قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
المادة، و بذلك يمتاز نوع من نوع، و بالحقيقة لا نوع جوهري
يباين نوعا جوهريا آخر، بل جميع الأنواع تتحلل إلى المادة الواحدة نوعا
المختلفة بحسب التراكيب المتنوعة، و من هنا تراهم يحكمون بتبدل الأنواع و
بتبعية المحيط أو تأثير سائر العوامل الطبيعية و لا يبالون بتبدل الذات فيها، و
للبحث ذيل ممتد سيمر بك إن شاء الله تفصيل القول فيه.
و نرجع إلى أول الكلام فنقول: ذكر بعض المفسرين: أن قوله تعالى، و لو لا دفع
الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض و لكن الله ذو فضل على العالمين الآية إشارة
إلى قانوني تنازع البقاء و الانتخاب الطبيعي.
قال: و يقرر ذلك قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على
نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله و لو لا
دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع و بيع و صلوات و مساجد يذكر فيها اسم
الله كثيرا و لينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض
أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر و لله عاقبة
الأمور": الحج - 41، فهذا إرشاد إلى تنازع البقاء و الدفاع عن الحق، و أنه
ينتهي ببقاء الأمثل و حفظ الأفضل.
و مما يدل على هذه القاعدة من القرآن المجيد قوله تعالى: "أنزل من السماء ماء
فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء
حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الزبد فيذهب جفاء و
أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال:" الرعد - 17، فهو
يفيد أن سيول الحوادث و ميزان التنازع تقذف زبد الباطل الضار في الاجتماع و
تدفعه و تبقى إبليز الحق النافع الذي ينمو فيه العمران، و إبريز المصلحة التي
يتحلى به الإنسان، انتهى.
أقول: أما إن قاعدة تنازع البقاء و كذا قاعدة الانتخاب الطبيعي بالمعنى الذي مر
بيانه حق في الجملة، و أن القرآن يعتني بهما فلا كلام فيه، لكن هذين الصنفين
الذين أوردهما من الآيات غير مسوقين لبيان شيء من القاعدتين، فإن الصنف الأول
من الآيات مسوق لبيان أن الله سبحانه غير مغلوب في إرادته، و أن الحق و هو الذي
يرتضيه الله من المعارف الدينية غير مغلوب، و أن حامله إذا حمله على الحق و
الصدق لم يكن مغلوبا البتة، و على ذلك يدل قوله تعالى أولا: بأنهم ظلموا و إن
الله على نصرهم لقدير، و قوله تعالى ثانيا: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا
أن يقولوا ربنا الله، فإن الجملتين في مقام بيان أن المؤمنين سيغلبون أعداءهم
لا لمكان التنازع و بقاء الأمثل الأقوى، فإن الأمثل و الأقوى عند الطبيعة هو
الفرد القوي في تجهيزه الطبيعي دون القوي من حيث الحق و الأمثل بحسب المعنى، بل
سيغلبون لأنهم مظلومون ظلموا على قول الحق و الله سبحانه حق و ينصر الحق في
نفسه، بمعنى أن الباطل لا يقدر على أن يدحض حجة الحق إذا تقابلا، و ينصر حامل
الحق إذا كان صادقا في حمله كما ذكره الله بقوله: و لينصرن الله من ينصره إن
الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة "إلخ"، أي هم صادقون في
قولهم الحق و حملهم إياه ثم ختم الكلام بقوله تعالى: و لله عاقبة الأمور، يشير
به إلى عدة آيات تفيد أن الكون يسير في طريق كماله إلى الحق و الصدق و السعادة
الحقيقية، و لا ريب أيضا في دلالة القرآن على أن الغلبة لله و لجنده البتة كما
يدل عليه قوله: "كتب الله لأغلبن أنا و رسلي": المجادلة - 21، و قوله تعالى: "و
لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون و إن جندنا لهم
الغالبون:" الصافات - 173، و قوله تعالى: "و الله غالب على أمره": يوسف - 21. و
كذا الآية الثانية التي أوردها أعني قوله تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت
أودية بقدرها "إلخ"، مسوقة لبيان بقاء الحق و زهوق الباطل سواء كان على نحو
التنازع كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ الماديات و البقاء بينهما
بنحو التنازع، أو لم يكن على نحو التنازع و المضادة كما في الحق و الباطل الذين
هما بين الماديات و المعنويات فإن المعنى، و نعني به الموجود المجرد عن المادة،
مقدم على المادة غير مغلوب في حال أصلا، فالتقدم و البقاء للمعنى على الصورة من
غير تنازع، و كما في الحق و الباطل الذين هما معا من سنخ المعنويات و المجردات،
و قد قال تعالى: "و عنت الوجوه للحي القيوم": طه - 111، و قال تعالى: "له ما في
السموات و الأرض كل له قانتون:" البقرة - 116، و قال تعالى: "و أن إلى ربك
المنتهى:" النجم - 42، فهو تعالى، غالب على كل شيء، و هو الواحد القهار.
و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله تعالى: و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض
لفسدت الأرض الآية، فقد عرفت أنها في مقام الإشارة إلى حقيقة يتكي عليه
الاجتماع الإنساني الذي به عمارة الأرض، و باختلاله يختل العمران و تفسد الأرض،
و هي غريزة الاستخدام الذي جبل عليه الإنسان، و تأديتها إلى التصالح في المنافع
أعني التمدن و الاجتماع التعاوني، و هذا المعنى و إن كان بعض أعراقه و أصوله
التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي، لكنه مع ذلك هو السبب القريب الذي يقوم
عليه عمارة الأرض و مصونيتها عن الفساد، فينبغي أن تحمل الآية التي تريد إعطاء
السبب في عدم طروق الفساد على الأرض عليه لا على ما ذكر من القاعدتين.
و بعبارة أخرى واضحة: القاعدتان و هما التنازع في البقاء و الانتخاب الطبيعي
توجبان انحلال الكثرة و عودتها إلى الواحدة فإن كلا من المتنازعين يريد بالنزاع
إفناء الآخر و ضم ما له من الوجود و مزاياه إلى نفسه، و الطبيعة بالانتخاب تريد
أن يكون الواحد الذي هو الباقي منهما أقواهما و أمثلهما فنتيجة جريان القاعدتين
فساد الكثرة و بطلانها و تبدلها إلى واحد أمثل، و هذا أمر ينافي الاجتماع و
التعاون و الاشتراك في الحياة الذي يطلبه الإنسان بفطرته و يهتدي إليه بغريزته
و به عمارة الأرض بهذا النوع، لا إفناء قوم منه قوما، و أكل بعضهم بعضا، و
الدفع الذي تعمر به الأرض و يصان عن الفساد هو الدفع الذي يدعو إلى الاجتماع و
الاتحاد المستقر على الكثرة و الجماعة دون الدفع الذي يدعو إلى إبطال الاجتماع
و إيجاد الوحدة المفنية للكثرة، فالقتال سبب لعمارة الأرض و عدم فسادها من حيث
إنه يحيا به حقوق اجتماعية حيوية لقوم مستهلكين مستذلين لا من حيث يتشتت به
الجمع و يهلك به العين و يمحى به الأثر فافهم.
بحث في التاريخ و ما يعتني به القرآن منه
التاريخ النقلي و نعني به ضبط الحوادث الكلية و الجزئية بالنقل و الحديث مما لم
يزل الإنسان من أقدم عهود حياته و أزمان وجوده في الأرض مهتما به، ففي كل عصر
من الأعصار على ما نعلمه عدة من حفظته أو كتابه و المؤلفين فيه، و آخرون
يعتورون ما ضبطه أولئك و يأخذون ما أتحفوهم به، و الإنسان ينتفع به في جهات شتى
من حياته كالاجتماع و الاعتبار و القص و الحديث و التفكه و أمور أخرى سياسية أو
اقتصادية أو صناعية و غير ذلك.
و أنه على شرافته و كثرة منافعه لم يزل و لا يزال يعمل فيه عاملان بالفساد
يوجبان انحرافه عن صحة الطبع و صدق البيان إلى الباطل و الكذب: أحدهما: أنه لا
يزال في كل عصر محكوما للحكومة الحاضرة التي بيدها القوة و القدرة يميل إلى
إظهار ما ينفعها و يغمض عما يضرها و يفسد الأمر عليها، و ليس ذلك إلا ما لا نشك
فيه أن الحكومات المقتدرة في كل عصر تهتم بإفشاء ما تنتفع به من الحقائق و ستر
ما تستضر به أو تلبيسها بلباس تنتفع به أو تصوير الباطل و الكذب بصورة الحق و
الصدق، فإن الفرد من الإنسان و المجتمع منه مفطوران على جلب النفع و دفع الضرر
بأي نحو أمكن، و هذا أمر لا يشك فيه من له أدنى شعور يشعر به الأوضاع العامة
الحاضرة في زمان حياته و يتأمل به في تاريخ الأمم الماضية و البعيدة.
و ثانيهما: أن المتحملين للأخبار و الناقلين لها و المؤلفين فيها جميعهم لا
يخلون من إعمال الإحساسات الباطنية و العصبيات القومية فيما يتحملون منها أو
يقضون فيها، فإن جملة الأخبار في الماضين، و الحكومة في أعصارهم حكومة الدين،
كانوا منتحلين بنحلة و متدينين كل بدين، و كانت الإحساسات المذهبية فيهم قوية و
العصبيات القومية شديدة فلا محالة كانت تداخل الأخبار التاريخية من حيث
اشتمالها على أحكام و أقضية كما أن العصبية المادية و الإحساسات القوية اليوم
للحرية على الدين و للهوى على العقل يوجب مداخلات من أهل الأخبار اليوم نظير
مداخلات القدماء فيما ضبطوه أو نقلوه، و من هنا أنك لا ترى أهل دين و نحلة فيما
ألف أو جمع من الأخبار أودع شيئا يخالف مذهبه فما ضبطه أهل كل مذهب موافق لأصول
مذهبه، و كذا الأمر في النقل اليوم لا ترى كلمة تاريخية عملته أيديهم إلا و فيه
بعض التأييد للمذهب المادي.
على أن هاهنا عوامل أخرى تستدعي فساد التاريخ، و هو فقدان وسائل الضبط و الأخذ
و التحمل و النقل و التأليف و الحفظ عن التغير و الفقدان سابقا و هذه النقيصة و
إن ارتفعت اليوم بتقارب البلاد و تراكم وسائل الاتصال و سهولة نقل الأخبار و
الانتقال و التحول لكن عمت البلية من جهة أخرى و هي: أن السياسة داخلت جميع
شئون الإنسان في حياته، فالدنيا اليوم تدور مدار السياسة الفنية، و بحسب تحولها
تتحول الأخبار من حال إلى حال، و هذا مما يوجب سوء الظن بالتاريخ حتى كاد أن
يورده مورد السقوط، و وجود هذه النواقص أو النواقض في التاريخ النقلي هو السبب
أو عمدة السبب في إعراض العلماء اليوم عنه إلى تأسيس القضايا التاريخية على
أساس الآثار الأرضية، و هذا و إن سلمت عن بعض الإشكالات المذكورة كالأول مثلا،
لكنها غير خالية عن الباقي، و عمدته مداخلة المؤرخ بما عنده من الإحساس و
العصبية في الأقضية، و تصرف السياسة فيها إفشاء و كتمانا و تغييرا و تبديلا،
فهذا حال التاريخ و ما معه من جهات الفساد الذي لا يقبل الإصلاح أبدا.
و من هنا يظهر: أن القرآن الشريف لا يعارض في قصصه بالتاريخ إذا خالفه، فإنه
وحي إلهي منزه عن الخطإ مبرأ عن الكذب، فلا يعارضه من التاريخ ما لا مؤمن له
يؤمنه من الكذب و الخطإ، فأغلب القصص القرآنية كنفس هذه القصة قصة طالوت يخالف
ما يوجد في كتب العهدين، و لا ضير فيه فإن كتب العهدين لا تزيد على التواريخ
المعمولة التي قد علمت كيفية تلاعب الأيدي فيها و بها، على أن مؤلف هذه القصة و
هي قصة صموئيل و شارل بلسان العهدين، غير معلوم الشخص أصلا، و كيف كان فلا
نبالي بمخالفة القرآن لما يوجد منافيا له في التواريخ و خاصة في كتب العهدين،
فالقرآن هو الكلام الحق من الحق عز اسمه.
على أن القرآن ليس بكتاب تاريخ و لا أنه يريد في قصصه بيان التاريخ على حد ما
يرومه كتاب التاريخ، و إنما هو كلام إلهي مفرغ في قالب الوحي يهدي به الله من
اتبع رضوانه سبل السلام، و لذلك لا تراه يقص قصة بتمام أطرافها و جهات وقوعها،
و إنما يأخذ من القصة نكات متفرقة يوجب الإمعان و التأمل فيها حصول الغاية من
عبرة أو حكمة أو موعظة أو غيرها.
كما هو مشهود في هذه القصة قصة طالوت و جالوت حيث يقول تعالى: أ لم تر إلى
الملإ من بني إسرائيل، ثم يقول: و قال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا
"إلخ"، ثم يقول: و قال لهم نبيهم: إن آية ملكه، ثم يقول: فلما فصل طالوت "إلخ"،
ثم يقول و لما برزوا لجالوت، و من المعلوم أن اتصال هذه الجمل بعضها إلى بعض في
تمام الكلام يحتاج إلى قصة طويلة، و قد نبهناك بمثله فيما مر من قصة البقرة، و
هو مطرد في جميع القصص المقتصة في القرآن، لا يختص بالذكر منها إلا مواضع
الحاجة فيها: من عبرة و موعظة و حكمة أو سنة إلهية في الأيام الخالية و الأمم
الدارجة، قال تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب": يوسف - 111، و قال
تعالى: "يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم:" النساء - 26، و قال
تعالى: "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين
هذا بيان للناس و هدى و موعظة للمتقين:" آل عمران - 138، إلى غير ذلك من
الآيات.
2 سورة البقرة - 253 - 254
تِلْك الرّسلُ فَضلْنَا بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ مِّنْهُم مّن كلّمَ اللّهُ وَ
رَفَعَ بَعْضهُمْ دَرَجَتٍ وَ ءَاتَيْنَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَتِ وَ
أَيّدْنَهُ بِرُوح الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الّذِينَ مِن
بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَت وَ لَكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنهُم مّنْ ءَامَنَ وَ مِنهُم مّن كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا
اقْتَتَلُوا وَ لَكِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَأَيّهَا الّذِينَ
ءَامَنُوا أَنفِقُوا مِمّا رَزَقْنَكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتىَ يَوْمٌ لا
بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلّةٌ وَ لا شفَعَةٌ وَ الْكَفِرُونَ هُمُ الظلِمُونَ
(254)
بيان
سياق هاتين الآيتين لا يبعد كل البعد من سياق الآيات السابقة التي كانت تأمر
بالجهاد و تندب إلى الإنفاق ثم تقص قصة قتال طالوت ليعتبر به المؤمنون، و قد
ختمت القصة بقوله تعالى: و إنك لمن المرسلين الآية، و افتتحت هاتان الآيتان
بقوله: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، ثم ترجع إلى شأن قتال أمم الأنبياء
بعدهم، و قد قال في القصة السابقة أعني: قصة طالوت: أ لم تر إلى الملإ من بني
إسرائيل من بعد موسى، فأتى بقوله: من بعد موسى، قيدا، ثم ترجع إلى الدعوة إلى
الإنفاق من قبل أن يأتي يوم، فهذا كله يؤيد أن يكون هاتان الآيتان ذيل الآيات
السابقة، و الجميع نازلة معا.
و بالجملة الآية في مقام دفع ما ربما يتوهم: أن الرسالة و خاصة من حيث كونها
مشفوعة بالآيات البينات الدالة على حقية الرسالة ينبغي أن يختم بها بلية
القتال: إما من جهة أن الله سبحانه لما أراد هداية الناس إلى سعادتهم الدنيوية
و الأخروية بإرسال الرسل و إيتاء الآيات البينات كان من الحري أن يصرفهم عن
القتال بعد، و يجمع كلمتهم على الهداية فما هذه الحروب و المشاجرات بعد
الأنبياء في أممهم و خاصة بعد انتشار دعوة الإسلام الذي يعد الاتحاد و الاتفاق
من أركان أحكامه و أصول قوانينه؟ و إما من جهة أن إرسال الرسل و إيتاء بينات
الآيات للدعوة إلى الحق لغرض الحصول على إيمان القلوب، و الإيمان من الصفات
القلبية التي لا توجد في القلب عنوة و قهرا فما ذا يفيده القتال بعد استقرار
النبوة؟ و هذا هو الإشكال الذي تقدم تقريره و الجواب عنه في الكلام على آيات
القتال.
و الذي يجيب تعالى به: أن القتال معلول الاختلاف الذي بين الأمم إذ لو لا وجود
الاختلاف لم ينجر أمر الجماعة إلى الاقتتال، فعلة الاقتتال الاختلاف الحاصل
بينهم و لو شاء الله لم يوجد اختلاف فلم يكن اقتتال رأسا، و لو شاء لأعقم هذا
السبب بعد وجوده لكن الله سبحانه يفعل ما يريد، و قد أراد جري الأمور على سنة
الأسباب، فوجد الاختلاف فوجد القتال فهذا إجمال ما تفيده الآية.
قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، إشارة إلى فخامة أمر الرسل و علو
مقامهم و لذلك جيء في الإشارة بكلمة تلك الدالة على الإشارة إلى بعيد، و فيه
دلالة على التفضيل الإلهي الواقع بين الأنبياء (عليهم السلام) ففيهم من هو أفضل
و فيهم من هو مفضل عليه، و للجميع فضل فإن الرسالة في نفسها فضيلة و هي مشتركة
بين الجميع، ففيما بين الرسل أيضا اختلاف في المقامات و تفاوت في الدرجات كما
أن بين الذين بعدهم اختلافا على ما يدل عليه ذيل الآية إلا أن بين الاختلافين
فرقا، فإن الاختلاف بين الأنبياء اختلاف في المقامات و تفاضل في الدرجات مع
اتحادهم في أصل الفضل و هو الرسالة، و اجتماعهم في مجمع الكمال و هو التوحيد، و
هذا بخلاف الاختلاف الموجود بين أمم الأنبياء بعدهم فإنه اختلاف بالإيمان و
الكفر، و النفي و الإثبات، و من المعلوم أن لا جامع في هذا النحو من الاختلاف،
و لذلك فرق تعالى بينهما من حيث التعبير فسمى ما للأنبياء تفضيلا و نسبه إلى
نفسه، و سمى ما عند الناس بالاختلاف و نسبه إلى أنفسهم، فقال في مورد الرسل
فضلنا، و في مورد أممهم اختلفوا.
و لما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها و الآيات المتقدمة على
الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به و الاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه
القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا إلى قوله بروح القدس مقدمة
لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم إلى
قوله تعالى: و لكن الله يفعل ما يريد.
و على هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل (عليهم
السلام) مقام تنمو فيه الخيرات و البركات، و تنبع فيه الكمال و السعادة و درجات
القربى و الزلفى كالتكليم الإلهي و إيتاء البينات و التأييد بروح القدس، و هذا
المقام على ما فيه من الخير و الكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى
اختلاف الناس أنفسهم.
و بعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو
فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، و كلما ملت إلى نحو من
أنحائه ألفيت غضا طريا، و هذا المقام على ما فيه من البهاء و السناء و الإتيان
بالآيات البينات لا يتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر و الإيمان، فإن هذا
الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى
في موضع آخر: "إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من
بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم:" آل عمران - 19، و قد مر بيانه في قوله تعالى:
"كان الناس أمة واحدة:" البقرة - 213.
و لو شاء الله لمنع من هذا القتال الواقع بعدهم منعا تكوينيا، لكنهم اختلفوا
فيما بينهم بغيا و قد أجرى الله في سنة الإيجاد سببية و مسببية بين الأشياء و
الاختلاف من علل التنازع، و لو شاء الله تعالى لمنع من هذا القتال منعا تشريعيا
أو لم يأمر به؟ و لكنه تعالى أمر به و أراد بأمره البلاء و الامتحان ليميز الله
الخبيث من الطيب و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن الكاذبين.
و بالجملة القتال بين أمم الأنبياء بعدهم لا مناص عنه لمكان الاختلاف عن بغي، و
الرسالة و بيناتها إنما تدحض الباطل و تزيل الشبه.
و أما البغي و اللجاج و ما يشابههما من الرذائل فلا سبيل إلى تصفية الأرض منها،
و إصلاح النوع فيها إلا القتال، فإن التجارب يعطي أن الحجة لم تنجح وحدها قط
إلا إذا شفع بالسيف، و لذلك كان كلما اقتضت المصلحة أمر الله سبحانه بالقيام
للحق و الجهاد في سبيل الله كما في عهد إبراهيم و بني إسرائيل، و بعد بعثة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد مر بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير
آيات القتال سابقا.
قوله تعالى: منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات، في الجملتين التفات من الحضور
إلى الغيبة، و الوجه فيه و الله أعلم - أن الصفات الفاضلة على قسمين: منها ما
هو بحسب نفس مدلول الاسم يدل على الفضيلة كالآيات البينات، و كالتأييد بروح
القدس كما ذكر لعيسى (عليه السلام) فإن هذه الخصال بنفسها غالية سامية، و منها:
ما ليس كذلك، و إنما يدل على الفضيلة و يستلزم المنقبة بواسطة الإضافة
كالتكليم، فإنه لا يعد في نفسه منقبة و فضيلة إلا أن يضاف إلى شيء فيكتسب منه
البهاء و الفضل كإضافته إلى الله عز اسمه، و كذا رفع الدرجات لا فضيلة فيه
بنفسه إلا أن يقال: رفع الله الدرجات مثلا فينسب الرفع إلى الله، إذا عرفت هذا
علمت: أن هذا هو الوجه في الالتفات من الحضور إلى الغيبة في اثنتين من الجمل
الثلاث حيث قال تعالى: فمنهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات و آتينا عيسى بن
مريم البينات، فحول وجه الكلام من التكلم إلى الغيبة في الجملتين الأوليين حتى
إذا استوفى الغرض عاد إلى وجه الكلام الأول و هو التكلم فقال تعالى: و آتينا
عيسى بن مريم.
و قد اختلف المفسرون في المراد من الجملتين من هو؟ فقيل المراد بمن كلم الله:
موسى (عليه السلام) لقوله تعالى: "و كلم الله موسى تكليما:" النساء - 164، و
غيره من الآيات، و قيل المراد به رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لما
كلمه الله تعالى ليلة المعراج حيث قربه إليه تقريبا سقطت به الوسائط جملة فكلمه
بالوحي من غير واسطة، قال تعالى: "ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى
إلى عبده ما أوحى:" النجم - 10، و قيل المراد به الوحي مطلقا لأن الوحي تكليم
خفي، و قد سماه الله تعالى تكليما حيث قال: "و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا
وحيا أو من وراء حجاب:" الآية الشورى - 51، و هذا الوجه لا يلائم من التبعيضية
التي في قوله تعالى: منهم من كلم الله.
و الأوفق بالمقام كون المراد به موسى (عليه السلام) لأن تكليمه هو المعهود من
كلامه تعالى النازل قبل هذه السورة المدنية، قال تعالى: "و لما جاء موسى
لميقاتنا و كلمه ربه إلى أن قال: قال يا موسى: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي
و بكلامي: الأعراف - 143، و هي آية مكية فقد كان كون موسى مكلما معهودا عند
نزول هذه الآية.
و كذا في قوله: و رفع بعضهم درجات، قيل المراد به محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) لأن الله رفع درجته في تفضيله على جميع الرسل ببعثته إلى كافة الخلق كما
قال تعالى: و ما أرسلناك إلا كافة للناس: السبأ - 28، و بجعله رحمة للعالمين
كما قال تعالى: و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: الأنبياء - 107، و بجعله خاتما
للنبوة كما قال تعالى: و لكن رسول الله و خاتم النبيين: الأحزاب - 40، و
بإيتائه قرآنا مهيمنا على جميع الكتب و تبيانا لكل شيء و محفوظا من تحريف
المبطلين، و معجزا باقيا ببقاء الدنيا كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الكتاب
بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه: المائدة - 48، و قال تعالى:
و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء: النحل - 89، و قال تعالى: إنا نحن نزلنا
الذكر و إنا له لحافظون: الحجر - 6 و قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا:
الإسراء - 88، و باختصاصه بدين قيم يقوم على جميع مصالح الدنيا و الآخرة، قال
تعالى: فأقم وجهك للدين القيم: الروم - 43، و قيل المراد به ما رفع الله من
درجة غير واحد من الأنبياء كما يدل عليه قوله تعالى في نوح: سلام على نوح في
العالمين: الصافات - 79، و قوله تعالى في إبراهيم (عليه السلام): و إذ ابتلى
إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما: البقرة - 124، و قوله
تعالى فيه و اجعل لي لسان صدق في الآخرين: الشعراء - 84، و قوله تعالى في إدريس
(عليه السلام) و رفعناه مكانا عليا: مريم - 57، و قوله تعالى في يوسف: نرفع
درجات من نشاء: يوسف - 76، و قوله في داود (عليه السلام): و آتينا داود زبورا:
النساء - 163، إلى غير ذلك من مختصات الأنبياء.
و كذا قيل: إن المراد بالرسل في الآية هم الذين اختصوا بالذكر في سورة البقرة
كإبراهيم و موسى و عيسى و عزير و أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و قد ذكر موسى و عيسى من بينهم و بقي الباقون، فالبعض المرفوع
الدرجة هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة إلى الباقين، و قيل: لما كان
المراد بالرسل في الآية هم الذين ذكرهم الله قبيل الآية في القصة و هم موسى و
داود و شموئيل و محمد، و قد ذكر ما اختص به موسى من التكليم ثم ذكر رفع الدرجات
و ليس له إلا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يمكن أن يوجه التصريح باسم
عيسى على هذا القول: بأن يقال: إن الوجه فيه عدم سبق ذكره (عليه السلام) فيمن
ذكر من الأنبياء في هذه الآيات.
و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا شك أن ما رفع الله به درجة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) مقصود في الآية غير أنه لا وجه لتخصيص الآية به، و لا بمن ذكر في
هذه الآيات أعني أرميا و شموئيل و داود و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا
بمن ذكر في هذه السورة من الأنبياء فإن كل ذلك تحكم من غير وجه ظاهر، بل الظاهر
من إطلاق الآية شمول الرسل لجميع الرسل (عليهم السلام) و شمول البعض في قوله
تعالى: و رفع بعضهم درجات، لكل من أنعم الله عليه منهم برفع الدرجة.
و ما قيل: إن الأسلوب يقتضي كون المراد به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن
السياق في بيان العبرة للأمم التي تقتتل بعد رسلهم مع كون دينهم دينا واحدا، و
الموجود منهم اليهود و النصارى و المسلمون فالمناسب تخصيص رسلهم بالذكر، و قد
ذكر منهم موسى و عيسى بالتفصيل في الآية، فتعين أن يكون البعض الباقي محمدا
(صلى الله عليه وآله وسلم).
فيه: أن القرآن يقضي بكون جميع الرسل رسلا إلى جميع الناس، قال تعالى: "لا نفرق
بين أحد منهم:" البقرة - 136، فإتيان الرسل جميعا بالآيات البينات كان ينبغي أن
يقطع دابر الفساد و القتال بين الذين بعدهم لكن اختلفوا بغيا بينهم فكان ذلك
أصلا يتفرع عليه القتال فأمر الله تعالى به حين تقتضيه المصلحة ليحق الحق
بكلماته و يقطع دابر المبطلين، فالعموم وجيه في الآية.
كلام في الكلام
ثم إن قوله تعالى: منهم من كلم الله، يدل على وقوع التكليم منه لبعض الناس في
الجملة أي أنه يدل على وقوع أمر حقيقي من غير مجاز و تمثيل و قد سماه الله في
كتابه بالكلام، سواء كان هذا الإطلاق إطلاقا حقيقيا أو إطلاقا مجازيا، فالبحث
في المقام من جهتين: الجهة الأولى: أن كلامه تعالى يدل على أن ما خص الله تعالى
به أنبياءه و رسله من النعم التي تخفى على إدراك غيرهم من الناس مثل الوحي و
التكليم و نزول الروح و الملائكة و مشاهدة الآيات الإلهية الكبرى، أو أخبرهم به
كالملك و الشيطان و اللوح و القلم و سائر الآيات الخفية على حواس الناس، كل ذلك
أمور حقيقية واقعية من غير مجاز في دعاويهم مثل أن يسموا القوى العقلية الداعية
إلى الخير ملائكة، و ما تلقيه هذه القوى إلى إدراك الإنسان بالوحي، و المرتبة
العالية من هذه القوى و هي التي تترشح منها الأفكار الطاهرة المصلحة للاجتماع
الإنساني بروح القدس و الروح الأمين، و القوى الشهوية و الغضبية النفسانية
الداعية إلى الشر و الفساد بالشياطين و الجن، و الأفكار الرديئة المفسدة
للاجتماع الصالح أو الموقعة لسيىء العمل بالوسوسة و النزعة، و هكذا.
فإن الآيات القرآنية و كذا ما نقل إلينا من بيانات الأنبياء الماضين ظاهرة في
كونهم لم يريدوا بها المجاز و التمثيل، بحيث لا يشك فيه إلا مكابر متعسف و لا
كلام لنا معه، و لو جاز حمل هذه البيانات إلى أمثال هذه التجوزات جاز تأويل
جميع ما أخبروا به من الحقائق الإلهية من غير استثناء إلى المادية المحضة
النافية لكل ما وراء المادة، و قد مر بعض الكلام في المقام في بحث الإعجاز.
ففي مورد التكليم الإلهي لا محالة أمر حقيقي متحقق يترتب عليه من الآثار ما
يترتب على التكلمات الموجودة فيما بيننا.
توضيح ذلك: أنه سبحانه عبر عن بعض أفعاله بالكلام و التكليم كقوله تعالى: "و
كلم الله موسى تكليما": النساء - 163، و قوله تعالى: "منهم من كلم الله الآية،
و قد فسر تعالى هذا الإطلاق المبهم الذي في هاتين الآيتين و ما يشبههما بقوله
تعالى: "و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا
فيوحي بإذنه ما يشاء:" الشورى - 51، فإن الاستثناء في قوله تعالى: إلا وحيا
"إلخ"، لا يتم إلا إذا كان التكليم المدلول عليه بقوله: أن يكلمه الله، تكليما
حقيقة، فتكليم الله تعالى للبشر تكليم لكن بنحو خاص، فحد أصل التكليم حقيقة غير
منفي عنه.
و الذي عندنا من حقيقة الكلام: هو أن الإنسان لمكان احتياجه إلى الاجتماع و
المدنية يحتاج بالفطرة إلى جميع ما يحتاج إليه هذا الاجتماع التعاوني، و منها
التكلم و قد ألجأت الفطرة الإنسان أن يسلك إلى الدلالة على الضمير من طريق
الصوت المعتمد على مخارج الحروف من الفم، و يجعل الأصوات المؤلفة و المختلطة
أمارات دالة على المعاني المكنونة في الضمير التي لا طريق إليها إلا من جهة
العلائم الاعتبارية الوضعية، فالإنسان محتاج إلى التكلم من جهة أنه لا طريق له
إلى التفهيم و التفهم إلا جعل الألفاظ و الأصوات المؤتلفة علائم جعلية و أمارات
وضعية، و لذلك كانت اللغات في وسعتها دائرة مدار الاحتياجات الموجودة، أعني:
الاحتياجات التي تنبه لها الإنسان في حياته الحاضرة، و لذلك أيضا كانت اللغات
لا تزال تزيد و تتسع بحسب تقدم الاجتماع في صراطه، و تكثر الحوائج الإنسانية في
حياته الاجتماعية.
و من هنا يظهر: أن الكلام أعني تفهيم ما في الضمير بالأصوات المؤتلفة الدالة
عليه بالوضع و الاعتبار إنما يتم في الإنسان و هو واقع في ظرف الاجتماع، و ربما
لحق به بعض أنواع الحيوان مما لنوعه نحو اجتماع و له شيء من جنس الصوت، على ما
نحسب و أما الإنسان في غير ظرف الاجتماع التعاوني فلا تحقق للكلام معه، فلو كان
ثم إنسان واحد من غير أي اجتماع فرض لم تمس الحاجة إلى التكلم قطعا لعدم مساس
الحاجة إلى التفهيم و التفهم، و كذلك غير الإنسان مما لا يحتاج في وجوده إلى
التعاون الاجتماعي و الحياة المدنية كالملك و الشيطان مثلا.
فالكلام لا يصدر منه تعالى على حد ما يصدر الكلام منا أعني بنحو خروج الصوت من
الحنجرة و اعتماده على مقاطع النفس من الفم المنضمة إليه، الدلالة الاعتبارية
الوضعية، فإنه تعالى أجل شأنا و أنزه ساحة أن يتجهز بالتجهيزات الجسمانية، أو
يستكمل بالدعاوي الوهمية الاعتبارية و قد قال تعالى: "ليس كمثله شيء:" الشورى -
11.
لكنه سبحانه فيما مر من قوله: "و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من
وراء حجاب:" الشورى - 51، يثبت لشأنه و فعله المذكور حقيقة التكليم و إن نفي
عنه المعنى العادي المعهود بين الناس، فالكلام بحده الاعتباري المعهود مسلوب عن
الكلام الإلهي لكنه بخواصه و آثاره ثابت له، و مع بقاء الأثر و الغاية يبقى
المحدود في الأمور الاعتبارية الدائرة في اجتماع الإنسان نظير الذرع و الميزان
و المكيال و السراج و السلاح و نحو ذلك، و قد تقدم بيانه.
فقد: ظهر أن ما يكشف به الله سبحانه عن معنى مقصود إفهامه للنبي كلام حقيقة، و
هو سبحانه و إن بين لنا إجمالا أنه كلام حقيقة على غير الصفة التي نعدها من
الكلام الذي نستعمله، لكنه تعالى لم يبين لنا و لا نحن تنبهنا من كلامه أن هذا
الذي يسميه كلاما يكلم به أنبياءه ما حقيقته؟ و كيف يتحقق؟ غير أنه على أي حال
لا يسلب عنه خواص الكلام المعهود عندنا و يثبت عليه آثاره و هي تفهيم المعاني
المقصودة و إلقاؤها في ذهن السامع.
و على هذا فالكلام منه تعالى كالإحياء و الإماتة و الرزق و الهداية و التوبة و
غيرها فعل من أفعاله تعالى يحتاج في تحققه إلى تمامية الذات قبله لا كمثل العلم
و القدرة و الحياة مما لا تمام للذات الواجبة بدونه من الصفات التي هي عين
الذات، كيف و لا فرق بينه و بين سائر أفعاله التي تصدر عنه بعد فرض تمام الذات!
و ربما قبل الانطباق على الزمان قال تعالى: "و لما جاء موسى لميقاتنا و كلمه
ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني:" الأعراف - 143، و قال تعالى "و قد
خلقتك من قبل و لم تك شيئا:" مريم - 9، و قال تعالى: "فقال لهم الله موتوا ثم
أحياهم:" البقرة - 243، و قال تعالى: "نحن نرزقكم و إياهم:" الأنعام - 151، و
قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه - 50، و قال تعالى: "ثم تاب
عليهم ليتوبوا:" التوبة - 118، فالآيات كما ترى تفيد زمانية الكلام كما تفيد
زمانية غيره من الأفعال كالخلق و الإماتة و الإحياء و الرزق و الهداية و التوبة
على حد سواء.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و البحث التفسيري المقصور على
الآيات القرآنية في معنى الكلام، أما ما يقتضيه البحث الكلامي على ما اشتغل به
السلف من المتكلمين أو البحث الفلسفي فسيأتيك نبأه.
و اعلم: أن الكلام أو التكليم مما لم يستعلمه تعالى في غير مورد الإنسان، نعم
الكلمة أو الكلمات قد استعملت في غير مورده، قال تعالى: "و كلمته ألقاها إلى
مريم:" النساء - 171، أريد به نفس الإنسان، و قال تعالى: "و كلمة الله هي
العليا": التوبة - 40، و قال تعالى: "و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا": الأنعام -
155، و قال تعالى: "ما نفدت كلمات الله:" لقمان - 27، و قد أريد بها القضاء أو
نوع من الخلق على ما سيجيء الإشارة إليه.
و أما لفظ القول فقد عم في كلامه تعالى الإنسان و غيره فقال تعالى في مورد
الإنسان: "فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك:" طه - 117، و قال تعالى في مورد
الملائكة: "و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة:" البقرة - 30، و
قال أيضا: "إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين:" ص - 71، و قال في مورد
|