قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
صحته الطبيعية إلى السقم و العاهة.
فالاجتماع بجميع شئونه و جهاته سواء كان اجتماعا فاضلا أو اجتماعا فاسدا ينتهي
بالأخرة إلى الطبيعة و إن اختلف القسمان من حيث إن الاجتماع الفاسد يصادف في
طريق الانتهاء ما يفسده في آثاره بخلاف الاجتماع الفاضل.
فهذه حقيقة، و قد أشار إليها تصريحا أو تلويحا الباحثون عن هذه المباحث و قد
سبقهم إلى بيانه الكتاب الإلهي فبينه بأبدع البيان قال تعالى: "الذي أعطى كل
شيء خلقه ثم هدى:" طه - 50، و قال تعالى: "الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:
الأعلى - 3، و قال تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقويها": الشمس -
8، إلى غير ذلك من آيات القدر.
فالأشياء و من جملتها الإنسان إنما تهتدي في وجودها و حياتها إلى ما خلقت له و
جهزت بما يكفيه و يصلح له من الخلقة، و الحياة القيمة بسعادة الإنسان هي التي
تنطبق أعمالها على الخلقة و الفطرة انطباقا تاما، و تنتهي وظائفها و تكاليفها
إلى الطبيعة انتهاء صحيحا، و هذا هو الذي يشير إليه قوله تعالى: "فأقم وجهك
للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين
القيم:" الروم - 30.
و الذي تقتضيه الفطرة في أمر الوظائف و الحقوق الاجتماعية بين الأفراد - على أن
الجميع إنسان ذو فطرة بشرية - أن يساوي بينهم في الحقوق و الوظائف من غير أن
يحبا بعض و يضطهد آخرون بإبطال حقوقهم، لكن ليس مقتضى هذه التسوية التي يحكم
بها العدل الاجتماعي أن يبذل كل مقام اجتماعي لكل فرد من أفراد المجتمع، فيتقلد
الصبي مثلا على صباوته و السفيه على سفاهته ما يتقلده الإنسان العاقل المجرب،
أو يتناول الضعيف العاجز ما يتناوله القوي المتقدر من الشئون و الدرجات، فإن في
تسوية حال الصالح و غير الصالح إفسادا لحالهما معا.
بل الذي يقتضيه العدل الاجتماعي و يفسر به معنى التسوية أن يعطى كل ذي حق حقه و
ينزل منزلته، فالتساوي بين الأفراد و الطبقات إنما هو في نيل كل ذي حق خصوص حقه
من غير أن يزاحم حق حقا، أو يهمل أو يبطل حق بغيا أو تحكما و نحو ذلك، و هذا هو
الذي يشير إليه قوله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف و للرجال عليهن درجة
الآية، كما مر بيانه، فإن الآية تصرح بالتساوي في عين تقرير الاختلاف بينهن و
بين الرجال.
ثم إن اشتراك القبيلين أعني الرجال و النساء في أصول المواهب الوجودية أعني،
الفكر و الإرادة المولدتين للاختيار يستدعي اشتراكها مع الرجل في حرية الفكر و
الإرادة أعني الاختيار، فلها الاستقلال بالتصرف في جميع شئون حياتها الفردية و
الاجتماعية عدا ما منع عنه مانع و قد أعطاها الإسلام هذا الاستقلال و الحرية
على أتم الوجوه كما سمعت فيما تقدم، فصارت بنعمة الله سبحانه مستقلة بنفسها
منفكة الإرادة و العمل عن الرجال و ولايتهم و قيمومتهم، واجدة لما لم يسمح لها
به الدنيا في جميع أدوارها و خلت عنه صحائف تاريخ وجودها، قال تعالى: "فلا جناح
عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف" الآية،: البقرة - 234.
لكنها مع وجود العوامل المشتركة المذكورة في وجودها تختلف مع الرجال من جهة
أخرى، فإن المتوسطة من النساء تتأخر عن المتوسط من الرجال في الخصوصيات
الكمالية من بنيتها كالدماغ و القلب و الشرائين و الأعصاب و القامة و الوزن على
ما شرحه فن وظائف الأعضاء، و استوجب ذلك أن جسمها ألطف و أنعم كما أن جسم الرجل
أخشن و أصلب، و أن الإحساسات اللطيفة كالحب و رقة القلب و الميل إلى الجمال و
الزينة أغلب عليها من الرجل كما أن التعقل أغلب عليه من المرأة، فحياتها حياة
إحساسية كما أن حياة الرجل حياة تعقلية.
و لذلك فرق الإسلام بينهما في الوظائف و التكاليف العامة الاجتماعية التي يرتبط
قوامها بأحد الأمرين أعني التعقل، و الإحساس، فخص مثل الولاية و القضاء و
القتال بالرجال لاحتياجها المبرم إلى التعقل و الحياة التعقلية إنما هي للرجل
دون المرأة، و خص مثل حضانة الأولاد و تربيتها و تدبير المنزل بالمرأة، و جعل
نفقتها على الرجل، و جبر ذلك له بالسهمين في الإرث و هو في الحقيقة بمنزلة أن
يقتسما الميراث نصفين ثم تعطى المرأة ثلث سهمها للرجل في مقابل نفقتها أي
للانتفاع بنصف ما في يده فيرجع بالحقيقة إلى أن ثلثي المال في الدنيا للرجال
ملكا و عينا و ثلثيها للنساء انتفاعا فالتدبير الغالب إنما هو للرجال لغلبة
تعقلهم، و الانتفاع و التمتع الغالب للنساء لغلبة إحساسهن.
و سنزيده إيضاحا في الكلام على آيات الإرث إن شاء الله تعالى ثم تمم ذلك
بتسهيلات و تخفيفات في حق المرأة مرت الإشارة إليها.
فإن قلت: ما ذكر من الإرفاق البالغ للمرأة في الإسلام يوجب انعطالها في العمل
فإن ارتفاع الحاجة الضرورية إلى لوازم الحياة بتخديرها، و كفاية مئونتها بإيجاب
الإنفاق على الرجل يوجب إهمالها و كسلها و تثاقلها عن تحمل مشاق الأعمال و
الأشغال فتنمو على ذلك نماء رديا و تنبت نباتا سيئا غير صالح لتكامل الاجتماع،
و قد أيدت التجربة ذلك.
قلت: وضع القوانين المصلحة لحال البشر أمر، و إجراء ذلك بالسيرة الصالحة و
التربية الحسنة التي تنبت الإنسان نباتا حسنا أمر آخر، و الذي أصيب به الإسلام
في مدة سيرها الماضي هو فقد الأولياء الصالحين و القوام المجاهدين فارتدت بذلك
أنفاس الأحكام، و توقفت التربية ثم رجعت القهقرى.
و من أوضح ما أفاده التجارب القطعي: أن مجرد النظر و الاعتقاد لا يثمر أثره ما
لم يثبت في النفس بالتبليغ و التربية الصالحين، و المسلمون في غير برهة يسيرة
لم يستفيدوا من الأولياء المتظاهرين بولايتهم القيمين بأمورهم تربية صالحة
يجتمع فيها العلم و العمل، فهذا معاوية، يقول على منبر العراق حين غلب على أمر
الخلافة ما حاصله: إني ما كنت أقاتلكم لتصلوا أو تصوموا فذلك إليكم و إنما كنت
أقاتلكم لأتأمر عليكم و قد فعلت، و هذا غيره من الأمويين و العباسيين فمن
دونهم.
و لو لا استضاءة هذا الدين بنور الله الذي لا يطفأ و الله متم نوره و لو كره
الكافرون لقضي عليه منذ عهد قديم.
حرية المرأة في المدنية الغربية
لا شك أن الإسلام له التقدم الباهر في إطلاقها عن قيد الإسارة، و إعطائها
الاستقلال في الإرادة و العمل، و أن أمم الغرب فيما صنعوا من أمرها إنما قلدوا
الإسلام - و إن أساءوا التقليد و المحاذاة - فإن سيرة الإسلام حلقة بارزة مؤثرة
أتم التأثير في سلسلة السير الاجتماعية و هي متوسطة متخللة، و من المحال أن
يتصل ذيل السلسلة بصدرها دونها.
و بالجملة فهؤلاء بنوا على المساواة التامة بين الرجل و المرأة في الحقوق في
هذه الأزمنة بعد أن اجتهدوا في ذلك سنين مع ما في المرأة من التأخر الكمالي
بالنسبة إلى الرجل كما سمعت إجماله.
و الرأي العام عندهم تقريبا: أن تأخر المرأة في الكمال و الفضيلة مستند إلى سوء
التربية التي دامت عليها و مكثت قرونا لعلها تعادل عمر الدنيا مع تساوي طباعها
طباع الرجل.
و يتوجه عليه: أن الاجتماع منذ أقدم عهود تكونه قضى على تأخرها عن الرجل في
الجملة، و لو كان الطباعان متساويين لظهر خلافه و لو في بعض الأحيان و لتغيرت
خلقة أعضائها الرئيسة و غيرها إلى مثل ما في الرجل.
و يؤيد ذلك أن المدنية الغربية مع غاية عنايتها في تقديم المرأة ما قدرت بعد
على إيجاد التساوي بينهما، و لم يزل الإحصاءات في جميع ما قدم الإسلام فيه
الرجل على المرأة كالولاية و القضاء و القتال تقدم الرجال و تؤخر النساء، و أما
ما الذي أورثته هذه التسوية في هيكل الاجتماع الحاضر فسنشرح ما تيسر لنا منه في
محله إن شاء الله تعالى.
بحث علمي آخر
عمل النكاح من أصول الأعمال الاجتماعية، و البشر منذ أول تكونه و تكثره حتى
اليوم لم يخل عن هذا العمل الاجتماعي، و قد عرفت أن هذه الأعمال لا بد لها من
أصل طبيعي ترجع إليه ابتداء أو بالأخرة.
و قد وضع الإسلام هذا العمل عند تقنينه على أساس خلقه الفحولة و الأناس إذ من
البين أن هذا التجهيز المتقابل الموجود في الرجل و المرأة - و هو تجهيز دقيق
يستوعب جميع بدن الذكور و الإناث - لم يوضع هباء باطلا، و من البين عند كل من
أجاد التأمل أن طبيعة الإنسان الذكور في تجهيزها لا تريد إلا الإناث و كذا
العكس، و أن هذا التجهيز لا غاية له إلا توليد المثل و إبقاء النوع بذلك، فعمل
النكاح يبتني على هذه الحقيقة و جميع الأحكام المتعلقة به تدور مدارها، و لذلك
وضع التشريع على ذلك أي على البضع، و وضع عليه أحكام العفة و المواقعة و اختصاص
الزوجة بالزوج و أحكام الطلاق و العدة و الأولاد و الإرث و نحو ذلك.
و أما القوانين الآخر الحاضرة فقد وضعت أساس النكاح على تشريك الزوجين مساعيهما
في الحياة، فالنكاح نوع اشتراك في العيش هو أضيق دائرة من الاجتماع البلدي و
نحو ذلك، و لذلك لا ترى القوانين الحاضرة متعرضة لشيء مما تعرض له الإسلام من
أحكام العفة و نحو ذلك.
و هذا البناء على ما يتفرع عليه من أنواع المشكلات و المحاذير الاجتماعية على
ما سنبين إن شاء الله العزيز لا ينطبق على أساس الخلقة و الفطرة أصلا، فإن غاية
ما نجده في الإنسان من الداعي الطبيعي إلى الاجتماع و تشريك المساعي هو أن
بنيته في سعادة حياته تحتاج إلى أمور كثيرة و أعمال شتى لا يمكنه وحده أن يقوم
بها جميعا إلا بالاجتماع و التعاون فالجميع يقوم بالجميع، و الأشواق الخاصة
المتعلق كل واحد منها بشغل من الأشغال و نحو من أنحاء الأعمال متفرقة في
الأفراد يحصل من مجموعها مجموع الأشغال و الأعمال.
و هذا الداعي إنما يدعو إلى الاجتماع و التعاون بين الفرد و الفرد أيا ما كانا،
و أما الاجتماع الكائن من رجل و امرأة فلا دعوة من هذا الداعي بالنسبة إليه،
فبناء - الازدواج على أساس التعاون الحيوي انحراف عن صراط الاقتضاء الطبيعي
للتناسل و التوالد إلى غيره مما لا دعوة من الطبيعة و الفطرة بالنسبة إليه.
و لو كان الأمر على هذا، أعني وضع الازدواج على أساس التعاون و الاشتراك في
الحياة كان من اللازم أن لا يختص أمر الازدواج من الأحكام الاجتماعية بشيء أصلا
إلا الأحكام العامة الموضوعة لمطلق الشركة و التعاون، و في ذلك إبطال فضيلة
العفة رأسا و إبطال أحكام الأنساب و المواريث كما التزمته الشيوعية، و في ذلك
إبطال جميع الغرائز الفطرية التي جهز بها الذكور و الإناث من الإنسان، و سنزيده
إيضاحا في محل يناسبه إن شاء الله، هذا إجمال الكلام في النكاح، و أما الطلاق
فهو من مفاخر هذه الشريعة الإسلامية، و قد وضع جوازه على الفطرة إذ لا دليل من
الفطرة يدل على المنع عنه، و أما خصوصيات القيود المأخوذة في تشريعه فسيجيء
الكلام فيها في سورة الطلاق إن شاء الله العزيز.
و قد اضطرت الملل المعظمة اليوم إلى إدخاله في قوانينهم المدنية بعد ما لم يكن.
2 سورة البقرة - 243
أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَرِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أَحْيَهُمْ إِنّ اللّهَ لَذُو
فَضلٍ عَلى النّاسِ وَ لَكِنّ أَكثرَ النّاسِ لا يَشكرُونَ (243)
بيان
قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت، الرؤية
هاهنا بمعنى العلم، عبر بذلك لدعوى ظهوره بحيث يعد فيه العلم رؤية فهو كقوله
تعالى: "أ لم تر أن الله خلق السموات و الأرض بالحق": إبراهيم - 19، و قوله
تعالى: "أ لم تر كيف خلق الله سبع سموات طباقا:" نوح - 15.
و قد ذكر الزمخشري أن لفظ أ لم تر جرى مجرى المثل، يؤتى به في مقام التعجيب
فقولنا: أ لم تر كذا و كذا معناه أ لا تعجب لكذا و كذا، و حذر الموت مفعول له،
و يمكن أن يكون مفعولا مطلقا و التقدير يحذرون الموت حذرا.
قوله تعالى: فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم، الأمر تكويني و لا ينافي كون موتهم
واقعا عن مجرى طبيعي كما ورد في الروايات: أن ذلك كان بالطاعون، و إنما عبر
بالأمر، دون أن يقال: فأماتهم الله ثم أحياهم ليكون أدل على نفوذ القدرة و غلبة
الأمر، فإن التعبير بالإنشاء في التكوينيات أقوى و آكد من التعبير بالإخبار كما
أن التعبير بصورة الإخبار الدال على الوقوع في التشريعيات أقوى و آكد من
الإنشاء، و لا يخلو قوله تعالى: ثم أحياهم عن الدلالة على أن الله أحياهم
ليعيشوا فعاشوا بعد حياتهم، إذ لو كان إحياؤهم لعبرة يعتبر بها غيرهم أو لإتمام
حجة أو لبيان حقيقة لذكر ذلك على ما هو دأب القرآن في بلاغته كما في قصة أصحاب
الكهف، على أن قوله تعالى بعد: إن الله لذو فضل على الناس، يشعر بذلك أيضا.
قوله تعالى: و لكن أكثر الناس لا يشكرون، الإظهار في موضع الإضمار أعني تكرار
لفظ الناس ثانيا لما فيه من الدلالة على انخفاض سطح أفكارهم، على أن هؤلاء
الذين تفضل الله عليهم بالإحياء طائفة خاصة، و ليس المراد كون الأكثر منهم
بعينهم غير شاكرين بل الأكثر من جميع الناس، و هذه الآية لا تخلو عن مناسبة ما
مع ما بعدها من الآيات المتعرضة لفرض القتال، لما في الجهاد من إحياء الملة بعد
موتها.
و قد ذكر بعض المفسرين أن الآية مثل ضربه الله لحال الأمة في تأخرها و موتها
باستخزاء الأجانب إياها ببسط السلطة و السيطرة عليها، ثم حياتها بنهضتها و
دفاعها عن حقوقها الحيوية و استقلالها في حكومتها على نفسها.
قال ما حاصله: إن الآية لو كانت مسوقة لبيان قصة من قصص بني إسرائيل كما يدل
عليه أكثر الروايات أو غيرهم كما في بعضها لكان من الواجب الإشارة إلى كونهم من
بني إسرائيل، و إلى النبي الذي أحياهم كما هو دأب القرآن في سائر قصصه مع أن
الآية خالية عن ذلك على أن التوراة أيضا لم تتعرض لذلك في قصص حزقيل النبي على
نبينا و آله و عليه السلام فليست الروايات إلا من الإسرائيليات التي دستها
اليهود، مع أن الموت و الحياة الدنيويتين ليستا إلا موتا واحدا أو حياة واحدة
كما يدل عليه قوله تعالى: "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:" الدخان -
56، و قوله تعالى: "و أحييتنا اثنتين": المؤمن - 11، فلا معنى لحياتين في
الدنيا هذا، فالآية مسوقة سوق المثل، و المراد بها قوم هجم عليهم أولوا القدرة
و القوة من أعدائهم باستذلالهم و استخزائهم و بسط السلطة فيهم و التحكم عليهم
فلم يدافعوا عن استقلالهم، و خرجوا من ديارهم و هم ألوف لهم كثرة و عزيمة حذر
الموت، فقال لهم الله موتوا موت الخزي و الجهل، فإن الجهل و الخمود موت كما أن
العلم و إباء الضيم حياة، قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و
للرسول إذا دعاكم لما يحييكم:" الأنفال - 24، و قال تعالى: أ و من كان ميتا
فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج
منها:" الأنعام - 122.
و بالجملة فهؤلاء يموتون بالخزي و تمكن الأعداء منهم و يبقون أمواتا، ثم أحياهم
الله بإلقاء روح النهضة و الدفاع عن الحق فيهم، فقاموا بحقوق أنفسهم و استقلوا
في أمرهم، و هؤلاء الذين أحياهم الله و إن كانوا بحسب الأشخاص غير الذين أماتهم
الله إلا أن الجميع أمة واحدة ماتت في حين و حييت في حين بعد حين، و قد عد الله
تعالى القوم واحدا مع اختلاف الأشخاص كقوله تعالى في بني إسرائيل: "أنجيناكم من
آل فرعون": الأعراف - 141، و قوله تعالى: "ثم بعثناكم من بعد موتكم": البقرة -
56، و لو لا ما ذكرناه من كون الآية مسوقا للتمثيل لم يستقم ارتباط الآية بما
يتلوها من آيات القتال و هو ظاهر، انتهى ما ذكره ملخصا.
و هذا الكلام كما ترى مبني أولا: على إنكار المعجزات و خوارق العادات أو بعضها
كإحياء الموتى و قد مر إثباتها، على أن ظهور القرآن في إثبات خرق العادة بإحياء
الموتى و نحو ذلك مما لا يمكن إنكاره و لو لم يسع لنا إثبات صحته من طريق
العقل.
و ثانيا: على دعوى أن القرآن يدل على امتناع أكثر من حياة واحدة في الدنيا كما
استدل بمثل قوله تعالى: "لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى:" الدخان -
56، و قوله تعالى: "أحييتنا اثنتين": المؤمن - 11.
و فيه أن جميع الآيات الدالة على إحياء الموتى كما في قصص إبراهيم و موسى و
عيسى و عزير، بحيث لا تدفع دلالتها، يكفي في رد ما ذكره، على أن الحياة الدنيا
لا تصير بتخلل الموت حياتين كما يستفاد أحسن الاستفادة من قصة عزير، حيث لم
يتنبه لموته الممتد، و المراد بما أورده من الآيات الدالة على نوع الحياة.
و ثالثا: على أن الآية لو كانت مسوقة لبيان القصة لتعرضت لتعيين قومهم و تشخيص
النبي الذي أحياهم.
و أنت تعلم أن مذاهب البلاغة مختلفة متشتتة، و الكلام كما ربما يجري مجرى
الإطناب كذلك يجري مجرى الإيجاز، و للآية نظائر في القرآن كقوله تعالى: "قتل
أصحاب الأخدود النار ذات الوقود إذ هم عليها قعود و هم على ما يفعلون بالمؤمنين
شهود": البروج - 7، و قوله تعالى: "و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون":
الأعراف - 181.
و رابعا: على أن الآية لو لم تحمل على التمثيل لم ترتبط بما بعدها من الآيات
بحسب المعنى، و أنت تعلم أن نزول القرآن نجوما يغني عن كل تكلف بارد في ربط
الآيات بعضها ببعض إلا ما كان منها ظاهر الارتباط، بين الاتصال على ما هو شأن
الكلام البليغ.
فالحق أن الآية كما هو ظاهرها مسوقة لبيان القصة، و ليت شعري أي بلاغة في أن
يلقي الله سبحانه للناس كلاما لا يرى أكثر الناظرين فيه إلا أنه قصة من قصص
الماضين، و هو في الحقيقة تمثيل مبني على التخييل من غير حقيقة.
مع أن دأب كلامه تعالى على تمييز المثل عن غيره في جميع الأمثال الموضوعة فيه
بنحو قوله: "مثلهم كمثل الذي": البقرة - 17، و قوله: "إنما مثل الحياة الدنيا":
يونس - 24، و قوله: "مثل الذين حملوا": الجمعة - 5، إلى غير ذلك.
بحث روائي
في الإحتجاج، عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): أحيا الله
قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون، لا يحصى عددهم، فأماتهم الله دهرا
طويلا حتى بليت عظامهم، و تقطعت أوصالهم، و صاروا ترابا، فبعث الله في وقت أحب
أن يرى خلقه نبيا يقال له: حزقيل، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم، و رجعت فيها
أرواحهم، و قاموا كهيئة يوم ماتوا، لا يفتقدون في أعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك
دهرا طويلا.
أقول: و روى هذا المعنى الكليني و العياشي بنحو أبسط، و في آخره: و فيهم نزلت
هذه الآية.
2 سورة البقرة - 244 - 252
وَ قَتِلُوا فى سبِيلِ اللّهِ وَ اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ سمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
مّن ذَا الّذِى يُقْرِض اللّهَ قَرْضاً حَسناً فَيُضعِفَهُ لَهُ أَضعَافاً
كثِيرَةً وَ اللّهُ يَقْبِض وَ يَبْصط وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَ لَمْ
تَرَ إِلى الْمَلا مِن بَنى إِسرءِيلَ مِن بَعْدِ مُوسى إِذْ قَالُوا لِنَبىٍّ
لّهُمُ ابْعَث لَنَا مَلِكاً نّقَتِلْ فى سبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسيْتُمْ
إِن كتِب عَلَيْكمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَتِلُوا قَالُوا وَ مَا لَنَا أَلا
نُقَتِلَ فى سبِيلِ اللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَرِنَا وَ أَبْنَائنَا
فَلَمّا كُتِب عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلّوْا إِلا قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَ
اللّهُ عَلِيمُ بِالظلِمِينَ (246) وَ قَالَ لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ اللّهَ
قَدْ بَعَث لَكمْ طالُوت مَلِكاً قَالُوا أَنى يَكُونُ لَهُ الْمُلْك عَلَيْنَا
وَ نحْنُ أَحَقّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْت سعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ
إِنّ اللّهَ اصطفَاهُ عَلَيْكمْ وَ زَادَهُ بَسطةً فى الْعِلْمِ وَ الْجِسمِ وَ
اللّهُ يُؤْتى مُلْكهُ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ وَسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قَالَ
لَهُمْ نَبِيّهُمْ إِنّ ءَايَةَ مُلْكهِ أَن يَأْتِيَكمُ التّابُوت فِيهِ
سكينَةٌ مِّن رّبِّكمْ وَ بَقِيّةٌ مِّمّا تَرَك ءَالُ مُوسى وَ ءَالُ هَرُونَ
تحْمِلُهُ الْمَلَئكَةُ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لّكمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ
(248) فَلَمّا فَصلَ طالُوت بِالْجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكم
بِنَهَرٍ فَمَن شرِب مِنْهُ فَلَيْس مِنى وَ مَن لّمْ يَطعَمْهُ فَإِنّهُ مِنى
إِلا مَنِ اغْتَرَف غُرْفَةَ بِيَدِهِ فَشرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلاً
مِّنْهُمْ فَلَمّا جَاوَزَهُ هُوَ وَ الّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا
طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوت وَ جُنُودِهِ قَالَ الّذِينَ يَظنّونَ
أَنّهُم مّلَقُوا اللّهِ كم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كثِيرَةَ
بِإِذْنِ اللّهِ وَ اللّهُ مَعَ الصبرِينَ (249) وَ لَمّا بَرَزُوا لِجَالُوت
وَ جُنُودِهِ قَالُوا رَبّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صبراً وَ ثَبِّت أَقْدَامَنَا
وَ انصرْنَا عَلى الْقَوْمِ الْكفِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَ
قَتَلَ دَاوُدُ جَالُوت وَ ءَاتَاهُ اللّهُ الْمُلْك وَ الحِْكمَةَ وَ عَلّمَهُ
مِمّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللّهِ النّاس بَعْضهُم بِبَعْضٍ لّفَسدَتِ
الأَرْض وَ لَكنّ اللّهَ ذُو فَضلٍ عَلى الْعَلَمِينَ (251) تِلْك ءَايَت
اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ وَ إِنّك لَمِنَ الْمُرْسلِينَ (252)
بيان
الاتصال البين بين الآيات أعني الارتباط الظاهر بين فرض القتال، و الترغيب في
القرض الحسن، و المعنى المحصل من قصة طالوت و داود و جالوت يعطي أن هذه الآيات
نزلت دفعة واحدة، و المراد بيان ما للقتال من شئون الحياة، و الروح الذي به
تقدم الأمة في حياتهم الدينية، و الدنيوية، و سعادتهم الحقيقية، يبين سبحانه
فيها فرض الجهاد، و يدعو إلى الإنفاق و البذل في تجهيز المؤمنين و تهيئة العدة
و القوة، و سماه إقراضا لله لكونه في سبيله، مع ما فيه من كمال الاسترسال و
الإيذان بالقرب، ثم يقص قصة طالوت و جالوت و داود ليعتبر بها هؤلاء المؤمنون
المأمورون بالقتال مع أعداء الدين و يعلموا أن الحكومة و الغلبة للإيمان و
التقوى و إن قل حاملوهما، و الخزي و الفناء للنفاق و الفسق و إن كثر جمعهما،
فإن بني إسرائيل، و هم أصحاب القصة، كانوا أذلاء مخزيين ما داموا على الخمود و
الكسل و التواني، فلما قاموا لله و قاتلوا في سبيل الله و استظهروا بكلمة الحق
و إن كان الصادق منهم في قوله القليل منهم، و تولى أكثرهم عند إنجاز القتال
أولا، و بالاعتراض على طالوت ثانيا، و بالشرب من النهر ثالثا، و بقولهم: لا
طاقة لنا بجالوت و جنوده رابعا، نصرهم الله تعالى على عدوهم فهزموهم بإذن الله
و قتل داود جالوت و استقر الملك فيهم، و عادت الحياة إليهم، و رجع إليهم سؤددهم
و قوتهم، و لم يكن ذلك كله إلا لكلمة أجراها الإيمان و التقوى على لسانهم لما
برزوا لجالوت و جنوده، و هي قولهم: ربنا أفرغ علينا صبرا و ثبت أقدامنا و
انصرنا على القوم الكافرين، فكذلك ينبغي للمؤمنين أن يسيروا بسيرة الصالحين من
الماضين، فهم الأعلون إن كانوا مؤمنين.
قوله تعالى: و قاتلوا في سبيل الله الآية، فرض و إيجاب للجهاد، و قد قيده تعالى
هاهنا و سائر المواضع من كلامه بكونه في سبيل الله لئلا يسبق إلى الوهم و لا
يستقر في الخيال أن هذه الوظيفة الدينية المهمة لإيجاد السلطة الدنيوية الجافة،
و توسعة المملكة الصورية، كما تخيله الباحثون اليوم في التقدم الإسلامي من
الاجتماعيين و غيرهم، بل هو لتوسعة سلطة الدين التي فيها صلاح الناس في دنياهم
و آخرتهم.
و في قوله تعالى: و اعلموا أن الله سميع عليم، تحذير للمؤمنين في سيرهم هذا
السير أن لا يخالفوا بالقول إذا أمر الله و رسوله بشيء، و لا يضمروا نفاقا كما
كان ذلك من بني إسرائيل حيث تكلموا في أمر طالوت فقالوا: أنى يكون له الملك
علينا "إلخ"، و حيث قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت و جنوده، و حيث فشلوا و
تولوا لما كتب عليهم القتال و حيث شربوا من النهر بعد ما نهاهم طالوت عن شربه.
قوله تعالى: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا إلى قوله أضعافا كثيرة، القرض
معروف و قد عد الله سبحانه ما ينفقونه في سبيله قرضا لنفسه لما مر أنه للترغيب،
و لأنه إنفاق في سبيله، و لأنه مما سيرد إليهم أضعافا مضاعفة.
و قد غير سياق الخطاب من الأمر إلى الاستفهام فقيل بعد قوله: و قاتلوا في سبيل
الله: من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا، و لم يقل: قاتلوا في سبيل الله و
أقرضوا، لينشط بذلك ذهن المخاطب بالخروج من حيز الأمر غير الخالي من كلفة
التكليف إلى حيز الدعوة و الندب فيستريح بذلك و يتهيج.
قوله تعالى: و الله يقبض و يبصط و إليه ترجعون، - القبض - الأخذ بالشيء إليك و
يقابله البسط، و - البصط - هو البسط قلب سينه صادا لمجاورته حرف الإطباق و
التفخيم و هو الطاء.
و إيراد صفاته الثلاثة أعني: كونه قابضا و باسطا و مرجعا يرجعون إليه للإشعار
بأن ما أنفقوه بإقراضه تعالى لا يعود باطلا و لا يستبعد تضعيفه أضعافا كثيرة
فإن الله هو القابض الباسط، ينقص ما شاء، و يزيد ما شاء، و إليه يرجعون فيوفيهم
ما أقرضوه أحسن التوفية.
قوله تعالى: أ لم تر إلى الملإ من بني إسرائيل إلى قوله: في سبيل الله، - الملأ
- كما قيل: الجماعة من الناس على رأي واحد، سميت بالملإ لكونها تملأ العيون
عظمة و أبهة.
و قولهم لنبيهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، على ما يعطيه السياق يدل على
أن الملك المسمى بجالوت كان قد تملكهم، و سار فيهم بما افتقدوا به جميع شئون
حياتهم المستقلة من الديار و الأولاد بعد ما كان الله أنجاهم من آل فرعون،
يسومونهم سوء العذاب ببعثة موسى و ولايته و ولاية من بعده من أوصيائه، و بلغ من
اشتداد الأمر عليهم ما انتبه به الخامد من قواهم الباطنة، و عاد إلى أنفسهم
العصبية الزائلة المضعفة فعند ذلك سأل الملأ منهم نبيهم أن يبعث لهم ملكا
ليرتفع به اختلاف الكلمة من بينهم و تجتمع به قواهم المتفرقة الساقطة عن
التأثير، و يقاتلوا تحت أمره في سبيل الله.
قوله تعالى: قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، كان بنو إسرائيل
سألوا نبيهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله و ليس ذلك للنبي بل
الأمر في ذلك إلى الله سبحانه، و لذلك أرجع نبيهم الأمر في القتال و بعث الملك
إلى الله تعالى، و لم يصرح باسمه تعظيما لأن الذي أجابهم به هو السؤال عن
مخالفتهم و كانت مرجوة منهم ظاهرة من حالهم بوحيه تعالى فنزه اسمه تعالى من
التصريح به بل إنما أشار إلى أن الأمر منه و إليه تعالى بقوله: إن كتب، و -
الكتابة - و هي الفرض إنما تكون من الله تعالى.
و قد كانت المخالفة و التولي عن القتال مرجوا منهم لكنه أورده بطريق الاستفهام
ليتم الحجة عليهم بإنكارهم فيما سيجيبون به من قولهم: و ما لنا أن لا نقاتل في
سبيل الله.
قوله تعالى: قالوا: و ما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله و قد أخرجنا، - الإخراج
- من البلاد لما كان ملازما للتفرقة بينهم و بين أوطانهم المألوفة، و منعهم عن
التصرف فيها و التمتع بها، كني به عن مطلق التصرف و التمتع، و لذلك نسب الإخراج
إلى الأبناء أيضا كما نسب إلى البلاد.
قوله تعالى: فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم و الله عليم
بالظالمين، تفريع على قول نبيهم: هل عسيتم "إلخ"، و قولهم: و ما لنا أن لا
نقاتل، و في قوله تعالى: و الله عليم بالظالمين، دلالة على أن قول نبيهم لهم:
هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا، إنما كان لوحي من الله سبحانه: أنهم
سيتولون عن القتال.
قوله تعالى: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث إلى قوله: من المال في جوابه (عليه
السلام) هذا حيث نسب بعث الملك إلى الله تنبيه بما فات منهم إذ قالوا لنبيهم
ابعث لنا ملكا نقاتل و لم يقولوا: اسأل الله أن يبعث لنا ملكا و يكتب لنا
القتال.
و بالجملة التصريح باسم طالوت هو الذي أوجب منهم الاعتراض على ملكه و ذلك لوجود
صفتين فيه كانتا تنافيان عندهم الملك، و هما ما حكاهما الله تعالى من قولهم أنى
يكون له الملك علينا و نحن أحق بالملك منه، و من المعلوم أن قولهم هذا لنبيهم،
و لم يستدلوا على كونهم أحق بالملك منه بشيء يدل على أن دليله كان أمرا بينا لا
يحتاج إلى الذكر، و ليس إلا أن بيت النبوة و بيت الملك في بني إسرائيل و هما
بيتان مفتخران بموهبة النبوة و الملك كانتا غير البيت الذي كان منه طالوت، و
بعبارة أخرى لم يكن طالوت من بيت الملك و لا من بيت النبوة و لذلك اعترضوا على
ملكه بأنى، و هم أهل بيت الملك أو الملك و النبوة معا، أحق بالملك منه لأن الله
جعل الملك فينا فكيف يقبل الانتقال إلى غيرنا، و هذا الكلام منهم من فروع قولهم
بنفي البداء و عدم جواز النسخ و التغيير حيث قالوا: يد الله مغلولة غلت أيديهم،
و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: إن الله اصطفاه عليكم فهذه إحدى الصفتين المنافيتين
للملك عندهم، و الصفة الثانية ما في قولهم: و لم يؤت سعة من المال و قد كان
طالوت فقيرا، و قد أجاب عنه نبيهم بقوله: و زاده بسطة في العلم و الجسم "إلخ".
قوله تعالى: قال: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم و الجسم، الاصطفاء
و الاستصفاء - الاختيار و أصله الصفو، و - البسطة - هي السعة و القدرة، و هذان
جوابان عن اعتراضهم.
أما اعتراضهم بكونهم أحق بالملك من طالوت لشرف بيتهم، فجوابه: أن هذه مزية كان
الله سبحانه خص بيتهم بها و إذا اصطفى عليهم غيرهم كان أحق بالملك منهم، و كان
الشرف و التقدم لبيته على بيوتهم و لشخصه على أشخاصهم، فإنما الفضل يتبع تفضيله
تعالى.
و أما اعتراضهم بأنه لم يؤت سعة من المال، فجوابه: أن الملك و هو استقرار
السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن يتلاءم الإرادات
المتفرقة من الناس و تجتمع تحت إرادة واحدة و تتحد الأزمة باتصالها بزمام واحد
فيسير بذلك كل فرد من أفراد المجتمع طريق كماله اللائق به فلا يزاحم بذلك فرد
فردا، و لا يتقدم فرد من غير حق، و لا يتأخر فرد من غير حق.
و بالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيرا يوصل كل فرد من أفراده
إلى كماله اللائق به، و يدفع كل ما يمانع ذلك، و الذي يلزم وجوده في نيل هذا
المطلوب أمران: أحدهما: العلم بجميع مصالح حياة الناس و مفاسدها، و ثانيهما:
القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة، و هما اللذان يشير إليهما
قوله تعالى: و زاده بسطة في العلم و الجسم، و أما سعة المال فعده من مقومات
الملك من الجهل.
ثم جمع الجميع تحت حجة واحدة ذكرها بقوله تعالى: و الله يؤتي ملكه من يشاء، و
هو أن الملك لله وحده ليس لأحد فيه نصيب إلا ما آتاه الله سبحانه منه و هو مع
ذلك لله كما يفيده الإضافة في قوله تعالى، يؤتي ملكه، و إذا كان كذلك فله تعالى
التصرف في ملكه كيف شاء و أراد، ليس لأحد أن يقول: لما ذا أو بما ذا أي أن يسأل
عن علة التصرف لأن الله تعالى هو السبب المطلق، و لا عن متمم العلية و أداة
الفعل لأن الله تعالى تام لا يحتاج إلى متمم فلا ينبغي السؤال عن نقل الملك من
بيت إلى بيت، أو تقليده أحدا ليس له أسبابه الظاهرة من الجمع و المال.
و الإيتاء و الإفاضة الإلهية و إن كانت كيف شاء و لمن شاء غير أنها مع ذلك لا
تقع جزافا خالية عن الحكم و المصالح، فإن المقصود من قولنا: إنه تعالى يفعل ما
يشاء، و يؤتي الملك من يشاء و نظائر ذلك ليس أن الله سبحانه لا يراعي في فعله
جانب المصلحة أو أنه يفعل فعلا فإن اتفق أن صادف المصلحة فقد صادف و إن لم
يصادف فقد صار جزافا و لا محذور لأن الملك له فله أن يفعل ما يشاء هذا، فإن هذا
مما يبطله الظواهر الدينية و البراهين العقلية.
بل المقصود بذلك: أن الله سبحانه حيث ينتهي إليه كل خلق و أمر فالمصالح و جهات
الخير مثل سائر الأشياء مخلوقة له تعالى، و إذا كان كذلك لم يكن الله سبحانه في
فعله مقهورا لمصلحة من المصالح محكوما بحكمها، كما أننا في أفعالنا كذلك، فإذا
فعل سبحانه فعلا أو خلق خلقا و لا يفعل إلا الجميل، و لا يخلق إلا الحسن كان
فعله ذا مصلحة مرعيا فيه صلاح العباد غير أنه تعالى غير محكوم و لا مقهور
للمصلحة.
و من هنا صح اجتماع هذا التعليل مع ما تقدمه، أعني اجتماع قوله تعالى: و الله
يؤتي ملكه من يشاء، مع قوله تعالى: إن الله اصطفاه عليكم و زاده بسطة في العلم
و الجسم، فإن الحجة الأولى مشتملة على التعليل بالمصالح و الأسباب، و الحجة
الثانية على إطلاق الملك الذي يفعل ما يشاء، و لو لا أن إطلاق الملك و كونه
تعالى يفعل ما يشاء لا ينافي كون أفعاله مقارنة للمصالح و الحكم لم يصح الجمع
بين الكلامين فضلا عن تأييد أحدهما أو تتميمه بالآخر.
و قد أوضح هذا المعنى أحسن الإيضاح تذييل الآية بقوله تعالى: و الله واسع عليم
فإن الواسع يدل على عدم ممنوعيته تعالى عن فعل و إيتاء أصلا و العليم يدل على
أن فعله تعالى فعل يقع عن علم ثابت غير مخطىء فهو سبحانه يفعل كل ما يشاء و
|