قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
تأثير ما هو أقوى منه تأثيرا، و يعود معنى لا تأخذه سنة و لا
نوم إلى مثل قولنا: لا يؤثر فيه هذا العامل الضعيف بالفتور في أمره و لا ما هو
أقوى منه.
قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه
لما كانت القيومية التامة التي له تعالى لا تتم إلا بأن يملك السماوات و الأرض
و ما فيهما بحقيقة الملك ذكره بعدهما، كما أن التوحيد التام في الألوهية لا يتم
إلا بالقيومية، و لذلك ألحقها بها أيضا.
و هاتان جملتان كل واحدة منهما مقيدة أو كالمقيدة بقيد في معنى دفع الدخل، أعني
قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، مع قوله تعالى: من ذا الذي يشفع
عنده إلا بإذنه، و قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، مع قوله تعالى:
و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء.
فأما قوله تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فقد عرفت معنى ملكه تعالى
بالكسر للموجودات و ملكه تعالى بالضم لها، و الملك بكسر الميم و هو قيام ذوات
الموجودات و ما يتبعها من الأوصاف و الآثار بالله سبحانه هو الذي يدل عليه قوله
تعالى: له ما في السماوات و ما في الأرض، فالجملة تدل على ملك الذات و ما يتبع
الذات من نظام الآثار.
و قد تم بقوله: القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السماوات و ما في الأرض
إن السلطان المطلق في الوجود لله سبحانه لا تصرف إلا و هو له و منه، فيقع من
ذلك في الوهم أنه إذا كان الأمر على ذلك فهذه الأسباب و العلل الموجودة في
العالم ما شأنها؟ و كيف يتصور فيها و منها التأثير و لا تأثير إلا لله سبحانه؟
فأجيب بأن تصرف هذه العلل و الأسباب في هذه الموجودات المعلولة توسط في التصرف،
و بعبارة أخرى شفاعة في موارد المسببات بإذن الله سبحانه، فإنما هي شفعاء، و
الشفاعة - و هي بنحو توسط في إيصال الخير أو دفع الشر، و تصرف ما من الشفيع في
أمر المستشفع - إنما تنافي السلطان الإلهي و التصرف الربوبي المطلق إذا لم ينته
إلى إذن الله، و لم يعتمد على مشية الله تعالى بل كانت مستقلة غير مرتبطة و ما
من سبب من الأسباب و لا علة من العلل إلا و تأثيره بالله و نحو تصرفه بإذن
الله، فتأثيره و تصرفه نحو من تأثيره و تصرفه تعالى فلا سلطان في الوجود إلا
سلطانه و لا قيومية إلا قيوميته المطلقة عز سلطانه.
و على ما بيناه فالشفاعة هي التوسط المطلق في عالم الأسباب و الوسائط أعم من
الشفاعة التكوينية و هي توسط الأسباب في التكوين، و الشفاعة التشريعية أعني
التوسط في مرحلة المجازاة التي تثبتها الكتاب و السنة في يوم القيامة على ما
تقدم البحث عنها في قوله تعالى: "و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا:"
البقرة - 48، و ذلك أن الجملة أعني قوله تعالى: من ذا الذي يشفع عنده، مسبوقة
بحديث القيومية و الملك المطلق الشاملين للتكوين و التشريع معا، بل المتماسين
بالتكوين ظاهرا فلا موجب لتقييدهما بالقيومية و السلطنة التشريعيتين حتى يستقيم
تذييل الكلام بالشفاعة المخصوصة بيوم القيامة.
فمساق هذه الآية في عموم الشفاعة مساق قوله تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق
السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من
بعد إذنه": يونس - 3، و قوله تعالى: "الله الذي خلق السماوات و الأرض و ما
بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع:" الم
السجدة - 4، و قد عرفت في البحث عن الشفاعة أن حدها كما ينطبق على الشفاعة
التشريعية كذلك ينطبق على السببية التكوينية، فكل سبب من الأسباب يشفع عند الله
لمسببه بالتمسك بصفات فضله و جوده و رحمته لإيصال نعمة الوجود إلى مسببه، فنظام
السببية بعينه ينطبق على نظام الشفاعة كما ينطبق على نظام الدعاء و المسألة،
قال تعالى: "يسأله من في السماوات و الأرض كل يوم هو في شأن:" الرحمن - 29، و
قال تعالى: "و آتيكم من كل ما سألتموه:" إبراهيم - 34، و قد مر بيانه في تفسير
قوله تعالى: "و إذا سألك عبادي عني": البقرة - 186.
قوله تعالى: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما
شاء، سياق الجملة مع مسبوقيتها بأمر الشفاعة يقرب من سياق قوله تعالى: بل عباد
مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و
لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون:" الأنبياء - 28، فالظاهر أن
ضمير الجمع الغائب راجع إلى الشفعاء الذي تدل عليه الجملة السابقة معنى فعلمه
تعالى بما بين أيديهم و ما خلفهم كناية عن كمال إحاطته بهم، فلا يقدرون بواسطة
هذه الشفاعة و التوسط المأذون فيه على إنفاذ أمر لا يريده الله سبحانه و لا
يرضى به في ملكه، و لا يقدر غيرهم أيضا أن يستفيد سوءا من شفاعتهم و وساطتهم
فيداخل في ملكه تعالى فيفعل فيه ما لم يقدره.
و إلى نظير هذا المعنى يدل قوله تعالى: "و ما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين
أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و ما كان ربك نسيا:" مريم - 64، و قوله تعالى:
"عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين
يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى
كل شيء عددا": الجن - 28، فإن الآيات تبين إحاطته تعالى بالملائكة و الأنبياء
لئلا يقع منهم ما لم يرده، و لا يتنزلوا إلا بأمره، و لا يبلغوا إلا ما يشاؤه.
و على ما بيناه فالمراد بما بين أيديهم: ما هو حاضر مشهود معهم، و بما خلفهم:
ما هو غائب عنهم بعيد منهم كالمستقبل من حالهم، و يؤول المعنى إلى الشهادة و
الغيب.
و بالجملة قوله: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، كناية عن إحاطته تعالى بما هو
حاضر معهم موجود عندهم و بما هو غائب عنهم آت خلفهم، و لذلك عقبه بقوله تعالى:
و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، تبيينا لتمام الإحاطة الربوبية و السلطة
الإلهية أي أنه تعالى عالم محيط بهم و بعلمهم و هم لا يحيطون بشيء من علمه إلا
بما شاء.
و لا ينافي إرجاع ضمير الجمع المذكر العاقل و هو قوله "هم" في المواضع الثلاث
إلى الشفعاء ما قدمناه من أن الشفاعة أعم من السببية التكوينية و التشريعية، و
أن الشفعاء هم مطلق العلل و الأسباب، و ذلك لأن الشفاعة و الوساطة و التسبيح و
التحميد لما كان المعهود من حالها أنها من أعمال أرباب الشعور و العقل شاع
التعبير عنها بما يخص أولي العقل من العبارة.
و على ذلك جرى ديدن القرآن في بياناته كقوله تعالى: "و إن من شيء إلا يسبح
بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم:" الإسراء - 44، و قوله تعالى: "ثم استوى إلى
السماء و هي دخان فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين":
فصلت - 11، إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، يفيد معنى تمام التدبير
و كماله، فإن من كمال التدبير أن يجهل المدبر بالفتح بما يريده المدبر بالكسر
من شأنه و مستقبل أمره لئلا يحتال في التخلص عما يكرهه من أمر التدبير فيفسد
على المدبر بالكسر تدبيره، كجماعة مسيرين على خلاف مشتهاهم و مرادهم فيبالغ في
التعمية عليهم حتى لا يدروا من أين سيروا، و في أين نزلوا، و إلى أين يقصد بهم.
فيبين تعالى بهذه الجملة أن التدبير له و بعلمه بروابط الأشياء التي هو الجاعل
لها، و بقية الأسباب و العلل و خاصة أولوا العلم منها و إن كان لها تصرف و علم
لكن ما عندهم من العلم الذي ينتفعون به و يستفيدون منه فإنما هو من علمه تعالى
و بمشيته و إرادته، فهو من شئون العلم الإلهي، و ما تصرفوا به فهو من شئون
التصرف الإلهي و أنحاء تدبيره، فلا يسع لمقدم منهم أن يقدم على خلاف ما يريده
الله سبحانه من التدبير الجاري في مملكته إلا و هو بعض التدبير.
و في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، على تقدير أن يراد
بالعلم المعنى المصدري أو معنى اسم المصدر لا المعلوم دلالة على أن العلم كله
لله و لا يوجد من العلم عند عالم إلا و هو شيء من علمه تعالى، و نظيره ما يظهر
من كلامه تعالى من اختصاص القدرة و العزة و الحياة بالله تعالى، قال تعالى: "و
لو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا:" البقرة - 165، و قال
تعالى: "أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا:" النساء - 139، و قال
تعالى: "هو الحي لا إله إلا هو": المؤمن - 65، و يمكن أن يستدل على ما ذكرناه
من انحصار العلم بالله تعالى بقوله: "إنه هو العليم الحكيم:" يوسف - 83، و قوله
تعالى: "و الله يعلم و أنتم لا تعلمون:" آل عمران - 66، إلى غير ذلك من الآيات،
و في تبديل العلم بالإحاطة في قوله: و لا يحيطون بشيء من علمه، لطف ظاهر.
قوله تعالى: وسع كرسيه السموات و الأرض، الكرسي معروف و سمي به لتراكم بعض
أجزائه بالصناعة على بعض، و ربما كني بالكرسي عن الملك فيقال كرسي الملك، و
يراد منطقة نفوذه و متسع قدرته.
و كيف كان فالجمل السابقة على هذه الجملة أعني قوله: له ما في السموات و ما في
الأرض "إلخ"، تفيد أن المراد بسعة الكرسي إحاطة مقام السلطنة الإلهية، فيتعين
للكرسي من المعنى: أنه المقام الربوبي الذي يقوم به ما في السماوات و الأرض من
حيث إنها مملوكة مدبرة معلومة، فهو من مراتب العلم، و يتعين للسعة من المعنى:
أنها حفظ كل شيء مما في السماوات و الأرض بذاته و آثاره، و لذلك ذيله بقوله: و
لا يؤوده حفظهما.
قوله تعالى: و لا يؤوده حفظهما و هو العلي العظيم، يقال: آده يؤوده أودا إذا
ثقل عليه و أجهده و أتعبه، و الظاهر أن مرجع الضمير في يؤوده، هو الكرسي و إن
جاز رجوعه إليه تعالى، و نفي الأود و التعب عن حفظ السماوات و الأرض في ذيل
الكلام ليناسب ما افتتح به من نفي السنة و النوم في القيومية على ما في
السماوات و الأرض.
و محصل ما تفيده الآية من المعنى: أن الله لا إله إلا هو له كل الحياة و له
القيومية المطلقة من غير ضعف و لا فتور، و لذلك وقع التعليل بالاسمين الكريمين:
العلي العظيم فإنه تعالى لعلوه لا تناله أيدي المخلوقات فيوجبوا بذلك ضعفا في
وجوده و فتورا في أمره، و لعظمته لا يجهده كثرة الخلق و لا يطيقه عظمة السماوات
و الأرض، و جملة: و هو العلي العظيم، لا تخلو عن الدلالة على الحصر، و هذا
الحصر إما حقيقي كما هو الحق، فإن العلو و العظمة من الكمال و حقيقة كل كمال له
تعالى، و أما دعوى لمسيس الحاجة إليه في مقام التعليل ليختص العلو و العظمة به
تعالى دعوى، فيسقط السماوات و الأرض عن العلو و العظمة في قبال علوه و عظمته
تعالى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أبو ذر: يا رسول الله ما
أفضل ما أنزل عليك؟ قال: آية الكرسي، ما السماوات السبع و الأرضون السبع في
الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ثم قال: و إن فضل العرش على الكرسي كفضل
الفلاة على الحلقة: أقول: و روى صدر الرواية السيوطي في الدر المنثور، عن ابن
راهويه في مسنده عن عوف بن مالك عن أبي ذر، و رواه أيضا عن أحمد و ابن الضريس و
الحاكم و صححه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة، قال: قلت: يا رسول الله
أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: الله لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي: أقول:
و روي فيه هذا المعنى أيضا عن الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و فيه، أيضا عن الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاغي، قال: قال رجل: يا رسول
الله أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: آية الكرسي: الله لا إله إلا هو الحي
القيوم، الحديث.
أقول: تسمية هذه الآية بآية الكرسي مما قد اشتهرت في صدر الإسلام حتى في زمان
حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في لسانه كما تفيده الروايات
المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و
عن الصحابة.
و ليس إلا للاعتناء التام بها و تعظيم أمرها، و ليس إلا لشرافة ما تدل عليه من
المعنى و رقته و لطفه، و هو التوحيد الخالص المدلول عليه بقوله: الله لا إله
إلا هو، و معنى القيومية المطلقة التي يرجع إليه جميع الأسماء الحسنى ما عدا
أسماء الذات على ما مر بيانه، و تفصيل جريان القيومية في ما دق و جل من
الموجودات من صدرها إلى ذيلها ببيان أن ما خرج منها من السلطنة الإلهية فهو من
حيث إنه خارج منها داخل فيها، و لذلك ورد فيها أنها أعظم آية في كتاب الله، و
هو كذلك من حيث اشتمالها على تفصيل البيان، فإن مثل قوله تعالى: "الله لا إله
إلا هو له الأسماء الحسنى:" طه - 8، و إن اشتملت على ما تشتمل عليه آية الكرسي
غير أنها مشتملة على إجمال المعنى دون تفصيله، و لذا ورد في بعض الأخبار: أن
آية الكرسي سيدة آي القرآن: رواها في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم)، و ورد في بعضها: أن لكل شيء ذروة و ذروة القرآن آية
الكرسي:، رواها العياشي في تفسيره عن عبد الله بن سنان عن الصادق (عليه
السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي أمامة الباهلي: أنه سمع علي بن أبي طالب
(عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت
ليلة سوادها. قلت: و ما سوادها؟ قال: جميعها حتى يقرأ هذه الآية: الله لا إله
إلا هو - الحي القيوم فقرأ الآية إلى قوله: و لا يؤوده حفظهما - و هو العلي
العظيم. قال: فلو تعلمون ما هي أو قال: ما فيها ما تركتموها على حال: إن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، و لم
يؤتها نبي كان قبلي، قال علي فما بت ليلة قط منذ سمعتها من رسول الله إلا
قرأتها، الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن عبيد و ابن أبي شيبة و الدارمي و
محمد بن نصر و ابن الضريس عنه (عليه السلام)، و رواه أيضا عن الديلمي عنه (عليه
السلام)، و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في فضلها كثيرة، و قوله (عليه
السلام): إن رسول الله قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش، روي في هذا
المعنى أيضا في الدر المنثور، عن البخاري في تاريخه، و ابن الضريس عن أنس أن
النبي قال: أعطيت آية الكرسي من تحت العرش، فيه إشارة إلى كون الكرسي تحت العرش
و محاطا له و سيأتي الكلام في بيانه.
و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و
جل: وسع كرسيه السموات و الأرض، السماوات و الأرض وسعن الكرسي أو الكرسي وسع
السماوات و الأرض؟ فقال (عليه السلام): إن كل شيء في الكرسي.
أقول: و هذا المعنى مروي عنهم في عدة روايات بما يقرب من هذا السؤال و الجواب و
هو بظاهره غريب، إذ لم يرو قراءة كرسيه بالنصب و السماوات و الأرض بالرفع حتى
يستصح بها هذا السؤال، و الظاهر أنه مبني على ما يتوهمه الأفهام العامية أن
الكرسي جسم مخصوص موضوع فوق السماوات أو السماء السابعة أعني فوق عالم الأجسام
منه يصدر أحكام العالم الجسماني، فيكون السماوات و الأرض وسعته إذ كان موضوعا
عليها كهيئة الكرسي على الأرض، فيكون معنى السؤال أن الأنسب أن السماوات و
الأرض وسعت الكرسي فما معنى سعته لها؟، و قد قيل بنظير ذلك في خصوص العرش فأجيب
بأن الوسعة من غير سنخ سعة بعض الأجسام لبعض... و في المعاني، عن حفص بن الغياث
قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: وسع كرسيه السموات
و الأرض، قال: علمه.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): في الآية: السموات و الأرض و ما بينهما في
الكرسي، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره.
أقول: و يظهر من الروايتين: أن الكرسي من مراتب علمه تعالى كما مر استظهاره، و
في معناهما روايات أخرى.
و كذا يظهر منهما و مما سيجيء: أن في الوجود مرتبة من العلم غير محدودة أعني أن
فوق هذا العالم الذي نحن من أجزائها عالما آخر موجوداتها أمور غير محدودة في
وجودها بهذه الحدود الجسمانية، و التعينات الوجودية التي لوجوداتنا، و هي في
عين أنها غير محدودة معلومة لله سبحانه أي أن وجودها عين العلم، كما أن
الموجودات المحدودة التي في الوجود معلومة لله سبحانه في مرتبة وجودها أي أن
وجودها نفس علمه تعالى بها و حضورها عنده، و لعلنا نوفق لبيان هذا العلم المسمى
بالعلم الفعلي فيما سيأتي من قوله تعالى: "و ما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في
السموات و لا في الأرض:" يونس - 61.
و ما ذكرناه من علم غير محدود هو الذي يرشد إليه قوله (عليه السلام) في
الرواية، و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره، و من المعلوم أن عدم التقدير
و التحديد ليس من حيث كثرة معلومات هذا العلم عددا، لاستحالة وجود عدد غير
متناه، و كل عدد يدخل الوجود فهو متناه، لكونه أقل مما يزيد عليه بواحد، و لو
كان عدم تناهي العلم أعني العرش لعدم تناهي معلوماته كثرة لكان الكرسي بعض
العرش لكونه أيضا علما و إن كان محدودا، بل عدم التناهي و التقدير إنما هو من
جهة كمال الوجود أي إن الحدود و القيود الوجودية يوجب التكثر و التميز و
التمايز بين موجودات عالمنا المادي، فتوجب انقسام الأنواع بالأصناف و الأفراد،
و الأفراد بالحالات، و الإضافات غير موجودة فينطبق على قوله تعالى: "و إن من
شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:" الحجر - 21، و سيجيء تمام
الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
و هذه الموجودات كما أنها معلومة بعلم غير مقدر أي موجودة في ظرف العلم وجودا
غير مقدر كذلك هي معلومة بحدودها، موجودة في ظرف العلم بأقدارها و هذا هو
الكرسي على ما يستظهر.
و ربما لوح إليه أيضا قوله تعالى فيها: يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم، حيث جعل
المعلوم: ما بين أيديهم و ما خلفهم، و هما أعني ما بين الأيدي و ما هو خلف غير
مجتمع الوجود في هذا العالم المادي، فهناك مقام يجتمع فيه جميع المتفرقات
الزمانية و نحوها، و ليست هذه الوجودات وجودات غير متناهية الكمال غير محدودة و
لا مقدرة و إلا لم يصح الاستثناء من الإحاطة في قوله تعالى: و لا يحيطون بشيء
من علمه إلا بما شاء، فلا محالة هو مقام يمكن لهم الإحاطة ببعض ما فيه، فهو
مرحلة العلم بالمحدودات و المقدرات من حيث هي محدودة مقدرة و الله أعلم.
و في التوحيد، عن حنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن العرش و الكرسي
فقال (عليه السلام) إن للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كل سبب و صنع في القرآن
صفة على حدة، فقوله: رب العرش العظيم يقول: رب الملك العظيم، و قوله: الرحمن
على العرش استوى، يقول: على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم
العرش في الوصل مفرد عن الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما
جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان، لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب
الذي منه مطلع البدع و منه الأشياء كلها، و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد
فيه علم الكيف و الكون و القدر و الحد و المشية و صفة الإرادة و علم الألفاظ و
الحركات و الترك و علم العود و البدء، فهما في العلم بابان مقرونان، لأن ملك
العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي، فمن ذلك قال: رب العرش
العظيم، أي صفته أعظم من صفة الكرسي، و هما في ذلك مقرونان: قلت: جعلت فداك فلم
صار في الفضل جار الكرسي، قال (عليه السلام): إنه صار جارها لأن علم الكيفوفية
فيه و فيه، الظاهر من أبواب البداء و إنيتها و حد رتقها و فتقها، فهذان جاران
أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما
لأنه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز.
أقول: قوله (عليه السلام): لأن الكرسي هو الباب الظاهر من الغيب، قد عرفت الوجه
فيه إجمالا، فمرتبة العلم المقدر المحدود أقرب إلى عالمنا الجسماني المقدر
المحدود مما لا قدر له و لا حد، و سيجيء شرح فقرات الرواية في الكلام على قوله
تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات:" الأعراف - 54، و قوله (عليه السلام):
و بمثل صرف العلماء، إشارة إلى أن هذه الألفاظ من العرش و الكرسي و نظائرها
أمثال مصرفة مضروبة للناس و ما يعقلها إلا العالمون.
و في الإحتجاج، عن الصادق (عليه السلام): في حديث: كل شيء خلق الله في جوف
الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي.
أقول: و قد تقدم توضيح معناه، و هو الموافق لسائر الروايات، فما وقع في بعض
الأخبار أن العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه و رسله، و الكرسي هو
العلم الذي لم يطلع عليه أحدا كما رواه الصدوق عن المفضل عن الصادق (عليه
السلام) كأنه من وهم الراوي بتبديل موضعي اللفظين أعني العرش و الكرسي، أو أنه
مطروح كالرواية المنسوبة إلى زينب العطارة.
و في تفسير العياشي، عن علي (عليه السلام) قال: إن السماء و الأرض و ما بينهما
من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بأمر الله، أقول: و رواه
الصدوق عن الأصبغ بن نباتة عنه (عليه السلام)، و لم يرو عنهم (عليهم السلام)
للكرسي حملة إلا في هذه الرواية، بل الأخبار إنما تثبت الحملة للعرش وفقا لكتاب
الله تعالى كما قال: "الذين يحملون العرش و من حوله الآية:" المؤمن - 7، و قال
تعالى، "و يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية:" الحاقة - 17، و يمكن أن يصحح
الخبر بأن الكرسي - كما سيجيء بيانه - يتحد مع العرش بوجه اتحاد ظاهر الشيء
بباطنه.
و بذلك يصح عد حملة أحدهما حملة للآخر.
و في تفسير العياشي، أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال: قلت:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال: نحن أولئك الشافعون.
أقول: و رواه البرقي أيضا في المحاسن، و قد عرفت أن الشفاعة في الآية مطلقة
تشمل الشفاعة التكوينية و التشريعية معا، فتشمل شفاعتهم (عليهم السلام)،
فالرواية من باب الجري
2 سورة البقرة - 256 - 257
لا إِكْرَاهَ فى الدِّينِ قَد تّبَينَ الرّشدُ مِنَ الغَىِّ فَمَن يَكْفُرْ
بِالطغُوتِ وَ يُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ استَمْسك بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا
انفِصامَ لَهَا وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللّهُ وَلىّ الّذِينَ
ءَامَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظلُمَتِ إِلى النّورِ وَ الّذِينَ كَفَرُوا
أَوْلِيَاؤُهُمُ الطغُوت يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النّورِ إِلى الظلُمَتِ أُولَئك
أَصحَب النّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ (257)
بيان
قوله تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي، الإكراه هو الإجبار و
الحمل على الفعل من غير رضى، و الرشد بالضم و الضمتين: إصابة وجه الأمر و محجة
الطريق و يقابله الغي، فهما أعم من الهدى و الضلال، فإنهما إصابة الطريق الموصل
و عدمها على ما قيل، و الظاهر أن استعمال الرشد في إصابة محجة الطريق من باب
الانطباق على المصداق، فإن إصابة وجه الأمر من سالك الطريق أن يركب المحجة و
سواء السبيل، فلزومه الطريق من مصاديق إصابة وجه الأمر، فالحق أن معنى الرشد و
الهدى معنيان مختلفان ينطبق أحدهما بعناية خاصة على مصاديق الآخر و هو ظاهر،
قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشدا": النساء - 6، و قال تعالى: "و لقد آتينا
إبراهيم رشده من قبل:" الأنبياء - 51، و كذلك القول في الغي و الضلال، و لذلك
ذكرنا سابقا: أن الضلال هو العدول عن الطريق مع ذكر الغاية و المقصد، و الغي هو
العدول مع نسيان الغاية فلا يدري الإنسان الغوي ما ذا يريد و ما ذا يقصد.
و في قوله تعالى: لا إكراه في الدين، نفى الدين الإجباري، لما أن الدين و هو
سلسلة من المعارف العلمية التي تتبعها أخرى عملية يجمعها أنها اعتقادات، و
الاعتقاد و الإيمان من الأمور القلبية التي لا يحكم فيها الإكراه و الإجبار،
فإن الإكراه إنما يؤثر في الأعمال الظاهرية و الأفعال و الحركات البدنية
المادية، و أما الاعتقاد القلبي فله علل و أسباب أخرى قلبية من سنخ الاعتقاد و
الإدراك، و من المحال أن ينتج الجهل علما، أو تولد المقدمات غير العلمية تصديقا
علميا، فقوله: لا إكراه في الدين، إن كان قضية إخبارية حاكية عن حال التكوين
أنتج حكما دينيا بنفي الإكراه على الدين و الاعتقاد، و إن كان حكما إنشائيا
تشريعيا كما يشهد به ما عقبه تعالى من قوله: قد تبين الرشد من الغي، كان نهيا
عن الحمل على الاعتقاد و الإيمان كرها، و هو نهي متك على حقيقة تكوينية، و هي
التي مر بيانها أن الإكراه إنما يعمل و يؤثر في مرحلة الأفعال البدنية دون
الاعتقادات القلبية.
و قد بين تعالى هذا الحكم بقوله: قد تبين الرشد من الغي، و هو في مقام التعليل
فإن الإكراه و الإجبار إنما يركن إليه الأمر الحكيم و المربي العاقل في الأمور
المهمة التي لا سبيل إلى بيان وجه الحق فيها لبساطة فهم المأمور و رداءة ذهن
المحكوم، أو لأسباب و جهات أخرى، فيتسبب الحاكم في حكمه بالإكراه أو الأمر
بالتقليد و نحوه، و أما الأمور المهمة التي تبين وجه الخير و الشر فيها، و قرر
وجه الجزاء الذي يلحق فعلها و تركها فلا حاجة فيها إلى الإكراه، بل للإنسان أن
يختار لنفسه ما شاء من طرفي الفعل و عاقبتي الثواب و العقاب، و الدين لما
انكشفت حقائقه و اتضح طريقه بالبيانات الإلهية الموضحة بالسنة النبوية فقد تبين
أن الدين رشد و الرشد في اتباعه، و الغي في تركه و الرغبة عنه، و على هذا لا
موجب لأن يكره أحد أحدا على الدين.
و هذه إحدى الآيات الدالة على أن الإسلام لم يبتن على السيف و الدم، و لم يفت
بالإكراه و العنوة على خلاف ما زعمه عدة من الباحثين من المنتحلين و غيرهم أن
الإسلام دين السيف استدلوا عليه: بالجهاد الذي هو أحد أركان هذا الدين.
و قد تقدم الجواب عنه في ضمن البحث عن آيات القتال و ذكرنا هناك أن القتال الذي
ندب إليه الإسلام ليس لغاية إحراز التقدم و بسط الدين بالقوة و الإكراه، بل
لإحياء الحق و الدفاع عن أنفس متاع للفطرة و هو التوحيد،، و أما بعد انبساط
التوحيد بين الناس و خضوعهم لدين النبوة و لو بالتهود و التنصر فلا نزاع لمسلم
مع موحد و لا جدال، فالإشكال ناش عن عدم التدبر.
و يظهر مما تقدم أن الآية أعني قوله: لا إكراه في الدين غير منسوخة بآية السيف
كما ذكره بعضهم.
و من الشواهد على أن الآية غير منسوخة التعليل الذي فيها أعني قوله: قد تبين
الرشد من الغي، فإن الناسخ ما لم ينسخ علة الحكم لم ينسخ نفس الحكم، فإن الحكم
باق ببقاء سببه، و معلوم أن تبين الرشد من الغي في أمر الإسلام أمر غير قابل
للارتفاع بمثل آية السيف، فإن قوله: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم مثلا، أو
قوله: و قاتلوا في سبيل الله الآية لا يؤثران في ظهور حقية الدين شيئا حتى
ينسخا حكما معلولا لهذا الظهور.
و بعبارة أخرى الآية تعلل قوله: لا إكراه في الدين بظهور الحق: و هو معنى لا
يختلف حاله قبل نزول حكم القتال و بعد نزوله، فهو ثابت على كل حال، فهو غير
منسوخ.
قوله تعالى: فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى "إلخ"،
الطاغوت هو الطغيان و التجاوز عن الحد و لا يخلو عن مبالغة في المعنى كالملكوت
و الجبروت، و يستعمل فيما يحصل به الطغيان كأقسام المعبودات من دون الله
كالأصنام و الشياطين و الجن و أئمة الضلال من الإنسان و كل متبوع لا يرضى الله
سبحانه باتباعه، و يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و التثنية و الجمع.
و إنما قدم الكفر على الإيمان في قوله: فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله، ليوافق
الترتيب الذي يناسبه الفعل الواقع في الجزاء أعني الاستمساك بالعروة الوثقى،
لأن الاستمساك بشيء إنما يكون بترك كل شيء و الأخذ بالعروة، فهناك ترك ثم أخذ،
فقدم الكفر و هو ترك على الإيمان و هو أخذ ليوافق ذلك، و الاستمساك هو الأخذ و
الإمساك بشدة، و العروة: ما يؤخذ به من الشيء كعروة الدلو و عروة الإناء، و
العروة هي كل ما له أصل من النبات و ما لا يسقط ورقه، و أصل الباب التعلق يقال:
عراه و اعتراه أي تعلق به.
و الكلام أعني قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى، موضوع على الاستعارة للدلالة
على أن الإيمان بالنسبة إلى السعادة بمنزلة عروة الإناء بالنسبة إلى الإناء و
ما فيه، فكما لا يكون الأخذ أخذا مطمئنا حتى يقبض على العروة كذلك السعادة
الحقيقية لا يستقر أمرها و لا يرجى نيلها إلا أن يؤمن الإنسان بالله و يكفر
بالطاغوت.
قوله تعالى: لا انفصام لها و الله سميع عليم، الانفصام: الانقطاع و الانكسار، و
الجملة في موضع الحال من العروة تؤكد معنى العروة الوثقى، ثم عقبه بقوله: و
الله سميع عليم، لكون الإيمان و الكفر متعلقا بالقلب و اللسان.
قوله تعالى: الله ولي الذين آمنوا يخرجهم إلى آخر الآية، قد مر شطر من الكلام
في معنى إخراجه من النور إلى الظلمات، و قد بينا هناك أن هذا الإخراج و ما
يشاكله من المعاني أمور حقيقية غير مجازية خلافا لما توهمه كثير من المفسرين و
سائر الباحثين أنها معان مجازية يراد بها الأعمال الظاهرية من الحركات و
السكنات البدنية، و ما يترتب عليها من الغايات الحسنة و السيئة، فالنور مثلا هو
الاعتقاد الحق بما يرتفع به ظلمة الجهل و حيرة الشك و اضطراب القلب، و النور هو
صالح العمل من حيث إن رشده بين، و أثره في السعادة جلي، كما أن النور الحقيقي
على هذه الصفات.
و الظلمة هو الجهل في الاعتقاد و الشبهة و الريبة و طالح العمل، كل ذلك
بالاستعارة.
و الإخراج من الظلمة إلى النور الذي ينسب إلى الله تعالى كالإخراج من النور إلى
الظلمات الذي ينسب إلى الطاغوت نفس هذه الأعمال و العقائد فليس وراء هذه
الأعمال و العقائد، لا فعل من الله تعالى و غيره كالإخراج مثلا و لا أثر لفعل
الله تعالى و غيره كالنور و الظلمة و غيرهما، هذا ما ذكره قوم من المفسرين و
الباحثين.
و ذكر آخرون: أن الله يفعل فعلا كالإخراج من الظلمات إلى النور و إعطاء الحياة
و السعة و الرحمة و ما يشاكلها و يترتب على فعله تعالى آثار كالنور و الظلمة و
الروح و الرحمة و نزول الملائكة، لا ينالها أفهامنا و لا يسعها مشاعرنا، غير
أنا نؤمن بحسب ما أخبر به الله - و هو يقول الحق - بأن هذه الأمور موجودة و
أنها أفعال له تعالى و إن لم نحط بها خبرا، و لازم هذا القول أيضا كالقول
السابق أن يكون هذه الألفاظ أعني أمثال النور و الظلمة و الإخراج و نحوها
مستعملة على المجاز بالاستعارة، و إنما الفرق بين القولين أن مصاديق النور و
الظلمة و نحوهما على القول الأول نفس أعمالنا و عقائدنا، و على القول الثاني
أمور خارجة عن أعمالنا و عقائدنا لا سبيل لنا إلى فهمها، و لا طريق إلى نيلها و
الوقوف عليها.
و القولان جميعا خارجان عن صراط الاستقامة كالمفرط و المفرط، و الحق في ذلك أن
هذه الأمور التي أخبر الله سبحانه بإيجادها و فعلها عند الطاعة و المعصية إنما
هي أمور حقيقية واقعية من غير تجوز غير أنها لا تفارق أعمالنا و عقائدنا بل هي
لوازمها التي في باطنها، و قد مر الكلام في ذلك، و هذا لا ينافي كون قوله
تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى
الظلمات، كنايتين عن هداية الله سبحانه و إضلال الطاغوت، لما تقدم في بحث
الكلام أن النزاع في مقامين: أحدهما كون النور و الظلمة و ما شابههما ذا حقيقة
في هذه النشأة أو مجرد تشبيه لا حقيقة له، و ثانيهما: أنه على تقدير تسليم أن
لها حقائق و واقعيات هل استعمال اللفظ كالنور مثلا في الحقيقة التي هي حقيقة
الهداية حقيقة أو مجاز؟ و على أي حال فالجملتان أعني: قوله تعالى: يخرجهم من
الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، كنايتان عن
الهداية و الإضلال و إلا لزم أن يكون لكل من المؤمن و الكافر نور و ظلمة معا،
فإن لازم إخراج المؤمن من الظلمة إلى النور أن يكون قبل الإيمان في ظلمة و
بالعكس في الكافر، فعامة المؤمنين و الكفار - و هم الذين عاشوا مؤمنين فقط أو
عاشوا كفارا فقط - إذا بلغوا مقام التكليف فإن آمنوا خرجوا من الظلمات إلى
النور، و إن كفروا خرجوا من النور إلى الظلمات، فهم قبل ذلك في نور و ظلمة معا
و هذا كما ترى.
لكن يمكن أن يقال: إن الإنسان بحسب خلقته على نور الفطرة، هو نور إجمالي يقبل
التفصيل، و أما بالنسبة إلى المعارف الحقة و الأعمال الصالحة تفصيلا فهو في
ظلمة بعد لعدم تبين أمره، و النور و الظلمة بهذا المعنى لا يتنافيان و لا يمتنع
اجتماعهما، و المؤمن بإيمانه يخرج من هذه الظلمة إلى نور المعارف و الطاعات
تفصيلا، و الكافر بكفره يخرج من نور الفطرة إلى ظلمات الكفر و المعاصي
التفصيلية، و الإتيان بالنور مفردا و بالظلمات جمعا في قوله تعالى: يخرجهم من
الظلمات إلى النور، و قوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للإشارة إلى
أن الحق واحد لا اختلاف فيه كما أن
|