قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
مجمع البيان ج : 7 ص : 73
التوحيد عطف عليه بيان العدل و قيل إنه يتصل بقوله اقترب للناس حسابهم و الحساب
هو السؤال عما أنعم الله عليهم به و هل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر عن
أبي مسلم و وجه اتصال قوله « هذا ذكر من معي و ذكر من قبلي » بما قبله أن ما قدمنا
ذكره من التوحيد و العدل مذكور في القرآن و في الكتب السالفة . وَ جَعَلْنَا فى
الأَرْضِ رَوَسىَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سبُلاً
لَّعَلَّهُمْ يهْتَدُونَ(31) وَ جَعَلْنَا السمَاءَ سقْفاً محْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ
ءَايَتهَا مُعْرِضونَ(32) وَ هُوَ الَّذِى خَلَقَ الَّيْلَ وَ النهَارَ وَ الشمْس
وَ الْقَمَرَ كلُّ فى فَلَك يَسبَحُونَ(33) وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشر مِّن قَبْلِك
الْخُلْدَ أَ فَإِين مِّت فَهُمُ الخَْلِدُونَ(34) كلُّ نَفْس ذَائقَةُ الْمَوْتِ
وَ نَبْلُوكُم بِالشرِّ وَ الخَْيرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)
اللغة الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو
السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها و الميد الاضطراب بالذهاب في الجهات و الفج
الطريق الواسع بين الجبلين و الفلك أصله كل شيء دائر و منه فلكة المغزل و يقال فلك
ثدي المرأة تفليكا إذا استدار و السباحة و العوم و السبح و الجري بمعنى .
الإعراب « أن تميد بكم » في موضع نصب بأنه مفعول له و تقديره كراهة أن
تميد بكم أو حذار أن تميد و من قال أن لا هنا مضمرة و التقدير لأن لا تميد فلا وجه
لقوله و « سبلا » بدل من فجاج لأن الفج هو السبيل « كل في فلك يسبحون » جملة اسمية
في موضع الحال و في يتعلق بيسبحون « أ فإن مت فهم الخالدون » شرط و جزاء دخلت الفاء
في الشرط و في الجزاء و قوله « فتنة » مفعول له و المعنى للفتنة و يجوز أن يكون
مصدرا في موضع الحال أي نبلوكم فاتنين و يجوز أن يكون منصوبا على المصدر لأن البلاء
بمعنى الفتنة . المعنى ثم بين سبحانه كمال قدرته و شمول نعمته بأن قال
« و جعلنا في الأرض رواسي » أي جبالا ثوابت تمنع الأرض من الحركة و الاضطراب « أن
تميد بهم » أي تتحرك
مجمع البيان ج : 7 ص : 74
و تميل و تضطرب بهم و قيل
لتستقر عن قتادة « و جعلنا فيها » أي في الرواسي « فجاجا » أي طرقا واسعة بينها لو
لا ذلك لما أمكن أن يهتدوا إلى مقاصدهم في الأسفار ثم بين الفجاج فقال « سبلا لعلهم
يهتدون » بها إلى طريق بلادهم و مواطنهم و قيل ليهتدوا بالاعتبار بها إلى دينهم « و
جعلنا السماء سقفا محفوظا » أي رفعنا السماء فوق الخلق كالسقف محفوظا من الشياطين
بالشهب التي ترمي بها كما قال و حفظناها من كل شيطان رجيم عن الجبائي و قيل محفوظا
من أن تسقط كما قال إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا الآية و قيل محفوظا من
أن يطمع أحد في أن يتعرض لها بنقض أو أن يحلقها بلى أو هدم على طول الدهر عن الحسن
« و هم عن آياتها » أي عن الاستدلال بما فيها من دلائل الحدوث و الحاجة إلى المحدث
« معرضون » أي أعرضوا عن التفكر فيها « و هو الذي خلق الليل و النهار و الشمس و
القمر كل في فلك يسبحون » أي يجرون و قيل يدورون و أراد الشمس و القمر و النجوم لأن
قوله « الليل » يدل على النجوم و قال ابن عباس يسبحون بالخير و الشر بالشدة و
الرخاء و قيل معناه أنه سبحانه جعل لكل واحد منهما فلكا يدور فيه بسرعة كالسباحة و
إنما قال « يسبحون » لأنه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال و الشمس و القمر رأيتهم
لي ساجدين و قال النابغة الجعدي : تمززتها و الديك يدعو صياحه إذا ما بنو
نعش دنوا فتصوبوا ثم قال سبحانه « و ما جعلنا لبشر من قبلك » يا محمد « الخلد » أي
دوام البقاء في الدنيا « أ فإن مت » أنت على ما يتوقعونه و ينتظرونه « فهم الخالدون
» أي أ فهم يخلدون بعدك يعني مشركي مكة حين قالوا نتربص بمحمد ريب المنون فقال لئن
مت فإنهم أيضا يموتون فأي فائدة لهم في تمني موتك « كل نفس ذائقة الموت » أي لا بد
لكل نفس حية بحياة أن يدخل عليها الموت و تخرج عن كونها حية « و نبلوكم بالشر و
الخير » أي نعاملكم معاملة المختبر بالفقر و الغنى و بالضراء و السراء و بالشدة و
الرخاء عن ابن عباس و قيل بما تكرهون و ما تحبون ليظهر صبركم على ما تكرهون و شكركم
فيما تحبون عن ابن زيد و روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه
السلام) مرض فعاده إخوانه فقالوا كيف تجدك يا أمير المؤمنين قال بشر قالوا ما هذا
كلام مثلك قال إن الله تعالى يقول « و نبلوكم بالشر و الخير فتنة » فالخير الصحة و
الغنى و الشر المرض و الفقر و قال بعض الزهاد الشر غلبة الهوى على النفس و الخير
العصمة عن المعاصي « فتنة » أي ابتلاء و اختبار أو شدة تعبد « و إلينا ترجعون » أي
إلى حكمنا تردون للجزاء بالأعمال حسنها و سيئها .
مجمع البيان ج : 7 ص : 75
النظم يتصل قوله « و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد » بما ذكر سبحانه من خلق
الأشياء فإنه بين أنه لم يخلقها للخلود و إنما خلقها ليتوصل بها إلى نعيم الآخرة
فلا بد لكل إنسان من الموت و الرجوع إلى الجزاء عن القاضي . وَ إِذَا رَءَاك
الَّذِينَ كفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَك إِلا هُزُواً أَ هَذَا الَّذِى يَذْكرُ
ءَالِهَتَكُمْ وَ هُم بِذِكرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كفِرُونَ(36) خُلِقَ الانسنُ مِنْ
عَجَل سأُورِيكُمْ ءَايَتى فَلا تَستَعْجِلُونِ(37) وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا
الْوَعْدُ إِن كنتُمْ صدِقِينَ(38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا
يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَن ظهُورِهِمْ وَ لا هُمْ
يُنصرُونَ(39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتهُمْ فَلا يَستَطِيعُونَ رَدَّهَا
وَ لا هُمْ يُنظرُونَ(40) اللغة الهزء إظهار خلاف الإبطان لإيهام النقص عن
فهم القصد يقال هزأ منه يهزأ هزؤا فهو هازىء و مثله السخرية و يقول العرب ذكرت
فلانا أي عبته قال عنترة لا تذكري مهري و ما أطعمته فيكون جلدك مثل جلد
الأجرب و العجلة تقديم الشيء قبل وقته و هو مذموم و السرعة تقديم الشيء في أقرب
أوقاته و هو محمود و الاستعجال طلب الشيء قبل وقته الذي حقه أن يكون فيه دون غيره .
الإعراب « و إذا رآك » العامل في إذا اتخذوا و هو معنى قوله « إن
يتخذونك إلا هزوا » لأن معناه اتخذوك هزوا و قوله « أ هذا الذي يذكر آلهتكم »
تقديره قائلين أ هذا الذي يذكر آلهتكم فحذف قائلين و هو في موضع الحال كما حذف ذلك
من قوله و الذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم أي قائلين ما نعبدهم و الباء في
قوله « بذكر الرحمن » يتعلق بقوله « كافرون »
مجمع البيان ج : 7 ص : 76
فقوله « حين لا يكفون » يجوز أن يكون مفعولا به « ليعلم » و يجوز أن يكون ظرفا
له فيكون مفعول يعلم محذوفا تقديره لو يعلمون الأمر حين لا يكفون و جواب لو محذوف و
تقديره لانتهوا « بغتة » نصب على الحال من المفعول تقديره بل تأتيهم مبغوتين
مفاجئين و يجوز أن يكون حالا من الفاعل و هو الضمير المستكن في تأتي و التقدير بل
تأتيهم باغتة مفاجئة . المعنى ثم خاطب نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) و
قال « و إذا رآك » أي إذا رآك يا محمد « الذين كفروا » و أنت تعيب آلهتهم و تدعوهم
إلى التوحيد « إن يتخذونك » أي ما يتخذونك « إلا هزوا » أي سخرية يقول بعضهم لبعض «
أ هذا الذي يذكر آلهتكم » أي يعيب آلهتكم و ذلك قوله إنها جماد لا ينفع و لا يضر «
و هم بذكر الرحمن » أي بتوحيده و قيل بكتابه المنزل « هم كافرون » أي جاحدون عجب
الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) منهم حيث جحدوا الحي المنعم القادر
العالم الخالق الرازق و اتخذوا ما لا ينفع و لا يضر ثم إن من دعاهم إلى تركها
اتخذوه و هم أحق بالهزء عند من يدبر حالهم « خلق الإنسان من عجل » قيل فيه قولان (
أحدهما ) أن المعني بالإنسان آدم ثم إنه قيل في عجل ثلاث تأويلات منها أنه خلق بعد
خلق كل شيء آخر نهار يوم الجمعة و هو آخر أيام السنة على سرعة معاجلا به غروب الشمس
عن مجاهد و منها أن معناه في سرعة من خلقه لأنه لم يخلقه من نطفة ثم من علقة ثم من
مضغة كما خلق غيره و إنما أنشأه إنشاء فكأنه سبحانه نبه بذلك على الآية العجيبة في
خلقه و منها أن آدم (عليه السلام) لما خلق و جعلت الروح في أكثر جسده وثب عجلان
مبادرا إلى ثمار الجنة و قيل هم بالوثوب فهذا معنى قوله « من عجل » عن ابن عباس و
السدي و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) و القول الثاني أن المعني بالإنسان
الناس كلهم ثم اختلف في معناه على وجوه ( أحدها ) أن معناه خلق الإنسان عجولا أي
خلق على حب العجلة في أمره عن قتادة و أبي مسلم و الجبائي قال يعني أنه يستعجل في
كل شيء يشتهيه و للعرب عادة في استعمالهم هذا اللفظ عند المبالغة يقولون لمن يصفونه
بكثرة النوم ما خلق إلا من نوم و بكثرة وقوع الشر منه ما خلق إلا من شر و منه قول
الخنساء في وصف البقرة فإنما هي إقبال و إدبار ( و ثانيها ) أنه من المقلوب و
المعنى خلقت العجلة من الإنسان عن أبي عبيدة و قطرب و هذا ضعيف لأنه مع حمل كلامه
تعالى على القلب يحتاج إلى تأويل فلا فائدة في القلب ( و ثالثها ) أن العجل هو
الطين عن أبي عبيدة و جماعة و استشهدوا بقول الشاعر و النبع ينبت بين الصخر
ضاحية و النخل تنبت بين الماء و العجل و رواه ثعلب و النبع في الصخرة
الصماء منبته فعلى هذا يكون كقوله و بدأ خلق
مجمع البيان ج : 7 ص : 77
الإنسان من طين ( و رابعها ) أن معناه خلق الإنسان من تعجيل من الأمر لأنه
تعالى قال إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون عن أبي الحسن الأخفش «
سأريكم آياتي » الدالة على وحدانيتي و على صدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما
يوعدكم به من العذاب « فلا تستعجلون » في حلول العذاب بكم فإنه سيدرككم عن قريب قال
ابن عباس في رواية عطاء يريد به النضر ابن الحرث و هو الذي قال « اللهم إن كان هذا
هو الحق من عندك فأمطر » الآية و يريد بقوله « سأريكم آياتي » القتل يوم بدر « و
يقولون » يعني و يقول المشركون للمسلمين « متى هذا الوعد » الذي تعدوننا يريدون وعد
القيامة « إن كنتم صادقين » أي و يقولون إن كنتم صادقين في هذا الوعد فمتى يكون ذلك
ثم قال سبحانه « لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار » أي لو علموا
الوقت الذي لا يدفعون فيه عذاب النار عن وجوههم « و لا عن ظهورهم » يعني أن النار
تحيط بهم من جميع جوانبهم « و لا هم ينصرون » و جواب لو محذوف و تقديره لعلموا صدق
ما وعدوا به و لما استعجلوا و لا قالوا متى هذا الوعد ثم قال « بل تأتيهم » الساعة
« بغتة » أي فجاة « فتبهتهم » أي فتحيرهم « فلا يستطيعون ردها » أي فلا يقدرون على
دفعها « و لا هم ينظرون » أي لا يؤخرون إلى وقت آخر و لا يمهلون لتوبة أو معذرة .
مجمع البيان ج : 7 ص : 78
وَ لَقَدِ استهْزِىَ بِرُسل مِّن قَبْلِك
فَحَاقَ بِالَّذِينَ سخِرُوا مِنهُم مَّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ(41) قُلْ مَن
يَكلَؤُكم بِالَّيْلِ وَ النَّهَارِ مِنَ الرَّحمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكرِ رَبِّهِم
مُّعْرِضونَ(42) أَمْ لهَُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا يَستَطِيعُونَ
نَصرَ أَنفُسِهِمْ وَ لا هُم مِّنَّا يُصحَبُونَ(43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَ
ءَابَاءَهُمْ حَتى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتى
الأَرْض نَنقُصهَا مِنْ أَطرَافِهَا أَ فَهُمُ الْغَلِبُونَ(44) قُلْ إِنَّمَا
أُنذِرُكم بِالْوَحْىِ وَ لا يَسمَعُ الصمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)
القراءة قرأ ابن عامر و لا تسمع بضم التاء الصم بالنصب و الباقون « و لا
يسمع » بفتح الياء « الصم » بالرفع . الحجة الوجه في قراءة ابن عامر
أنه وجه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) فكأنه قال و لا تسمع أنت يا
محمد الصم كما قال و ما أنت بمسمع من في القبور لأن الله تعالى لما خاطبهم فلم
يلتفتوا إلى ما دعاهم إليه صاروا بمنزلة الميت الذي لا يسمع و لا يعقل و وجه قراءة
الباقين أنه جعل الفعل لهم و يقويه قوله « إذا ما ينذرون » . اللغة
الكلاءة الحفظ قال ابن هرمة : إن سليمى و الله يكلؤها ضنت بشيء ما كان
يرزؤها و الفرق بين السخرية و الهزء إن في السخرية معنى طلب الذلة لأن التسخير
التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول . الإعراب
« أم لهم آلهة » أم هذه هي المنقطعة و تقديره بل لهم آلهة و « لا يستطيعون »
جملة مستأنفة لأنها لا تستقيم أن تكون صفة لآلهة و لا حالا عنها لأن الله وصفها
بقوله « تمنعهم من دوننا » على زعمهم و لا يستطيعون ضد هذه الصفة . المعنى
لما تقدم ذكر استهزاء الكفار بالنبي و المؤمنين سلى الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) عند ذلك بقوله « و لقد استهزىء برسل من قبلك » كما استهزأ هؤلاء «
فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزءؤن » أي حل بهم وبال استهزائهم و سخريتهم
و قوله « منهم » يعني من الرسل قل يا محمد لهؤلاء الكفار « من يكلؤكم بالليل و
النهار من الرحمن » أي يحفظكم من بأس الرحمن و عذابه و قيل من عوارض الآفات و هو
استفهام معناه النفي تقديره لا حافظ لكم من الرحمن « بل هم عن ذكر ربهم معرضون » أي
بل هم عن كتاب ربهم معرضون لا يؤمنون به و لا يتفكرون فيه و قيل معناه إنهم لا
يلتفتون إلى شيء من المواعظ و الحجج ثم قال على وجه التوبيخ لهم و التقريع « أم لهم
آلهة تمنعهم من دوننا » تقديره أم لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا و عقوباتنا و
تم الكلام ثم وصف آلهتهم بالضعف فقال « لا يستطيعون نصر أنفسهم » فكيف ينصروهم و
قيل معناه إن الكفار لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن
مجمع البيان ج : 7 ص : 79
نفوسهم « و لا هم منها يصحبون » أي و لا الكفار
يجارون من عذابنا عن ابن عباس قال ابن قتيبة أي لا يجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب
الجار يقول العرب صحبك الله أي حفظك الله و أجارك و قيل يصحبون أي ينصرون و يحفظون
عن مجاهد و قيل لا يصحبون من الله بخير عن قتادة « بل متعنا هؤلاء و آبائهم » في
الدنيا بنعمها فلم نعاجلهم بالعقوبة « حتى طال عليهم العمر » أي طالت أعمارهم فغرهم
طول العمر و أسباب الدنيا حتى أتوا ما أتوا « أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من
أطرافها » أي أ لم ير هؤلاء الكفار أن الأرض نأتيها أمرنا فننقصها بتخريبها و بموت
أهلها و قيل بموت العلماء و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال نقصانها
ذهاب عالمها و قيل معناه ننقصها من أطرافها بظهور النبي على من قاتله أرضا فأرضا و
قوما فقوما فيأخذهم قراهم و أرضيهم عن الحسن و قتادة و معناه أنا ننقصها من جانب
المشركين و نزيدها في جانب المسلمين « أ فهم الغالبون » أي أ فهؤلاء الغالبون أم
نحن و معناه ليسوا بغالبين و لكنهم المغلوبون و رسول الله الغالب و قد تقدم تفسير
هذه الآية في سورة الرعد « قل إنما أنذركم بالوحي » أي قل يا محمد إنما أنذركم من
عذاب الله و أخوفكم بما أوحى الله إلي « و لا يسمع الصم الدعاء » شبههم بالصم الذين
لا يسمعون النداء إذا نودوا لأنهم لم ينتفعوا بالسمع و المعنى أنهم يستثقلون القرآن
و سماعه و ذكر الحق فهم في ذلك بمنزلة الأصم الذي لا يسمع « إذا ما ينذرون » أي
يخوفون النظم إنما اتصل قوله « أم لهم آلهة » بقوله « و ما جعلنا لبشر من قبلك
الخلد » و تقديره أ فهم الخالدون أم لهم آلهة تمنع نفوسهم من الموت و مما ينزل الله
بهم عن أبي مسلم و قيل اتصل بقوله « من يكلؤكم » أي أم لهم آلهة تكلؤهم و تمنعهم و
وجه اتصال قوله « قل إنما أنذركم بالوحي » بما قبله إنه اتصل بقوله « قل من يكلؤكم
» و تقديره لو تفكروا لعلموا أنه لا عاصم من الله و إن فيما أنذركم به من القرآن
أعظم الآيات و الحجج و قيل إنه اتصل بما تقدم من العظة بحال من مضى من الأمم و
المعنى أن ذلك و جميع ما يعظمهم به من الوحي .
مجمع البيان ج : 7 ص : 80
وَ لَئن مَّستْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّك لَيَقُولُنَّ يَوَيْلَنَا
إِنَّا كنَّا ظلِمِينَ(46) وَ نَضعُ الْمَوَزِينَ الْقِسط لِيَوْمِ الْقِيَمَةِ
فَلا تُظلَمُ نَفْسٌ شيْئاً وَ إِن كانَ مِثْقَالَ حَبَّة مِّنْ خَرْدَل أَتَيْنَا
بِهَا وَ كَفَى بِنَا حَسِبِينَ(47) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى وَ هَرُونَ
الْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ(48) الَّذِينَ يخْشوْنَ
رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَ هُم مِّنَ الساعَةِ مُشفِقُونَ(49) وَ هَذَا ذِكْرٌ
مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَهُ أَ فَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50) القراءة
قرأ أبو
جعفر و نافع مثقال حبة بالرفع و في لقمان مثله و الباقون بالنصب و قرأ آتينا بها
بالمد ابن عباس و جعفر بن محمد و مجاهد و سعيد بن جبير و العلاء بن سيابة و الباقون
« أتينا » بالقصر . الحجة وجه النصب و إن كان الظلامة مثقال حبة و هذا
أحسن لتقدم قوله « فلا تظلم نفس شيئا » فإذا ذكر تظلم فكأنه ذكر الظلامة كقولهم من
كذب كان شرا له و وجه الرفع أنه أسند الفعل إلى مثقال كما أسند في قوله « و إن كان
ذو عسرة » أي ذا عسرة و كذلك قول الشاعر إذا كان يوم ذو كواكب أشهبا و من قرأ
آتينا فهو فاعلنا فهو من آتى يوآتي موآتاة عن ابن جني و روي عن الصادق (عليه
السلام) أنه قال معناه جازينا بها و على هذا فيجوز أن يكون من أفعلنا و يكون مفعول
آتينا محذوفا و تقديره آتيناها بها للجزاء . اللغة النفحة الوقعة
اليسيرة تقع بهم يقال نفح ينفح نفحا و نفح الطيب ينفح فله نفحة طيبة و نفحت الدابة
إذا رمت بحافرها فضربت به و نفحة بالسيف إذا تناوله من بعيد و أما حديث شريح أنه
أبطل النفح من نفح الدابة فالمعنى أنه كان لا يلزم صاحبها شيئا و القسط العدل و هو
مصدر يوصف به و التقدير و نضع الموازين ذوات القسط . الإعراب شيئا
انتصب على أنه مفعول ثان لتظلم و يجوز أن يكون منصوبا على المصدر أي لا تظلم نفس
ظلما و من رفع مثقال حبة فإن كان تكون تامة و من نصب فإن كان ناقصة و اسمها الضمير
المستكن فيها العائد إلى شيء « و كفى بنا حاسبين » قال الزجاج انتصب قوله « حاسبين
» على التمييز أو على الحال و دخلت الباء في بنا لأنه خبر في معنى الأمر و المعنى
اكتفوا بالله حسيبا و قد روي عن ابن عباس أنه قرأ ضياء بغير واو و يكون على هذا
منصوبا على الحال من « الفرقان » و يجوز أن يكون مفعولا له و بالواو يكون عطفا على
الفرقان و تكون الواو داخلة على ضياء و إن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما تدخل
على الصفة التي هي صفة لفظا قال سيبويه إذا قلت مررت بزيد و صاحبك و زيد هو الصاحب
جاز و لو قلته بالفاء لم يجز كما جاز بالواو لأن الفاء يقتضي التعقيب و تأخير الاسم
عن المعطوف عليه
مجمع البيان ج : 7 ص : 81
بخلاف الواو و « الذين يخشون »
في محل جر لأنه صفة للمتقين و يجوز أن يكون في محل نصب أو رفع على المدح و « بالغيب
» في محل النصب على الحال . المعنى لما تقدم الإنذار بالعذاب ذكر عقيبه
« و لئن مستهم نفحة » أي أصابهم طرف عن ابن عباس و قيل قليل عن ابن كيسان و قيل
نصيب عن ابن جريج و قيل بعض ما يستحقونه من العقوبة عن أبي مسلم « من عذاب ربك
ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين » أي يدعون بالويل و الثبور عند نزوله ثم قال
سبحانه « و نضع الموازين القسط ليوم القيامة » أي نضع الموازين ذوات القسط ليوم
القيامة و قيل معناه نحضر الموازين التي لا جور فيها بل كلها عدل و قسط لأهل يوم
القيامة أو في يوم القيامة و قال قتادة معناه نضع العدل في المجازاة بالحق لكل أحد
على قدر استحقاقه فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقه و لا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقه
و قد سبق الكلام في الميزان في سورة الأعراف « فلا تظلم نفس شيئا » أي لا ينقص من
إحسان محسن و لا يزاد في إساءة مسيء « و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها » أي
جئنا بها و المراد أحضرناها للمجازاة بها « و كفى بنا حاسبين » أي عالمين حافظين و
ذلك إن من حسب شيئا علمه و حفظه عن ابن عباس و قيل محصين و الحسب العد عن السدي « و
لقد آتينا موسى و هارون الفرقان » أي أعطيناهما التوراة يفرق بين الحق و الباطل عن
مجاهد و قتادة و قيل البرهان الذي فرق به بين حق موسى و باطل فرعون و قيل هو فلق
البحر « و ضياء » أي و آتيناهما ضياء و هو من صفة التوراة أيضا مثل قوله « فيها هدى
و نور » و المعنى أنهم استضاءوا بها حتى اهتدوا في دينهم « و ذكرا للمتقين »
يذكرونه و يعملون بما فيه و يتعظون بمواعظه ثم وصف المتقين فقال « الذين يخشون ربهم
بالغيب » أي في حال الخلوة و الغيبة عن الناس و قيل في سرائرهم من غير رياء « و هم
من الساعة » أي من القيامة و أهوالها « مشفقون » أي خائفون « و هذا ذكر مبارك
أنزلناه » أراد به القرآن أنه ذكر ثابت نافع دائم نفعه إلى يوم القيامة و قيل سماه
مباركا لوفور فوائده من المواعظ و الزواجر و الأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق و
الأفعال لما وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الذي آتاه نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) « أ فأنتم له منكرون » استفهام على معنى التوبيخ أي فلما ذا تنكرونه
و تجحدونه مع كونه معجزا . النظم وجه اتصال قصة موسى و هارون بما قبلها
أنه لما تقدم ذكر الوحي بين عقيبه إن إنزال القرآن على نبيه ليس ببدع فقد أنزل على
موسى و هارون التوراة و قيل اتصل بقوله « و لقد استهزىء برسل من قبلك » و المعنى أن
هؤلاء كما أنهم استهزءوا بك مع أنا أنزلنا
مجمع البيان ج : 7 ص : 82
إليك
الكتاب فكذلك قد أنزلنا موسى و هارون الكتاب فكذبوهما و استهزءوا بهما . * وَ
لَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَهِيمَ رُشدَهُ مِن قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عَلِمِينَ(51)
إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتى أَنتُمْ لهََا
عَكِفُونَ(52) قَالُوا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا لهََا عَبِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ
كُنتُمْ أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكمْ فى ضلَل مُّبِين(54) قَالُوا أَ جِئْتَنَا
بِالحَْقِّ أَمْ أَنت مِنَ اللَّعِبِينَ(55) قَالَ بَل رَّبُّكمْ رَب السمَوَتِ وَ
الأَرْضِ الَّذِى فَطرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذَلِكم مِّنَ الشهِدِينَ(56) وَ
تَاللَّهِ لأَكيدَنَّ أَصنَمَكم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(57) فَجَعَلَهُمْ
جُذَذاً إِلا كبِيراً لهَُّمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58) قَالُوا مَن
فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظلِمِينَ(59) قَالُوا سمِعْنَا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَهِيمُ(60) القراءة قرأ الكسائي جذاذا بكسر
الجيم و الباقون بضمها و في الشواذ قراءة ابن عباس و أبي السماك بفتح الجيم .
الحجة قال أبو حاتم فيه لغات جذاذا و جذاذا و أجودها الضم كالحطام و
الرفات من جذذت الشيء إذا قطعته قال النابغة : تجذ السلوقي المضاعف نسجه و
يوقدن بالصفاح نار الحباحب
مجمع البيان ج : 7 ص : 83
و قال جرير : بنو
المهلب جذ الله دابرهم أمسوا رمادا فلا أصل و لا طرف . المعنى
ثم
عطف سبحانه على ما تقدم من قصة موسى و هارون بقصة إبراهيم (عليه السلام) فقال « و
لقد آتينا » أي أعطينا « إبراهيم رشده » يعني الحجج التي توصله إلى الرشد من معرفة
الله و توحيده و قيل معناه هداه أي هديناه صغيرا عن قتادة و مجاهد و قيل هو النبوة
« من قبل » أي من قبل موسى و قيل من قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) و القرآن و
قيل من قبل بلوغه « و كنا به عالمين » أنه أهل لإيتاء الرشد و صالح للنبوة « إذ قال
لأبيه و قومه » حين رآهم يعبدون الأصنام « ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون »
و العامل في إذ قوله « آتينا » أي آتينا رشده في ذلك الوقت و التمثال اسم للشيء
المصنوع مشبها بخلق من خلق الله و أصله من مثلت الشيء بالشيء إذا شبهته به و اسم
ذلك الممثل تمثال و جمعه تماثيل و قيل إنهم جعلوها أمثلة لعلمائهم الذين انقرضوا و
قيل إنهم جعلوها أمثلة للأجسام العلوية و المعنى ما هذه الصور التي أنتم مقيمون على
عبادتها و روى العياشي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أن عليا (عليه السلام) مر بقوم
يلعبون الشطرنج فقال ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون لقد عصيتم الله و رسوله
« قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين » فاقتدينا بهم اعترفوا بالتقليد إذ لم يجدوا حجة
لعبادتهم إياها سوى اتباع الآباء « قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين » أي
في ذهاب عن الحق ظاهر ذمهم على تقليد الآباء و نسبهم في ذلك إلى الضلال « قالوا أ
جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين » معناه أ جاد أنت فيما تقول محق عند نفسك أم لاعب
مازح و إنما قالوا ذلك لاستبعادهم إنكار عبادة الأصنام عليهم إذ ألفوا ذلك و
اعتادوه « قال بل ربكم رب السماوات و الأرض الذي فطرهن » أي بل إلهكم إله السماوات
و الأرض الذي خلقهن و ابتدأهن فدل على الله سبحانه بصنعة « و أنا على ذلكم من
الشاهدين » و معنى هذه الشهادة تحقيق الأخبار و الشاهد الدال على الشيء عن مشاهدة
فإبراهيم (عليه السلام) شاهد بالحق لأنه دال عليه بما يرجع إلى ثقة المشاهدة ثم
أقسم إبراهيم (عليه السلام) فقال « و تالله لأكيدن أصنامكم » أي لأدبرن في بابهم
تدبيرا خفيا يسؤكم ذلك و قيل إنما قال ذلك في سر من قومه و لم يسمع ذلك إلا رجل
منهم فأفشاه عن قتادة و مجاهد « بعد أن تولوا مدبرين » أي بعد أن تنطلقوا ذاهبين
قالوا كان لهم في كل سنة مجمع و عيد إذا رجعوا منه دخلوا على الأصنام و سجدوا لها
فقالوا لإبراهيم (عليه السلام) أ لا تخرج معنا فخرج فلما كان ببعض الطريق قال اشتكى
رجلي و انصرف « فجعلهم جذاذا » أي فجعل أصنامهم قطعا قطعا عن
مجمع البيان ج : 7
ص : 84
قتادة و قيل حطاما عن ابن عباس « إلا كبيرا لهم » تركه على حاله و يجوز
أن يكون كبيرهم في الخلقة و يجوز أن يكون أكبرهم عندهم في التعظيم قالوا جعل يكسرهم
بفأس في يده حتى لم يبق إلا الصنم الكبير علق الفأس في عنقه و خرج « لعلهم إليه
يرجعون » أي لعلهم يرجعون إلى إبراهيم فيسألونه عن حال الأصنام لينبههم على جهلهم و
قيل لعلهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه و هو لا ينطق فيعلمون جهل من اتخذوه إلها و
في الكلام هاهنا حذف تقديره فلما رجع قومه من عيدهم فوجدوا أصنامهم مكسرة « قالوا
من فعل هذا بإلهتنا إنه لمن الظالمين » من هذه الموصولة تقديره الذي فعل هذا
بإلهتنا فإنه ظالم لنفسه لأنه يقتل إذا علم به و قيل إنهم قالوا من فعل هذا
استفهموا عمن صنع ذلك و أنكروا عليه فعله بقولهم « أنه لمن الظالمين » إذ فعل ما لم
يكن له أن يفعله « قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم » أي قال الرجل الذي سمع
من إبراهيم قوله « لأكيدن أصنامكم » للقوم ما سمعه منه فقالوا سمعنا فتى يذكرهم
بسوء و قيل إنهم قالوا سمعنا فتى يعيب آلهتنا و يقول إنها لا تضر و لا تنفع و لا
تبصر و لا تسمع فهو الذي كسرها و على القول الأول فإنما قالوا سمعنا فتى و إن لم
يسمعوه كما يقال سمعت الله يقول أو سمعت الرسول يقول إذا بلغك عنه رسالة على لسان
ثقة صدوق و قوله « يقال له إبراهيم » ارتفع إبراهيم على وجهين ( أحدهما ) يقال له
هو إبراهيم و المعروف به إبراهيم و على النداء أي يقال له يا إبراهيم عن الزجاج .
مجمع البيان ج : 7 ص : 85
قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْينِ النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَشهَدُونَ(61) قَالُوا ءَ أَنت فَعَلْت هَذَا بِئَالهَِتِنَا
يَإِبْرَهِيمُ(62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كبِيرُهُمْ هَذَا فَسئَلُوهُمْ إِن كانُوا
يَنطِقُونَ(63) فَرَجَعُوا إِلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ
الظلِمُونَ(64) ثمَّ نُكِسوا عَلى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْت مَا هَؤُلاءِ
يَنطِقُونَ(65) قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكمْ شيْئاً
وَ لا يَضرُّكُمْ(66) أُف لَّكمْ وَ لِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَ فَلا
تَعْقِلُونَ(67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ انصرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كنتُمْ
فَعِلِينَ(68) قُلْنَا يَنَارُ كُونى بَرْداً وَ سلَماً عَلى إِبْرَهِيمَ(69) وَ
أَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَهُمُ الأَخْسرِينَ(70) اللغة النكس هو أن
يجعل أسفل الشيء أعلاه و منه النكس في العلة و هو أن يرجع إلى أول حاله و منه النكس
و هو السهم فوقه فيجعل أعلاه أسفله و يقال للمائق أيضا نكس تشبيها بذلك .
الإعراب « على أعين الناس » في موضع الحال أي مرئيا مشهودا « بل فعله
كبيرهم هذا » من وقف على فعله ففاعله مضمر و تقديره فعله من فعله و « كبيرهم »
مبتدأ و هذا خبره و من لم يقف على فعله فكبيرهم فاعله و هذا يكون صفة لكبيرهم أو
بدلا عنه و جواب الشرط الذي هو قوله « إن كانوا ينطقون » محذوف يدل عليه قوله « بل
فعله كبيرهم هذا فسألوهم » على الوجه الثاني و يقتضي أن يكون للشرط جزآن على هذا و
الجزاء الثاني معطوف على الأول التقدير إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم هذا
فسألوهم و المعنى إن لم يقدروا على النطق لم يقدروا على الفعل . المعنى
ثم ذكر سبحانه ما جرى بين إبراهيم و قومه في أمر الأصنام بقوله « قالوا » يعني
قوم إبراهيم « فأتوا به » أي فجيئوا به « على أعين الناس » أي بحيث يراه الناس و
يكون بمشهد منهم « لعلهم يشهدون » عليه بما قاله فيكون ذلك حجة عليه بما فعل عن
الحسن و قتادة و السدي قالوا كرهوا أن يأخذوه بغير بينة و قيل معناه لعلهم يشهدون
عقابه و ما يصنع به أي يحضرونه عن ابن إسحاق و الضحاك « قالوا أ أنت فعلت هذا
بإلهتنا يا إبراهيم » المعنى فلما جاءوا به قالوا له هذا القول مقررين له على ذلك
فأجابهم إبراهيم (عليه السلام) بأن « قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا
ينطقون » اختلفوا في معناه و تقديره على وجوه ( أحدها ) أنه مقيد بقوله « إن كانوا
ينطقون » و التقدير فقد فعله كبيرهم إن نطقوا فسألوهم فقد علق الكلام بشرط لا يوجد
فلا يكون كذبا و يكون كقول القائل فلان صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء ( و
ثانيها ) إنه خرج مخرج الخبر و ليس بخبر إنما هو إلزام يدل عليه الحال فكأنه قال ما
ينكرون أن يكون فعله كبيرهم هذا و الإلزام يأتي تارة بلفظ السؤال و تارة بلفظ الأمر
و تارة بلفظ الخبر و ربما يكون أحد هذه الأمور أبلغ فيه و وجه الإلزام إن هذه
الأصنام إن كانت آلهة كما تزعمون فإنما فعل ذلك بهم كبيرهم لأن غير الإله لا يقدر
أن يكسر الآلهة ( و ثالثها ) إن تقديره فعله من فعله على ما تقدم ذكره و هو قول
مجمع البيان ج : 7 ص : 86
الكسائي و أما ما ذكر فيه أنه أراد به الخبر عن
الكبير و قال أنه غضب من أن يعبد معه الصغار فكسرهن و ما روي في ذلك من أن إبراهيم
(عليه السلام) كذب ثلاث كذبات قوله إني سقيم و قوله « بل فعله كبيرهم » و قوله في
سارة لما أراد الجبار أخذها و كانت زوجته أنها أختي فمما لا يعول عليه فقد دلت
الأدلة العقلية التي لا تحتمل التأويل على أن الأنبياء لا يجوز عليهم الكذب و إن لم
يقصدوا به غرورا و لا ضررا كما لا يجوز عليهم التعمية في الأخبار و لا التقية لأن
ذلك يؤدي إلى التشكك في أخبارهم و كلام إبراهيم (عليه السلام) يجوز أن يكون من
المعاريض فقد أبيح ذلك عند الضرورة و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه
قال إن الكذب لا يصلح في جد و لا هزل و قد قيل في تفسير قوله إني سقيم إن معناه أني
سأسقم لأنه لما نظر إلى بعض علم النجوم وقت نوبة حمى كانت تأتيه فقال إني سأسقم و
قيل معناه إني سقيم عندكم فيما أدعوكم إليه و سنذكر الكلام فيه في موضعه و أما قوله
في سارة أنها أختي فإنما أراد في الدين قال سبحانه إنما المؤمنون إخوة و قد دل
الدليل العقلي على أن الكذب قبيح لكونه كذبا فلا يحسن على وجه من الوجوه « فرجعوا
إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون » معناه فرجع بعضهم إلى بعض و قال بعضهم لبعض
أنتم الظالمون حيث تعبدون ما لا يقدر على الدفع عن نفسه و ما نرى الأمر إلا كما قال
و قيل معناه فرجعوا إلى عقولهم و تدبروا في ذلك إذ علموا صدق إبراهيم فيما قاله و
حاروا عن جوابه فأنطقهم الله بالحق فقالوا إنكم أنتم الظالمون هذا الرجل في سؤاله و
هذه آلهتكم حاضرة فاسألوها « ثم نكسوا على رءوسهم » إذ تحيروا و علموا أنها لا تنطق
ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا « لقد علمت » يا إبراهيم « ما هؤلاء ينطقون »
فكيف نسألهم فأجابهم إبراهيم بعد اعترافهم بالحجة « قال أ فتعبدون من دون الله ما
لا ينفعكم شيئا و لا يضركم » أي أ فتوجهون عبادتكم إلى الأصنام التي لا تنفعكم شيئا
إن عبدتموها و لا تضركم إن تركتموها لأنها لو قدرت على نفعكم و ضركم لدفعت عن
أنفسها من دون الله سبحانه الذي يقدر على ضرركم و نفعكم على أنه ليس كل من قدر على
الضر و النفع استحق العبادة و إنما يستحقها من قدر على أصول النعم التي هي الحياة و
الشهوة و القدرة و كمال العقل و قدر على الثواب و العقاب ثم قال إبراهيم (عليه
السلام) مهجنا لأفعالهم مستقذرا لها « أف لكم و لما تعبدون من دون الله » قال
الزجاج معنى أف لكم تبا لأعمالكم و أفعالكم و قد ذكرنا اختلاف القراء فيه و ما قيل
في تفسيره في سورة بني إسرائيل « أ فلا تعقلون » أي أ فلا تتفكرون بعقولكم في أن
هذه الأصنام لا تستحق العبادة « قالوا حرقوه » و المعنى فلما سمعوا منه هذا القول
قال بعضهم لبعض حرقوه بالنار « و انصروا آلهتكم » أي و ادفعوا عنها
مجمع البيان
ج : 7 ص : 87
و عظموها « إن كنتم فاعلين » أي إن كنتم ناصريها و المعنى فلا
تنصرونها إلا بتحريقه بالنار قال ابن عمر و مجاهد إن الذي أشار بتحريق إبراهيم
بالنار رجل من أكراد فارس فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة و
قال وهب إنما قاله نمرود و في الكلام حذف قال السدي فجمعوا الحطب حتى أن الرجل منهم
ليمرض فيوصي بكذا و كذا من ماله فيشترى به حطب و حتى أن المرأة لتغزل فتشتري به
حطبا حتى بلغوا من ذلك ما أرادوا فلما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا
كيف يلقونه فجاء إبليس فدلهم على المنجنيق و هو أول منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثم
رموه « قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم » معناه فلما جمعوا الحطب و
ألقوه في النار قلنا للنار ذلك و هذا مثل فإن النار جماد لا يصح خطابه و المراد أنا
جعلنا النار بردا عليه و سلامة لا يصيبه من أذاها شيء كما قال سبحانه و تعالى كونوا
قردة خاسئين و المعنى أنه صيرهم كذلك لا أنه خاطبهم و أمرهم بذلك و قيل يجوز أن
يتكلم الله سبحانه بذلك و يكون ذلك صلاحا للملائكة و لطفا لهم و ذكر في كون النار
بردا على إبراهيم وجوه ( أحدها ) إن الله سبحانه أحدث فيها بردا بدلا من شدة
الحرارة التي فيها فلم تؤذه ( و ثانيها ) إن الله سبحانه حال بينها و بينه فلم تصل
إليه ( و ثالثها ) إن الإحراق إنما يحصل بالاعتمادات التي في النار صعدا فيجوز أن
يذهب سبحانه تلك الاعتمادات و على الجملة فقد علمنا إن الله سبحانه منع النار من
إحراقه و هو أعلم بتفاصيله قال أبو العالية لو لم يقل سبحانه « و سلاما » لكانت
تؤذيه من شدة بردها و لكان بردها أشد عليه من حرها فصارت سلاما عليه و لو لم يقل «
على إبراهيم » لكان بردها باقيا على الأبد و قال أبو عبد الله (عليه السلام) ) لما
أجلس إبراهيم في المنجنيق و أرادوا أن يرموا به في النار أتاه جبرائيل (عليه
السلام) فقال السلام عليك يا إبراهيم و رحمة الله و بركاته أ لك حاجة فقال أما إليك
فلا فلما طرحوه دعا الله فقال يا الله يا واحد يا أحد يا صمد يا من لم يلد و لم
يولد و لم يكن له كفوا أحد فحسرت النار عنه و أنه لمحتب و معه جبرائيل (عليه
السلام) و هما يتحدثان في روضة خضراء و روى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن
مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال إن نمرود الجبار لما ألقى إبراهيم
(عليه السلام) في النار نزل إليه جبرائيل (عليه السلام) بقميص من الجنة و طنفسة من
الجنة فألبسه القميص و أقعده على الطنفسة و قعد معه يحدثه تمام الخبر و قال كعب ما
أحرقت النار من إبراهيم (عليه السلام) غير وثاقه و قيل إن إبراهيم (عليه السلام)
ألقي في النار و هو ابن ست عشرة سنة « و أرادوا به كيدا » معناه إن الكفار أرادوا
بإبراهيم (عليه السلام) كيدا أي شرا و تدبيرا في إهلاكه « فجعلناهم الأخسرين » قال
ابن عباس هو أن سلط الله على نمرود و خيله البعوض حتى
مجمع البيان ج : 7 ص : 88
أخذت لحومهم و شربت دماءهم و وقعت واحدة في دماغه حتى أهلكته و المعنى أنهم
كادوه أرادوا أن يكيدوه بسوء فانقلب عليهم ذلك . وَ نجَّيْنَهُ وَ لُوطاً إِلى
الأَرْضِ الَّتى بَرَكْنَا فِيهَا لِلْعَلَمِينَ(71) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ
يَعْقُوب نَافِلَةً وَ ُكلاً جَعَلْنَا صلِحِينَ(72) وَ جَعَلْنَهُمْ أَئمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيرَتِ وَ إِقَامَ
الصلَوةِ وَ إِيتَاءَ الزَّكوةِ وَ كانُوا لَنَا عَبِدِينَ(73) وَ لُوطاً
ءَاتَيْنَهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نجَّيْنَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتى كانَت
تَّعْمَلُ الخَْبَئث إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سوْء فَسِقِينَ(74) وَ أَدْخَلْنَهُ
فى رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصلِحِينَ(75) اللغة النافلة العطية الخاصة و
النفل الذي يجر الحمد فيما زاد على حد الواجب و منها النافلة للصلاة و هي الفضل على
الفرائض و قيل النافلة الغنيمة قال لله نافلة الأعز الأفضل . الإعراب
« نافلة » نصب على الحال من « يعقوب » و قيل أنه نصب على المصدر من « وهبنا » و
تقديره وهبنا له هبة و « يهدون » صفة لائمة و مفعولاه محذفان تقديره يهدون الناس
الطريق و حذف التاء من إقامة لأن الإضافة عوض عنها و لا يجوز ذلك في غير الإضافة لا
يقال أقام إقاما كما يقال إقامة و « لوطا » منصوب بفعل مضمر يفسره هذا الظاهر
تقديره و آتينا لوطا آتيناه إلا أنه إذا ذكر المحذوف لم يذكر الموجود و النصب في
لوطا أحسن لتكون الجملة فعلية معطوفة على جملة فعلية و « فاسقين » يجوز أن يكون
منصوبا بكونه صفة ل « قوم سوء » و يجوز أن يكون خبر لكان و يكون خبرا بعد خبر .
المعنى ثم بين سبحانه تمام نعمته على إبراهيم (عليه السلام) فقال « و
نجيناه » أي من
مجمع البيان ج : 7 ص : 89
نمرود و كيده و المعنى و رفعناه «
و لوطا » من الهلكة و هو ابن أخي إبراهيم ف آمن به « إلى الأرض التي باركنا فيها
للعالمين » اختلف فيها فقيل هي أرض الشام أي نجينا من كوثي إلى الشام عن قتادة قال
و إنما قال « باركنا فيها » لأنها بلاد خصب و قيل إلى أرض بيت المقدس لأن بها مقام
الأنبياء عن الجبائي و قيل نجاهما إلى مكة كما قال إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
مباركا عن ابن عباس « و وهبنا له إسحاق » أي وهبنا لإبراهيم إسحاق حين سأل الولد
فقال رب هب لي من الصالحين « و يعقوب نافلة » قال ابن عباس و قتادة نافلة راجع إلى
يعقوب فإنه زاده من غير دعاء فهو نافلة و قيل إنه راجع إلى إسحاق و يعقوب جميعا
لأنه أعطاهما إياه من غير جزاء و لا استحقاق عن مجاهد « و كلا جعلنا صالحين » أي و
جعلنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب صالحين للنبوة و الرسالة و قيل معناه حكمنا بكونهم
صالحين و هو غاية ما يوصف به من الثناء الجميل « و جعلناهم أئمة » يقتدى بهم في
أفعالهم و أقوالهم « يهدون » الخلق إلى طريق الحق و إلى الدين المستقيم « بأمرنا »
فمن اهتدى بهم في أقوالهم و أفعالهم فالنعمة لنا عليه « و أوحينا إليهم فعل الخيرات
» قال ابن عباس شرائع النبوة « و إقام الصلاة » أي إقامة الصلاة « و إيتاء الزكاة »
أي إعطاء الزكاة « و كانوا لنا عابدين » أي مخلصين في العبادة « و لوطا آتيناه حكما
و علما » و معناه و أعطينا لوطا حكمة و علما و قيل الحكم النبوة و قيل هو الفصل بين
الخصوم بالحق أي جعلناه حاكما و علمناه ما يحتاج إلى العلم به « و نجيناه من القرية
التي كانت تعمل الخبائث » و هي قرية سدوم على ما روي و الخبائث التي كانوا يعملونها
هي أنهم كانوا يأتون الذكران في أدبارهم و يتضارطون في أنديتهم و قيل هي ما حكى
الله تعالى إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل و تأتون في ناديكم المنكر و غير ذلك
من القبائح و أراد بالقرية أهلها ثم ذمهم فقال « إنهم كانوا قوم سوء فاسقين » أي
خارجين عن طاعة الله تعالى « و أدخلناه في رحمتنا » أي في نعمتنا و سنتنا « إنه من
الصالحين » أي بسبب أنه من الصالحين الذين أصلحوا أفعالهم فعلموا بما هو الحسن منها
دون القبيح و قيل أراد بكونه من الصالحين أنه من الأنبياء .
مجمع البيان ج
: 7 ص : 90
وَ نُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاستَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَهُ
وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكرْبِ الْعَظِيمِ(76) وَ نَصرْنَهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِئَايَتِنَا إِنهُمْ كانُوا قَوْمَ سوْء فَأَغْرَقْنَهُمْ
أَجمَعِينَ(77) وَ دَاوُدَ وَ سلَيْمَنَ إِذْ يحْكمَانِ فى الحَْرْثِ إِذْ نَفَشت
فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كنَّا لحُِكْمِهِمْ شهِدِينَ(78) فَفَهَّمْنَهَا
سلَيْمَنَ وَ كلاًّ ءَاتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ
الْجِبَالَ يُسبِّحْنَ وَ الطيرَ وَ كنَّا فَعِلِينَ(79) وَ عَلَّمْنَهُ صنْعَةَ
لَبُوس لَّكمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شكِرُونَ(80)
القراءة قرأ أبو جعفر و ابن عامر و حفص عن عاصم و روح و زيد عن يعقوب «
لتحصنكم » بالتاء و قرأ أبو بكر عن عاصم و رويس عن يعقوب لنحصنكم بالنون و الباقون
ليحصنكم بالياء . الحجة من قرأ بالياء فيجوز أن يكون الفاعل اسم الله
لتقدم قوله « علمناه » و يجوز أن يكون اللباس لأن اللبوس بمعنى اللباس و يجوز أن
يكون داود و من قرأ بالتاء حمله على المعنى لأنه الدرع مؤنث و من قرأ بالنون فلتقدم
قوله علمناه . اللغة النفش بفتح الفاء و سكونها أن تنتشر الإبل و الغنم
بالليل فترعى بلا راع و إبل نفاش و اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب درعا أو جوشنا
أو سيفا أو رمحا قال الهذلي يصف رمحا : و معي لبوس للبئيس كأنه روق بجبهة
ذي نعاج مجفل و قيل هو كل ما يلبس من ثياب و درع و قيل هو الدرع و أصل اللباس من
الاختلاط و منه سميت المرأة لباسا و سمي الليل لباسا لأنه يباشر الناس بظلمته و
الإحصان الإحراز و أصله من المنع . الإعراب و نوحا معطوف على قوله « إذ
نفشت » ظرف لقوله « يحكمان » و قوله « و كنا لحكمهم شاهدين » يجوز أن يكون في موضع
الجر بالعطف على « يحكمان » أي وقت حكمهما في الحرث و كوننا شاهدين له و يجوز أن
يكون في موضع النصب على الحال و كلا
مجمع البيان ج : 7 ص : 91
منصوب لأنه
مفعول أول لآتينا و « حكما » مفعول ثان له « يسبحن » في موضع نصب على الحال من
الجبال « و الطير » عطف على الجبال و يجوز أن يكون مفعولا معه و تقديره يسبحن مع
الطير فيكون الواو بمعنى مع . المعنى ثم عطف سبحانه قصة نوح و داود على
قصة إبراهيم (عليه السلام) و لوط فقال « و نوحا إذ نادى » أي دعا ربه فقال رب لا
تذر على الأرض من الكافرين ديارا و قال إني مغلوب فانتصر و غير ذلك « من قبل » أي
من قبل إبراهيم و لوط « فاستجبنا له » أي أجبناه إلى ما التمسه « فنجيناه و أهله من
الكرب العظيم » أي من الغم الذي يصل حره إلى القلب و هو ما كان يلقاه من الأذى طول
تلك المدة و تحمل الاستخفاف من السقاط من أعظم الكرب « و نصرناه من القوم الذين
كذبوا ب آياتنا » أي منعناه منهم بالنصرة حتى لم يصلوا إليه بسوء و قيل معناه
نصرناه على القوم و من بمعنى على عن أبي عبيدة « إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم
أجمعين » صغارهم و كبارهم و ذكورهم و إناثهم « و داود و سليمان إذ يحكمان في الحرث
إذ نفشت فيه غنم القوم » أي و آتينا داود و سليمان حكما و علما إذ يحكمان و قيل
تقديره و اذكر داود و سليمان حين يحكمان في الحرث في الوقت الذي نفشت فيه غنم القوم
أي تفرقت ليلا « و كنا لحكمهم شاهدين » أي بحكمهم عالمين لم يغب عنا منه شيء و إنما
جمع في موضع التثنية لإضافة الحكم إلى الحاكم و إلى المحكوم لهم و قيل لأن الاثنين
جمع فهو مثل قوله « إن كان له إخوة » و هو يريد أخوين و اختلف في الحكم الذي حكما
به فقيل أنه زرع وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته عن قتادة و قيل كان كرما و قد بدت
عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان غير هذا يا نبي الله قال و ما
ذاك قال يدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان و يدفع الغنم إلى
صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه
ماله عن ابن مسعود و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) و قال
الجبائي أوحى الله تعالى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل و لم
يكن ذلك عن اجتهاد لأنه لا يجوز للأنبياء أن يحكموا بالاجتهاد و هذا هو الصحيح
المعول عليه عندنا و قال علي بن عيسى و البلخي يجوز أن يكون ذلك عن اجتهاد لأن رأي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أفضل من رأي غيره فإذا جاز التعبد بالتزام حكم غير
النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من طرق الاجتهاد فكيف يمنع من حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) على هذا الوجه و الذي يدل على صحة القول الأول أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا كان يوحى إليه و له طريق إلى العلم بالحكم فلا يجوز أن يحكم
بالظن على أن الحكم بالظن و الاجتهاد و القياس قد بين أصحابنا في كتبهم أنه لم
مجمع البيان ج : 7 ص : 92
يتعبد بها في الشرع إلا في مواضع مخصوصة ورد النص
بجواز ذلك فيها نحو قيم المتلفات و أروش الجنايات و جزاء الصيد و القبلة و ما جرى
هذا المجرى و أيضا فلو جاز للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أن يجتهد لجاز لغيره أن
يخالفه كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا و مخالفة الأنبياء تكون كفرا هذا و قد قال
الله سبحانه « و ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى » فأخبر سبحانه أنه إنما ينطق
عن جهة الوحي و يقوي ما ذكرناه قوله تعالى « ففهمناها سليمان » أي علمناه الحكومة
في ذلك و قيل إن سليمان قضى بذلك و هو ابن إحدى عشر سنة و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قضى بحفظ المواشي على أربابها ليلا و قضى بحفظ الحرث على أربابه
نهارا « و كلا آتينا حكما و علما » أي و كل واحد من داود و سليمان أعطيناه حكمة و
قيل معناه النبوة و علم الدين و الشرع « و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير »
قيل معناه سيرنا الجبال مع داود حيث سار فعبر عن ذلك بالتسبيح لما فيه من الآية
العظيمة التي تدعو إلى تسبيح الله و تعظيمه و تنزيهه عن كل ما لا يليق به و كذلك
تسخير الطير له تسبيح يدل على إن مسخرها قادر لا يجوز عليه مما يجوز على العباد عن
الجبائي و علي بن عيسى و قيل إن الجبال كانت تجاوبه بالتسبيح و كذلك الطير يسبح معه
بالغداة و العشي معجزة له عن وهب « و كنا فاعلين » أي قادرين على فعل هذه الأشياء
ففعلناها دلالة على نبوته « و علمناه صنعة لبوس لكم » أي علمناه كيف يصنع الدرع قال
قتادة أول من صنع الدرع داود (عليه السلام) و إنما كانت صفائح جعل الله سبحانه
الحديد في يده كالعجين فهو أول من سردها و حلقها فجمعت الخفة و التحصين و هو قوله «
لتحصنكم من بأسكم » أي ليحرزكم و يمنعكم من وقع السلاح فيكم عن السدي و قيل معناه
من حربكم أي في حالة الحرب و القتال فإن البأس في اللغة هو شدة القتال « فهل أنتم
شاكرون » لنعم الله تعالى عليكم و على أنبيائه قبلكم و هذا تقرير للخلق على شكره
فإن إنعامه على الأنبياء إنعام على الخلق و قيل إن سبب إلانة الحديد لداود (عليه
السلام) أنه كان نبيا ملكا و كان يطوف في ولايته متنكرا يتعرف أحوال عماله و
متصرفيه فاستقبله جبرائيل ذات يوم على صورة آدمي فسلم عليه فرد عليه السلام و قال
ما سيرة داود فقال نعمت السيرة لو لا خصلة فيه قال و ما هي قال أنه يأكل من بيت مال
المسلمين فتنكره و أثنى عليه و قال لقد أقسم داود أنه لا يأكل من بيت مال المسلمين
فعلم الله سبحانه صدقه فألان له الحديد كما قال و ألنا له الحديد و روي أن لقمان
الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك فصبر و لم يسأله حتى فرغ من ذلك فقام و لبس و قال نعمت
الجنة للحرب فقال لقمان الصمت حكمة و قليل فاعله .
مجمع البيان ج : 7 ص :
93
وَ لِسلَيْمَنَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تجْرِى بِأَمْرِهِ إِلى الأَرْضِ الَّتى
بَرَكْنَا فِيهَا وَ كنَّا بِكلِّ شىْء عَلِمِينَ(81) وَ مِنَ الشيَطِينِ مَن
يَغُوصونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِك وَ كُنَّا لَهُمْ حَفِظِينَ(82)
* وَ أَيُّوب إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنى مَسنىَ الضرُّ وَ أَنت أَرْحَمُ
الرَّحمِينَ(83) فَاستَجَبْنَا لَهُ فَكَشفْنَا مَا بِهِ مِن ضرّ وَ ءَاتَيْنَهُ
أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحمَةً مِّنْ عِندِنَا وَ ذِكرَى
لِلْعَبِدِينَ(84) وَ إِسمَعِيلَ وَ إِدْرِيس وَ ذَا الْكِفْلِ كلُّ مِّنَ
الصبرِينَ(85) وَ أَدْخَلْنَهُمْ فى رَحْمَتِنَا إِنَّهُم مِّنَ الصلِحِينَ(86)
اللغة الريح هو الجو يشتد تارة و يضعف تارة و هي جسم لطيف منفش يمتنع بلطفه
من القبض عليه و يظهر للحس بحركته و العصوف شدة حركة الريح عصفت تعصف عصفا و عصوفا
إذا اشتدت و العصف التبن لأن الريح تعصفه بتطييرها له . الإعراب
« و
لسليمان » اللام يتعلق بسخرنا و التقدير و سخرنا لداود الجبال و سخرنا لسليمان
الريح « عاصفة » نصب على الحال « تجري بأمره » في موضع الحال أيضا فهو حال بعد حال
و يحتمل أن يكون حالا عن الحال التي هي عاصفة و « من يغوصون » له عطف على الريح « و
من الشياطين » في موضع نصب على الحال من سخرنا و ذو الحال « من يغوصون له » و يجوز
أن يكون حالا من يغوصون له و ذو الحال الواو و معهم في موضع نصب على أنه صفة بعد
صفة تقديره و أهلا مثلهم كائنين معهم و انتصب رحمة بأنه مفعول له . المعنى
ثم عطف سبحانه بقصة سليمان على ما تقدم فقال « و لسليمان الريح » أي و سخرنا
لسليمان الريح « عاصفة » أي شديدة الهبوب قال ابن عباس إذا أراد أن تعصف الريح عصفت
و إذا أراد أن ترخي أرخيت و ذلك قوله رخاء حيث أصاب « تجري بأمره » أي بأمر سليمان
« إلى الأرض التي باركنا فيها » و هي أرض الشام لأنها كانت ماواه و قد سبق
مجمع
البيان ج : 7 ص : 94
ذكرها في هذه السورة و قيل كانت الريح تجري في الغداة
مسيرة شهر و في الرواح كذلك و كان يسكن بعلبك و يبني له بيت المقدس و يحتاج إلى
الخروج إليها و إلى غيرها و قال وهب و كان سليمان يخرج إلى مجلسه فتعكف عليه الطير
و يقوم له الجن و الإنس حتى يجلس على سريره و يجتمع معه جنوده ثم تحمله الريح إلى
حيث أراد « و كنا بكل شيء عالمين » فإنما أعطيناه ما أعطيناه لما علمناه من المصلحة
« و من الشياطين من يغوصون له » أي و سخرنا لسليمان من الشياطين من يغوصون له في
البحر فيخرجون له الجواهر و اللآلىء و الغوص النزول إلى تحت الماء « و يعملون عملا
دون ذلك » أي سوى ذلك من الأبنية كالمحاريب و التماثيل و غيرهما « و كنا لهم حافظين
» لئلا يهربوا منه و يمتنعوا عليه و قيل يحفظهم الله من أن يفسدوا ما عملوه عن
الفراء و الزجاج « و أيوب إذ نادى ربه » أي و اذكر يا محمد أيوب حين دعا ربه لما
امتدت المحنة به « إني مسني الضر » أي نالني الضر و أصابني الجهد « و أنت أرحم
الراحمين » أي و لا أحد أرحم منك و هذا تعريض منه بالدعاء لإزالة ما به من البلاء و
هو من لطيف الكنايات في طلب الحاجات و مثله قول موسى رب إني لما أنزلت إلي من خير
فقير « فاستجبنا له » أي أجبنا دعاءه و نداءه « فكشفنا ما به من ضر » أي أزلنا ما
به من الأوجاع و الأمراض « و آتيناه أهله و مثلهم معهم » قال ابن عباس و ابن مسعود
رد الله سبحانه عليه أهله الذين هلكوا بأعيانهم و أعطاه مثلهم معهم و كذلك رد الله
عليه أمواله و مواشيه بأعيانها و أعطاه مثلها معها و به قال الحسن و قتادة و هو
المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قيل أنه خير أيوب فاختار إحياء أهله في
الآخرة و مثلهم في الدنيا فأوتي على ما اختار عن عكرمة و مجاهد قال وهب و كان له
سبع بنات و ثلاثة بنين و قال ابن يسار سبعة بنين و سبع بنات « رحمة من عندنا » أي
نعمة منا عليه « و ذكرى للعابدين » أي موعظة لهم في الصبر و الانقطاع إلى الله
تعالى و التوكل عليه لأنه لم يكن في عصر أيوب أحد أكرم على الله منه فابتلاه بالمحن
العظيمة فأحسن الصبر عليها فينبغي لكل عاقل إذا أصابته محنة أن يصبر عليها و لا
يجزع و يعلم أن عاقبة الصبر محمودة « و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل » أي و اذكر
هؤلاء الأنبياء و ما أنعمت عليهم من فنون النعمة ثم قال « كل من الصابرين » صبروا
على بلاء الله و العمل بطاعته فأما إسماعيل فإنه صبر ببلد لا زرع به و لا ضرع و قام
ببناء الكعبة و أما إدريس فإنه صبر على الدعاء إلى الله و كان أول من بعث إلى قومه
فدعاهم إلى الدين فأبوا فأهلكهم الله تعالى و رفعه إلى السماء السادسة و أما ذو
الكفل فاختلف فيه فقيل أنه كان رجلا صالحا و لم يكن نبيا و لكنه تكفل لنبي بصوم
النهار و قيام الليل و أن لا يغضب و يعمل بالحق فوفى بذلك فشكر الله ذلك له عن أبي
موسى الأشعري و قتادة و مجاهد و قيل هو نبي اسمه
مجمع البيان ج : 7 ص : 95
ذو الكفل عن الحسن قال و لم يقص الله خبره مفصلا و قيل هو إلياس عن ابن عباس و
قيل كان نبيا و سمي ذا الكفل بمعنى أنه ذو الضعف فله ضعف ثواب غيره ممن هو في زمانه
لشرف عمله عن الجبائي و قيل هو اليسع بن خطوب الذي كان مع إلياس و ليس اليسع الذي
ذكره الله في القرآن تكفل لملك جبار إن هو تاب دخل الجنة و دفع إليه كتابا بذلك
فتاب الملك و كان اسمه كنعان فسمي ذا الكفل و الكفل في اللغة هو الخط و في كتاب
النبوة بالإسناد عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني قال كتبت إلى أبي جعفر (عليه
السلام) أسأله عن ذي الكفل و ما اسمه و هل كان من المرسلين فكتب (عليه السلام) أن
الله بعث مائة ألف نبي و أربعة و عشرين ألف نبي المرسلين منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر
رجلا و إن ذا الكفل منهم و كان بعد سليمان بن داود (عليهماالسلام) و كان يقضي بين
الناس كما يقضي داود (عليه السلام) و لم يغضب قط إلا لله تعالى و كان اسمه عدويا بن
أدارين « و أدخلناهم في رحمتنا » أي و أدخلنا هؤلاء الذين ذكرناهم من الأنبياء في
نعمتنا و أراد غمرناهم بالرحمة و لو قال رحمناهم لما أفاد ذلك بل أفاد أنه فعل بهم
الرحمة « إنهم من الصالحين » أي إنما أدخلناهم في رحمتنا لأنهم كانوا ممن صلحت
أعمالهم . وَ ذَا النُّونِ إِذ ذَّهَب مُغَضِباً فَظنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ
عَلَيْهِ فَنَادَى فى الظلُمَتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنت سبْحَنَك إِنى كنت مِنَ
الظلِمِينَ(87) فَاستَجَبْنَا لَهُ وَ نجَّيْنَهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذَلِك نُجِى
الْمُؤْمِنِينَ(88) وَ زَكرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَب لا تَذَرْنى فَرْداً وَ
أَنت خَيرُ الْوَرِثِينَ(89) فَاستَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيى وَ
أَصلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسرِعُونَ فى الْخَيرَتِ وَ
يَدْعُونَنَا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنَا خَشِعِينَ(90) القراءة
قرأ يعقوب فظن أن لن يقدر بضم الياء و الباقون « نقدر » بالنون و كسر الدال و
قرأ ابن عامر و أبو بكر نجي بنون واحدة و تشديد الجيم و الباقون « ننجي » بالنونين
. الحجة قوله « أن لن نقدر عليه » أن هذه مخففة من الثقيلة و تقديره ظن
أنه لن نقدر
مجمع البيان ج : 7 ص : 96
عليه أي لن نضيق عليه و من قرأ لن
يقدر عليه فهو مثل الأول في المعنى بني الفعل للمفعول به و أقيم الجار و المجرور
مقام الفاعل و من قرأ نجي المؤمنين بنون واحدة قال أبو بكر السراج هو وهم لأن النون
لا تدغم في الجيم و إنما خفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت في الكتابة و هي
في اللفظ ثابتة قال أبو علي و القول في ذلك إن عاصما ينبغي أن يكون قرأ بنونين و
أخفى الثانية فظن السامع أنه مدغم و كذلك غيره . المعنى ثم ذكر سبحانه
قصة يونس (عليه السلام) فقال « و ذا النون » أي و اذكر ذا النون و النون الحوت و
صاحبها يونس بن متى « إذ ذهب » أي حين ذهب « مغاضبا » لقومه عن ابن عباس و الضحاك
أي مراغما لهم من حيث أنه دعاهم إلى الإيمان مدة طويلة فلم يؤمنوا حتى أوعدهم الله
بالعذاب فخرج من بينهم مغاضبا لهم قبل أن يؤذن له « فظن أن لن نقدر عليه » أي لن
نضيق عليه عن عطا و جماعة من المفسرين و قيل ظن أن لن نقضي عليه ما قضيناه و القدر
بمعنى القضاء عن مجاهد و قتادة و الكلبي و الجبائي قال الجبائي ضيق الله عليه
الطريق حتى ألجأه إلى ركوب البحر ثم قذف فيه فابتلعته السمكة و من قال أنه خرج
مغاضبا لربه و أنه ظن أن لن يقدر الله على أخذه بمعنى أنه يعجز عنه فقد أساء الثناء
على الأنبياء فإن مغاضبة الله كفر أو كبيرة عظيمة و تجويز العجز على الله سبحانه
كذلك فكيف يجوز ذلك على نبي من أنبياء الله تعالى و قال ابن زيد إنه استفهام معناه
التوبيخ و تقديره فظن إن لن نقدر عليه و أنكره علي بن عيسى و قال لا يجوز حذف
الاستفهام من غير دليل عليه و قد جاء في كلام العرب حذفه على خلاف ما قاله أنشد
النحويون قول عمر بن أبي ربيعة : ثم قالوا تحبها قلت بهرا عدد القطر و
الحصى و التراب أي أ تحبها « فنادى في الظلمات » قيل إنها ظلمة الليل و ظلمة البحر
و ظلمة بطن الحوت عن ابن عباس و قتادة و قيل كان حوت في بطن حوت عن سالم بن أبي
الجعد « أن لا إله إلا أنت سبحانك » لما أراد السؤال و الدعاء قدم ذكر التوحيد و
العدل ثم قال « إني كنت من الظالمين » أي من الذين يقع منهم الظلم و إنما قاله على
سبيل الخشوع و الخضوع لأن جنس البشر لا يمتنع منه وقوع الظلم قال الجبائي لم يكن
يونس في بطن الحوت على جهة العقوبة من الله تعالى لأن العقوبة عداوة للمعاقب لكن
كان ذلك على وجه التأديب و التأديب يجوز للمكلف و غير المكلف كتأديب الصبي و غيره و
بقاؤه في بطن الحوت حيا
|