قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
مجمع
البيان ج : 6 ص : 558
أرسلنا بالبينات و الزبر أي بالبراهين و الكتب إلا رجالا
نوحي إليهم و قيل إن في الكلام إضمارا و حذفا و التقدير أرسلناهم بالبينات كما قال
الأعشى : و ليس مجيرا أن أتى الحي خائف و لا قائلا إلا هو المتعيبا أي أعني
المتعيبا و نظير الأول قول الشاعر : نبأتهم عذبوا بالنار جارتهم و هل يعذب
إلا الله بالنار « و أنزلنا إليك الذكر » يعني القرآن « لتبين للناس ما نزل إليهم »
فيه من الأحكام و الشرائع و الدلائل على توحيد الله « و لعلهم يتفكرون » في ذلك
فيعلموا أنه حق و في هذا دلالة على أن الله تعالى أراد من جميعهم التفكر و النظر
المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقوله أهل الجبر . النظم قيل في اتصال
الآية الأولى بما قبلها وجوه ( أحدها ) أنها اتصلت بقوله « ليبين لهم الذي يختلفون
فيه » فيكون المعنى ليبين لهم و ليعلم الكافرين كونهم كاذبين و ليجزي المؤمنين
المهاجرين على ما فعلوه من الهجرة و قيل لما تقدم ذكر الكفار و ما أعد لهم من
الدمار و دخول النار عقبه بذكر المؤمنين المهاجرين و الأنصار تحريضا لغيرهم في
الاقتداء بهم فاتصل به اتصال النقيض بالنقيض و قيل إنه لما تقدم ذكر البعث بين بعده
حكم يوم البعث و أنه ينتصف فيه للمظلوم من الظالم .
مجمع البيان ج : 6 ص :
559
أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السيِّئَاتِ أَن يخْسِف اللَّهُ بهِمُ
الأَرْض أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَاب مِنْ حَيْث لا يَشعُرُونَ(45) أَوْ
يَأْخُذَهُمْ فى تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ(46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى
تخَوُّف فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ(47) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى مَا
خَلَقَ اللَّهُ مِن شىْء يَتَفَيَّؤُا ظِلَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشمَائلِ
سجَّداً لِّلَّهِ وَ هُمْ دَخِرُونَ(48) وَ للَّهِ يَسجُدُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا
فى الأَرْضِ مِن دَابَّة وَ الْمَلَئكَةُ وَ هُمْ لا يَستَكْبرُونَ(49) يخَافُونَ
رَبهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
القراءة
قرأ أ
و لم تروا بالتاء أهل الكوفة غير عاصم و الباقون بالياء و كذلك في العنكبوت و قرأ
أهل البصرة تتفيؤا بالتاء و الباقون بالياء . الحجة حجة الياء أن ما
قبله غيبة و هو قوله « أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم » « أو يأخذهم » « أ و لم
يروا » و من قرأ بالتاء أراد جميع الناس و التأنيث و التذكير في قوله « يتفيؤا
ظلاله » حسنان و قد تقدم ذكر ذلك في عدة مواضع . اللغة التخوف التنقص و
هو أن يأخذ الأول فالأول حتى لا يبقى منهم أحد و تلك حالة يخاف معها الفناء و يتخوف
الهلاك يقال تخوفه الدهر قال الشاعر : تخوف السير منها تامكا قردا كما تخوف
عود النبعة السفن أي ينقص السير سنامها بعد تموكه و قال آخر : تخوف عدوهم مالي
و أهدى سلاسل في الحلوق لها صليل قال الفراء تحوفته و تخوفته بالحاء و الخاء
إذا تنقصته من حافاته قال المبرد لا يقال تحوفته و إنما يقال تحيفته بالياء و
التفيؤ التفعل من الفيء يقال فاء الفيء يفيء إذا رجع و عاد بعد ما كان ضياء الشمس
نسخه و منه فيء المسلمين لما يعود عليهم وقتا بعد وقت من الخراج و الغنائم و يعدى
فاء بزيادة الهمزة نحو أفاء و بالتضعيف نحو فاء الظل و فيأه الله فتفيا و الفيء ما
نسخه ضوء الشمس و الظل ما كان قائما لم تنسخه الشمس قال الشاعر : فلا الظل من
برد الضحى تستطيعه و لا الفيء من برد العشي تذوق فجعل الظل وقت الضحى لأن الشمس
لم تنسخه في ذلك الوقت و جمع الفيء أفياء و فيوء قال :
مجمع البيان ج : 6 ص :
560
أرى المال أفياء الضلال فتارة يؤوب و أخرى يحبل المال حابلة و قال
النابغة الجعدي : فسلام الإله يغدو عليهم و فيوء الفردوس ذات الظلال و إنما
قال عن اليمين على التوحيد و الشمائل على الجمع لأنه أراد باليمين الأيمان كما قال
الشاعر : بفي الشامتين الصخر إن كان هدني رزية شبلي مخدر في الضراغم و
المعنى بأفواه و قال آخر : الواردون و تيم في ذري سبإ قد عض أعناقهم جلد
الجواميس و الداخر الخاضع الصاغر قال : فلم يبق إلا داخر في مخيس و منجحر
في غير أرضك في جحر . المعنى ثم أوعد سبحانه المشركين فقال « أ فأمن
الذين مكروا السيئات » فاللفظ لفظ الاستفهام و المراد به الإنكار و معناه أي شيء
أمن هؤلاء القوم الذين دبروا التدابير السيئة في توهين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و إطفاء نور الدين و إيذاء المؤمنين من « أن يخسف الله بهم الأرض »
من تحتهم عقوبة لهم كما خسف بقارون « أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون » قال ابن
عباس يعني يوم بدر و ذلك أنهم أهلكوا يوم بدر و ما كانوا يقدرون ذلك و لا يتوقعونه
« أو يأخذهم في تقلبهم » يعني أو أن يأخذهم العذاب في تصرفهم في أسفارهم و تجاراتهم
و قيل يريد في تقلبهم في كل الأحوال ليلا و نهارا فيدخل في هذا تقلبهم على الفرش
يمينا و شمالا عن مقاتل « فما هم بمعجزين » أي فليسوا بفائتين و ما يريده الله بهم
من الهلاك لا يمتنع عليه « أو يأخذهم على تخوف » قال أكثر المفسرين معناه على تنقص
إما بقتل أو بموت أي بنقص من أطرافهم و نواحيهم فيأخذ منهم الأول فالأول حتى يأتي
على جميعهم و قيل معناه في حال تخوفهم من العذاب أي يعذب أهل قرية و يخوف به
مجمع البيان ج : 6 ص : 561
أهل قرية أخرى فيتخوفون أن ينزل بهم من العذاب
ما نزل بالأولى عن الحسن و قيل معناه على تنقص من الأموال و الأنفس بالبلايا و
الأسقام إن لم يعذبهم بعذاب الاستئصال لينبه غيرهم و يزجرهم عن الجبائي « فإن ربكم
لرءوف رحيم » بكم و من رأفته و رحمته بكم أنه أمهلكم لتتوبوا و ترجعوا و لم يعاجلكم
بالعقوبة ثم بين سبحانه دلائل قدرته فقال « أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شيء »
معناه أ لم ينظروا هؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانية الله تعالى و كذبوا نبيه (صلى
الله عليهوآلهوسلّم) إلى ما خلق الله من شيء له ظل من شجر و جبل و بناء و جسم قائم
« يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله » أي يتميل ظلاله عن جانب اليمين و
جانب الشمال و أضاف الظلال إلى مفرد و معناه الإضافة إلى ذوي الظلال لأن الذي يعود
إليه الضمير واحد يدل على الكثرة و هو قوله ما خلق الله و معنى تفيؤ الظلال يمينا و
شمالا أن الشمس إذا طلعت و أنت متوجه إلى القبلة كان الظلال قدامك و إذا ارتفعت كان
عن يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك فهذا
تفيؤه عن اليمين و الشمائل عن الكلبي و معنى سجود الظل لله دورانه من جانب إلى جانب
لأنه مستسلم منقاد مطيع للتسخير و هذه الآية كقوله « و ظلالهم بالغدو و الآصال » و
قد مر تفسيره و قيل أن المراد بالظل هو الشخص بعينه و يدل على ذلك قول علقمة :
لما نزلنا رفعنا ظل أخبية و فار للقوم باللحم المراجيل أ لا ترى أنهم لا
ينصبون الظل و إنما ينصبون الأخبية و يقوي ذلك قول عمارة : كأنهن الفتيات اللعس
كان في أظلالهن الشمس أي في أشخاصهن و قول الآخر : يتبع أفياء الظلال عشية
على طرق كأنهن سيوف أي أفياء الشخوص فعلى هذا يكون تأويل الظلال في الآية تأويل
الأجسام التي عنها الظلال « و هم داخرون » أي أذلة صاغرون قد نبه الله بهذا على أن
جميع الأشياء تخضع له بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها و مدبرها بما
لولاه لبطلت و لم يكن لها قوام
مجمع البيان ج : 6 ص : 562
طرفة عين فهي في
ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع بذلة ثم قال سبحانه « و لله يسجد ما في
السماوات و ما في الأرض من دابة » أي يسجد لله جميع ما في السماوات و جميع ما في
الأرض و معنى من في قوله « من دابة » تبيين الصفة أي الذي هو دابة تدب على وجه
الأرض « و الملائكة » أي و تسجد له الملائكة و تخضع له بالعبادة و إنما خص الملائكة
بالذكر تشريفا لهم و لأن اسم الدابة يقع على ما يدب و يمشي و هم أولو الأجنحة فصفة
الطيران أغلب عليهم « و هم لا يستكبرون » عن عبادة الله تعالى و هذا من صفة
الملائكة لأنه قال « يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون » و إنما قال « من
فوقهم » لوجهين ( أحدهما ) أن المراد يخافون عقاب ربهم و أكثر ما يأتي العقاب
المهلك إنما يأتي من فوق ( و الآخر ) أن الله سبحانه لما كان موصوفا بأنه عال متعال
بمعنى أنه قادر على الكمال حسن أن يقال من فوقهم ليدل على أنه في أعلى مراتب
القادرين و على هذا معنى قول ابن عباس في رواية مجاهد قال ذلك مخافة الإجلال و
اختاره الزجاج فقال يخافون ربهم خوف معظمين مجلين و مثله في المعنى قوله « و هو
القاهر فوق عباده و قوله إخبارا عن فرعون « و إنا فوقهم قاهرون » و ذهب بعضهم إلى
أن قوله « من فوقهم » من صفة الملائكة و المعنى أن الملائكة من فوق بني آدم و فوق
ما في الأرض من دابة يخافون الله مع علو رتبتهم فلأن يخافه من دونهم أولى و قد صح
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال أن لله تعالى ملائكة في السماء السابعة
سجودا منذ خلقهم إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله تعالى لا تقطر من
دموعهم قطرة إلا صارت ملكا فإذا كان يوم القيامة رفعوا رءوسهم و قالوا ما عبدناك حق
عبادتك أورده الكلبي في تفسيره .
مجمع البيان ج : 6 ص : 563
* وَ قَالَ
اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَينِ اثْنَينِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ فَإِيَّى
فَارْهَبُونِ(51) وَ لَهُ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ وَاصِباً
أَ فَغَيرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ(52) وَ مَا بِكُم مِّن نِّعْمَة فَمِنَ اللَّهِ
ثُمَّ إِذَا مَسكُمُ الضرُّ فَإِلَيْهِ تجْئَرُونَ(53) ثُمَّ إِذَا كَشف الضرَّ
عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكم بِرَبهِمْ يُشرِكُونَ(54) لِيَكْفُرُوا بِمَا
ءَاتَيْنَهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسوْف تَعْلَمُونَ(55)
اللغة وصب الشيء وصوبا
إذا دام و وصب الدين وجب و قال أبو الأسود : لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
يوما بذم الدهر أجمع واصبا و الوصب الألم الذي يكون عن الإعياء بدوام العمل مدة
قال : لا يغمز الساق من أين و من وصب و لا يعض على شرسوفه الصفر و الجؤار
الاستغاثة برفع الصوت و يقال جار الثور يجار جؤارا إذا رفع صوته من جوع أو غيره قال
الأعشى : و ما أيبلي على هيكل بناه و صلب فيه و صارا يراوح من صلوات
المليك طورا سجودا و طورا جؤارا و بناء الأصوات على فعال و فعيل نحو الصراخ و
البكاء و العويل و الصفير و الفعال أكثر . الإعراب ذكر اثنين توكيدا
لقوله « إلهين » كما ذكر الواحد في قوله « إله واحد » « واصبا » نصب على الحال و ما
بكم موصول و صلة في موضع الرفع بالابتداء و دخلت الفاء في خبره و هو قوله « فمن
الله » تقديره فهو من الله و لا فعل هاهنا لأن قوله « بكم » قد تضمن معنى الفعل
فإنه بمعنى و ما حل بكم من نعمة . المعنى لما بين سبحانه دلائل قدرته و
إلهيته عقبه بالتنبيه على وحدانيته فقال « و قال الله لا تتخذوا إلهين اثنين » أي
لا تعبدوا مع الله إلها آخر فتشركوا بينهما في العبادة لأنه لا يستحق العبادة سواه
و ذكر اثنين كما يقال فعلت ذلك لأمرين اثنين و قيل إن تقديره لا تتخذوا اثنين إلهين
يريد به نفسه و غيره « إنما هو إله واحد » و إنما لإثبات المذكور و نفي ما عداه
فكأنه قال هو إله واحد لا إله غيره « فإياي فارهبون » أي ارهبوا أعقابي و سطواتي و
لا تخشوا غيري و ورد عن بعض الحكماء أنه قال نهاك ربك أن تتخذ إلهين فاتخذت آلهة
عبدت نفسك و هواك و دنياك و طبعك و مرادك و عبدت الخلق فإني تكون موحدا « و له ما
في السماوات و الأرض » ملكا و ملكا و خلقا « و له الدين واصبا » أي و له الطاعة
دائمة واجبة على الدوام عن ابن عباس و الحسن و مجاهد و قتادة و معناه أنه سبحانه
الذي يعبد دائما و غيره
مجمع البيان ج : 6 ص : 564
إنما يعبد في وقت دون
وقت و قيل معناه و له الدين خالصا عن الفراء أي يجب على العبد أن يطيعه مخلصا و قيل
معناه و له الملك دائما لا يزول « أ فغير الله تتقون » أي أ فغير الله تخشون و هو
استفهام فيه معنى التوبيخ أي فكيف تعبدون غيره و لا تتقونه « و ما بكم من نعمة فمن
الله » معناه أن جميع ما بكم و ما لكم من النعم مثل الصحة في الجسم و السعة في
الرزق و نحوهما فكل ذلك من عند الله و من جهته « ثم إذا مسكم الضر » مثل المرض و
الشدة و البلاء و سوء الحال « فإليه تجئرون » أي فإليه تتضرعون في كشفه و إليه
ترفعون أصواتكم بالدعاء و الاستغاثة لصرفه « ثم إذا كشف الضر عنكم » معناه ثم إذا
دفع ما حل بكم من الضر و دفع ما مسكم من المرض و الفقر « إذا فريق منكم بربهم
يشركون » أي دعا طائفة منكم إلى الشرك بربهم في العبادة جهلا منهم بربهم و مقابلة
لنعمه بالكفران و العصيان و هذا عجب من فعل العاقل المميز « ليكفروا بما آتيناهم »
معنى اللام هاهنا هو البيان عن العلة التي لأجلها وقع الفعل و المعنى أنهم بمنزلة
من أشرك في عبادة ربه ليكفر بما آتاه من النعمة كأنه كان لا غرض له في شركه إلا هذا
و المعنى لأن يكفروا بإنعامنا عليهم و رزقنا إياهم و قيل إن اللام للأمر على وجه
التحديد أي ليفعلوا ما شاءوا فإنه ينزل الله بهم عاقبة كفرهم و يوافق هذا القول ما
رواه مكحول عن أبي رافع قال حفظت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيمتعوا
فسوف يعلمون بالياء فيهما فإن يمتعوا يكون معطوفا مجزوما و يجوز أيضا أن يكون
معطوفا منصوبا و المعنى لأن يكفروا فيمتعوا فقوله « فتمتعوا فسوف تعلمون » يكون
ابتداء خطاب لهم على التهديد و الوعيد يقول فتمتعوا أيها الكفار في الدنيا قليلا
فسوف تعلمون ما يحل بكم في العاقبة من العقاب و أليم العذاب و حذف لدلالة الكلام
عليه .
مجمع البيان ج : 6 ص : 565
وَ يجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ
نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَهُمْ تَاللَّهِ لَتُسئَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ
تَفْترُونَ(56) وَ يجْعَلُونَ للَّهِ الْبَنَتِ سبْحَنَهُ وَ لَهُم مَّا
يَشتهُونَ(57) وَ إِذَا بُشرَ أَحَدُهُم بِالأُنثى ظلَّ وَجْهُهُ مُسوَدًّا وَ هُوَ
كَظِيمٌ(58) يَتَوَرَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سوءِ مَا بُشرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى
هُون أَمْ يَدُسهُ فى الترَابِ أَلا ساءَ مَا يحْكُمُونَ(59) لِلَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ مَثَلُ السوْءِ وَ للَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلى وَ هُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(60)
اللغة يقال ظل يفعل كذا إذا فعله في صدر النهار
و يقال ظللت أظل ظلولا و مثله أضحى غير أنه كثر حتى صار بمنزلة أخذ يفعل و الكظيم
المغموم الذي يطبق فاه لا يتكلم للغم الذي به مأخوذ من الكظامة و هي اسم لما يشد به
فم القربة و الكظامة أيضا العقب على رءوس القذذ و الكظامة أيضا البئر و منه الحديث
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أتى كظامة فتوضأ و مسح على قدميه و جمعها كظائم
و الهون الهوان و المشقة و هي لغة قريش قال الحطيئة : فلما خشيت الهون و العين
ممسك على رغمه ما أثبت الخيل حافره و دسست الشيء في التراب أدسه إذا أخفيته و
الدساسة حية صماء تندس تحت التراب . الإعراب « و لهم ما يشتهون » إن
شئت جعلت ما في موضع نصب بمعنى يجعلون لهم البنين الذين يشتهون هم و يكون قوله
سبحانه اعتراضا بين المعطوف و المعطوف عليه و إن شئت جعلته في موضع رفع على
الاستئناف فيكون مرفوعا على الابتداء و لهم خبره أو مرفوعا على أن الظرف عمل فيه
على ما ذكرنا من الاختلاف فيه فيما مضى و الهاء في يمسكه يعود إلى قوله « ما بشر به
» فلذلك ذكر و قيل معناه و يجعلون للأصنام الذين لا يعلمون و لا يجعلون نصيبا من
الأنعام و الزرع فكني عن لفظة ما في قوله « لما لا يعلمون » بالواو لأنهم جعلوا
الأصنام هنا بمنزلة العقلاء عن أبي علي الفارسي و قال أيضا يجوز أن يكون تقديره و
يجعلون لما لا يعلمونه إلها نصيبا و يكون الضميران في يجعلون و يعلمون للمشركين و
حذف المفعولان . المعنى ثم ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالا
على جهلهم فقال « و يجعلون لما لا يعلمون » و الواو في يعلمون تعود إلى المشركين أي
لما لا يعلمون أنه يضر و ينفع « نصيبا مما رزقناهم » يتقربون بذلك إليه كما يجب أن
يتقرب إلى الله تعالى و هو ما حكى الله عنهم في سورة الأنعام من الحرث و غير ذلك و
قولهم هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا عن مجاهد و قتادة و ابن زيد ثم أقسم تعالى
فقال « تالله لتسئلن » في الآخرة « عما كنتم تفترون » أي تكذبون به في دار الدنيا
لتلتزموا به الحجة و تعاقبوا بعد اعترافكم على أنفسكم ثم ذكر سبحانه نوعا آخر من
جهالاتهم فقال « و يجعلون لله البنات » أي و يثبتون لله البنات و يضيفون إليه
البنات و هو قولهم الملائكة بنات الله كما قال سبحانه و جعلوا الملائكة
مجمع
البيان ج : 6 ص : 566
الذين هم عباد الرحمن إناثا ثم نزه سبحانه نفسه عما قالوا
فقال « سبحانه » أي تنزيها له عن اتخاذ البنات « و لهم ما يشتهون » أي و يجعلون
لأنفسهم ما يشتهون و يحبونه من البنين دون البنات و على الوجه الآخر و لهم ما
يحبونه يعني البنين « و إذا بشر أحدهم بالأنثى » أي و إذا بشر واحد منهم بأنه ولد
له بنت « ظل وجهه مسودا » أي صار لون وجهه متغيرا إلى السواد لما يظهر فيه من أثر
الحزن و الكراهة فقد جعلوا لله ما يكرهونه لأنفسهم و هذا غاية الجهل « و هو كظيم »
أي ممتلىء غيظا و حزنا « يتوارى من القوم من سوء ما بشر به » يعني أن هذا الذي بشر
بالبنت يستخفي من القوم الذين يستخبرونه عما ولد له استنكافا منه و خجلا و حياء من
سوء ما بشر به من الأنثى و قبحه عنده « أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب » يعني
يميل نفسه و يدبر في أمر البنت المولودة له أ يمسكه على ذل و هوان أم يخفيه في
التراب و يدفنه حيا و هو الوأد الذي كان من عادة العرب و هو أن أحدهم كان يحفر
حفيرة صغيرة و إذا ولد له أنثى جعلها فيها و حثا عليها التراب حتى تموت تحته و
كانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الأكفاء فيهن « ألا ساء ما يحكمون »
أي بئس الحكم ما يحكمونه و هو أن يجعلوا لنفوسهم ما يشتهون و لله ما يكرهون و قيل
معناه ساء ما يحكمونه في قتل البنات مع مساواتهن للبنين في حرمة الولادة و لعل
الجارية خير من الغلام و روي عن ابن عباس أنه قال لو أطاع الله الناس في الناس لما
كان الناس لأنه ليس أحد إلا و يحب أن يولد ذكر و لو كان الجميع ذكورا لما كان لهم
أولاد فيفنى الناس ثم قال سبحانه « للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل
الأعلى » أي لهؤلاء الكفار الذين وصف الله بالولد صفة السوء أي الصفة القبيحة التي
هي سواد الوجه و الحزن و لله الصفة العليا من السلطان و القدرة و قيل له صفات النقص
من الجهل و الكفر و الضلال و العمى و صفة الحدوث و الضعف و العجز و الحاجة إلى
الأبناء و قتل البنات خوف الفقر و لله صفات الإلهية و الاستغناء عن الصاحبة و الولد
و الربوبية و إخلاص التوحيد و يسأل فيقال كيف يمكن الجمع بين قوله سبحانه و تعالى «
و لله المثل الأعلى » و قوله فلا تضربوا لله الأمثال و الجواب أن المراد بالأمثال
هناك الأشباه أي لا تشبهوا الله بشيء و المراد بالمثل الأعلى هنا الوصف الأعلى الذي
هو كونه قديما قادرا عالما حيا ليس كمثله شيء و قيل إن المراد بقوله « المثل الأعلى
» المثل المضروب بالحق و بقوله فلا تضربوا لله الأمثال الأمثال المضروبة بالباطل «
و هو العزيز » أي القادر الذي لا يمتنع عليه شيء « الحكيم » الذي يضع الأشياء
مواضعها على ما هو حكمة و صواب و في الآية دلالة على أنه لا يضاف إلى الله تعالى
الأدون فإن الله سبحانه قد عاب المشركين بإضافتهم إليه ما لا يرضونه لأنفسهم فإذا
كره الإنسان إضافة القبيح إلى نفسه للنقص الذي فيه فكيف يجوز أن
مجمع البيان ج
: 6 ص : 567
يضيفه إلى الله تعالى . وَ لَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاس
بِظلْمِهِم مَّا تَرَك عَلَيهَا مِن دَابَّة وَ لَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَل
مُّسمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَستَئْخِرُونَ ساعَةً وَ لا
يَستَقْدِمُونَ(61) وَ يجْعَلُونَ للَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَ تَصِف أَلْسِنَتُهُمُ
الْكَذِب أَنَّ لَهُمُ الحُْسنى لا جَرَمَ أَنَّ لهَُمُ النَّارَ وَ أَنهُم
مُّفْرَطونَ(62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسلْنَا إِلى أُمَم مِّن قَبْلِك فَزَيَّنَ
لهَُمُ الشيْطنُ أَعْمَلَهُمْ فَهُوَ وَلِيهُمُ الْيَوْمَ وَ لهَُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ(63) وَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْك الْكِتَب إِلا لِتُبَينَ لهَُمُ الَّذِى
اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةً لِّقَوْم يُؤْمِنُونَ(64) وَ اللَّهُ
أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا إِنَّ فى
ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْم يَسمَعُونَ(65)
القراءة قرأ نافع و قتيبة عن
الكسائي مفرطون ساكنة الفاء مكسورة الراء خفيفة و قرأ أبو جعفر (عليه السلام)
مفرطون مفتوحة الفاء مكسورة الراء مشددة و الباقون « مفرطون » ساكنة الفاء مفتوحة
الراء خفيفة و روي عن الأعرج بفتح الراء و تشديده . الحجة قال الزجاج
أما تفسير « مفرطون » فجاء عن ابن عباس متروكون و قيل معجلون و معنى الفرط في اللغة
التقدم و قد فرط مني قول أي تقدم فمعنى مفرطون مقدمون إلى النار و كذلك مفرطون
بالتشديد و من فسر متروكون فهو كذلك أي قد جعلوا مقدمين في العذاب أبدا متروكين فيه
و من قرأ مفرطون فالمعنى أنه وصفهم الله بأنهم فرطوا في الدنيا و لم يعملوا فيها
للآخرة و تصديقه قوله يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله و من قرأ مفرطون فالمراد
مجمع البيان ج : 6 ص : 568
أنهم أفرطوا في معصية الله كما تقول أفرط فلان
في مكروهي و تأويله أنه آثر العجز و قدمه قال أبو علي و كأنه من أفرط أي صار ذا فرط
مثل أقطف و أجرب فهو مقطف و مجرب فمعناه أنهم ذوو فرط إلى النار و سبق إليها .
الإعراب الكذب مفعول تصف و « أن لهم الحسنى » بدل من الكذب و تقديره و
تصف ألسنتهم أن لهم الحسنى أي تصفون أن لهم مع هذا الفعل القبيح الجزاء الحسن و «
أن لهم النار » في موضع نصب بجرم و المعنى جرم فعلهم هذا أي كسب أن لهم النار و قيل
أن أن في موضع رفع عن قطرب قال معناه أنه وجب أن لهم النار و أنهم مفرطون فيها «
لتبين لهم » أي لأن تبين لهم الجار و المجرور في محل النصب بأنه مفعول له و كذلك
قوله « و هدى و رحمة » و كلاهما معطوف على ما قبله بأنه مفعول له أيضا أي أنزلنا
عليك الكتاب بيانا و هدى و رحمة قال الزجاج و يجوز في هذا الموضع و هدى و رحمة
بالرفع فيكون المعنى و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا للبيان و هو مع ذلك هدى و رحمة .
المعنى « و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة » أخبر
سبحانه أنه لو كان ممن يؤاخذ الكفار و العصاة بذنوبهم و يعاجلهم بالعقوبة لما ترك
على وجه الأرض أحدا ممن يستحق ذلك من الظالمين و إنما قال عليها و لم يجر ذكر للأرض
في الظاهر لأن الكلام يدل عليه فإن العلم حاصل بأن الناس يكونون على ظهر الأرض و
مثله كثير في محاورات العرب يقولون ما بين لابتيها مثل فلان يعنون المدينة و أصبحت
باردة يريدون الغداة إذ اللابتان بالمدينة و الإصباح لا يكون إلا غدوة و قوله « و
لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى » أي يمهلهم إلى وقت معلوم مسمى و هو يوم القيامة و قيل
إلى وقت يعلمه الله تعالى أنه لا يكون في بقائهم فيه مصلحة لأنهم لا يؤمنون و لا
يخرج من نسلهم مؤمن و إنما يؤخرهم تفضلا منه سبحانه ليراجعوا التوبة أو لما في ذلك
من المصلحة و اختلف أهل العدل في من المعلوم من حاله أنه لا يؤمن فيما بعد هل يجوز
اخترامه فقال بعضهم يجوز لأن التكليف تفضل فلا تجب التبقية و هو قول أبي هاشم و
إليه ذهب المرتضى قدس الله روحه و قال آخرون لا يجوز اخترامه و يجب تبقيته و هو قول
البلخي و أبي علي الجبائي و إن اختلفا في علته فقال الجبائي لأنه مفسدة و قال
البلخي لأنه الأصلح و إليه ذهب الشيخ المفيد أبو عبد الله و قيل إن معنى الآية لو
يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم حتى تهلك كل دابة عن السدي و عكرمة سؤال متى قيل
إن المكلف الظالم يستحق العقوبة بظلمه فما بال الحيوانات تؤخذ بغير جرم فجوابه أن
العذاب للظالم عقوبة و لغير الظالم عبرة و محنة فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء و
غير
مجمع البيان ج : 6 ص : 569
المكلفين فيعوضون عنها و قيل معناه لو هلك
الآباء بكفرهم لم يوجد الأبناء و قيل إنه إذا هلك الظلمة و لم يبق مكلف لا يبقى
غيرهم من الحيوانات لأنها إنما خلقت للمكلفين فلا فائدة في بقائها بعدهم « فإذا جاء
أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون » قد سبق معناه فيما مضى ثم حكى سبحانه عن
الكفار فقال « و يجعلون لله ما يكرهون » يعني البنات أي يحكمون لله بما يكرهونه
لأنفسهم « و تصف ألسنتهم الكذب » أي و تخبر ألسنتهم بالكذب و هو ما يقولون « أن لهم
الحسنى » و هي البنون عن مجاهد و قيل معناه تصفون أن لهم مع قبيح قولهم من الله
الجزاء الحسن و المثوبة الحسنى و هي الجنة عن الزجاج و غيره فإن المشركين كانوا
يقولون إن كان ما يقوله محمد من أمر البعث و الآخرة حقا فنحن من أهل الجنة و روي عن
معاذ أنه قرأ و تصف ألسنتهم الكذب بضم الذال و الباء فعلى هذا يكون الكذب وصفا
للألسنة جمع كاذب أو كذوب ثم رد سبحانه قولهم فقال « لا جرم أن لهم النار » أي ليس
الأمر على ما وصفوا جرم فعلهم و قولهم أي كسب أن لهم النار و المفسرون يقولون معناه
حقا أن لهم النار أو لا بد أن لهم النار « و أنهم مفرطون » أي مقدمون أي معجلون إلى
النار ثم أقسم سبحانه فقال « تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك » يا محمد « فزين
لهم الشيطان أعمالهم » أي كفرهم و ضلالهم و تكذيبهم الرسل « فهو وليهم اليوم »
معناه إن الشيطان وليهم اليوم في الدنيا يتولونه و يتبعون إغواءه فأما يوم القيامة
فيتبرأ بعضهم من بعض عن أبي مسلم و قيل معناه فهو وليهم يوم القيامة أي يكلهم الله
تعالى إلى الشيطان أياسا لهم من رحمته « و لهم عذاب أليم » أي و للتابع و المتبوع
عذاب مؤلم وجيع ثم بين سبحانه أنه قد أقام الحجة و أزاح العلة و أوضح المحجة فقال «
و ما أنزلنا عليك » يا محمد « الكتاب » أي القرآن « إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه
» معناه إلا و قد أردنا منك أن تكشف لهم ما اختلفوا فيه من دلالة التوحيد و العدل و
تبين لهم الحلال و الحرام « و هدى » أي و أنزلناه دلالة على الحق « و رحمة لقوم
يؤمنون » ثم أخبر سبحانه عن نعمته على خلقه فقال « و الله أنزل من السماء ماء » أي
غيثا و مطرا « فأحيا به » أي بذلك الماء « الأرض بعد موتها » أحياها بالنبات بعد
جدوبها و قحطها « إن في ذلك لآية » أي حجة و دلالة « لقوم يسمعون » أي يستصغون أدلة
الله و يتفكرون فيها و يعتبرون بها . وَ إِنَّ لَكمْ فى الأَنْعَمِ لَعِبرَةً
نُّسقِيكم مِّمَّا فى بُطونِهِ مِن بَينِ فَرْث وَ دَم لَّبَناً خَالِصاً سائغاً
لِّلشرِبِينَ(66) وَ مِن ثَمَرَتِ النَّخِيلِ وَ الأَعْنَبِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ
سكراً وَ رِزْقاً حَسناً إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْم يَعْقِلُونَ(67) وَ
أَوْحَى رَبُّك إِلى النَّحْلِ أَنِ اتخِذِى مِنَ الجِْبَالِ بُيُوتاً وَ مِنَ
الشجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشونَ(68) ثمَّ كلِى مِن كلِّ الثَّمَرَتِ فَاسلُكِى سبُلَ
رَبِّكِ ذُلُلاً يخْرُجُ مِن بُطونِهَا شرَابٌ مخْتَلِفٌ أَلْوَنُهُ فِيهِ شِفَاءٌ
لِّلنَّاسِ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَةً لِّقَوْم يَتَفَكَّرُونَ(69) وَ اللَّهُ
خَلَقَكمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنكم مَّن يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ
لِكَىْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْم شيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(70)
مجمع البيان ج : 6 ص : 570
القراءة قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر
عن عاصم و يعقوب و سهل نسقيكم بفتح النون هاهنا و في المؤمنين و الباقون « نسقيكم »
بضمها في الموضعين و قرأ أبو جعفر في المؤمنين تسقيكم بالتاء . الحجة
قيل بين سقيت و أسقيت فرق و هو أن سقيته معناه ناولته ليشرب و أسقيته معناه
جعلت له ماء يشربه و قيل سقيته ماء و أسقيته سألت الله أن يسقيه و عليه بيت ذي
الرمة : و أسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره و ملاعبه و قيل إذا سقاه
مرة يقول سقيته و إذا سقاه دائما يقال أسقيته عن أبي عبيدة و قيل هما بمعنى واحد و
استدل ببيت لبيد : سقى قومي بني مجد و أسقي نميرا و القبائل من هلال فإنه
أتى باللغتين . اللغة العبرة و العظة من النظائر و هو ما يعتبر به و
الفرث الثفل الذي ينزل إلى الكرش
مجمع البيان ج : 6 ص : 571
و ساغ الطعام
في الحلق و سوغته و أسغته . السكر في اللغة على أربعة أوجه ( الأول ) ما أسكر
من الشراب ( و الثاني ) ما طعم من الطعام قال الشاعر : جعلت عيب الأكرمين سكرا
أي أعلت ذمهم طعما لك ( و الثالث ) السكون و منه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر :
و ليست بطلق و لا ساكرة و يقال سكرت الريح سكنت قال : و جعلت عين الحرور
تسكر ( و الرابع ) المصدر من قولك سكر سكرا و منه التسكير التحيير في قوله سكرت
أبصارنا و الذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل و رجل ذلول بين الذل و الذلة و
الرذل الدون الرديء و كذلك الرذال يقال رذل الشيء يرذل رذالة و أرذلته أنا .
الإعراب الهاء في بطونه إلى ما ذا يعود اختلف فيه فقيل إن الأنعام جمع
و الجمع يذكر و يؤنث فجاء هاهنا على لغة من يذكر و جاء في سورة المؤمنين على لغة من
يؤنث و قيل إنه رد على واحد الأنعام و أنشد للراجز : و طاب ألبان اللقاح فبرد
رده إلى اللبن عن الفراء و قيل إن الأنعام و النعم سواء فحمل على المعنى كما قال
الصلتان العبدي : إن السماحة و المروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
فكأنه قال شيئان ضمنا و قال الأعشى : فإن تعهديني و لي لمة فإن الحوادث
أودي بها حمله على الحدثان و يجوز أن يكون التقدير نسقيكم مما في بطون المذكور و
قيل إن من يدل على التبعيض فكأنه قال نسقيكم مما في بطون بعض الأنعام لأنه ليس
لجميعها لبن و قوله « تتخذون منه » الضمير في منه إلى ما ذا يعود فيه وجهان ( أحدها
) أنه يعود إلى المذكور ( و الثاني ) أنه يعود إلى معنى الثمرات لأن الثمرات و
الثمر سواء و كذا الهاء في قوله « فيه شفاء للناس » قيل يعود إلى الشراب و هو العسل
و قيل يعود إلى القرآن فإذا عاد الضمير إلى الشراب ارتفع شفاء بالظرف على المذهبين
و تقديره شراب ثابت فيه شفاء و إذا عاد الضمير إلى القرآن ففي رفع شفاء خلاف فإن
الظرف لم يجر على مذكور قبله ، « لكيلا يعلم بعد علم
مجمع البيان ج : 6 ص : 572
شيئا » إن نصبت شيئا بعلم و هو مذهب سيبويه كنت قد أعملت الثاني و أضمرت
المفعول في يعلم على شريطة التفسير و إن أعملت يعلم و هو مذهب الفراء أضمرت لعلم
مفعولا و فصلت بين المعمول و العامل فجمعت بين مجازين بخلاف مذهب سيبويه .
المعنى ثم عطف سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد و عجائب الصنعة و
بدائع الحكمة بقوله « و إن لكم في الأنعام » يعني الإبل و البقر و الغنم « لعبرة »
أي لعظة و اعتبارا و دلالة على قدرة الله تعالى « نسقيكم مما في بطونه من بين فرث و
دم لبنا خالصا » و روى الكلبي عن ابن عباس قال إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله
فرثا و أعلاه دما و وسطه لبنا فيجري الدم في العروق و اللبن في الضرع و يبقى الفرث
كما هو فذلك قوله « من بين فرث و دم لبنا خالصا » لا يشوبه الدم و لا الفرث « سائغا
للشاربين » أي جائزا في حلوقهم و الكبد مسلطة على هذه الأصناف فيقسمها على الوجه
الذي اقتضاه التدبير الإلهي بين سبحانه لمن ينكر البعث أن من قدر على إخراج لبن
أبيض سائغ من بين الفرث و الدم من غير أن يختلط بهما قادر على إخراج الموتى من
الأرض من غير أن يختلط شيء من أبدانهم بأبدان غيرهم ثم قال « و من ثمرات النخيل و
الأعناب تتخذون منه سكرا » قيل معناه و لكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات
النخيل و الأعناب عن الحسن و قيل معناه من ثمرات النخيل و الأعناب ما تتخذون منه
سكرا و العرب تضمر ما الموصولة كثيرا قال سبحانه و إذا رأيت ثم رأيت نعيما أي ما ثم
و قيل إن تقديره و من ثمرات النخيل و الأعناب شيء تتخذون منه سكرا « و رزقا حسنا »
فحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه و الأعناب عطف على الثمرات أي و من الأعناب شيء
تتخذون سكرا و هو كل ما يسكر من الشراب كالخمر . و الرزق الحسن ما أحل منهما
كالخل و الزبيب و الرب و الرطب و التمر عن ابن مسعود و ابن عباس و سعيد بن جبير و
الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم و روى الحاكم في صحيحه بالإسناد عن ابن عباس أنه سئل
عن هذه الآية فقال السكر ما حرم من ثمرها و الرزق الحسن ما أحل من ثمرها قال قتادة
نزلت الآية قبل تحريم الخمر و نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة قال أبو مسلم و
لا حاجة إلى ذلك سواء كان الخمر حراما أم لم يكن لأنه تعالى خاطب المشركين و عدد
إنعامه عليهم بهذه الثمرات و الخمر من أشربتهم فكانت نعمة عليهم و قيل إن المراد
بالسكر ما يشرب من أنواع الأشربة مما يحل و الرزق الحسن ما يؤكل و الحسن اللذيذ عن
الشعبي و الجبائي فالمعنى تتخذون منه أصنافا من الأشربة و الأطعمة و قد أخطأ من
تعلق بهذه الآية في تحليل النبيذ لأنه سبحانه إنما أخبر عن فعل كانوا يتعاطونه فأي
رخصة في هذا اللفظ و الوجه فيه أنه سبحانه أخبر أنه خلق هذه الثمار لينتفعوا بها
فاتخذوا منها ما هو محرم عليهم و لا فرق بين قوله هذا
مجمع البيان ج : 6 ص :
573
و بين قوله تتخذون أيمانكم دخلا بينكم « إن في ذلك لآية » أي دلالة ظاهرة «
لقوم يعقلون » عن الله تعالى ذلك و يتفكرون فيه بين الله سبحانه بذلك أنكم تستخرجون
من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به فكذلك الله يستلخص ما تبدد من الميت مما
هو مختلط به من التراب « و أوحى ربك إلى النحل » أي ألهمها إلهاما عن الحسن و ابن
عباس و مجاهد و قيل جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله عن غيرها عن الحسن قال أبو
عبيدة الوحي في كلام العرب على وجوه منها وحي النبوة و منها الإلهام و منها الإشارة
و منها الكتاب و منها الإسرار فوحي النبوة في قوله أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه و
الإلهام في قوله « و أوحى ربك إلى النحل » و « أوحينا إلى أم موسى » و الإشارة في
قوله فأوحى إليهم أن سبحوا قال مجاهد معناه أشار إليهم و قال الضحاك كتب لهم و
الإسرار في قوله يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا و أصل الوحي عند العرب أن
يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار و الإخفاء و أما ما روي عن ابن عباس أنه قال
لا وحي إلا القرآن فإن المراد به أن القرآن هو الوحي الذي نزل به جبرائيل على محمد
(صلى الله عليه وآله وسلّم) دون أن يكون أنكر ما قلناه و يقال أوحي له و أوحي إليه
قال العجاج : أوحي لها القرار فاستقرت و المعنى أن الله تعالى ألهم النحل اتخاذ
المنازل و المساكن و الأوكار و البيوت في الجبال و الشجر و غير ذلك و تقديره « أن
اتخذي من الجبال بيوتا » للعسل و لا يقدر على مثلها أحد « و من الشجر و مما يعرشون
» أي و من الكرم لأنه الذي يعرش و يتخذ منه العريش و فيه لغتان يعرشون و يعرشون بضم
الراء و كسرها و قد قرىء بهما و قيل معنى يعرشون يبنون و العرش سقف البيت عن الكلبي
و المعنى ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسل فيها و لو لا إلهام الله إياها ما
كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها و إنما أتى بلفظ الأمر و إن كانت النحل لا تعقل
الأمر و لا تكون مأمورة لأنه لما أتى بلفظ الوحي أجري عليه لفظ الأمر اتساعا « ثم
كلي من كل الثمرات » أي من أنواع الثمرات من أي ثمرة شئت « فاسلكي سبل ربك » أي
فادخلي سبل ربك التي جعلها الله لك « ذللا » أي مذللة موطأة للسلوك واسعة يمكن
سلوكها فيكون قوله « ذللا » صفة للسبل و هي منصوبة على الحال و هو قول مجاهد و قيل
ذللا أي مطيعة لله منقادة مسخرة و يكون من صفة النحل عن قتادة « يخرج من بطونها
شراب مختلف ألوانه » و هو العسل فإن ألوانه مختلفة لأن منه ما هو شديد البياض و منه
ما هو أصفر و منه ما يضرب إلى الحمرة و ذلك أن النحل تتناول ألوانا مختلفة من
النبات و الزهر فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة يخرج من بطونها إلا أنها
تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم ابن
مجمع البيان ج : 6 ص : 574
آدم و إنما قال سبحانه « من بطونها » و لم يقل من فيها لئلا يظن أنها تلقيه من
فيها و لم يخرج من بطنها « فيه شفاء للناس » من الأدواء عن قتادة و روي عن عبد الله
بن مسعود أنه قال عليكم بالشفاءين القرآن و العسل و قيل معناه فيه شفاء للأوجاع
التي شفاؤها فيه عن السدي و الحسن و روي عن مجاهد أن الهاء في فيه راجعة إلى القرآن
أي القرآن فيه شفاء للناس يعني ما فيه من الحلال و الحرام و الفتيا و الأحكام و
الأول قول أكثر المفسرين و هو الأقوى إذ لم يسبق للقرآن ذكر و في النحل و العسل
وجوه من الاعتبار منها اختصاصه بخروج العسل من فيه و منها جعل الشفاء من موضع السم
فإن النحل يلسع و منها ما ركب الله من البدائع و العجائب فيه و في طباعه و من
أعجبها أن جعل سبحانه لكل فئة يعسوبا هو أميرها يقدمها و يحامي عنها و يدبر أمرها و
يسوسها و هي تتبعه و تقتفي أثره و متى فقدته انحل نظامها و زال قوامها و تفرقت شذر
مذر و إلى هذا المعنى فيما قال أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله أنا يعسوب
المؤمنين « إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون » معناه إن فيما ذكرناه من بدائع صنع الله
تعالى دلالة بينة لمن تفكر فيه ثم بين نعمته علينا في خلقنا و أخرجنا من العدم إلى
الوجود فقال « و الله خلقكم » أي أوجدكم و أنعم عليكم بضروب النعم الدينية و
الدنيوية « ثم يتوفاكم » و يقبضكم أي يميتكم « و منكم من يرد إلى أرذل العمر » أي
أدون العمر و أوضعه أي يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم و الخرف فيظهر النقصان في
جوارحه و حواسه و عقله و رووا عن علي (عليه السلام) أن أرذل العمر خمس و سبعون سنة
و روي في مثل ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) و عن قتادة تسعون سنة « لكيلا
يعلم بعد علم شيئا » أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان ما كان علمه لأجل الكبر
فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه و قيل ليقل علمه بخلاف ما كان عليه في حال شبابه «
إن الله عليم » بمصالح عباده « قدير » على ما يشاء من تدبيرهم و تقدير أحوالهم .
مجمع البيان ج : 6 ص : 575
وَ اللَّهُ فَضلَ بَعْضكمْ عَلى بَعْض فى
الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضلُوا بِرَادِّى رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكت
أَيْمَنهُمْ فَهُمْ فِيهِ سوَاءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يجْحَدُونَ(71) وَ
اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكمْ أَزْوَجاً وَ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَجِكم
بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُم مِّنَ الطيِّبَتِ أَ فَبِالْبَطِلِ يُؤْمِنُونَ
وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ(72) وَ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا
لا يَمْلِك لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ شيْئاً وَ لا
يَستَطِيعُونَ(73) فَلا تَضرِبُوا للَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ
أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(74)
القراءة قرأ أبو بكر عن عاصم تجحدون بالتاء و
الباقون بالياء . الوجه الوجه في القراءة بالياء أنه يراد به غير
المسلمين لأنه لا يخاطب المسلم بجحود نعم الله و الوجه في القراءة بالتاء قل لهم أ
فبنعمة الله التي تقدم اقتصاصها تجحدون و يقوي الياء قوله « و بنعمة الله هم يكفرون
» . اللغة الحفدة جمع حافد و أصل الحفد الإسراع في العمل و منه ما جاء
في الدعاء و إليك نسعى و نحفد و مر البعير يحفد حفدا إذا مر يسرع في سيره قال
الراعي : كلفت مجهولها نوقا يمانية إذا لحداة على إكسائها حفدوا و منه قيل
للأعوان حفدة لإسراعهم في الطاعة قال جميل : حفد الولائد حولها و استسلمت
بأكفهن أزمة الأجمال . الإعراب فهم فيه سواء جملة اسمية وقعت موقع
جملة فعلية في موضع النصب لأنه جواب النفي بالفاء و التقدير فيستووا شيئا انتصب على
أحد وجهين إما أن يكون بدلا من رزقا بمعنى أنه لا يملك لهم رزقا قليلا و لا كثيرا و
هو قول الأخفش و إما أن يكون مفعولا لقوله « رزقا » فكأنه قال ما لا يملك لهم أن
يرزق شيئا و هو مما أعمل من المصادر المنونة . المعنى ثم عدد سبحانه
نعمة منه أخرى فقال « و الله فضل بعضكم على بعض في الرزق » فوسع على واحد و قتر على
آخر على ما توجبه الحكمة « فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم
فيه سواء » اختلف في معناه على قولين ( أحدهما ) أنهم
مجمع البيان ج : 6 ص :
576
لا يشركون عبيدهم في أموالهم و أزواجهم حتى يكونوا فيه سواء و يرون ذلك
نقصا فلا يرضون لأنفسهم به و هم يشركون عبيدي في ملكي و سلطاني و يوجهون العبادة و
القرب إليهم كما يوجهونها إلي عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و قال ابن عباس يقول إذا
لم ترضوا أن تجعلوا عبيدكم شركاءكم فكيف جعلتم عيسى إلها معه و هو عبده و نزلت في
نصارى نجران ( و الثاني ) إن معناه فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الأحرار لا
يرزقون مماليكهم بل الله تعالى رازق الملاك و المماليك فإن الذي ينفقه المولى على
مملوكه إنما ينفقه مما رزقه الله تعالى فالله تعالى رازقهم جميعا فهم سواء في ذلك «
أ فبنعمة الله يجحدون » أي أ فبهذه النعمة التي عددتها و اقتصصتها يجحد هؤلاء
الكفار ثم عدد سبحانه نعمة أخرى قال « و الله جعل لكم من أنفسكم أزواجا » أي جعل
لكم من جنسكم و من الذين تلدونهم نساء جعلهن أزواجا لكم لتسكنوا إليهن و تأنسوا بهن
« و جعل لكم من أزواجكم » يعني من هؤلاء الأزواج « بنين » تسرون بهم و تزينون بهم «
و حفدة » اختلف في معناه فقيل هم الخدم و الأعوان عن ابن عباس و الحسن و عكرمة و في
رواية الموالبي هم أختان الرجل على بناته و هو المروي عن أبي عبد الله و عن ابن
مسعود و إبراهيم و سعيد بن جبير و قيل هم البنون و بنو البنين عن ابن عباس في رواية
أخرى و نصه عنه أيضا أنهم بنو امرأة الرجل من غيره في رواية الضحاك و قيل البنون
الصغار من الأولاد و الحفدة الكبار منهم يسعون معه عن مقاتل « و رزقكم من الطيبات »
أي الأشياء التي تستطيبونها قد أباحها لكم و إنما دخلت من لأنه ليس كل ما يستطيبه
الإنسان رزقا له و إنما يكون رزقه ما له التصرف فيه و ليس لأحد منعه منه « أ
فبالباطل يؤمنون » يريد بالباطل الأوثان و الأصنام و ما حرم عليهم و زينه الشيطان
من البحائر و غيرها أي أ فبذلك يصدقون « و بنعمة الله » التي عددها « هم يكفرون »
أي يجحدون و يريد بنعمة الله التوحيد و القرآن و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن ابن عباس « و يعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا » أي لا
يملك أن يرزقهم « من السماوات و الأرض شيئا و لا يستطيعون » شيئا مما ذكرناه و قيل
إن رزق السماء الغيث الذي يأتي من جهتها و رزق الأرض النبات و الثمار و غير ذلك من
أنواع النعم التي تخرج من الأرض « فلا تضربوا لله الأمثال » أي لا تجعلوا لله
الأشباه و الأمثال في العبادة فإنه لا شبه له و لا مثل و لا أحد يستحق العبادة سواه
و إنما قال ذلك في اتخاذهم الأصنام آلهة عن ابن عباس و قتادة « إن الله يعلم » إن
من كان إلها فإنه منزه عن الشركاء « و أنتم لا تعلمون » ذلك بل تجهلونه و لو تفكرتم
لعلمتم و قيل معناه و الله يعلم ما عليكم من المضرة في عبادة غيره و أنتم لا تعلمون
و لو علمتم لتركتم عبادتها .
مجمع البيان ج : 6 ص : 577
* ضرَب اللَّهُ
مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شىْء وَ مَن رَّزَقْنَهُ مِنَّا
رِزْقاً حَسناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَستَوُنَ الحَْمْدُ
للَّهِ بَلْ أَكثرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(75) وَ ضرَب اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَينِ
أَحَدُهُمَا أَبْكمُ لا يَقْدِرُ عَلى شىْء وَ هُوَ كلُّ عَلى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا
يُوَجِّههُّ لا يَأْتِ بخَيْر هَلْ يَستَوِى هُوَ وَ مَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ
هُوَ عَلى صِرَاط مُّستَقِيم(76) وَ للَّهِ غَيْب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ مَا
أَمْرُ الساعَةِ إِلا كلَمْح الْبَصرِ أَوْ هُوَ أَقْرَب إِنَّ اللَّهَ عَلى كلِّ
شىْء قَدِيرٌ(77)
القراءة في الشواذ قراءة ابن مسعود و علقمة و الحسن و
مجاهد أينما يوجه و روي عن علقمة يوجه بفتح الجيم . الحجة قال ابن جني
أما يوجه بكسر الجيم فعلى حذف المفعول أي أينما يوجه وجهه فحذف للعلم به و أقول أن
نظيره ما جاء في المثل أينما أوجه ألق سعدا و معناه أينما أوجه وجوه ركابي و سعد
قبيلته أي كل الناس مثل قبيلتي في التحاسد و أما يوجه بفتح الجيم فمعناه أينما يرسل
أو يبعث لا يأت بخير . اللغة الأبكم الذي يولد أخرس لا يفهم و لا يفهم
و قيل الأبكم الذي لا يمكنه أن يتكلم و الكل الثقل يقال كل عن الأمر يكل كلا إذا
ثقل عليه فلم ينبعث فيه و كلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها و كل لسانه إذا لم
ينبعث في القول لغلظة و ذهاب حدة فالأصل فيه الغلظ المانع من النفوذ و التوجيه
الإرسال في وجه من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه . الإعراب
« و من رزقناه منا رزقا حسنا » رزقا مفعول ثان لرزقناه و في هذا دليل على أن
رزق يتعدى إلى مفعولين أ لا ترى أن قوله « رزقا حسنا » لو كان مصدرا لما جاز أن
يقول
مجمع البيان ج : 6 ص : 578
فهو ينفق منه لأن الإنفاق إنما يكون من
المال لا من الحدث الذي هو المصدر . المعنى ثم بين سبحانه للمشركين أمر
ضلالتهم فقال « ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء » أي بين الله مثلا فيه
بيان المقصود تقريبا للخطاب إلى أفهامهم ثم ذكر ذلك المثل فقال « عبدا مملوكا لا
يقدر » من أمره على شيء « و من رزقناه منا رزقا حسنا » يريد و حرا رزقناه و ملكناه
مالا و نعمة « فهو ينفق منه سرا و جهرا » لا يخاف من أحد « هل يستوون » و لم يقل
يستويان لأنه أراد بقوله « و من رزقناه » و قوله « عبدا مملوكا » الشيوع في الجنس
لا التخصيص يريد أن الاثنين المتساويين في الخلق إذا كان أحدهما مالكا قادرا على
الإنفاق و الآخر عاجزا عن الإنفاق لا يستويان فكيف يستوي بين الحجارة التي لا تعقل
و لا تتحرك و بين الله عز اسمه القادر على كل شيء الخالق الرازق لجميع خلقه و هذا
معنى قول المجاهد و الحسن و قيل إن هذا المثل للكافر و المؤمن فإن الكافر لا خير
عنده و المؤمن يكسب الخير عن ابن عباس و قتادة نبه الله سبحانه بذلك على اختلاف
حاليهما و دعا إلى حال المؤمن و صرف عن حال الكافر « الحمد لله » أي الشكر لله على
نعمه و فيه إشارة إلى أن النعم كلها منه و قيل معناه قولوا الحمد لله الذي دلنا على
توحيده و معرفته و هدانا إلى شكر نعمته و أوضح لنا السبيل إلى جنته « بل أكثرهم لا
يعلمون » يعني أن أكثر الناس و هم المشركون لا يعلمون أن الحمد لي و أن جميع النعمة
مني ثم ضرب سبحانه مثلا آخر فقال « و ضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على
شيء » من الكلام لأنه لا يفهم و لا يفهم عنه و قيل معناه لا يقدر أن يدبر أمر نفسه
« و هو كل على مولاه » أي ثقل و وبال على وليه الذي يتولى أمره « أينما يوجهه لا
يأت بخير » معناه أنه لا منفعة لمولاه فيه أينما يرسله في حاجة لا يرجع بخير و لا
يهتدي إلى منفعة « هل يستوي هو » أي هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة « و من يأمر
بالعدل » أي و من هو فصيح يأمر بالعدل و الحق و يدعو إلى الثواب و البر « و هو على
صراط مستقيم » أي على دين قويم و طريق واضح فيما يأتي به و يذر و المراد أنهما لا
يستويان قط لأنه لا جواب لهذا الكلام إلا النفي و هذا كما قال أ فمن كان مؤمنا كمن
كان فاسقا لا يستوون و قيل في معنى هذا المثل أيضا قولان ( أحدهما ) أنه مثل ضربه
الله تعالى فيمن يؤمل الخير من جهته و من لا يؤمل منه و أصل الخير كله من الله
تعالى فكيف يستوي بينه و بين شيء سواه في العبادة ( و الآخر ) أنه مثل للكافر و
المؤمن فالأبكم الكافر و الذي يأمر بالعدل المؤمن عن ابن عباس و قيل إن الأبكم أبي
بن خلف و من يأمر بالعدل حمزة و عثمان بن مظعون عن عطاء و قيل إن الأبكم هاشم بن
عمر بن الحارث القرشي و كان قليل الخير يعادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)
عن مقاتل ثم وصف
مجمع البيان ج : 6 ص : 579
سبحانه نفسه مؤكدا لما قدم ذكره
من أوصاف الكمال فقال « و لله غيب السماوات و الأرض » و معناه أنه المختص بعلم
الغيب و هو ما غاب عن جميع الخلائق مما يصح أن يكون معلوما قال الجبائي و يمكن أن
يكون المعنى و لله ما غاب عنكم مما في السماوات و الأرض ثم قال « و ما أمر الساعة »
في قدرته « إلا كلمح البصر » أي كطرف العين و قيل كرد البصر قال الزجاج و ما أمر
إقامة الساعة في قدرته إلا كلمح البصر أي لا يتعذر عليه شيء « أو هو أقرب » من ذلك
و هو مبالغة في ضرب المثل به في السرعة و دخول أو هنا لأحد أمرين إما للإبانة على
أنه على إحدى هاتين المنزلتين و إما لشك المخاطب و قيل معناه بل هو أقرب « إن الله
على كل شيء قدير » فهو قادر على إقامة الساعة و على كل شيء يريده لأن القدير مبالغة
في صفة القادر . النظم وجه اتصاله بما قبله أن أمر القيامة من الأمور
الغائبة و من أعظمها و أهمها لما فيه من الثواب و العقاب و الإنصاف و الانتصاف و
الساعة اسم لإماتة الخلق و إحيائهم . وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطونِ
أُمَّهَتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السمْعَ وَ الأَبْصرَ وَ
الأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشكُرُونَ(78) أَ لَمْ يَرَوْا إِلى الطيْرِ مُسخَّرَت
فى جَوِّ السمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فى ذَلِك لاَيَات لِّقَوْم
يُؤْمِنُونَ(79) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكمْ سكَناً وَ جَعَلَ لَكم
مِّن جُلُودِ الأَنْعَمِ بُيُوتاً تَستَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظعْنِكُمْ وَ يَوْمَ
إِقَامَتِكمْ وَ مِنْ أَصوَافِهَا وَ أَوْبَارِهَا وَ أَشعَارِهَا أَثَثاً وَ
مَتَعاً إِلى حِين(80)
القراءة قد ذكرنا القراءة في « أمهاتكم » في سورة
النساء و قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب و سهل و خلف أ لم تروا بالتاء و الباقون
بالياء و قرأ أهل الكوفة و ابن عامر « ظعنكم » ساكنة العين و الباقون بفتح العين .
مجمع البيان ج : 6 ص : 580
الحجة من قرأ أ لم تروا بالتاء فإنه يدل
عليه ما قبله من قوله « و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون » و من
قرأ بالياء فإنه على وجه التنبيه لمن تقدم ذكرهم من الكفار و الظعن و الظعن بفتح
العين و سكونها لغتان و مثله النهر و النهر و الشمع قال الأعشى : فقد أشرب
الراح قد تعلمين يوم المقام و يوم الظعن قال أبو علي و لا يجوز أن يكون الظعن
مخففا عن الظعن كما أن عضدا مخفف عن عضد و كتفا مخففا عن كتف أ لا ترى أن من قال
ذلك لم يخفف نحو جمل و رسن كما أن الذي يقول و الليل إذا يسر و ذلك ما كنا نبغ لا
يقول و الليل إذا يغش و حرف الحلق و غيره في ذلك سواء . اللغة الأمهات
أصله الأمات و لكن الهاء زيدت مؤكدة كما زادوها في أهرقت الماء و الأصل أرقت و
الأفئدة جمع فؤاد كما يقال غراب و أغربة و لم يجمع الفؤاد على أكثر العدد لم يقل
فيه فئدان كما قالوا غربان . الجو الهواء البعيد من الأرض و أبعد منه السكاك و
اللوح و واحد السكاك سكاكة عن الزجاج قال الشاعر : و يلمها في هواء الجو طالبة
و لا كهذا الذي في الأرض مطلوب و السكن كل ما يسكن إليه و السكن أيضا المسكن
قال الفراء السكن بفتح الكاف الدار و بسكونها أهل الدار و منه الحديث أن الرمانة
لتشبع السكن و أصله من السكون الذي هو ضد الحركة و هما من جنس الأكوان التي يكون
الجسم بها كائنا في الجهات و منه السكين لأنه يسكن حركة المذبوح و الأثاث متاع
البيت الكثير من قولهم شعر أثيث أي كثير و أث النبت يأث أثا إذا كثر و التف و كذلك
الشعر و لا واحد للأثاث كما أنه لا واحد للمتاع قال الشاعر : أهاجتك الظعائن
يوم بانوا بذي الرئي الجميل من الأثاث . الإعراب قوله « لا تعلمون
شيئا » في موضع نصب على الحال من الكاف و الميم و قوله « شيئا » يجوز أن يكون
منتصبا على المصدر أي لا تعلمون علما و يجوز أن يكون مفعولا و يكون تعلمون بمعنى
تعرفون لاقتصاره على مفعول واحد و أثاثا و متاعا نصب بجعل
|