالى أي عامل ما وعدتكم به من البعث و الجزاء عن أبي مسلم و الأول الصحيح « فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار » أي فستعلمون أينا تكون له العاقبة المحمودة في دار السلام عند الله تعالى و قيل المراد عاقبة دار الدنيا في النصر عليكم « إنه لا
مجمع البيان ج : 4 ص : 570
يفلح الظالمون » أي لا يظفر الظالمون بمطلوبهم و إنما لم يقل الكافرون و إن كان الكلام في ذكرهم لأنه سبحانه قال في موضع آخر و الكافرون هم الظالمون و قال إن الشرك لظلم عظيم .
وَ جَعَلُوا للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الأَنْعَمِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هَذَا لِشرَكائنَا فَمَا كانَ لِشرَكائهِمْ فَلا يَصِلُ إِلى اللَّهِ وَ مَا كانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شرَكائهِمْ ساءَ مَا يَحْكمُونَ(136)

القراءة

قرأ الكسائي بزعمهم بضم الزاي و هي قراءة يحيى بن ثابت و الأعمش و قرأ الباقون بفتح الزاي .

الحجة

القول فيه أنهما لغتان أو قيل إن الكسر أيضا لغة و مثله الفتك و الفتك و الفتك و الود و الود و الود .

اللغة

الذرء الخلق على وجه الاختراع و أصله الظهور و منه ملح ذرآني و ذرآني لظهور بياضه و الذرأة ظهور الشيب قال :
و قد علتني ذرأة بادي بدي ) و ذرئت لحيته إذا شابت و الحرث الزرع و الحرث الأرض التي تثار للزرع و الأنعام جمع النعم مأخوذ من نعمة الوطء و لا يقال لذوات الحافر أنعام .

المعنى

ثم عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة فقال سبحانه « و جعلوا لله » أي كفار مكة و من تقدمهم من المشركين و الجعل هنا بمعنى الوصف و الحكم « مما ذرأ من الحرث » أي مما خلق من الزرع « و الأنعام » أي المواشي من الإبل و البقر و الغنم « نصيبا » أي حظا و هاهنا حذف يدل الكلام عليه و هو و جعلوا للأوثان منه نصيبا « فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا » يعني الأوثان و إنما جعلوا الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها
مجمع البيان ج : 4 ص : 571
نصيبا من أموالهم ينفقونه عليها فشاركوها في نعمهم « فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم » قيل في معناه أقوال ( أحدها ) أنهم كانوا يزرعون لله زرعا و للأصنام زرعا فكان إذا زكا الزرع الذي زرعوه لله و لم يزك الزرع الذي زرعوه للأصنام جعلوا بعضه للأصنام و صرفوه إليها و يقولون إن الله غني و الأصنام أحوج و إن زكا الزرع الذي جعلوه للأصنام و لم يزك الزرع الذي زرعوه لله لم يجعلوا منه شيئا لله و قالوا هو غني و كانوا يقسمون النعم فيجعلون بعضه لله و بعضه للأصنام فما كان لله أطعموه الضيفان و ما كان للصنم أنفقوه على الصنم عن الزجاج و غيره ( و ثانيها ) أنه كان إذا اختلط ما جعل للأصنام بما جعل لله تعالى ردوه و إذا اختلط ما جعل لله بما جعل للأصنام تركوه و قالوا الله أغنى و إذا تخرق الماء من الذي لله في الذي للأصنام لم يسدوه و إذا تخرق من الذي للأصنام في الذي لله سدوه و قالوا الله أغنى عن ابن عباس و قتادة و هو المروي عن أئمتنا (عليهم السلام) ( و ثالثها ) أنه كان إذا هلك ما جعل للأصنام بدلوه مما جعل لله و إذا هلك ما جعل لله لم يبدلوه مما جعل للأصنام عن الحسن و السدي « ساء ما يحكمون » أي ساء الحكم حكمهم هذا .
وَ كذَلِك زَيَّنَ لِكثِير مِّنَ الْمُشرِكينَ قَتْلَ أَوْلَدِهِمْ شرَكاؤُهُمْ لِيرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْترُونَ(137)

القراءة

قرأ ابن عامر وحده زين بضم الزاي قتل بالرفع أولادهم بالنصب شركائهم بالجر و الباقون « زين » بالفتح « قتل » بالنصب « أولادهم » بالجر و « شركاؤهم » بالرفع .

الحجة

شركاؤهم في قراءة الأكثرين فاعل زين و قتل أولادهم مفعوله و لا يجوز أن يكون شركاء فاعل المصدر الذي هو قتل أولادهم لأن زين حينئذ يبقى بلا فاعل و لأن الشركاء ليسوا قاتلين إنما هم مزينون القتل لهم و أضيف المصدر الذي هو قتل إلى المفعولين الذين هم الأولاد و حذف الفاعل و تقديره قتلهم أولادهم كما حذف ضمير الإنسان في قوله لا يسأم الإنسان من دعاء الخير و المعنى من دعائه الخير و أما قراءة ابن عامر و كذلك زين فإنه أسند
مجمع البيان ج : 4 ص : 572
زين إلى قتل و أعمل المصدر عمل الفعل و أضافه إلى الفاعل و نظير ذلك قوله و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض فاسم الله هنا فاعل كما أن الشركاء في الآية فاعلون و المصدر مضاف إلى الشركاء الذين هم فاعلون و المعنى قتل شركائهم أولادهم و تقديره أن قتل شركاؤهم أولادهم و فصل بين المضاف و المضاف إليه بمفعول به و المفعول مفعول المصدر و هذا قبيح في الاستعمال قال أبو علي و وجه ذلك على ضعفه أنه قد جاء في الشعر الفصل قال الطرماح :
يطفن بحوزي المراتع لم ترع
بواديه من قرع القسي الكنائن و زعموا أن أبا الحسن أنشد :
زج القلوص أبي مزادة فهو شاذ مثل قراءة ابن عامر و ذكر سيبويه في هذه الآية قراءة أخرى و هو قوله و كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم و هو قراءة أبي عبد الرحمن السلمي فحمل الشركاء فيها على فعل مضمر غير هذا الظاهر كأنه لما قيل و كذلك زين قيل من زينه فقال زينه شركاؤهم و مثل ذلك قوله :
ليبك يزيد ضارع لخصومة
و مختبط مما تطيح الطوائح كأنه لما قيل ليبك يزيد قبل من يبكيه فقال يبكيه ضارع .

اللغة

الإرداء الإهلاك و ردي يردي ردى إذا هلك و تردى ترديا و المرادة الحجر يتردى من رأس الجبل .

المعنى

ثم بين سبحانه خصلة أخرى من خصالهم الذميمة فقال « و كذلك » أي و كما جعل أولئك في الحرث و الأنعام ما لا يجوز كذلك « زين لكثير من المشركين » أي مشركي العرب « قتل أولادهم شركاؤهم » يعني الشياطين الذين زينوا لهم قتل البنات و وأدهن أحياء خيفة العيلة و الفقر و العار عن الحسن و مجاهد و السدي و قيل إن المزينين لهم ذلك قوم كانوا يخدمون الأوثان عن الفراء و الزجاج و قيل هم الغواة من الناس و قيل كان السبب في تزيين قتل البنات أن النعمان بن المنذر أغار
مجمع البيان ج : 4 ص : 573
على قوم فسبى نساءهم و كان فيهن بنت قيس بن عاصم ثم اصطلحوا فأرادت كل امرأة منهن عشيرتها غير ابنة قيس فإنها أرادت من سباها فحلف قيس لا يولد له بنت إلا وأدها فصار ذلك سنة فيما بينهم « ليردوهم » أي يهلكوهم و اللام لام العاقبة لأنهم لم يكونوا معاندين لهم فيقصدوا أن يردوهم عن أبي علي الجبائي و قال غيره يجوز أن يكون فيهم المعاند فيكون ذلك على التغليب « و ليلبسوا عليهم دينهم » أي يخلطوا عليهم و يدخلوا عليهم الشبهات فيه « و لو شاء الله ما فعلوه » معناه و لو شاء أن يمنعهم من ذلك أو يضطرهم إلى تركه لفعل و لو فعل المنع و الحيلولة لما فعلوه و لكن كان يكون ذلك منافيا للتكليف « فذرهم و ما يفترون » أي اتركهم و دعهم و افتراءهم أي كذبهم على الله تعالى فإنه يجازيهم و في هذا غاية الزجر و التهديد كما يقول القائل دعه و ما اختار و في هذه الآية دلالة واضحة على أن تزيين القتل و القتل فعلهم و أنهم في إضافة ذلك إلى الله سبحانه كاذبون .
وَ قَالُوا هَذِهِ أَنْعَمٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطعَمُهَا إِلا مَن نَّشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعَمٌ حُرِّمَت ظهُورُهَا وَ أَنْعَمٌ لا يَذْكُرُونَ اسمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْترَاءً عَلَيْهِ سيَجْزِيهِم بِمَا كانُوا يَفْترُونَ(138)

القراءة

قرىء في الشواذ حرج روي ذلك عن أبي بن كعب و ابن مسعود و ابن الزبير و الأعمش و عكرمة و عمرو بن دينار .

الحجة

الحرج يمكن أن يؤول معناه إلى الحجر فإنهما يرجعان في الأصل إلى معنى الضيق فإن الحرام سمي حجرا لضيقه و الحرج أيضا الضيق فعلى هذا يكون لغة في حجر مثل جذب و جبذ فهو من المقلوب .

اللغة

الحجر الحرام و الحجر العقل و فلان في حجر القاضي من حجرت حجرا أي في منع القاضي إياه من الحكم في ماله و حجر المرأة و حجرها بالفتح و الكسر حضنها .

الإعراب

افتراء منصوب بقوله « لا يذكرون » و هو مفعول له و يجوز أن يكون لا يذكرون بمعنى يفترون فكأنه قال يفترون افتراء .

مجمع البيان ج : 4 ص : 574

المعنى

ثم حكى سبحانه عنهم عقيدة أخرى من عقائدهم الفاسدة فقال « و قالوا » يعني المشركين « هذه أنعام » أي مواش و هي الإبل و البقر و الغنم « و حرث » زرع « حجر » أي حرام عنى بذلك الأنعام و الزرع الذين جعلوهما لآلهتهم و أوثانهم « لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم » أي لا يأكلها إلا من نشاء أن نأذن له في أكلها و أعلم سبحانه أن هذا التحريم زعم منهم لا حجة لهم فيه و لا برهان و كانوا لا يحلون ذلك إلا لمن قام بخدمة أصنامهم من الرجال دون النساء « و أنعام حرمت ظهورها » يعني الأنعام التي حرموا الركوب عليها و هي السائبة و البحيرة و الحام عن الحسن و مجاهد و قيل هي الحامي الذي حمى ظهره إذا ركب ولد ولده عندهم فلا يركب و لا يحمل عليه « و أنعام لا يذكرون اسم الله عليها » قيل كانت لهم من أنعامهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها و لا في شيء من شأنها عن مجاهد و قيل إنهم كانوا لا يحجون عليها عن أبي وائل و قيل هي التي إذا ذكوها أهلوا عليها بأصنامهم فلا يذكرون اسم الله عليها عن الضحاك « افتراء عليه » أي كذبا على الله تعالى لأنهم كانوا يقولون إن الله أمرهم بذلك و كانوا كاذبين به عليه سبحانه « سيجزيهم بما كانوا يفترون » ظاهر المعنى .
وَ قَالُوا مَا فى بُطونِ هَذِهِ الأَنْعَمِ خَالِصةٌ لِّذُكورِنَا وَ محَرَّمٌ عَلى أَزْوَجِنَا وَ إِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شرَكاءُ سيَجْزِيهِمْ وَصفَهُمْ إِنَّهُ حَكيمٌ عَلِيمٌ(139)

القراءة

قرأ ابن كثير « و إن يكن » بالياء ميتة رفع و قرأ ابن عامر و أبو جعفر تكن بالتاء ميتة رفع و قرأ أبو بكر عن عاصم تكن بالتاء « ميتة » نصب و الباقون « يكن » بالياء « ميتة » نصب و في الشواذ قراءة ابن عباس بخلاف و قتادة و الأعرج خالصة بالنصب و قراءة سعيد بن جبير خالصا و قراءة ابن عباس بخلاف و الزهري و الأعمش خالص بالرفع و قراءة ابن عباس و ابن مسعود و الأعمش بخلاف خالصة مرفوع مضاف .

الحجة

وجه قراءة الأكثر أن يحمل على ما فيكون تقديره إن يكن ما في بطون الأنعام ميتة و وجه قراءة ابن كثير أنه لما لم يكن تأنيث الميتة تأنيث ذوات الفروج جاز تذكير
مجمع البيان ج : 4 ص : 575
الفعل كقوله فمن جاءه موعظة من ربه و يكون كان تامة و تقديره إن وقع ميتة و من أنث الفعل فكقوله سبحانه قد جاءتكم موعظة و وجه قراءة أبي بكر إن ما في بطون الأنعام من الأنعام فلذلك أنثها و أما « خالصة » بالرفع على القراءة المشهورة فتقديره ما في بطون الأنعام من الأنعام خالصة لنا أي خالص فأنث للمبالغة في الخلوص كما يقال فلان خالصة فلان أي صفيه و المبالغ في الصفاء و الثقة عنده و التاء فيه للمبالغة و ليكون أيضا بلفظ المصدر نحو العافية و العاقبة و المصدر إلى الجنسية فيكون أعم و أوكد و يدل على ذلك قراءة من قرأ خالص و أما من نصب خالصة و خالصا ففيه وجهان - ( أحدهما ) أن يكون حالا من المضمر في الظرف الذي جرى صلة على ما فيكون كقولهم الذي في الدار قائما زيد فيكون قوله « لذكورنا » خبر المبتدأ الموصول ( و الآخر ) أن يكون حالا من ما على مذهب أبي الحسن في إجازته تقديم الحال على العامل فيها إذا كان معنى بعد أن يتقدم صاحب الحال عليها كقولنا زيد قائما في الدار و احتج بقوله سبحانه و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة .

المعنى

ثم حكى الله سبحانه عنهم مقالة أخرى فقال « و قالوا » يعني هؤلاء الكفار الذين تقدم ذكرهم « ما في بطون هذه الأنعام » يعني ألبان البحائر و السيب عن ابن عباس و الشعبي و قتادة و قيل أجنة البحائر و السيب ما ولد منها حيا فهو خالص للذكور دون النساء و ما ولد ميتا أكله الرجال و النساء عن مجاهد و السدي و قيل المراد به كليهما « خالصة لذكورنا » لا يشركهم فيها أحد من الإناث من قولهم فلان يخلص العمل لله و منه إخلاص التوحيد و سمي الذكور من الذكر الذي هو الشرف و الذكر أشبه و أذكر من الأنثى « و محرم على أزواجنا » أي نسائنا « و إن يكن ميتة » معناه و أن يكن جنين الأنعام ميتة « فهم فيه شركاء » أي الذكور و الإناث فيه سواء ثم قال سبحانه « سيجزيهم وصفهم » أي سيجزيهم العقاب بوصفهم فلما أسقط الباء نصب وصفهم و قيل تقديره سيجزيهم جزاء وصفهم فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه عن الزجاج « أنه حكيم » فيما يفعل بهم من العقاب آجلا و في إمهالهم عاجلا « عليم » بما يفعلونه لا يخفى عليه شيء منها و قد عاب الله سبحانه الكفار في هذه الآية من وجوه أربعة ( أحدها ) ذبحهم الأنعام بغير إذن الله ( و ثانيها ) أكلهم على ادعاء التذكية افتراء على الله ( و ثالثها ) تحليلهم للذكور و تحريمهم على الإناث تفرقة بين ما لا يفترق إلا بحكم من الله ( و رابعها ) تسويتهم بينهم في الميتة من غير رجوع إلى سمع موثوق به .

مجمع البيان ج : 4 ص : 576
قَدْ خَسرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَدَهُمْ سفَهَا بِغَيرِ عِلْم وَ حَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْترَاءً عَلى اللَّهِ قَدْ ضلُّوا وَ مَا كانُوا مُهْتَدِينَ(140)

القراءة

قرأ ابن كثير و ابن عامر قتلوا بتشديد التاء و الباقون بالتخفيف .

الحجة

التشديد للتكثير و التخفيف يدل على القلة و الكثرة و قد تقدم بيان ذلك .

الإعراب

قوله « سفها » و « افتراء على الله » نصب على الوجهين اللذين ذكرناهما في قوله افتراء عليه .

المعنى

ثم جمع سبحانه بين الفريقين الذين قتلوا أولادهم و الذين حرموا الحلال فقال « قد خسر الذين قتلوا أولادهم » خوفا من الفقر و هربا من العار و معناه هلكت نفوسهم باستحقاقهم على ذلك عقاب الأبد و الخسران هلاك رأس المال « سفها » أي جهلا و تقديره سفهوا بما فعلوه سفها و الفرق بين السفه و النزق أن السفه عجلة يدعو إليها الهوى و النزق عجلة من جهة حدة الطبع و الغيظ « بغير علم » و هذا تأكيد لجهلهم و ذهابهم عن الثواب « و حرموا ما رزقهم الله » يعني الأنعام و الحرث الذين زعموا أنها حجر عن الحسن و اعترض علي بن عيسى على هذا فقال الأنعام كانت محرمة حتى ورد السمع فما قاله غير صحيح و هذا الاعتراض يفسد من حيث إن الركوب لا يحتاج إلى السمع و إن احتاج الذبح إليه لأن الركوب مباح إذا قام بمصالحها و لأن أكلها أيضا بعد الذبح مباح « افتراء » أي كذبا « على الله » سبحانه « قد ضلوا » أي ذهبوا عن طريق الحق بما فعلوه و حكموا بحكم الشياطين فيما حكموا فيه « و ما كانوا مهتدين » إلى شيء من الدين و الخير و الرشاد و في هذه الآيات دلالات على بطلان مذهب المجبرة لأنه سبحانه أضاف القتل و الافتراء و التحريم إليهم و نزه نفسه عن ذلك و ذمهم على قتل الأطفال بغير جرم فكيف يعاقبهم سبحانه عقاب الأبد على غير جرم .

مجمع البيان ج : 4 ص : 577
* وَ هُوَ الَّذِى أَنشأَ جَنَّت مَّعْرُوشت وَ غَيرَ مَعْرُوشت وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مخْتَلِفاً أُكلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشبهاً وَ غَيرَ مُتَشبِه كلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ ءَاتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسرِفُوا إِنَّهُ لا يحِب الْمُسرِفِينَ(141)

القراءة

قرأ أهل البصرة و الشام و عاصم حصاده بالفتح و الباقون « حصاده » بالكسر .

الحجة

هما لغتان قال سيبويه جاءوا بالمصادر حين أرادوا انتهاء الزمان على مثال فعال و ذلك الصرام و الجداد و الجرام و الجزاز و القطاع و الحصاد و ربما دخلت اللغتان في بعض هذا فكان فيه فعال و فعال .

اللغة

الإنشاء إحداث الفعل ابتداء لا على مثال سبق و هو كالابتداع .
و الاختراع هو إحداث الأفعال في الغير من غير سبب .
و الخلق هو التقدير و الترتيب و الجنات و البساتين التي يجنها الشجر من النخل و غيره و الروضة الخضراء بالنبات و الزهر المشرقة باختلاف الألوان الحسنة و العرش أصله الرفع و منه سمي السرير عرشا لارتفاعه و العرش السقف و الملك و عرش الكرم رفع بعض أغصانها على بعض و العريش شبه الهودج يتخذ للمرأة و الإسراف مجاوزة الحد و قد يكون بالمجاوزة إلى الزيادة و قد يكون بالتقصير و هو أن يجاوز حد الحق و العدل قال الشاعر :
أعطوا هنيدة يخدوها ثمانية
ما في عطائهم من و لا سرف أي و لا تقصير و قيل معناه و لا إفراط .

الإعراب

« مختلفا أكله » نصب على الحال من « أنشأ » و إنما انتصب على الحال و إن كان يؤكل بعد ذلك بزمان لأمرين ( أحدهما ) أن المعنى مقدر اختلاف أكله كما في قوله مررت برجل معه صقر صائدا به غدا أي مقدرا الصيد به غدا ( و الثاني ) أن يكون معنى أكله ثمرة الذي يصلح أن يؤكل منه .

المعنى

لما حكى سبحانه عن المشركين أنهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان عقب ذلك البيان بأنه الخالق لجميع الأشياء فلا يجوز إضافة شيء منها إلى الأوثان و لا تحليل ذلك و لا تحريمه إلا بإذنه فقال « و هو الذي أنشأ » أي خلق و ابتدع لا على مثال « جنات » أي بساتين فيها الأشجار المختلفة « معروشات » مرفوعات بالدعائم قيل هو ما عرشه الناس من
مجمع البيان ج : 4 ص : 578
الكروم و نحوها عن ابن عباس و السدي و قيل عرشها أن يجعل لها حظائر كالحيطان عن أبي علي قال و أصله الرفع و منه قوله تعالى « خاوية على عروشها » يعني على أعاليها و ما ارتفع منها ما لم تندك فتسوى بالأرض « و غير معروشات » يعني ما خرج من قبل نفسه في البراري و الجبال من أنواع الأشجار عن ابن عباس و قيل معناه غير مرفوعات بل قائمة على أصولها مستغنية عن التعريش عن أبي مسلم « و النخل و الزرع » أي و أنشأ النخل و الزرع « مختلفا أكله » أي طعمه و قيل ثمرة و قيل هذا وصف للنخل و الزرع جميعا فخلق سبحانه بعضها مختلف اللون و الطعم و الرائحة و الصورة و بعضها مختلفا في الصورة متفقا في الطعم و بعضها مختلفا في الطعم متفقا في الصورة و كل ذلك يدل على توحيده و على أنه قادر على ما يشاء عالم بكل شيء « و الزيتون و الرمان » أي و أنشأ الزيتون و الرمان « متشابها » في الطعم و اللون و الصورة « و غير متشابه » فيها و إنما قرن الزيتون إلى الرمان لأنهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها « كلوا من ثمره إذا أثمر » المراد به الإباحة و إن كان بلفظ الأمر قال الجبائي و جماعة هذا يدل على جواز الأكل من الثمر و إن كان فيه حق الفقراء « و آتوا حقه يوم حصاده » هذا أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد على الجملة و الحق الذي يجب إخراجه يوم الحصاد فيه قولان ( أحدهما ) أنه الزكاة العشر أو نصف العشر عن ابن عباس و محمد بن الحنفية و زيد بن أسلم و الحسن و سعيد بن المسيب و قتادة و الضحاك و طاووس ( و الثاني ) أنه ما تيسر مما يعطي المساكين عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) و عطا و مجاهد و ابن عمر و سعيد بن جبير و الربيع بن أنس و روي أصحابنا أنه الضغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة و قال إبراهيم و السدي الآية منسوخة بفرض العشر و نصف العشر لأن هذه الآية مكية و فرض الزكاة إنما أنزل بالمدينة و لما روي أن الزكاة نسخ كل صدقة قالوا و لأن الزكاة لا تخرج يوم الحصاد قال علي بن عيسى و هذا غلط لأن يوم حصاده ظرف لحقه و ليس للإيتاء المأمور به « و لا تسرفوا » أي لا تجاوزوا الحد و فيه أقوال ( أحدها ) أنه خطاب لأرباب الأموال لا تسرفوا بأن تتصدقوا بالجميع و لا تبقوا للعيال شيئا كما فعل ثابت بن قيس بن شماس فإنه صرم خمسين نخلا و تصدق بالجميع و لم يدخل منه شيئا في داره لأهله عن أبي العالية و ابن جريج ( و ثانيها ) أن معناه و لا تقصروا بأن تمنعوا بعض الواجب و التقصير سرف عن سعيد بن المسيب ( و ثالثها ) أن المعنى لا تسرفوا في الأكل قبل الحصاد كيلا يؤدي إلى
مجمع البيان ج : 4 ص : 579
بخس حق الفقراء عن أبي مسلم ( و رابعها ) أن معناه لا تنفقوه في المعصية و لا تضعوه في غير موضعه و في جميع هذه الأقوال الخطاب لأرباب الأموال ( و خامسها ) أن الخطاب للأئمة و معناه لا تأخذوا ما يجحف بأرباب الأموال و لا تأخذوا فوق الحق عن ابن زيد ( و سادسها ) أن الخطاب للجميع بأن لا يسرف رب المال في الإعطاء و لا الإمام في الأخذ و صرف ذلك إلى غير مصارفه و هذا أعم فائدة « أنه لا يحب المسرفين » ظاهر المعنى .
وَ مِنَ الأَنْعَمِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطوَتِ الشيْطنِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوُّ مُّبِينٌ(142) ثَمَنِيَةَ أَزْوَج مِّنَ الضأْنِ اثْنَينِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَينِ قُلْ ءَالذَّكرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَينِ نَبِّئُونى بِعِلْم إِن كنتُمْ صدِقِينَ(143) وَ مِنَ الابِلِ اثْنَينِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَينِ قُلْ ءَالذَّكرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَينِ أَمَّا اشتَمَلَت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَينِ أَمْ كنتُمْ شهَدَاءَ إِذْ وَصامُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظلَمُ مِمَّنِ افْترَى عَلى اللَّهِ كذِباً لِّيُضِلَّ النَّاس بِغَيرِ عِلْم إِنَّ اللَّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ(144)

القراءة

قرأ ابن كثير و ابن فليح و ابن عامر و أهل البصرة المعز بفتح العين و الباقون بسكونها .

الحجة

قال أبو علي من قرأ المعز فإنه جمع ماعز مثل خادم و خدم و حارس و حرس و طالب و طلب و قال أبو الحسن هو جمع على غير واحد و كذلك المعزى و حكى أبو زيد
مجمع البيان ج : 4 ص : 580
الأمعوز و قالوا المعيز كالكليب و الضئين و من قرأ « المعز » فإنه جمع أيضا مثل صاحب و صحب و تاجر و تجر و راكب و ركب و أبو الحسن يرى هذا الجمع مستمرا و يرده في التصغير إلى الواحد فيقول في تحقير ركب رويكبون و في تجر تويجرون و سيبويه يراه اسما من أسماء الجموع و أنشد أبو عثمان في الاحتجاج لسيبويه :
أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا فتحقيره له على لفظه يدل على أنه اسم للجمع و أنشد :
و أين ركيب واضعون رحالهم .

اللغة

الحمولة الإبل يحمل عليه الأثقال و لا واحد لها من لفظها كالركوبة و الجزورة و الحمولة بضم الحاء هي الأحمال و هي الحمول أيضا و إنما قيل للصغار فرش لأمرين ( أحدهما ) لاستواء أسنانها في الصغر و الانحطاط كاستواء ما يفرش ( و الثاني ) أنه من الفرش و هو الأرض المستوية التي يتوطاها الناس و الزوج يقع على الواحد الذي يكون معه آخر و على الاثنين كما يقال للواحد و الاثنين خصم و عدل و الاشتمال أصله الشمول يقال شملهم الأمر يشملهم و شملهم الأمر يشملهم شمولا إذا عمهم و منه الشمال لشمولها على ظاهر الشيء و باطنه بقوتها و لطفها و من ذلك الشمول للخمر لاشتمالها على العقل و قيل لأن لها عصفة كعصفة الشمال .

الإعراب

حمولة عطف على جنات أي و أنشأ من الأنعام حمولة و اثنين محمول على أنشأ أيضا أي ثمانية أزواج اثنين من كذا و اثنين من كذا فثمانية أزواج بدل من حمولة و فرشا و اثنين من كذا و اثنين من كذا بدل من ثمانية أو عطف بيان و قوله « آلذكرين حرم » دخلت همزة الاستفهام على همزة الوصل و فصل بينهما بالألف و لم تسقط همزة الوصل لئلا يلتبس الاستفهام بالخبر و لو أسقطت لجاز لأن أم تدل على الاستفهام و على هذا الوجه أجاز سيبويه أن يكون قول الشاعر :
فو الله ما أدري و إن كنت داريا
شعيث بن سهم أو شعيث بن منقر استفهاما فيكون تقديره أ شعيث و ما في قوله « أما » اشتملت في موضع نصب بكونه عطفا على الأنثيين و إنما قال الأنثيين فثنى لأنه أراد من الضأن و المعز .

المعنى

ثم عطف سبحانه على ما عده فيما تقدم من عظيم الأنعام ببيان نعمته في
 

<<        الفهرس        >>