قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و من هنا يظهر: أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية
السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها و خاصة القناطير المقنطرة من بينها
أفادته إطلاق المشية و أعطته سعة القدرة فله ما يشاء، و عنده ما يريد.
و قد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء.
قوله تعالى: و الله بصير بالعباد.
لما تحصل من هذه الآية و التي قبلها: أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين
الدنيا و الآخرة نعما يتنعم بها و مآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج، و ما
يؤكل و يشرب، و الملك و نحوها، و هي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا
مشترك بين الكافر و المؤمن مبذول لهما معا و ما في الآخرة مختص بالمؤمن لا
يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك، و بلفظ آخر سؤال وجه
المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله: و الله بصير بالعباد، و
معناه: أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن و الكافر ليس مبنيا على العبث
و الجزاف تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق و الله
بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق و هو التقوى في المؤمن دون الكافر، و قد وصف هذا
التقوى و عرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله: الذين يقولون ربنا إلى آخر الآيتين
و ملخصه: أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم و عدم استغنائهم عنه، و يصدقون ذلك
بالعمل الصالح و لكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا و ينسى آخرته و عاقبة
أمره.
و من ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى: ذلك متاع الحيوة الدنيا و
الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم إلى آخر الآية و ما في معناهما
من الآيات كقوله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من
الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات
لقوم يعلمون،: الأعراف - 32، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على
ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.
أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا
العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها و أعمالها التي يعملها إنما هي
متفرعة على القوى و الأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده و
يحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية و أن الوجود لا يستند إلى
اتفاق أو جزاف أو عبث.
فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر
تغذيه، و إنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه و إنما يفعل ذلك ليمد وجوده
للبقاء، و أيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات و القوى الفعالة و
المترتبة ليحفظ بقاء نوعه و الأمر في وجود النبات و الحيوان نظير الأمر في
تجهيز الإنسان.
ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها و خاصة في تسخير ذوات الشعور منها و هي الحيوان
و الإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها و إيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال
لأجل هذه اللذائذ و هي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها و هي بقاء الوجود و
تغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة، و يلتذ
الفاعل بهذه الزينة التي تغرها و يلعب بها، فلو لا ما في الغذاء و النكاح مثلا
من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء، و بطل بذلك غرض
الخلقة لكن الله سبحانه أودع فيه لذة الغذاء و لذة النكاح لا يستريح الإنسان في
طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب و عناء و يقاسي كل مصيبة و بلاء، و هو
في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور، و أما الصنع و
الخلقة فينال بغيته و يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود
الفرد و قد حصل بالتغذي، و إلا بقاء وجود النوع و قد حصل بالنكاح و السفاد و لم
يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال.
و إذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى
لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض، فلذة الأكل و الشرب و جميع اللذائذ
الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل و فساد
التركيب و هو الموت، و لذة النكاح و جميع اللذائذ المرتبطة به و هي أمور جمة
إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء و الاضمحلال، فلو فرض للإنسان
وجود لا يلحقه موت و لا فناء و حيوة مأمونة من كل شر و مكروه فأي فائدة تترتب
على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ و أي ثمرة
يثمرها تجهيزات البدن و أعضاؤه كالكلي و المثانة و الطحال و الكبد و غيرها و
جميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد
المؤبد؟.
و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا و النعم التي
تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة و
يتعلق بها كما قال: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها": الكهف - 7، و قال
"المال و البنون زينة الحيوة الدنيا": الكهف - 46، و قال: "تبتغون عرض الحيوة
الدنيا": النساء - 94، و قال - و هو أجمع للغرض -: "و لا تمدن عينيك إلى ما
متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى":
طه - 131، و قال أيضا: "و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحيوة الدنيا و زينتها و ما
عند الله خير و أبقى أ فلا تعقلون": القصص - 60، إلى غير ذلك من الآيات، و
جميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا، و اللذائذ المتعلقة بها أمور
مقصودة لأجل الحيوة و أمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا
تتعدى أياما قلائل، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة و لا مخلوقة، و هذا هو حق
الأمر!.
لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث هاهنا
برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور، و ليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن و على
بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر و القوى الفعالة فيها، و لو
فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود و لا بقاء
أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان
فافهم ذلك.
فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا و يأكل و يشرب و ينكح و يتصرف في كل
شيء بالأخذ و الإعطاء و يحس و يتخيل و يعقل و يسر و يفرح و يبتهج و هكذا، كل
ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها و بعضها مقدمة لبعضها، و هو السائر
الدائر في مثل مسافة دورية.
فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء و كتب عليه الخلود و الدوام إما
بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده و إيجاد وجود باق بل بإثبات
وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ
نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم و مصائب من سنخ نقم الدنيا و مصائبها.
و كل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو
ذلك.
فالإنسان هو الإنسان و ما يحتاج إليه و يستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه و
يستكمل به من مطالبه و مقاصده و إنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء و ما
يلحق به.
هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول: "و
لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا
النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم
أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم
يوم القيامة تبعثون": المؤمنون - 16، انظر إلى موضع قوله: و لقد خلقنا، و الخلق
هو الجمع و التركيب، و إلى موضع قوله: ثم أنشأناه، الدال على تبديل نحو الخلق و
الإيجاد، و إلى موضع قوله: ثم إنكم يوم القيامة، و المخاطب به هو الذي أنشىء
خلقا آخر.
و يقول أيضا: "قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون": الأعراف - 25
فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها و من نقمها.
و تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة
الآية: البقرة - 213.
و قد قال تعالى في هذه النعم الأرضية: "ذلك متاع الحيوة الدنيا" ثم قال: "و ما
الحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع: الرعد - 26، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا
في الآخرة يتمتع به، و هذا من أبدع البيان، و باب ينفتح به للمتدبر ألف باب، و
فيه تصديق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما
تموتون تبعثون.
و بالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة و هو الذي
يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته و شقائه أي ما يراه فوزا و فلاحا لنفسه و ما
يراه خيبة و خسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها و هما نعيم
الجنة و عذاب النار.
و بعبارة أخرى واضحة، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة و شقاء بحسبها في بقائه
شخصا و نوعا و هما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل و الشرب و النكاح و قد زينت
له بلذائذ مقدمية و هذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال و أخذ في
الفعالية بالشعور و الإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره و إرادته فما
لا يشعر به و لا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد و إن كان كمالا
طبيعيا و كذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به و إن كان من سعادة
الطبيعة كصحة البدن و المال و الولد، و نلتذ بما نشعر به من اللذائذ و إن لم
يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة و نظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير
كمالا حقيقيا لهذا الإنسان و إن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله
سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ، و شقاؤه
هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن، إذ من البديهي أن
خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به و يشاؤه، و شره فيما يعلم
به و لا يريده.
فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في
الدنيا من الأكل و الشرب و النكاح و ما فوق ذلك و هو الجنة، و شقاؤه أن لا ينال
ذلك و هو النار.
قال تعالى: "لهم فيها ما يشاءون": النحل - 31.
قوله تعالى: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار
وصف للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة: للذين اتقوا، فوصفهم أنهم
يقولون ربنا و فيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية و استرحام منه تعالى
فيما يسألونه بقولهم: إننا آمنا، و الجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى
فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى: "بل الله يمن عليكم أن هداكم
للإيمان": الحجرات - 17 بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن
منهم، قال تعالى: "و آمنوا به يغفر لكم": الأحقاف - 31، و لذلك فرعوا عليه
قولهم: فاغفر لنا ذنوبنا، بفاء التفريع.
و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم و ثباتهم في إيمانهم.
و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار
فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به و عبده من غير استحقاق من العبد يثبت
له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان و
الإطاعة أيضا من نعمه و لا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من
حق، و من الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم و يقيهم عذاب النار إن
آمنوا به، قال تعالى: "و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم":
الأحقاف - 31.
و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة و الجنة
كقوله تعالى: "هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله و رسوله و
تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم
ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار و مساكن طيبة في جنات عدن": الصف -
12، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله: هل
أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، و هذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه
إن وفقنا له.
قوله تعالى: الصابرين و الصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها
تقوى من متق، فالصبر لسبقه على بقية الخصال و إطلاقه يشمل أقسام الصبر، و هي
ثلاث: صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية، و صبر عند المصيبة.
و الصدق و إن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول و فعل
لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر و القنوت و غيرهما
و ليس بمراد فالمراد به و الله أعلم الصدق في القول فحسب.
و القنوت هو الخضوع لله سبحانه و يشمل العبادات و أقسام النسك و الإنفاق هو بذل
المال لمن يستحق البذل و الاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل و الاستغفار
فيه، و السنة تفسره بصلوة الليل و الاستغفار في قنوت الوتر، و قد ذكر الله أنه
سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل و الدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام
الليل و التهجد به: "إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا": المزمل - 19
الدهر - 29.
قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما
بالقسط، أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور و حس ثم استعمل في
أدائها و إظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل و التأدية
بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق و الواقع من أن يبطل بنزاع
أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق و الواقع، فبهذه
العناية كان التحمل و التأدية كلاهما شهادة أي حفظا و إقامة للحق و القسط هو
العدل.
و لما كانت الآيات السابقة أعني قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و
لا أولادهم من الله شيئا، إلى قوله: و المستغفرين بالأسحار، تبين: أن الله
سبحانه لا إله غيره و لا يغني عنه شيء، و أن ما يحسبه الإنسان مغنيا عنه و يركن
إليه في حيوته ليس إلا زينة و إلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير
منه و لا ينال إلا بتقوى الله تعالى، و بعبارة أخرى: هذه النعم التي يحن إليها
الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر و المؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام
الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.
فشهد و هو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو و إذ ليس هناك إله غيره فليس
هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من
الأسباب إذ لو أغنى شيء من هذه منه شيئا لكان إلها دونه أو معتمدا إلى إله دونه
منتهيا إليه و لا إله غيره.
شهد بهذه الشهادة و هو قائم بالقسط في فعله، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر
العالم بخلق الأسباب و المسببات و إلقاء الروابط بينها، و جعل الكل راجعا إليه
بالسير و الكدح و التكامل و ركوب طبق، عن طبق و وضع في مسير هذا المقصد نعما
لينتفع منها الإنسان في عاجله لأجله و في طريقه لمقصده لا ليركن إليه و يستقر
عنده فالله يشهد بذلك و هو شاهد عدل.
و من لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه و على وحدته في ألوهيته أي إن عدله ثابت
بنفسه و مثبت لوحدانيته، بيان ذلك: أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون
جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو
تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب و الزور فملازمة
الصدق و المجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في
العالم و الجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا.
و نحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها
على خلاف ما نميل إليه و نطمع فيه ثم نعترض عليها و نناقش فيها إنما نذكر في
الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا، و جميع ذلك
مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن
الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم
بالعدم، فنظام الكون و هو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.
و لو كان هناك إله يغني منه في شيء من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا
بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه و في دائرة قضائه و عمله.
و بالجملة فالله سبحانه يشهد، و هو شاهد عدل، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك
بكلامه و هو قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو، على ما هو ظاهر الآية الشريفة،
فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: "لكن الله يشهد
بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا": النساء -
166.
و الملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل
هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم و يعملون بأمره و يسبحونه و في
تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: "بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و
هم بأمره يعملون": الأنبياء - 27، و قال تعالى: "و الملائكة يسبحون بحمد ربهم":
الشورى - 5 و أولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية
و الأنفسية و قد ملأت مشاعرهم و رسخت في عقولهم.
و قد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية
الشريفة دون شهادة الفعل و إن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد
على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه، و بكل جزء من
أجزائه التي هي أعيان الموجودات.
و ثانيا: أن قوله تعالى: قائما بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله، و العامل
فيه شهد، و بعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى و لا للملائكة
و أولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو و
الملائكة و أولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين
قوله: لا إله إلا هو، و قوله: قائما بالقسط: بتوسيط قوله: و الملائكة و أولوا
العلم، و لو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: إنه
لا إله إلا هو قائما بالقسط و الملائكة، و من ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من
المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في
المقام.
و من أردإ الإشكال ما ذكره بعضهم: أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر
يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على
صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا و هو متوقف عليه
فيكون بيانا دوريا، و من هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري
بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة و اتصال
النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه و إخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره و
كذا عبادة ملائكته له و إطاعتهم لأمره، و كذا ما يشاهده أولوا العلم من أفراد
الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.
و الجواب: أن فيه خلطا و مغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو
الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو فرض
إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو
أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا و أجلى صدقا من القضية التي أقيم
عليها برهان مؤلف من مقدمات عقلية نظرية و إن كانت يقينية و أنتجت اليقين.
فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب و الزور بصريح البرهان كانت شهادته
تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، و الله سبحانه و هو الله الذي لا سبيل للنقص
و الباطل إليه لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن
إخباره عن شهادة الملائكة و أولي العلم يثبت شهادتهم.
على أن من أثبت له شركاء كالأصنام و أربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء
عند الله و وسائط بينه و بين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: "ما نعبدهم
إلا ليقربونا إلى الله زلفى": الزمر - 3، و كذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي
من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل
بالتأثير بعد حصوله له، و بالجملة ما اتخذ له من شريك فإنما يشاركه فيما يشاركه
بتشريكه لا بنفسه، و إذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى
من يدعي له شريكا، و جرى الكلام مجرى قوله: "قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في
السموات و لا في الأرض": يونس - 18، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا
يعلم به في السموات و الأرض و لا يخفى عليه شيء، و بالحقيقة هو خبر مثل سائر
الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية و العظمة كقوله: "سبحانه و تعالى عما
يشركون": يونس - 18، و نحو ذلك، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه
لكونه خبرا في مورد دعوى، و المخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ
الشهادة تفننا في الكلام، فيئول المعنى إلى أنه لو كان في الوجود أرباب من دون
الله مؤثرون في الخلق و التدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله و شهد به
لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له، و لعلم و اعترف به الملائكة
الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق و التدبير لكنهم يشهدون أن لا
شريك له، و لعلم به و شهد أثره أولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات
أن لا شريك له.
فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة و
إدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك و عرفه لأنه من المحال أن لا
يحس بوجوده و هو يشاركه، و لعلم به القوى المجرية و العمال المتوسطون بين العرش
و الرعية و كيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده و هم يحملون أوامره و يجرون أحكامه
بين ما في أيديهم من الأحكام و الأوامر و لعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة
و كيف لا و هم يطيعون أوامره و عهوده و يعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده، و
عمال الدولة لا يعرفونه، و عقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده؟ فليس.
قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام
لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة، و من
أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه
بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى: "قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه":
يونس - 68، فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه
تعالى، و نظيره بوجه قوله تعالى: "و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم"
الآية: المائدة - 64.
و بالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله و الملائكة و أولي العلم - بنفي
الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي و يخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم
و هو في الآية هو الله سبحانه و على من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه
فيقول: لا إله إلا هو.
نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك: "و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم": النور - 16، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا
سمعوا بهتانا و أرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق
من يجب تنزيهه.
فموضع قوله: لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق
تعظيمه و لذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم، و لو كان في محل النتيجة من الشهادة
لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة و القيام بالقسط، فهو تعالى حقيق بالتوحيد
إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه
أن يستذل بوجود شريك له في مقام الألوهية، و المتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن
ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره و ما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه
ما أراده.
و قد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية، و كذا وجه
تتميمها بالاسمين: العزيز الحكيم، و الله العالم.
بحث روايي
في المجمع،: في قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون الآية روى محمد بن إسحاق عن
رجاله قال: لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا ببدر و قدم
المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما
نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم و قد عرفتم أني نبي
مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا
علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا و الله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس
فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن إسحاق و ابن جرير
و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، و روى ما يقرب منه القمي في تفسيره، و قد
عرفت مما تقدم: أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة، و أن
الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد، و الله أعلم.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما تلذذ الناس في
الدنيا و الآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء، و هو قوله: زين للناس حب الشهوات
من النساء و البنين الآية ثم قال: و إن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة
أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب.
أقول: و قد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء
على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا و شهوات الجنة خيرا منها.
و مراده (عليه السلام) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر
الإضافي أي إن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان،
و أما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى
بقرب ربه و مشاهدة آياته الكبرى و لطائف رضوانه و إكرامه و غيرهما فذلك خارج عن
مورد كلامه (عليه السلام)، و قد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ
التذاذ الشيء بنعمة وجوده، و أخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من
التذاذها بنفسها.
و هناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور و القرب منه تعالى
أكبر عنده من كل لذة، و قد روي في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): كان علي بن
الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه يسخى نفسي في سرعة الموت و القتل فينا قول
الله تعالى: "أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" و هو ذهاب
العلماء، و سيجيء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.
و في المجمع،: في قوله تعالى: القناطير المقنطرة عن الباقر و الصادق (عليهما
السلام) القنطار ملء مسك ثور ذهبا.
و في تفسير القمي، قال (عليه السلام): الخيل المسومة المرعية.
و في الفقيه، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر:
أستغفر الله و أتوب إليه سبعين مرة و هو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه
الله عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من الله تعالى.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت، و هو من سنن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، أيضا عن ابن
جرير عن جعفر بن محمد قال: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة
كتب من المستغفرين، و قوله (عليه السلام): و وجبت له المغفرة من الله، مستفاد
من قوله تعالى حكاية عنهم: فاغفر لنا ذنوبنا، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد
إمضاء للاستجابة.
3 سورة آل عمران - 19 - 25
إِنّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الاسلَمُ وَ مَا اخْتَلَف الّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَب إِلا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ وَ مَن
يَكْفُرْ بِئَايَتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سرِيعُ الحِْسابِ (19) فَإِنْ حَاجّوك
فَقُلْ أَسلَمْت وَجْهِىَ للّهِ وَ مَنِ اتّبَعَنِ وَ قُل لِّلّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَب وَ الأُمِّيِّينَ ءَ أَسلَمْتُمْ فَإِنْ أَسلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا
وّ إِن تَوَلّوْا فَإِنّمَا عَلَيْك الْبَلَغُ وَ اللّهُ بَصِيرُ بِالْعِبَادِ
(20) إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ يَقْتُلُونَ النّبِيِّينَ
بِغَيرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسطِ مِنَ النّاسِ
فَبَشرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئك الّذِينَ حَبِطت أَعْمَلُهُمْ فى
الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مَا لَهُم مِّن نّصِرِينَ (22) أَ لَمْ تَرَ إِلى
الّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكتَبِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتَبِ اللّهِ
لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَ هُم مّعْرِضونَ (23)
ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسنَا النّارُ إِلا أَيّاماً مّعْدُودَتٍ وَ
غَرّهُمْ فى دِينِهِم مّا كانُوا يَفْترُونَ (24) فَكَيْف إِذَا جَمَعْنَهُمْ
لِيَوْمٍ لا رَيْب فِيهِ وَ وُفِّيَت كلّ نَفْسٍ مّا كسبَت وَ هُمْ لا
يُظلَمُونَ (25)
بيان
الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب و هم آخر الفرق الثلاث التي تقدم أنها عرضة
للكلام في هذه السورة، و أهمهم بحسب قصد الكلام أهل الكتاب من اليهود و
النصارى، ففيهم و في أمرهم نزل معظم السورة و إليهم يعود.
قوله تعالى: إن الدين عند الله الإسلام، قد مر معنى الإسلام بحسب اللغة و كان
هذا المعنى هو المراد هاهنا بقرينة ما يذكره من اختلاف أهل الكتاب بعد العلم
بغيا بينهم فيكون المعنى: أن الدين عند الله سبحانه واحد لا اختلاف فيه لم يأمر
عباده إلا به، و لم يبين لهم فيما أنزله من الكتاب على أنبيائه إلا إياه، و لم
ينصب الآيات الدالة إلا له و هو الإسلام الذي هو التسليم للحق الذي هو حق
الاعتقاد و حق العمل، و بعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية
في المعارف و الأحكام، و هو و إن اختلف كما و كيفا في شرائع أنبيائه و رسله على
ما يحكيه الله سبحانه في كتابه غير أنه ليس في الحقيقة إلا أمرا واحدا و إنما
اختلاف الشرائع بالكمال و النقص دون التضاد و التنافي، و التفاضل بينها
بالدرجات، و يجمع الجميع أنها تسليم و إطاعة لله سبحانه فيما يريده من عباده
على لسان رسله.
فهذا هو الدين الذي أراده الله من عباده و بينه لهم، و لازمه أن يأخذ الإنسان
بما تبين له من معارفه حق التبين، و يقف عند الشبهات وقوف التسليم من غير تصرف
فيها من عند نفسه و أما اختلاف أهل الكتاب من اليهود و النصارى في الدين مع
نزول الكتاب الإلهي عليهم، و بيانه تعالى لما هو عنده دين و هو الإسلام له فلم
يكن عن جهل منهم بحقيقة الأمر و كون الدين واحدا بل كانوا عالمين بذلك، و إنما
حملهم على ذلك بغيهم و ظلمهم من غير عذر و ذلك كفر منهم بآيات الله المبينة لهم
حق الأمر و حقيقته لا بالله فإنهم يعترفون به، و من يكفر بآيات الله فإن الله
سريع الحساب، يحاسبه سريعا في دنياه و آخرته: أما في الدنيا فبالخزي و سلب
سعادة الحيوة عنه، و أما في الآخرة فبأليم عذاب النار.
و الدليل على عموم سرعة الحساب للدنيا و الآخرة قوله تعالى بعد آيتين: أولئك
الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من ناصرين.
و مما تقدم يظهر أولا: أن المراد بكون الدين عند الله و حضوره لديه سبحانه هو
الحضور التشريعي بمعنى كونه شرعا واحدا لا يختلف إلا بالدرجات و بحسب استعدادات
الأمم المختلفة دون كونه واحدا بحسب التكوين بمعنى كونه واحدا مودعا في الفطرة
الإنسانية على وتيرة واحدة.
و ثانيا: أن المراد بالآيات هو آيات الوحي، و البيانات الإلهية التي ألقاها إلى
أنبيائه دون الآيات التكوينية الدالة على الوحدانية و ما يزاملها من المعارف
الإلهية.
و الآية تشتمل على تهديد أهل الكتاب بما يستدل عليه بالبغي و هو الانتقام، كما
يشتمل قوله تعالى في الآيات السابقة: قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى جهنم
الآية على تهديد المشركين و الكفار، و لعل هذا هو السبب في أنه جمع أهل الكتاب
و المشركين معا في الآية التالية في الخطاب بقوله: قل للذين أوتوا الكتاب و
الأميين أ أسلمتم "الخ"، و فيه إشعار بالتهديد أيضا.
قوله تعالى: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن، الضمير في حاجوك راجع
إلى أهل الكتاب و هو ظاهر و المراد به محاجتهم في أمر الاختلاف بأن يقولوا: إن
اختلافنا ليس لبغي منا بعد البيان بل إنما هو شيء ساقنا إليه عقولنا و أفهامنا
و اجتهادنا في تحصيل العلم بحقائق الدين من غير أن ندع التسليم لجانب الحق
سبحانه و أن ما تراه و تدعو إليه يا محمد من هذا القبيل، أو يقولوا ما يشابه
ذلك، و الدليل على ذلك قوله: فقل: أسلمت وجهي لله، و قوله: و قل للذين أوتوا
الكتاب و الأميين أ أسلمتم، فإن الجملتين حجة سيقت لقطع خصامهم و حجاجهم لا
إعراض عن المحاجة معهم.
و معناها مع حفظ ارتباطها بما قبلها: إن الدين عند الله الإسلام لا يختلف فيه
كتب الله و لا يرتاب فيه سليم العقل، و يتفرع عليه أن لا حجة عليك في إسلامك و
أنت مسلم، فإن حاجوك في أمر الدين فقل: أسلمت وجهي لله و من اتبعن فهذا هو
الدين و لا حجة بعد الدين في أمر الدين ثم سلهم: أ أسلموا فإن أسلموا فقد
اهتدوا و ليقبلوا ما أنزل الله عليك و على من قبلك و لا حجة عليهم و لا مخاصمة
بعد ذلك بينكم، و إن تولوا فلا تخاصمهم و لا تحاجهم فلا ينبغي الخصام في أمر
ضروري، و هو أن الدين هو التسليم لله سبحانه، و ما عليك إلا البلاغ.
و قد أشرك سبحانه في الآية بين أهل الكتاب و الأميين بقوله: و قل للذين أوتوا
الكتاب و الأميين أ أسلمتم، لكون الدين مشتركا بينهم و إن اختلفوا في التوحيد و
التشريك.
و قد علق الإسلام على الوجه - و هو ما يستقبلك من الشيء أو الوجه بالمعنى الأخص
لكون إسلام الوجه لاشتماله على معظم الحواس و المشاعر إسلاما لجميع البدن -
ليدل على معنى الإقبال و الخضوع لأمر الرب تعالى، و عطف قوله: و من اتبعن حفظا
لمقام التبعية و تشريفا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: و قل للذين أوتوا الكتاب و الأميين أ أسلمتم إلى آخر الآية، المراد
بالأميين المشركين سموا بذلك لتسمية من وضع في مقابلهم بأهل الكتاب، و كذا كان
أهل الكتاب يسمونهم كما حكاه تعالى من قوله: "ليس علينا في الأميين سبيل": آل
عمران - 75 و الأمي هو الذي لا يكتب و لا يقرأ.
و في قوله تعالى: و إن تولوا فإنما عليك البلاغ و الله بصير بالعباد دلالة
أولا: على النهي عن المراء و الإلحاح في المحاجة فإن المحاجة مع من ينكر
الضروري لا تكون إلا مراء و لجاجا في البحث.
و ثانيا: على أن الحكم في حق الناس و الأمر مطلقا إلى الله سبحانه، و ليس للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه رسول مبلغ لا حاكم مسيطر كما قال تعالى:
"ليس لك من الأمر شيء": آل عمران - 128، و قال تعالى: "لست عليهم بمصيطر:
الغاشية - 23.
و ثالثا: على تهديد أهل الكتاب و المشركين فإن ختم الكلام بقوله: و الله بصير
بالعباد، بعد قوله: فإنما عليك البلاغ لا يخلو من ذلك و يدل على ذلك ما وقع من
التهديد في نظير الآية، و هو قوله تعالى: "قولوا آمنا بالله إلى أن قال: و نحن
له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا و إن تولوا فإنما هم في شقاق
فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم": البقرة - 137، تذكر الآية أن أهل الكتاب
إن تولوا عن الإسلام فهم مصرون على الخلاف ثم يهددهم بما يسلي به النبي و يطيب
نفسه، فالآية أعني قوله: "و إن تولوا فإنما عليك البلاغ، كناية عن الأمر بتخلية
ما بينهم و بين ربهم، و إرجاع أمرهم إليه، و هو بصير بعباده يحكم فيهم بما
تقتضيه حالهم و يسأله لسان استعدادهم.
و من هنا يظهر: أن ما ذكره بعض المفسرين، أن في الآية دليلا على حرية الاعتقاد
في أمر الدين و أن لا إكراه فيه ليس بوجيه فإن الآية كما عرفت مسوقة لغير ذلك.
و في قوله: بصير بالعباد حيث أخذ عنوان العبودية و لم يقل: بصير بهم أو بصير
بالناس و نحو ذلك إشعار بأن حكمه نافذ فيهم ماض عليهم فإنهم عباده و مربوبون له
أسلموا أو تولوا.
قوله تعالى: إن الذين يكفرون بآيات الله إلى آخر الآية، الكلام في الآية و إن
كان مسوقا سوق الاستيناف لكنه مع ذلك لا يخلو عن إشعار و بيان للتهديد الذي
يشعر به آخر الآية السابقة فإن مضمونها منطبق على أهل الكتاب و خاصة اليهود.
و قوله: يكفرون، و يقتلون، في موضعين للاستمرار و يدلان على كون الكفر بآيات
الله و هو الكفر بعد البيان بغيا، و قتل الأنبياء و هو قتل من غير حق، و قتل
الذين يدعون إلى القسط و العدل و ينهون عن الظلم و البغي دأبا و عادة جارية
فيما بينهم كما يشتمل عليه تاريخ اليهود، فقد قتلوا جمعا كثيرا و جما غفيرا من
أنبيائهم و عبادهم الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر و كذا النصارى جروا
مجراهم.
و قوله: فبشرهم بعذاب أليم تصريح بشمول الغضب و نزول السخط، و ليس هو العذاب
الأخروي فحسب بدليل قوله تعالى عقيب الآية: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا
و الآخرة "الخ" فهم مبشرون بالعذاب الدنيوي و الأخروي معا، أما الأخروي فأليم
عذاب النار، و أما الدنيوي فهو ما لقوه من التقتيل و الإجلاء و ذهاب الأموال و
الأنفس، و ما سخط الله عليهم بإلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة
على ما تصرح به آيات الكتاب العزيز.
و في قوله تعالى: أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا و الآخرة و ما لهم من
ناصرين، دلالة أولا: على حبط عمل من قتل رجلا من جهة أمره بالمعروف أو نهيه عن
المنكر.
و ثانيا على عدم شمول الشفاعة له يوم القيامة لقوله: و ما لهم من ناصرين.
قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى آخر الآية يومىء إلى
تسجيل البغي على أهل الكتاب حسب ما نسبه الله تعالى إليهم و أنهم يبغون باتخاذ
الخلاف و إيجاد اختلاف الكلمة في الدين فإنها إذا دعوا إلى حكم الكتاب كتاب
الله بينهم لم يسلموا له و تولوا و أعرضوا عنه و ليس ذلك إلا باغترارهم بقولهم
لن تمسنا "الخ" و بما افتروه على الله في دينهم.
و المراد بالذين أوتوا نصيبا من الكتاب أهل الكتاب و إنما لم يقل: أوتوا
الكتاب، و قيل: أوتوا نصيبا من الكتاب ليدل على أن الذي في أيديهم من الكتاب
ليس إلا نصيبا منه دون جميعه لأن تحريفهم له و تغييرهم و تصرفهم في كتاب الله
أذهب كثيرا من أجزائه كما يومىء إليه قوله في آخر الآية التالية: و غرهم في
دينهم ما كانوا يفترون، و كيف كان فالمراد - و الله أعلم - أنهم يتولون عن حكم
كتاب الله اعتزازا بما قالوا و اغترارا بما وضعوه من عند أنفسهم و استغناء به
عن الكتاب.
قوله تعالى: ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار "الخ" معناه واضح، و اغترارهم
بفريتهم التي افترتها أنفسهم مع أن الإنسان لا ينخدع عن نفسه مع العلم بأنها
خدعة باطلة إنما هو لكون المغرورين غير المفترين، و على هذا فنسبة الافتراء
الذي توسل إليها سابقوهم إلى هؤلاء المغرورين من اللاحقين لكونهم أمة واحدة
يرضى بعضهم بفعال بعض.
و إما لأن الاغترار بغرور النفس و الغرور بالفرية الباطلة مع العلم بكونها فرية
باطلة و ذكر المغرور أنه هو الذي افترى ما يغتر به من الفرية ليس من أهل الكتاب
و من اليهود خاصة ببعيد و قد حكى الله عنهم مثله بل ما هو أعجب من ذلك حيث قال
تعالى: "و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلى بعضهم إلى بعض قالوا أ
تحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أ فلا تعقلون أ و لا يعلمون
أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون": البقرة - 77.
على أن الإنسان يجري في أعماله و أفعاله على ما تحصل عنده من الأحوال أو
الملكات النفسانية، و الصور التي زينتها و نمقتها له نفسه دون الذي حصل له
العلم به كما أن المعتاد باستعمال المضرات كالبنج و الدخان و أكل التراب و
نحوها يستعملها و هو يعلم أنها مضرة، و أن استعمال المضر مما لا ينبغي إلا أن
الهيئة الحاصلة في نفسه ملذة له جاذبة إياه إلى الاستعمال لا تدع له مجالا
للتفكر و الاجتناب، و نظائر ذلك كثيرة.
فهم لاستحكام الكبر و البغي و حب الشهوات في أنفسهم يجرون على طبق ما تدعوهم
إليه فريتهم فكانت فريتهم هي الغارة لهم في دينهم، و هم مع ذلك كرروا ذكر ما
افتروه على الله سبحانه و لم يزالوا يكررونه و يلقنونه أنفسهم حتى أذعنوا به أي
اطمأنوا و ركنوا إليه بالتلقين الذي يؤثر أثر العلم كما بينه علماء النفس فصارت
الفرية الباطلة بالتكرار و التلقين تغرهم في دينهم و تمنعهم عن التسليم لله و
الخضوع للحق الذي أنزله في كتابه.
قوله تعالى: فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه إلى آخر الآية، مدخول كيف مقدر
يدل عليه الكلام مثل يصنعون و نحوه، و في الآية إيعاد لهؤلاء الذين تولوا إذا
دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم و هم معرضون غير أنه لما أريد بيان أنهم غير
معجزين لله سبحانه أخذ في الكلام من حالهم يوم القيامة و هم مستسلمون يومئذ ما
يضاهي حالهم في الدنيا عند الدعوة إلى حكم كتاب الله و هم غير مسلمين له
مستكبرون عنه، و لهذا أخذ بالمحاذاة بين الكلامين، و عبر عن ما يجري عليهم يوم
القيامة بمثل قوله: إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه "الخ" دون أن يقال: إذا
أحييناهم أو بعثناهم أو ما يماثل ذلك.
و المعنى - و الله أعلم - أنهم يتولون و يعرضون إذا دعوا إلى كتاب الله ليحكم
بينهم اغترارا بما افتروه في دينهم و استكبارا عن الحق فكيف يصنعون إذا جمعناهم
ليوم لا ريب فيه و هو يوم القضاء الفصل، و الحكم الحق و وفيت كل نفس ما كسبت و
الحكم حكم عدل و هم لا يظلمون، و إذا كان كذلك كان الواجب عليهم أن لا يتولوا و
يعرضوا مظهرين بذلك أنهم معجزون لله غالبون على أمره فإن القدرة كله لله و ما
هي إلا أيام مهلة و فتنة.
بحث روايي
في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألته عن قوله إن الدين عند الله
الإسلام فقال: الذي فيه الإيمان.
و عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: إن الدين عند الله
الإسلام الآية قال التسليم: لعلي بن أبي طالب بالولاية.
أقول: و هو من الجري، و لعل ذلك هو المراد أيضا من الرواية السابقة.
و عنه أيضا عن علي (عليه السلام) قال: لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي،
و لا ينسبها أحد بعدي الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو
التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل،
المؤمن أخذ دينه عن ربه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره
بإنكاره. أيها الناس! دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره إن
السيئة فيه تغفر، و إن الحسنة في غيره لا تقبل.
أقول: قوله (عليه السلام): لأنسبن الإسلام نسبة، المراد بالنسبة التعريف كما
سميت سورة التوحيد في الأخبار بنسبة الرب و الذي عرف به تعريف باللازم في غير
الأول أعني قوله: الإسلام هو التسليم فإنه تعريف لفظي عرف فيه اللفظ بلفظ آخر
أوضح منه، و يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الاصطلاحي له و هو هذا الدين الذي
أتى به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى قوله تعالى: إن الدين عند
الله الإسلام، و بالتسليم الخضوع و الانقياد ذاتا و فعلا فيعود الجميع إلى
التعريف باللازم.
و المعنى: أن هذا الدين المسمى بالإسلام يستتبع خضوع الإنسان لله سبحانه ذاتا و
فعلا، و وضعه نفسه و أعماله تحت أمره و إرادته و هو التسليم و التسليم، لله
يستتبع أو يلزم اليقين بالله و ارتفاع الريب فيه و اليقين يستتبع التصديق و
إظهار صدق الدين، و التصديق يستتبع الإقرار و هو الإذعان بقراره و كونه ثابتا
لا يتزلزل في مقره و لا يزول عن مكانه، و إقراره يستتبع أداءه و أداؤه يستتبع
العمل.
و قوله (عليه السلام): و إن الحسنة في غيره لا تقبل المراد بعدم القبول عدم
الثواب بإزائه في الآخرة، أو عدم الأثر الجميل المحمود عند الله في الدنيا
بسعادة الحيوة و في الآخرة بنعيم الجنة فلا ينافي ما ورد أن الكفار يوجرون في
مقابل حسناتهم بشيء من حسنات الدنيا، قال تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره":
الزلزال - 7.
و في المجمع، عن أبي عبيدة الجراح قال: قلت: يا رسول الله أي الناس أشد عذابا
يوم القيامة؟ قال رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر ثم قرأ:
الذين يقتلون النبيين بغير حق و يقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ثم قال:
يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيا في ساعة فقام مائة رجل و
اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، و نهوهم عن
المنكر فقتلوا جميعا آخر النهار من ذلك اليوم و هو الذي ذكره الله.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن جرير و ابن أبي حاتم عن أبي
عبيدة.
و في الدر المنثور،: أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن
ابن عباس قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيت المدراس على جماعة
من يهود فدعاهم إلى الله فقال له النعمان بن عمرو و حرث بن زيد على أي دين أنت
يا محمد قال: على ملة إبراهيم و دينه، قالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فهلما إلى التوراة فهي بيننا و بينكم
فأبيا عليه فأنزل الله: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى
كتاب الله ليحكم بينهم إلى قوله: و غرهم في دينهم ما كانوا يفترون.
أقول: و روى بعضهم: أن قوله تعالى: أ لم تر نزل في قصة الرجم و سيجيء ذكرها في
ذيل الكلام على قوله تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما
كنتم تخفون من الكتاب الآية: المائدة - 15، و الروايتان من الآحاد و ليستا بتلك
القوة.
3 سورة آل عمران - 26 - 28
قُلِ اللّهُمّ مَلِك الْمُلْكِ تُؤْتى الْمُلْك مَن تَشاءُ وَ تَنزِعُ الْمُلْك
مِمّن تَشاءُ وَ تُعِزّ مَن تَشاءُ وَ تُذِلّ مَن تَشاءُ بِيَدِك الْخَيرُ
إِنّك عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ الّيْلَ فى النّهَارِ وَ تُولِجُ
النّهَارَ فى الّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَىّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ
الْمَيِّت مِنَ الْحَىِّ وَ تَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيرِ حِسابٍ (27)
بيان
الآيتان لا تخلوان عن ارتباط ما بما تقدمهما من الكلام في شأن أهل الكتاب و
خاصة اليهود لاشتماله على وعيدهم و تهديدهم بعذاب الدنيا و الآخرة و من العذاب
ما سلب الله عنهم الملك و ضرب عليهم الذل و المسكنة إلى يوم القيامة و أخذ
أنفاسهم و ذهب باستقلالهم في السؤدد.
على أن غرض السورة كما مر بيان أن الله سبحانه هو القائم على خلق العالم و
تدبيره فهو مالك الملك يملك من يشاء و يعز من يشاء و بالجملة هو المعطي للخير
لمن يشاء و هو الآخذ النازع للملك و العزة و لكل خير عمن يشاء فمضمون الآيتين
غير خارج عن غرض السورة.
قوله تعالى قل اللهم مالك الملك أمر بالالتجاء إلى الله تعالى الذي بيده الخير
على الإطلاق و له القدرة المطلقة ليتخلص من هذه الدعاوي الوهمية التي نشبت في
قلوب المنافقين و المتمردين من الحق من المشركين و أهل الكتاب فضلوا و هلكوا
بما قدروه لأنفسهم من الملك و العزة و الغنى من الله سبحانه و يعرض الملتجىء
نفسه على إفاضة مفيض الخير و الرازق لمن يشاء بغير حساب.
و الملك بكسر الميم مما نعرفه فيما بيننا و نعهده من غير ارتياب في أصله فمن
الملك بكسر الميم ما هو حقيقي و هو كون شيء كالإنسان مثلا بحيث يصح له أن يتصرف
في شيء أي تصرف أمكن بحسب التكوين و الوجود كما يمكن للإنسان أن يتصرف في
باصرته بإعمالها و إهمالها بأي نحو شاء و أراد و كذا في يده بالقبض و البسط، و
الأخذ بها و الترك و نحو ذلك و لا محالة بين المالك و ملكه بهذا المعنى رابطة
حقيقية غير قابلة التغير يوجب قيام المملوك بالمالك نحو قيام لا يستغني عنه و
لا يفارقه إلا بالبطلان كالبصر و اليد إذا فارقا الإنسان و من هذا القبيل ملكه
تعالى بكسر الميم للعالم و لجميع أجزائه و شئونه على الإطلاق، فله أن يتصرف
فيما شاء كيفما شاء.
و من الملك بكسر الميم ما هو وضعي اعتباري و هو كون الشيء كالإنسان بحيث يصح له
أن يتصرف في شيء كيف شاء بحسب الرابطة التي اعتبرها العقلاء من أهل الاجتماع
لغرض نيل الغايات و الأغراض الاجتماعية، و إنما هو محاذاة منهم لما عرفوه في
الوجود من الملك الحقيقي و آثاره فاعتبروا مثله في ظرف اجتماعهم بالوضع و
الدعوى لينالوا بذلك من هذه الأعيان و الأمتعة فوائد نظير ما يناله المالك
الحقيقي من ملكه الحقيقي التكويني.
و لكون الرابطة بين المالك و المملوك في هذا النوع من الملك بالوضع و الاعتبار
نرى ما نرى فيه من جواز التغير و التحول فمن الجائز أن ينتقل هذا النوع من
الملك من إنسان إلى آخر بالبيع و الهبة و سائر أسباب النقل.
و أما الملك بالضم فهو و إن كان من سنخ الملك بالكسر إلا أنه ملك لما يملكه
جماعة الناس فإن المليك مالك لما يملكه رعاياه، له أن يتصرف فيما يملكونه من
غير أن يعارض تصرفهم تصرفه، و لا أن يزاحم مشيئتهم مشيئته فهو في الحقيقة ملك
على ملك، و هو ما نصطلح عليه بالملك الطولي كملك المولى للعبد و ما في يده، و
لهذا كان للملك بالضم من الأقسام ما ذكرناه للملك بالكسر.
و الله سبحانه مالك كل شيء ملكا مطلقا أما أنه مالك لكل شيء على الإطلاق فلأن
له الربوبية المطلقة و القيمومة المطلقة على كل شيء فإنه خالق كل شيء و إله كل
شيء، قال تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو": المؤمن - 62 و
قال تعالى: "له ما في السموات و ما في الأرض": البقرة - 255، إلى غير ذلك من
الآيات الدالة على أن كل ما يسمى شيئا فهو قائم الذات به مفتقر الذات إليه لا
يستقل دونه فلا يمنعه فيما أراده منها و فيها شيء و هذا هو الملك بالكسر كما
مر.
و أما أنه مليك على الإطلاق فهو لازم إطلاق كونه مالكا للموجودات فإن الموجودات
أنفسها يملك بعضها بعضا كالأسباب حيث تملك مسبباتها، و الأشياء تملك قواها
الفعالة، و القوى الفعالة تملك أفعالها كالإنسان يملك اعضاءه و قواه الفعالة من
سمع و بصر و غير ذلك، و هي تملك أفعالها، و إذ كان الله سبحانه يملك كل شيء فهو
يملك كل من يملك منها شيئا، و يملك ما يملكه، و هذا هو الملك بالضم فهو مليك
على الإطلاق، قال تعالى: "له الملك و له الحمد": التغابن - 1، و قال تعالى:
"عند مليك مقتدر": القمر - 55، إلى غير ذلك من الآيات، هذا هو الحقيقي من الملك
و الملك.
و أما الاعتباري منها فإنه تعالى مالك لأنه هو المعطي لكل من يملك شيئا من
المال، و لو لم يملك لم يصح منه ذلك و لكان معطيا لما لا يملك لمن لا يملك، قال
تعالى: "و آتوهم من مال الله الذي آتاكم": النور - 33.
و هو تعالى مليك يملك ما في أيدي الناس لأنه شارع حاكم يتصرف بحكمه فيما يملكه
الناس كما يتصرف الملوك فيما عند رعاياهم من المال، قال تعالى: "قل أعوذ برب
الناس ملك الناس": الناس - 2، و قال تعالى: "و آتاكم من كل ما سألتموه و إن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها": إبراهيم - 34، و قال تعالى: "و أنفقوا مما جعلكم
مستخلفين فيه": الحديد - 7، و قال تعالى: "و ما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله و
لله ميراث السموات و الأرض": الحديد - 10، و قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله
الواحد القهار": المؤمن - 16، فهو تعالى يملك ما في أيدينا قبلنا و يملكه معنا
و سيراه بعدنا عز ملكه.
و من التأمل فيما تقدم يظهر أن قوله تعالى: اللهم مالك الملك، مسوق: أولا:
لبيان ملكه تعالى بالكسر لكل ملك بالضم و مالكية الملك بالضم هو الملك على
الملك بالضم فيهما فهو ملك الملوك، الذي هو المعطي لكل ملك ملكه كما قال تعالى:
"أن آتاه الله الملك": البقرة - 258، و قال تعالى: "و آتيناهم ملكا عظيما":
النساء - 54.
و ثانيا: يدل بتقديم لفظ الجلالة على بيان السبب فهو تعالى مالك الملك لأنه
الله جلت كبرياؤه و هو ظاهر.
و ثالثا: أن المراد بالملك في الآية الشريفة و الله أعلم ما هو أعم من الحقيقي
و الاعتباري فإن ما ذكر من أمره تعالى في الآية الأولى أعني قوله: تؤتي الملك
من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء على ما سنوضحه من
شئون الملك الاعتباري و ما ذكره في الآية الثانية من شئون الملك الحقيقي فهو
مالك الملك مطلقا.
قوله تعالى: تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء، الملك بإطلاقه شامل لكل
ملك حقا أو باطلا عدلا أو جورا فإن الملك كما تقدم بيانه في قوله: "أن آتاه
الله الملك "الآية": البقرة - 258 في نفسه موهبة من مواهب الله و نعمة يصلح لأن
يترتب عليه آثار حسنة في المجتمع الإنساني و قد جبل الله النفوس على حبه و
الرغبة فيه، و الملك الذي تقلده غير أهله ليس بمذموم من حيث إنه ملك، و إنما
المذموم إما تقلد من لا يليق بتقلده كمن تقلده جورا و غصبا، و إما سيرته
الخبيثة مع قدرته على حسن السيرة، و يرجع هذا الثاني أيضا بوجه إلى الأول.
و بوجه آخر يكون الملك بالنسبة إلى من هو أهله نعمة من الله سبحانه إليه، و
بالنسبة إلى غير أهله نقمة و هو على كل حال منسوب إلى الله سبحانه و فتنة يمتحن
به عباده.
و قد تقدم: أن التعليق على المشية في أفعاله تعالى كما في هذه الآية ليس معناه
وقوع الفعل جزافا تعالى عن ذلك بل المراد عدم كونه تعالى مجبرا في فعله ملزما
عليه فهو تعالى يفعل ما يفعل بمشيته المطلقة من غير أن يجبره أحد أو يكرهه و إن
جرى فعله على المصلحة دائما.
قوله تعالى: و تعز من تشاء و تذل من تشاء، العز كون الشيء بحيث يصعب مناله، و
لذا يقال للشيء النادر الوجود إنه عزيز الوجود أي صعب المنال، و يقال عزيز
القوم لمن يصعب قهره و الغلبة عليه من بينهم فهو صعب المنال بالقهر و الغلبة، و
صعب المنال من حيث مقامه فيهم و وجدانه كل ما لهم من غير عكس ثم استعمل في كل
صعوبة كما يقال: يعز علي كذا.
قال تعالى: "عزيز عليه ما عنتم": التوبة - 128، أي صعب عليه.
و استعمل في كل غلبة كما يقال.
من عز بز أي من غلب سلب، قال تعالى: "و عزني في الخطاب": (صلى الله عليه وآله
وسلم) - 23، أي غلبني و الأصل في معناه ما مر.
و يقابله الذل و هو سهولة المنال بقهر محقق أو مفروض قال تعالى: "ضربت عليهم
الذلة و المسكنة": البقرة - 61، و قال تعالى: "و اخفض لهما جناح الذل": الإسراء
- 24، و قال تعالى أذلة على المؤمنين": المائدة - 54.
و العزة من لوازم الملك على الإطلاق و كل من سواه إذا تملك شيئا فهو تعالى خوله
ذلك و ملكه، و إن ملك على قوم فهو تعالى آتاه ذلك فكانت العزة له تعالى محضا و
ما عند غيره منها فإنما هو بإيتائه و إفضاله.
قال تعالى: "أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا": النساء - 139 و قال
تعالى: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين": المنافقون - 8 و هذه هي العزة
الحقيقية و أما غيرها فإنما هي ذل في صورة عز.
قال تعالى: "بل الذين كفروا في عزة و شقاق": ص - 2 و لذا أردفه بقوله "كم
أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص": ص - 3.
و للذل بالمقابلة ما يقابل العز من الحكم فكل شيء غيره تعالى ذليل في نفسه إلا
من أعزه الله تعالى تعز من تشاء و تذل من تشاء.
قوله تعالى: بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، الأصل في معنى الخير هو الانتخاب
و إنما نسمي الشيء خيرا لأنا نقيسه إلى شيء آخر نريد أن نختار أحدهما فننتخبه
فهو خير و لا نختاره إلا لكونه متضمنا لما نريده و نقصده فما نريده هو الخير
بالحقيقة، و إن كنا أردناه أيضا لشيء آخر فذلك الآخر هو الخير بالحقيقة، و غيره
خير من جهته، فالخير بالحقيقة هو المطلوب لنفسه يسمى خيرا لكونه هو المطلوب إذا
قيس إلى غيره، و هو المنتخب من بين الأشياء إذا أردنا واحدا منها و ترددنا في
اختياره من بينها.
فالشيء كما عرفت إنما يسمى خيرا لكونه منتخبا إذا قيس إلى شيء آخر مؤثرا
بالنسبة إلى ذلك الآخر ففي معناه نسبة إلى الغير و لذا قيل: إنه صيغة التفضيل و
أصله أخير.
و ليس بأفعل التفضيل، و إنما يقبل انطباق معنى التفضيل على مورده فيتعلق بغيره
كما يتعلق أفعل التفضيل، يقال: زيد أفضل من عمرو، و زيد أفضلهما، و يقال: زيد
خير من عمرو، و زيد خيرهما.
و لو كان خير صيغة التفضيل لجرى فيه ما يجري عليه، و يقال أفضل و أفاضل و فضلى
و فضليات، و لا يجري ذلك في خير بل يقال: خير و خيرة و أخيار و خيرات كما يقال:
شيخ و شيخة و أشياخ و شيخات فهو صفة مشبهة.
و مما يؤيده استعماله في موارد لا يستقيم فيه معنى أفعل التفضيل كقوله تعالى:
"قل ما عند الله خير من اللهو": الجمعة - 11، فلا خير في اللهو حتى يستقيم معنى
أفعل، و قد اعتذروا عنه و عن أمثاله بأنه منسلخ فيها عن معنى التفضيل، و هو كما
ترى.
فالحق أن الخير إنما يفيد معنى الانتخاب، و اشتمال ما يقابله من المقيس عليه
على شيء من الخير من الخصوصيات الغالبة في الموارد.
و يظهر مما تقدم أن الله سبحانه هو الخير على الإطلاق لأنه الذي ينتهي إليه كل
شيء، و يرجع إليه كل شيء، و يطلبه و يقصده كل شيء لكن القرآن الكريم لا يطلق
عليه سبحانه الخير إطلاق الاسم كسائر أسمائه الحسنى جلت أسماؤه، و إنما يطلقه
عليه إطلاق التوصيف كقوله تعالى: "و الله خير و أبقى": طه - 73، و كقوله تعالى:
"أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار": يوسف - 39.
نعم وقع الإطلاق على نحو التسمية بالإضافة كقوله تعالى: "و الله خير الرازقين":
الجمعة - 11، و قوله: "و هو خير الحاكمين": الأعراف - 87، و قوله "و هو خير
الفاصلين": الأنعام - 57، و قوله: "و هو خير الناصرين": آل عمران - 150، و قوله
"و الله خير الماكرين": آل عمران - 54، و قوله: "و أنت خير الفاتحين": الأعراف
- 89، و قوله: "و أنت خير الغافرين": الأعراف - 155، و قوله: "و أنت خير
الوارثين": الأنبياء - 89، و قوله: "و أنت خير المنزلين": المؤمنين - 29، و
قوله: "و أنت خير الراحمين": المؤمنون - 109.
و لعل الوجه في جميع ذلك اعتبار ما في مادة الخير من معنى الانتخاب فلم يطلق
إطلاق الاسم عليه تعالى صونا لساحته تعالى أن يقاس إلى غيره بنحو الإطلاق و قد
عنت الوجوه لجنابه، و أما التسمية عند الإضافة و النسبة، و كذا التوصيف في
الموارد المقتضية لذلك فلا محذور فيه.
و الجملة أعني قوله تعالى: بيدك الخير تدل على حصر الخير فيه تعالى لمكان اللام
و تقديم الظرف الذي هو الخبر، و المعنى أن أمر كل خير مطلوب إليك، و أنت المعطي
المفيض إياه.
فالجملة في موضع التعليل لما تقدمت عليها من الجمل أعني قوله: تؤتي الملك من
تشاء "الخ" من قبيل تعليل الخاص بما يعمه و غيره أعني أن الخير الذي يؤتيه
تعالى أعم من الملك و العزة، و هو ظاهر.
و كما يصح تعليل إيتاء الملك و الإعزاز بالخير الذي بيده تعالى كذلك يصح تعليل
نزع الملك و الإذلال فإنهما و إن كانا شرين لكن ليس الشر إلا عدم الخير فنزع
الملك ليس إلا عدم الإعزاز فانتهاء كل خير إليه تعالى هو الموجب لانتهاء كل
حرمان من الخير بنحو إليه تعالى نعم الذي يجب انتفاؤه عنه تعالى هو الاتصاف بما
لا يليق بساحة قدسه من نواقص أفعال العباد و قبائح المعاصي إلا بنحو الخذلان و
عدم التوفيق كما مر البحث عن ذلك.
و بالجملة هناك خير و شر تكوينيان كالملك و العزة و نزع الملك و الذلة، و الخير
التكويني أمر وجودي من إيتاء الله تعالى، و الشر التكويني إنما هو عدم إيتاء
الخير و لا ضير في انتسابه إلى الله سبحانه فإنه هو المالك للخير لا يملكه
غيره، فإذا أعطي غيره شيئا من الخير فله الأمر و له الحمد، و إن لم يعط أو منع
فلا حق لغيره عليه حتى يلزمه عليه فيكون امتناعه من الإعطاء ظلما، على أن
إعطاءه و منعه كليهما مقارنان للمصالح العامة الدخيلة في صلاح النظام الدائر
بين أجزاء العالم.
و هناك خير و شر تشريعيان و هما أقسام الطاعات و المعاصي، و هما الأفعال
الصادرة عن الإنسان من حيث انتسابها إلى اختياره، و لا تستند من هذه الجهة إلى
غير الإنسان قطعا، و هذه النسبة هي الملاك لحسنها و قبحها و لو لا فرض اختيار
في صدورها لم تتصف بحسن و لا قبح، و هي من هذه الجهة لا تنتسب إليه تعالى إلا
من حيث توفيقه تعالى و عدم توفيقه لمصالح تقتضي ذلك.
فقد تبين: أن الخير كله بيد الله و بذلك ينتظم أمر العالم في اشتماله على كل
وجدان و حرمان و خير و شر.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن في قوله: بيدك الخير إيجازا بالحذف، و التقدير: بيدك
الخير و الشر كما قيل نظير ذلك في قوله تعالى: "و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر":
النحل - 81، أي و البرد.
و كان السبب في ذلك الفرار عن الاعتزال لقول المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه
تعالى: و هو من عجيب الاجتراء على كلامه تعالى، و المعتزلة و إن أخطئوا في نفي
الانتساب نفيا مطلقا حتى بالواسطة لكنه لا يجوز هذا التقدير الغريب، و قد تقدم
البحث عن ذلك و بيان حقيقة الأمر.
قوله تعالى: إنك على كل شيء قدير في مقام التعليل لكون الخير بيده تعالى فإن
القدرة المطلقة على كل شيء توجب أن لا يقدر أحد على شيء إلا بإقداره تعالى إياه
على ذلك، و لو قدر أحد على شيء من غير أن تستند قدرته إلى إقداره تعالى كان
مقدوره من هذه الجهة خارجا عن سعة قدرته تعالى فلم يكن قديرا على كل شيء، و إذا
كانت لقدرته هذه السعة كان كل خير مفروض مقدورا عليه له تعالى، و كان أيضا كل
خير إفاضة غيره منسوبا إليه مفاضا عن يديه فهو له أيضا فجنس الخير الذي لا يشذ
منه شاذ بيده، و هذا هو الحصر الذي يدل عليه قوله تعالى: بيدك الخير.
قوله تعالى: تولج الليل في النهار و تولج النهار في الليل، الولوج هو الدخول، و
الظاهر كما ذكروه أن المراد من إيلاج الليل في النهار، و إيلاج النهار في الليل
ما هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في عرض السنة بحسب اختلاف عروض البقاع
و الأمكنة على بسيط الأرض، و اختلاف ميول الشمس فتأخذ الأيام في الطول و
الليالي في القصر و هو ولوج النهار في الليل بعد انتهاء الليالي في الطول من
أول الشتاء إلى أول الصيف، ثم يأخذ الليالي في الطول و الأيام في القصر و هو
ولوج الليل في النهار بعد انتهاء النهار في الطول من أول الصيف إلى أول الشتاء،
كل ذلك في البقاع الشمالية، و الأمر في البقاع الجنوبية على عكس الشمالية منها،
فالطول في جانب قصر في الجانب الآخر فهو تعالى يولج الليل في النهار و النهار
في الليل دائما، أما الاستواء في خط الإستواء و القطبين فإنما هو بحسب الحس و
أما في الحقيقة فحكم التغيير دائم و شامل.
قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي و ذلك إخراج المؤمن من
صلب الكافر، و إخراج الكافر من صلب المؤمن فإنه تعالى سمى الإيمان حيوة و نورا
و الكفر موتا و ظلمة كما قال تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا
يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام - 122، و يمكن
أن يراد الأعم من ذلك و من خلق الأحياء كالنبات و الحيوان من الأرض العديمة
الشعور و إعادة الأحياء إلى الأرض بإماتتها فإن كلامه تعالى كالصريح في أنه
يبدل الميت إلى الحي و الحي إلى الميت، قال تعالى: "ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك
الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون": المؤمنون - 15، إلى غيرها من
الآيات.
و أما ما ذهب إليه بعض علماء الطبيعة: أن الحيوة التي تنتهي إلى جراثيمها تسلك
فيها سلوكا من جرثومة حية إلى أخرى مثلها من غير أن تنتهي إلى المادة الفاقدة
للشعور، و ذلك لإنكاره الكون الحادث، فيبطله الموت المحسوس الذي تثبته التجربة
في جراثيم الحيوة فتبدل الحيوة إلى الموت يكشف عن الربط بينهما، و لبقية الكلام
مقام آخر.
و الآية أعني قوله تعالى "تولج" الليل في النهار الخ تصف تصرفه تعالى في الملك
الحقيقي التكويني كما أن الآية السابقة أعني قوله: تؤتي الملك من تشاء "الخ"
تصف تصرفه في الملك الاعتباري الوضعي و توابعه.
و قد وضع في كل من الآيتين أربعة أنحاء من التصرف بنحو التقابل فوضع في الأولى
إيتاء الملك و نزعه و بحذائهما في الثانية إيلاج الليل في النهار و عكسه، و وضع
الإعزاز و الإذلال و بحذائهما إخراج الحي من الميت و عكسه، و في ذلك من عجيب
اللطف و لطيف المناسبة ما لا يخفى فإن إيتاء الملك نوع تسليط لبعض أفراد الناس
على الباقين بإعفاء قدر من حريتهم و إطلاقهم الغريزي و إذهابها كتسليط الليل
على النهار بإذهاب الليل بعض ما كان يظهره النهار، و نزع الملك بالعكس من ذلك،
و كذا إعطاء العزة نوع إحياء لمن كان خامد الذكر خفي الأثر لولاها، نظير إخراج
الحي من الميت، و الإذلال بالعكس من ذلك، و في العزة حيوة و في الذلة ممات.
و هنا وجه آخر: و هو أن الله عد النهار في كلامه آية مبصرة و الليل آية ممحوة
قال تعالى: "فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة": الإسراء - 12، و مظهر
هذا الإثبات و الإمحاء في المجتمع الإنساني ظهور الملك و السلطنة و زواله، و عد
الحيوة و الموت مصدرين للآثار من العلم و القدرة كما قال تعالى: "أموات غير
أحياء و ما يشعرون أيان يبعثون: النحل - 21، و خص العزة لنفسه و لرسوله و
للمؤمنين حيث قال: "و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين": المنافقون - 8، و هم
الذين يذكرهم بالحيوة فصارت العزة و الذلة مظهرين في المجتمع الإنساني للحياة و
الموت، و لهذا قابل ما ذكره في الآية الأولى من إيتاء الملك و نزعه و الإعزاز و
الإذلال بما في الآية الثانية من إيلاج الليل في النهار و عكسه و إخراج الحي من
الميت و عكسه.
ثم وقعت المقابلة بين ما ذكره في الآية الثانية: و ترزق من تشاء بغير حساب، و
ما ذكره في الآية الأولى: بيدك الخير، كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب، المقابلة المذكورة آنفا تعطي أن يكون
قوله: و ترزق "الخ" بيانا لما سبقه من إيتاء الملك و العز و الإيلاج و غيره،
فالعطف عطف تفسير فيكون من قبيل بيان الخاص من الحكم بما هو أعم منه كما أن
قوله: بيدك الخير، بالنسبة إلى ما سبقه من هذا القبيل، و المعنى: أنك متصرف في
خلقك بهذه التصرفات لأنك ترزق من تشاء بغير حساب.
معنى الرزق في القرآن
الرزق معروف و الذي يتحصل من موارد استعماله أن فيه شوبا من معنى العطاء كرزق
الملك الجندي و يقال لما قرره الملك لجنديه مما يؤتاه جملة: رزقه، و كان يختص
بما يتغذى به لا غير كما قال تعالى: "و على المولود له رزقهن و كسوتهن
بالمعروف،: البقرة - 233، فلم يعد الكسوة رزقا.
ثم توسع في معناه فعد كل ما يصل الإنسان من الغذاء رزقا كأنه عطية بحسب الحظ و
الجد و إن لم يعلم معطيه، ثم عمم فسمي كل ما يصل إلى الشيء مما ينتفع به رزقا و
إن لم يكن غذاء كسائر مزايا الحيوة من مال و جاه و عشيرة و أعضاد و جمال و علم
و غير ذلك، قال تعالى: "تسألهم خرجا فخراج ربك خير و هو خير الرازقين":
المؤمنون - 72، و قال فيما يحكي عن شعيب "قال يا قوم أ رأيتم إن كنت على بينة
من ربي و رزقني منه رزقا حسنا: هود - 88، و المراد به النبوة و العلم، إلى غير
ذلك من الآيات.
و المتحصل من قوله تعالى: "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين": الذاريات - 58،
و المقام مقام الحصر: أولا: أن الرزق بحسب الحقيقة لا ينتسب إلا إليه فما ينسب
إلى غيره تعالى من الرزق كما يصدقه أمثال قوله تعالى: "و الله خير الرازقين":
الجمعة - 11، حيث أثبت رازقين و عده تعالى خيرهم، و قوله: "و ارزقوهم فيها و
اكسوهم": النساء - 5، كل ذلك من قبيل النسبة بالغير كما أن الملك و العزة لله
تعالى لذاته و لغيره بإعطائه و إذنه فهو الرزاق لا غير.
و ثانيا: أن ما ينتفع به الخلق في وجودهم مما ينالونه من خير فهو رزقهم و الله
رازقه، و يدل على ذلك - مضافا إلى آيات الرزق على كثرتها - آيات كثيرة أخر
كالآيات الدالة على أن الخلق و الأمر و الحكم و الملك بكسر الميم و المشية و
التدبير و الخير لله محضا عز سلطانه.
و ثالثا: أن ما ينتفع به الإنسان انتفاعا محرما لكونه سببا للمعصية لا ينسب
إليه تعالى لأنه تعالى نفى نسبة المعصية إلى نفسه من جهة التشريع.
قال تعالى: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون":
الأعراف - 28، و قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل و الإحسان إلى أن قال: و ينهى
عن الفحشاء و المنكر": النحل - 90 و حاشاه سبحانه أن ينهى عن شيء ثم يأمر به أو
ينهى عنه ثم يحصر رزقه فيه.
و لا منافاة بين عدم كون نفع محرم رزقا بحسب التشريع و كونه رزقا بحسب التكوين
إذ لا تكليف في التكوين حتى يستتبع ذلك قبحا، و ما بينه القرآن من عموم الرزق
إنما هو بحسب حال التكوين، و ليس البيان الإلهي بموقوف على الأفهام الساذجة
العامية حتى يضرب صفحا عن التعرض للمعارف الحقيقية، و في القرآن شفاء لجميع
القلوب لا يستضر به إلا الخاسرون.
قال تعالى: "و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين
إلا خسارا": الإسراء - 82.
على أن الآيات تنسب الملك الذي لأمثال نمرود و فرعون و الأموال و الزخارف التي
بيد أمثال قارون إلى إيتاء الله سبحانه فليس إلا أن ذلك كله بإذن الله آتاهم
ذلك امتحانا و إتماما للحجة و خذلانا و استدراجا و نحو ذلك و هذا كله نسب
تشريعية، و إذا صحت النسبة التشريعية من غير محذور لزوم القبح فصحة النسبة
التكوينية التي لا مجال للحسن و القبح العقلائيين فيها أوضح.
ثم إنه تعالى ذكر أن كل شيء فهو مخلوق له منزل من عنده من خزائن رحمته كما قال:
"و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر - 21، و ذكر
أيضا أن ما عنده فهو خير.
قال تعالى: "و ما عند الله خير": القصص - 60، و انضمام الآيتين و ما في معناهما
من الآيات يعطي أن كل ما يناله شيء في العالم و يتلبس به مدى وجوده فهو من الله
سبحانه و هو خير له ينتفع به و يتنعم بسببه كما يفيده أيضا قوله تعالى: "الذي
أحسن كل شيء خلقه": الم السجدة - 7، مع قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم خالق كل
شيء لا إله إلا هو": المؤمن - 64.
و أما كون بعض ما ينال الأشياء من المواهب الإلهية شرا يستضر به فإنما شريته و
إضراره نسبي متحقق بالنسبة إلى ما يصيبه خاصة مع كونه خيرا نافعا بالنسبة إلى
آخرين و بالنسبة إلى علله و أسبابه في نظام الكون كما مر يشير إليه قوله تعالى:
"و ما أصابك من سيئة فمن نفسك": النساء - 79، و قد مر البحث عن هذا المعنى فيما
مر.
و بالجملة جميع ما يفيضه الله على خلقه من الخير و كله خير ينتفع به يكون رزقا
بحسب انطباق المعنى إذ ليس الرزق إلا العطية التي ينتفع بها الشيء المرزوق، و
ربما أشار إليه قوله تعالى و رزق ربك خير": طه - 131.
و من هنا يظهر أن الرزق و الخير و الخلق بحسب المصداق على ما يبينه القرآن أمور
متساوية فكل رزق خير و مخلوق، و كل خلق رزق و خير، و إنما الفرق: أن الرزق
يحتاج إلى فرض مرزوق يرتزق به فالغذاء رزق للقوة الغاذية لاحتياجها إليه، و
الغاذية رزق للواحد من الإنسان لاحتياجه إليها، و الواحد من الإنسان رزق
لوالديه لانتفاعهما به، و كذا وجود الإنسان خير للإنسان بفرضه عاريا عن هذه
النعمة الإلهية، قال تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه:" طه - 50.
و الخير يحتاج إلى فرض محتاج طالب يختار من بين ما يواجهه ما هو مطلوبه فالغذاء
خير للقوة الغاذية بفرضها محتاجة إليه طالبة له تنتخبه و تختاره إذا أصابته، و
القوة الغاذية خير للإنسان، و وجود الإنسان خير له بفرضه محتاجا طالبا.
و أما الخلق و الإيجاد فلا يحتاج من حيث تحقق معناه إلى شيء ثابت أو مفروض
فالغذاء مثلا مخلوق موجد في نفسه، و كذا القوة الغاذية مخلوقة، و الإنسان
مخلوق.
و لما كان كل رزق لله، و كل خير لله محضا فما يعطيه تعالى من عطية، و ما أفاضه
من خير و ما يرزقه من رزق فهو واقع من غير عوض، و بلا شيء مأخوذ في مقابله إذ
كل ما فرضنا من شيء فهو له تعالى حقا، و لا استحقاق هناك إذ لا حق لأحد عليه
تعالى إلا ما جعل هو على نفسه من الحق كما جعله في مورد الرزق، قال تعالى: "و
ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها": هود - 6، و قال: "فورب السماء و
الأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون": الذاريات - 23.
فالرزق مع كونه حقا على الله لكونه حقا مجعولا من قبله عطية منه من غير استحقاق
للمرزوق من جهة نفسه بل من جهة ما جعله على نفسه من الحق.
و من هنا يظهر أن للإنسان المرتزق بالمحرمات رزقا مقدرا من الحلال بنظر التشريع
فإن ساحته تعالى منزهة من أن يجعل رزق إنسان حقا ثابتا على نفسه ثم يرزقه من
وجه الحرام ثم ينهاه عن التصرف فيه و يعاقبه عليه.
و توضيحه ببيان آخر أن الرزق لما كان هو العطية الإلهية بالخير كان هو الرحمة
التي له على خلقه، و كما أن الرحمة رحمتان: رحمة عامة تشمل جميع الخلق من مؤمن
و كافر، و متق و فاجر، و إنسان و غير إنسان، و رحمة خاصة و هي الرحمة الواقعة
في طريق السعادة كالإيمان و التقوى و الجنة، كذلك الرزق منه ما هو رزق عام، و
هو العطية الإلهية العامة الممدة لكل موجود في بقاء وجوده، و منه ما هو رزق
خاص، و هو الواقع في مجرى الحل.
و كما أن الرحمة العامة و الرزق العام مكتوبان مقدران، قال تعالى و خلق كل شيء
فقدره تقديرا": الفرقان - 2، كذلك الرحمة الخاصة و الرزق الخاص مكتوبان مقدران،
و كما أن الهدى - و هو رحمة خاصة - مكتوب مقدر تقديرا تشريعيا لكل إنسان مؤمنا
كان أو كافرا، و لذلك أرسل الرسل و أنزل الكتب، قال تعالى: "و ما خلقت الجن و
الإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق
ذو القوة المتين": الذاريات - 58، و قال تعالى: "و قضى ربك ألا تعبدوا إلا
إياه": الإسراء - 23، فالعبادة و هي تستلزم الهدى و تتوقف عليه مقضية مقدرة
تشريعا، كذلك الرزق الخاص - و هو الذي عن مجرى الحل - مقضي مقدر، قال تعالى:
"قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم و حرموا ما رزقهم الله افتراء على
الله قد ضلوا و ما كانوا مهتدين": الأنعام - 140، و قال تعالى "و الله فضل
بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم
فيه سواء": النحل - 71، و الآيتان كما ترى ذواتا إطلاق قطعي يشمل الكافر و
المؤمن و من يرتزق بالحلال و من يرتزق بالحرام.
و من الواجب أن يعلم: أن الرزق كما مر من معناه هو الذي ينتفع به من العطية على
قدر ما ينتفع فمن أوتي الكثير من المال و هو لا يأكل إلا القليل منه فإنما رزقه
هو الذي أكله و الزائد الباقي ليس من الرزق إلا من جهة الإيتاء دون الأكل فسعة
الرزق و ضيقه غير كثرة المال مثلا و قلته، و للكلام في الرزق تتمة ستمر بك في
قوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و
مستودعها كل في كتاب مبين": هود - 6.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب
فنقول توصيف الرزق بكونه بغير حساب إنما هو لكون الرزق منه تعالى بالنظر إلى
حال المرزوقين بلا عوض و لا استحقاق لكون ما عندهم من استدعاء أو طلب أو غير
ذلك مملوكا له تعالى محضا فلا يقابل عطيته منهم شيء فلا حساب لرزقه تعالى.
و أما كون نفي الحساب راجعا إلى التقدير بمعنى كونه غير محدود و لا مقدر فيدفعه
آيات القدر كقوله تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر": القمر - 49، و قوله: "و من
يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب و من يتوكل على الله فهو حسبه
إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا": الطلاق - 3، فالرزق منه تعالى
عطية بلا عوض لكنه مقدر على ما يريده تعالى.
و قد تحصل من الآيتين أولا أن الملك بضم الميم كله لله كما أن الملك بكسر الميم
كله لله.
و ثانيا: أن الخير كله بيده و منه تعالى.
و ثالثا: أن الرزق عطية منه تعالى بلا عوض و استحقاق.
و رابعا أن الملك و العزة و كل خير اعتباري من خيرات الاجتماع كالمال و الجاه و
القوة و غير ذلك كل ذلك من الرزق المرزوق.
بحث روايي
في الكافي، عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت
له: قل اللهم مالك الملك - تؤتي الملك من تشاء - و تنزع الملك ممن تشاء أ ليس
قد آتى الله بني أمية الملك؟ قال: ليس حيث تذهب، إن الله عز و جل آتانا الملك،
و أخذته بني أمية بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو للذي أخذه:
أقول: و روى مثله العياشي عن داود بن فرقد عنه (عليه السلام): و إيتاء الملك
على ما تقدم بيانه يكون على وجهين إيتاء تكويني، و هو انبساط السلطنة على
الناس، و نفوذ القدرة فيهم، سواء كان ذلك بالعدل أو بالظلم كما قال تعالى في
نمرود: "أن آتاه الله الملك" و أثره نفوذ الكلمة و مضي الأمر و الإرادة، و
سنبحث عن معنى كونه تكوينيا، و إيتاء تشريعي، و هو القضاء بكونه ملكا مفترض
الطاعة كما قال تعالى: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا": البقرة - 247، و أثره
افتراض الطاعة، و ثبوت الولاية، و لا يكون إلا العدل، و هو مقام محمود عند الله
سبحانه، و الذي كان لبني أمية من الملك هو المعنى الأول و أثره و قد اشتبه
الأمر على راوي الحديث فأخذ ملكهم بالمعنى الأول و أخذ معه أثر المعنى الثاني و
هو المقام الشرعي، و الحمد الديني فنبهه (عليه السلام) أن الملك بهذا المعنى
ليس لبني أمية بل هو لهم و لهم أثره، و بعبارة أخرى: الملك الذي لبني أمية إنما
يكون محمودا إذا كان في أيديهم (عليهم السلام)، و أما في أيدي بني أمية فليس
إلا مذموما لأنه مغصوب و على هذا فلا ينسب إلى إيتاء الله إلا بنحو المكر و
الاستدراج كما في ملك نمرود و فرعون.
و قد اشتبه الأمر على هؤلاء أنفسهم أعني بني أمية في هذه الآية ففي الإرشاد، في
قصة إشخاص يزيد بن معاوية رءوس شهداء الطف قال المفيد: و لما وضعت الرءوس و
فيها رأس الحسين (عليه السلام) قال يزيد: نفلق هاما من رجال أعزة.
علينا و هم كانوا أعق و أظلما.
قال: ثم أقبل على أهل مجلسه فقال: إن هذا كان يفخر علي و يقول: أبي خير من أب
يزيد، و أمي خير من أمه، و جدي خير من جده، و أنا خير منه فهذا الذي قتله فأما
قوله بأن أبي خير من أب يزيد فلقد حاج أبي أباه فقضى الله لأبي على أبيه، و أما
قوله بأن أمي خير من أم يزيد فلعمري لقد صدق إن فاطمة بنت رسول الله خير من
أمي، و أما قوله: جدي خير من جده فليس لأحد يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يقول
بأنه خير من محمد، و أما قوله بأنه خير مني فلعله لم يقرأ هذه الآية: قل اللهم
مالك الملك الآية.
و ردت زينب بنت علي (عليه السلام) عليه قوله بمثل ما ذكره الصادق (عليه السلام)
في الرواية السابقة على ما رواه السيد بن طاووس و غيره: فقالت فيما خاطبته: أ
ظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق
الأسارى أن بنا على الله هوانا و بك عليه كرامة، و إن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت
بأنفك، و نظرت في عطفك جذلان مسرورا حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، و الأمور
متسقة، و حين صفا لك ملكنا و سلطاننا، مهلا مهلا، أ نسيت قول الله: و لا يحسبن
الذين كفروا - أنما نملي لهم خير لأنفسهم - إنما نملي لهم ليزدادوا إثما و لهم
عذاب مهين الخطبة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: و تخرج الحي من الميت الآية، قيل معناه: و تخرج
المؤمن من الكافر و تخرج الكافر من المؤمن، قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي
عبد الله (عليه السلام).
أقول: و روى قريبا منه الصدوق عن العسكري (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق أبي عثمان النهدي عن ابن مسعود أو
عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يخرج الحي من الميت و يخرج الميت
من الحي قال: المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن و فيه، أيضا بالطريق السابق
عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما خلق الله
آدم (عليه السلام) أخرج ذريته فقبض قبضة بيمينه فقال: هؤلاء أهل الجنة و لا
أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كل رديء فقال. هؤلاء أهل النار و لا أبالي
فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر فذلك قوله:
تخرج الحي من الميت و تخرج الميت من الحي.
أقول: و روي هذا المعنى عن عدة من أصحاب التفسير عن سلمان أيضا مقطوعا، و
الرواية من أخبار الذر و الميثاق، و سيجيء بيانها في موضع يليق بها إن شاء
الله.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد
عن ابن محبوب عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع: ألا إن الروح الأمين نفث في
روعي: أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب، و لا
يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بشيء من معصية الله فإن الله تعالى قسم
الأرزاق بين خلقه حلالا، و لم يقسمها حراما فمن اتقى الله و صبر أتاه رزقه من
حله، و من هتك حجاب ستر الله عز و جل و أخذه من غير حله قص به من رزقه الحلال،
و حوسب عليه.
و في النهج، قال (عليه السلام): الرزق رزقان: رزق تطلبه، و رزق يطلبك فإن لم
تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك يومك، كفاك كل يوم ما فيه فإن تكن السنة من عمرك
فإن الله تعالى جده سيؤتيك في كل غد جديد ما قسم لك، و إن لم تكن السنة من عمرك
فما تصنع بالهم لما ليس لك، و لن يسبقك إلى رزقك طالب، و لن يغلبك عليه غالب، و
لن يبطىء عنك ما قد قدر لك.
و في قرب الإسناد:، ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرزق لينزل من السماء إلى الأرض
على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قدر لها، و لكن لله فضول فاسألوا الله من
فضله.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و سيجيء استيفاء البحث عن أخبار الرزق
في سورة هود إن شاء الله تعالى.
بحث علمي
قد تقدم في بعض ما مر من الأبحاث السابقة: أن اعتبار أصل الملك بالكسر من
الاعتبارات الضرورية التي لا غنى للبشر عنها في حال سواء كان منفردا أو مجتمعا،
و أن أصله ينتهي إلى اعتبار الاختصاص فهذا حال الملك بالكسر.
و أما الملك بالضم و هو السلطنة على الأفراد فهو أيضا من الاعتبارات الضرورية
التي لا غنى للإنسان عنها لكن الذي يحتاج إليه ابتداء هو الاجتماع من حيث تألفه
من أجزاء كثيرة مختلفة المقاصد متباينة الإرادات دون الفرد من حيث إنه فرد فإن
الأفراد المجتمعين لتباين إراداتهم و اختلاف مقاصدهم لا يلبثون دون أن يقع
الاختلاف بينهم فيتغلب كل على الآخرين في أخذ ما بأيديهم، و التعدي على حومة
حدودهم و هضم حقوقهم فيقع الهرج و المرج، و يصير الاجتماع الذي اتخذوه وسيلة
إلى سعادة الحيوة ذريعة إلى الشقاء و الهلاك، و يعود الدواء داء، و لا سبيل إلى
رفع هذه الغائلة الطارية إلا بجعل قوة قاهرة على سائر القوى مسيطرة على جميع
الأفراد المجتمعين حتى تعيد القوى الطاغية المستعلية إلى حاق الوسط، و ترفع
الدانية المستهلكة إليه أيضا فتتحد جميع القوى من حيث المستوى ثم تضع كل واحدة
منها في محلها الخاص و تعطي كل ذي حق حقه.
و لما لم تكن الإنسانية في حين من الأحيان خالية الذهن عن فكر الاستخدام كما مر
بيانه سالفا لم يكن الاجتماعات في الأعصار السالفة خالية عن رجال متغلبين على
الملك مستعلين على سائر الأفراد المجتمعين ببسط الرقية و التملك على النفوس و
الأموال، و كانت بعض فوائد الملك الذي ذكرناه - و هو وجود من يمنع عن طغيان بعض
الأفراد على بعض - يترتب على وجود هذا الصنف من المتغلبين المستعلين المتظاهرين
باسم الملك في الجملة و إن كانوا هم أنفسهم و أعضادهم و جلاوزتهم قوى طاغية من
غير حق مرضي، و ذلك لكونهم مضطرين إلى حفظ الأفراد في حال الذلة و الاضطهاد حتى
لا يتقوى من يثب على حقوق بعض الأفراد فيثب يوما عليهم أنفسهم كما أنهم أنفسهم
وثبوا على ما في أيدي غيرهم.
و بالجملة بقاء جل الأفراد على حال التسالم خوفا من الملوك المسيطرين عليهم كان
يصرف الناس عن الفكر في اعتبار الملك الاجتماعي و إنما يشتغلون بحمد سيرة هؤلاء
المتغلبين إذا لم يبلغ تعديهم مبلغ جهدهم و يتظلمون و يشتكون إذا بلغ بهم
الجهد، و حمل عليهم من التعدي ما يفوق طاقتهم.
نعم ربما فقدوا بعض هؤلاء المتسمين بالملوك و الرؤساء بهلاك أو قتل أو نحو ذلك،
و أحسوا بالفتنة و الفساد، و هددهم اختلال النظم و وقوع الهرج فبادروا إلى
تقديم بعض أولي الطول و القوة منهم، و ألقوا إليه زمام الملك فصار ملكا يملك
أزمة الأمور ثم يعود الأمر على ما كان عليه من التعدي و التحميل.
و لم تزل الاجتماعات على هذه الحال برهة بعد برهة حتى تضجرت من سوء سير هؤلاء
المتسمين بالملوك في مظالمهم باستبدادهم في الرأي و إطلاقهم فيما يشاءون فوضعت
قوانين تعين وظائف الحكومة الجارية بين الأمم و أجبرت الملوك باتباعها و صار
الملك ملكا مشروطا بعد ما كان مطلقا، و اتحد الناس على التحفظ على ذلك، و كان
الملك موروثا.
ثم أحست اجتماعات ببغي ملوكهم و سوء سيرهم و لا سبيل إليهم بعد ركوب أريكة
الملك، و تثبيتهم كون الملك موهبة غير متغيرة موروثة فبدلوا الملك برئاسة
الجمهور فانقلب الملك المؤبد المشروط إلى ملك مؤجل مشروط، و ربما وجد في
الأقوام و الأمم المختلفة أنواع من الملك دعاهم إلى وضعه الفرار عن المظالم
التي شاهدوها ممن بيده زمام أمرهم، و ربما حدث في مستقبل الأيام ما لم ينتقل
أفهامنا إليه إلى هذا الآن.
لكن الذي يتحصل من جميع هذه المساعي التي بذلتها الاجتماعات في سبيل إصلاح هذا
الأمر أعني إلقاء زمام الأمة إلى من يدبر أمرها، و يجمع شتات إراداتها المتضادة
و قواها المتنافية: أن لا غنى للمجتمع الإنساني عن هذا المقام و هو مقام الملك
و إن تغيرت أسماؤه، و تبدلت شرائطه بحسب اختلاف الأمم، و مرور الأيام فإن طروق
الهرج و المرج، و اختلال أمر الحياة الاجتماعية على جميع التقادير من لوازم عدم
اجتماع أزمة الإرادات و المقاصد في إرادة واحدة لإنسان واحد أو مقام واحد.
و هذا هو الذي تقدم في أول الكلام أن الملك من الاعتبارات الضرورية في الاجتماع
الإنساني.
و هو مثل سائر الموضوعات الاعتبارية التي لم يزل الاجتماع بصدد تكميلها و
إصلاحها و رفع نواقصها و آثارها المضادة لسعادة الإنسانية.
و للنبوة في هذا الإصلاح السهم الأوفى فإن من المسلم في علم الاجتماع: أن
انتشار قول ما من الأقوال بين العامة و خاصة إذا كان مما يرتبط بالغريزة، و
يستحسنه القريحة، و يطمئن إليه النفوس المتوقعة أقوى سبب لتوحيد الميول
المتفرقة و جعل الجماعات المتشتتة يدا واحدا تقبض و تبسط بإرادة واحدة لا يقوم
لها شيء.
و من الضروري: أن النبوة منذ أقدم عهود ظهورها تدعو الناس إلى العدل، و تمنعهم
عن الظلم، و تندبهم إلى عبادة الله و التسليم له، و تنهاهم عن اتباع الفراعنة
الطاغين، و النماردة المستكبرين المتغلبين، و لم تزل هذه الدعوة بين الأمم منذ
قرون متراكمة جيلا بعد جيل، و أمة بعد أمة و إن اختلفت بحسب السعة و الضيق
باختلاف الأمم و الأزمنة، و من المحال أن يلبث مثل هذا العامل القوي بين
الاجتماعات الإنسانية قرونا متمادية و هو منعزل عن الأثر خال عن الفعل.
و قد حكى القرآن الكريم في ذلك شيئا كثيرا من الوحي المنزل على الأنبياء (عليهم
السلام) كما حكى عن نوح فيما يشكوه لربه: "رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده
ماله و ولده إلا خسارا و مكروا مكرا كبارا و قالوا لا تذرن آلهتكم": نوح - 23،
و كذا ما وقع بينه و بين عظماء قومه من الجدال على ما يحكيه القرآن، قال تعالى:
"قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم
إلا على ربي لو تشعرون": الشعراء - 113، و قول هود (عليه السلام) لقومه: "أ
تبنون بكل ريع آية تعبثون و تتخذون مصانع لعلكم تخلدون و إذا بطشتم بطشتم
جبارين": الشعراء - 130، و قول صالح (عليه السلام) لقومه: "فاتقوا الله و
أطيعون و لا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض و لا يصلحون": الشعراء
- 152.
و لقد قام موسى (عليه السلام) للدفاع عن بني إسرائيل و معارضة فرعون في سيرته
الجائرة الظالمة، و انتهض قبله إبراهيم (عليه السلام) لمعارضة نمرود و من بعده
عيسى بن مريم (عليهما السلام) و سائر أنبياء بني إسرائيل في معارضة مترفي
أعصارهم من الملوك و العظماء، و تقبيح سيرهم الظالمة، و دعوة الناس إلى رفض
طاعة المفسدين و اتباع الطاغين.
و أما القرآن فاستنهاضه الناس على الامتناع عن طاعة الإفساد و الإباء عن الضيم،
و إنباؤه عن عواقب الظلم و الفساد و العدوان و الطغيان مما لا يخفى قال تعالى:
"أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود
الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا
فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد": الفجر - 14، إلى غير
ذلك من الآيات.
و أما أن الملك بالضم من ضروريات المجتمع الإنساني فيكفي في بيانه أتم بيان
قوله تعالى بعد سرد قصة طالوت: "و لو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض
و لكن الله ذو فضل على العالمين": البقرة - 251، و قد مر بيان كيفية دلالة
الآية بوجه عام.
و في القرآن آيات كثيرة تتعرض للملك و الولاية و افتراض الطاعة و نحو ذلك، و
أخرى تعده نعمة و موهبة كقوله تعالى: "و آتيناهم ملكا عظيما": النساء - 54، و
قوله تعالى: "و جعلكم ملوكا و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين": المائدة -
20، و قوله تعالى: "و الله يؤتي ملكه من يشاء": البقرة - 247، إلى غير ذلك من
الآيات.
غير أن القرآن إنما يعده كرامة إذا اجتمع مع التقوى لحصره الكرامة على التقوى
من بين جميع ما ربما يتخيل فيه شيء من الكرامة من مزايا الحيوة، قال تعالى: "يا
أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم": الحجرات - 13، و التقوى حسابه على الله ليس لأحد أن
يستعلي به على أحد فلا فخر لأحد على أحد بشيء لأنه إن كان أمرا دنيويا فلا مزية
لأمر دنيوي، و لا قدر إلا للدين و إن كان أمرا أخرويا فأمره إلى الله سبحانه، و
على الجملة لا يبقى للإنسان المتلبس بهذه النعمة أعني الملك في نظر رجل مسلم
إلا تحمل الجهد و مشقة التقلد و الأعباء نعم له عند ربه عظيم الأجر و مزيد
الثواب إن لازم صراط العدل و التقوى.
و هذا هو روح السيرة الصالحة التي لازمها أولياء الدين، و سنشبع إن شاء الله
العزيز هذا المعنى في بحث مستقل في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
الطاهرين من آله الثابتة بالآثار الصحيحة، و أنهم لم ينالوا من ملكهم إلا أن
يثوروا على الجبابرة في فسادهم في الأرض و يعارضوهم في طغيانهم و استكبارهم.
و لذلك لم يدع القرآن الناس إلى الاجتماع على تأسيس الملك، و تشييد بنيان
القيصرية و الكسروية، و إنما تلقى الملك شأنا من الشئون اللازمة المراعاة في
المجتمع الإنساني نظير التعليم أو إعداد القوة لإرهاب الكفار.
بل إنما دعا الناس إلى الاجتماع و الاتحاد و الاتفاق على الدين، و نهاهم عن
التفرق و الشقاق فيه، و جعله هو الأصل، فقال تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله": الأنعام - 153، و قال تعالى:
"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم أن لا نعبد إلا الله و
لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا
اشهدوا بأنا مسلمون": آل عمران - 64، فالقرآن - كما ترى - لا يدعو الناس إلا
إلى التسليم لله وحده و يعتبر من المجتمع المجتمع الديني، و يدحض ما دون ذلك من
عبادة الأنداد، و الخضوع لكل قصر مشيد، و منتدى رفيع و ملك قيصري و كسروي و
التفرق بإفراز الحدود و تفريق الأوطان و غير ذلك.
بحث فلسفي
لا ريب أن الواجب تعالى هو الذي تنتهي إليه سلسلة العلية في العالم، و إن
الرابطة بينه و بين العالم جزءا و كلا هي رابطة العلية، و قد تبين في أبحاث
العلة و المعلول أن العلية إنما هي في الوجود بمعنى أن الوجود الحقيقي في
المعلول هو المترشح من وجود علته، و أما غيره كالماهية فهو بمعزل عن الترشح و
الصدور و الافتقار إلى العلة، و ينعكس بعكس النقيض إلى أن ما لا وجود حقيقي له
فليس بمعلول و لا منته إلى الواجب تعالى.
و يشكل الأمر في استناد الأمور الاعتبارية المحضة إليه تعالى إذ لا وجود حقيقي
لها أصلا، و إنما وجودها و ثبوتها ثبوت اعتباري لا يتعدى ظرف الاعتبار و الوضع
و حيطة الفرض، و ما يشتمل عليه الشريعة من الأمر و النهي و الأحكام و الأوضاع
كلها أمور اعتبارية فيشكل نسبتها إليه تعالى، و كذا أمثال الملك و العز و الرزق
و غير ذلك.
و الذي تحل به العقدة أنها و إن كانت عارية عن الوجود الحقيقي إلا أن لها آثارا
هي الحافظة لأسمائها كما مر مرارا، و هذه الآثار أمور حقيقية مقصودة بالاعتبار
و لها نسبة إليه تعالى فهذه النسبة هي المصححة لنسبتها فالملك الذي بيننا أهل
الاجتماع و إن كان أمرا اعتباريا وضعيا لا نصيب لمعناه من الوجود الحقيقي، و
إنما هو معنى متوهم لنا جعلناه وسيلة إلى البلوغ إلى آثار خارجية لم يكن يمكننا
البلوغ إليها لو لا فرض هذا المعنى الموهوم و تقديره، و هي قهر المتغلبين و
أولي السطوة و القوة من أفراد الاجتماع الواثبين على حقوق الضعفاء و الخاملين،
و وضع كل من الأفراد في مقامه الذي له، و إعطاء كل ذي حق حقه، و غير ذلك.
لكن لما كان حقيقة معنى الملك و اسمه باقيا ما دامت هذه الآثار الخارجية باقية
مترتبة عليه فاستناد هذه الآثار الخارجية إلى عللها الخارجية هو عين استناد
الملك إليه، و كذلك القول في العزة الاعتبارية، و آثارها الخارجية و استنادها
إلى عللها الحقيقة، و كذلك الأمر في غيرها كالأمر و النهي و الحكم و الوضع و
نحو ذلك.
و من هنا يتبين: أن لها جميعا استنادا إلى الواجب تعالى باستناد آثارها إليه
على حسب ما يليق بساحة قدسه و عزه.
3 سورة آل عمران - 28 - 32
لا يَتّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَفِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ
وَ مَن يَفْعَلْ ذَلِك فَلَيْس مِنَ اللّهِ فى شىْءٍ إِلا أَن تَتّقُوا
مِنْهُمْ تُقَاةً وَ يُحَذِّرُكمُ اللّهُ نَفْسهُ وَ إِلى اللّهِ الْمَصِيرُ
(28) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فى صدُورِكمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَ
يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ
قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كلّ نَفْسٍ مّا عَمِلَت مِنْ خَيرٍ محْضراً وَ مَا
عَمِلَت مِن سوءٍ تَوَدّ لَوْ أَنّ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيداً وَ
يُحَذِّرُكمُ اللّهُ نَفْسهُ وَ اللّهُ رَءُوف بِالْعِبَادِ (30) قُلْ إِن
كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّبِعُونى يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكمْ
ذُنُوبَكمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللّهَ وَ الرّسولَ
فَإِن تَوَلّوْا فَإِنّ اللّهَ لا يحِب الْكَفِرِينَ (32)
بيان
الآيات غير خالية عن الارتباط بما تقدمها بناء على ما ذكرناه في الآيات
السابقة: أن المقام مقام التعرض لحال أهل الكتاب و المشركين و التعريض لهم،
فالمراد بالكافرين إن كان يعم أهل الكتاب فهذه الآيات تنهى عن توليهم و
الامتزاج الروحي بالمشركين و بهم جميعا، و إن كان المراد بهم المشركين فحسب
فالآيات متعرضة لهم و دعوة إلى تركهم و الاتصال بحزب الله، و حب الله و طاعة
رسوله.
قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، الأولياء جمع
الولي من الولاية و هي في الأصل ملك تدبير أمر الشيء فولي الصغير أو المجنون أو
المعتوه هو الذي يملك تدبير أمورهم و أمور أموالهم فالمال لهم و تدبير أمره
لوليهم، ثم استعمل و كثر استعماله في مورد الحب لكونه يستلزم غالبا تصرف كل من
المتحابين في أمور الآخر لإفضائه إلى التقرب و التأثر عن إرادة المحبوب و سائر
شئونه الروحية فلا يخلو الحب عن تصرف المحبوب في أمور المحب في حيوته.
فاتخاذ الكافرين أولياء هو الامتزاج الروحي بهم بحيث يؤدي إلى مطاوعتهم و
التأثر منهم في الأخلاق و سائر شئون الحيوة و تصرفهم في ذلك، و يدل على ذلك
تقييد هذا النهي بقوله: من دون المؤمنين، فإن فيه دلالة على إيثار حبهم على حب
المؤمنين، و إلقاء أزمة الحيوة إليهم دون المؤمنين، و فيه الركون إليهم و
الاتصال بهم و الانفصال عن المؤمنين.
و قد تكرر ورود النهي في الآيات الكريمة عن تولي الكافرين و اليهود و النصارى و
اتخاذهم أولياء لكن موارد النهي مشتملة على ما يفسر معنى التولي المنهي عنه، و
يعرف كيفية الولاية المنهي عنها كاشتمال هذه الآية على قوله: من دون المؤمنين
بعد قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، و اشتمال قوله تعالى: "يا أيها
الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء" الآية: المائدة - 51، على
قوله: بعضهم أولياء بعض، و تعقب قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
عدوي و عدوكم أولياء" الآية: الممتحنة - 1، بقوله: لا ينهاكم الله عن الذين لم
يقاتلوكم في الدين إلى آخر الآيات.
و على هذا فأخذ هذه الأوصاف في قوله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين للدلالة على سبب الحكم و علته، و هو أن صفتي الكفر و الإيمان مع ما
فيهما من البعد و البينونة و لا محالة يسري ذلك إلى من اتصف بهما فيفرق بينهما
في المعارف و الأخلاق و طريق السلوك إلى الله تعالى و سائر شئون الحيوة لا
يلائم حالهما مع الولاية فإن الولاية يوجب الاتحاد و الامتزاج، و هاتان الصفتان
توجبان التفرق و البينونة، و إذا قويت الولاية كما إذا كان من دون المؤمنين
أوجب ذلك فساد خواص الإيمان و آثاره ثم فساد أصله، و لذلك عقبه بقوله: و من
يفعل ذلك فليس من الله في شيء، ثم عقبه أيضا بقوله: إلا أن تتقوا منهم تقية،
فاستثنى التقية فإن التقية إنما توجب صورة الولاية في الظاهر دون حقيقتها.
و دون في قوله: من دون المؤمنين كأنه ظرف يفيد معنى عند مع شوب من معنى السفالة
و القصور، و المعنى: مبتدئا من مكان دون مكان المؤمنين فإنهم أعلى مكانا.
و الظاهر أن ذلك هو الأصل في معنى دون فكان في الأصل يفيد معنى الدنو مع خصوصية
الانخفاض فقولهم دونك زيد أي هو في مكان يدنو من مكانك و أخفض منه كالدرجة دون
الدرجة ثم استعمل بمعنى غير كقوله: "إلهين من دون الله": المائدة - 116، و
قوله: "و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء - 48، أي ما سوى ذلك أو ما هو أدون
من ذلك و أهون، كذا استعمل اسم فعل كقولهم: دونك زيدا أي الزمه، كل ذلك من جهة
الانطباق على المورد دون الاشتراك اللفظي.
قوله تعالى: و من يفعل ذلك فليس من الله في شيء، أي و من يتخذهم أولياء من دون
المؤمنين، و إنما بدل من لفظ عام للإشعار بنهاية نفرة المتكلم منه حتى أنه لا
يتلفظ به إلا بلفظ عام كالتكنية عن القبائح، و هو شائع في اللسان، و لذلك أيضا
لم يقل: و من يفعل ذلك من المؤمنين كأن فيه صونا للمؤمنين من أن ينسب إليهم مثل
هذا الفعل.
و من في قوله: من الله، للابتداء، و يفيد في أمثال هذا المقام معنى التحزب أي
ليس من حزب الله في شيء كما قال تعالى: "و من يتول الله و رسوله و الذين آمنوا
فإن حزب الله هم الغالبون": المائدة - 56، و كما فيما حكاه عن إبراهيم (عليه
السلام) من قوله: "فمن تبعني فإنه مني": إبراهيم - 36، أي من حزبي، و كيف كان
فالمعنى و الله أعلم: ليس من حزب الله مستقرا في شيء من الأحوال و الآثار.
قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقية، الاتقاء في الأصل أخذ الوقاية للخوف ثم
ربما استعمل بمعنى الخوف استعمالا للمسبب في مورد السبب و لعل التقية في المورد
من هذا القبيل.
و الاستثناء منقطع فإن التقرب من الغير خوفا بإظهار آثار التولي ظاهرا من غير
عقد القلب على الحب و الولاية ليس من التولي في شيء لأن الخوف و الحب أمران
قلبيان متباينان و متنافيان أثرا في القلب فكيف يمكن اتحادهما؟ فاستثناء
الاتقاء استثناء منقطع.
و في الآية دلالة ظاهرة على الرخصة في التقية على ما روي عن أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) كما تدل عليه الآية النازلة في قصة عمار و أبويه ياسر و سمية و
هي قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان
و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله و لهم عذاب عظيم": النحل - 106.
و بالجملة الكتاب و السنة متطابقان في جوازها في الجملة، و الاعتبار العقلي
يؤكده إذ لا بغية للدين، و لا هم لشارعه إلا ظهور الحق و حياته، و ربما يترتب
على التقية و المجاراة مع أعداء الدين و مخالفي الحق من حفظ مصلحة الدين و حيوة
الحق ما لا يترتب على تركها، و إنكار ذلك مكابرة و تعسف، و سنستوفي الكلام فيها
في البحث الروائي التالي، و في الكلام على قوله تعالى: "من كفر بالله من بعد
إيمانه إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان": النحل - 106.
قوله تعالى: و يحذركم الله نفسه و إلى الله المصير، التحذير تفعيل من الحذر و
هو الاحتراز من أمر مخيف و قد حذر الله عباده من عذابه كما قال تعالى: "إن عذاب
ربك كان محذورا": إسراء - 57، و حذر من المنافقين و فتنة الكفار فقال: "هم
العدو فاحذرهم": المنافقين - 4، و قال: "و احذرهم أن يفتنوك": المائدة - 49، و
حذرهم من نفسه كما في هذه الآية و ما يأتي بعد آيتين، و ليس ذلك إلا للدلالة
على أن الله سبحانه نفسه هو المخوف الواجب الاحتراز في هذه المعصية، أي ليس بين
هذا المجرم و بينه تعالى شيء مخوف آخر حتى يتقى عنه بشيء أو يتحصن منه بحصن، و
إنما هو الله الذي لا عاصم منه، و لا أن بينه و بين الله سبحانه أمر مرجو في
دفع الشر عنه من ولي و لا شفيع، ففي الكلام أشد التهديد، و يزيد في اشتداده
تكراره مرتين في مقام واحد و يؤكده تذييله أولا بقوله: و إلى الله المصير، و
ثانيا بقوله: و الله رءوف بالعباد على ما سيجيء من بيانه.
و من جهة أخرى: يظهر من مطاوي هذه الآية و سائر الآيات الناهية عن اتخاذ غير
المؤمنين أولياء أنه خروج عن زي العبودية، و رفض لولاية الله سبحانه، و دخول في
حزب أعدائه لإفساد أمر الدين، و بالجملة هو طغيان و إفساد لنظام الدين الذي هو
أشد و أضر بحال الدين من كفر الكافرين و شرك المشركين فإن العدو الظاهر عدواته
المبائن طريقته مدفوع عن الحومة سهل الاتقاء و الحذر، و أما الصديق و الحميم
إذا استأنس مع الأعداء و دب فيه أخلاقهم و سننهم فلا يلبث فعاله إلا أن يذهب
بالحومة و أهلها من حيث لا يشعرون، و هو الهلاك الذي لا رجاء للحياة و البقاء
معه.
و بالجملة هو طغيان، و أمر الطاغي في طغيانه إلى الله سبحانه نفسه، قال تعالى:
"أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود
الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا
فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد": الفجر - 14، فالطغيان
يسلك بالطاغي مسلكا يورده المرصاد الذي ليس به إلا الله جلت عظمته فيصب عليه
سوط عذاب و لا مانع.
و من هنا يظهر: أن التهديد بالتحذير من الله نفسه في قوله: و يحذركم الله نفسه،
لكون المورد من مصاديق الطغيان على الله بإبطال دينه و إفساده.
و يدل على ما ذكرناه قوله تعالى: "فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه
بما تعملون بصير و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون
الله من أولياء ثم لا تنصرون": هود - 113، و هذه آية ذكر رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): أنها شيبته - على ما في الرواية - فإن الآيتين - كما هو ظاهر
للمتدبر - ظاهرتان في أن الركون إلى الظالمين من الكافرين طغيان يستتبع مس
النار استتباعا لا ناصر معه، و هو الانتقام الإلهي لا عاصم منه و لا دافع له
كما تقدم بيانه.
و من هنا يظهر أيضا: أن في قوله: و يحذركم الله نفسه، دلالة على أن التهديد
إنما هو بعذاب مقضي قضاء حتما من حيث تعليق التحذير بالله نفسه الدال على عدم
حائل يحول في البين، و لا عاصم من الله سبحانه و قد أوعد بالعذاب فينتج قطعية
الوقوع كما يدل على مثله قوله في آيتي سورة هود: فتمسكم النار و ما لكم من دون
الله من أولياء ثم لا تنصرون.
و في قوله: و إلى الله المصير دلالة على أن لا مفر لكم منه و لا صارف له، ففيه
تأكيد التهديد السابق عليه.
و الآيات أعني قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية و ما يتبعها
من الآيات من ملاحم القرآن، و سيجيء بيانه إن شاء الله في سورة المائدة.
قوله تعالى: قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله، الآية نظيرة قوله
تعالى: "و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله": البقرة - 284، غير
أنه لما كان الأنسب بحال العلم أن يتعلق بالمخفي بخلاف الحساب فإن الأنسب له أن
يتعلق بالبادي الظاهر قدم ذكر الإخفاء في هذه الآية على ذكر الإبداء، و جرى
بالعكس منه في آية البقرة كما قيل.
و قد أمر في الآية رسوله بإبلاغ هذه الحقيقة - و هو علمه بما تخفيه أنفسهم أو
تبديه - من دون أن يباشره بنفسه كسابق الكلام، و ليس ذلك إلا ترفعا عن مخاطبة
من يستشعر من حاله أنه سيخالف ما وصاه كما مر ما يشبه ذلك في قوله: و من يفعل
ذلك.
و في قوله تعالى: و يعلم ما في السموات و ما في الأرض و الله على كل شيء قدير
مضاهاة لما مر من آية البقرة و قد مر الكلام فيه.
قوله تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء، الظاهر من
اتصال السياق أنه من تتمة القول في الآية السابقة الذي أمر به النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و الظرف متعلق بمقدر أي و اذكر يوم تجد، أو متعلق بقوله:
يعلمه الله و يعلم، و لا ضير في تعليق علمه تعالى بما سنشاهده من أحوال يوم
القيامة فإن هذا اليوم ظرف لعلمه تعالى بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا لا بالنسبة
إلى تحققه منه تعالى، و ذلك كظهور ملكه و قدرته و قوته في اليوم، قال تعالى:
"يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار":
المؤمن - 16، و قال: "لا عاصم اليوم من الله": هود - 43، و قال: "و لو يرى
الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا": البقرة - 165، و قال: "و
الأمر يومئذ لله": الانفطار - 19، إذ من المعلوم أن الله سبحانه له كل الملك و
القدرة و القوة و الأمر دائما - قبل القيامة و فيها و بعدها - و إنما اختص يوم
القيامة بظهور هذه الأمور لنا معاشر الخلائق ظهورا لا ريب فيه.
و من ذلك يظهر أن تعلق الظرف بقوله: يعلمه الله، لا يفيد تأخر علمه تعالى
بسرائر عباده من خير أو شر إلى يوم القيامة.
على أن في قوله تعالى: محضرا، دون أن يقول: حاضرا دلالة على ذلك فإن الإحضار
إنما يتم فيما هو موجود غائب فالأعمال موجودة محفوظة عن البطلان يحضرها الله
تعالى لخلقه يوم القيامة، و لا حافظ لها إلا الله سبحانه، قال تعالى: "و ربك
على كل شيء حفيظ": سبأ - 21 و قال: "و عندنا كتاب حفيظ": ق - 4.
و قوله: تجد، من الوجدان خلاف الفقدان، و من في قوله: من خير و من سوء للبيان،
و التنكير للتعميم، أي تجد كل ما عملت من الخير و إن قل و كذا من السوء و قوله:
و ما عملت من سوء، معطوف على قوله ما عملت من خير على ما هو ظاهر السياق و
الآية من الآيات الدالة على تجسم الأعمال، و قد مر البحث عنها في سورة البقرة.
قوله تعالى: تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا، الظاهر أنه خبر لمبتدإ محذوف و
هو الضمير الراجع إلى النفس، و لو للتمني، و قد كثر دخوله في القرآن على أن
المفتوحة المشددة، فلا يعبأ بما قيل من عدم جوازه و تأويل ما ورد فيه ذلك من
الموارد.
و الأمد يفيد معنى الفاصلة الزمانية، قال الراغب في مفردات القرآن: الأمد و
الأبد يتقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود، و لا
يتقيد، لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو
أن يقال: أمد كذا، كما يقال: زمان كذا، و الفرق بين الزمان و الأمد، أن الأمد
يقال باعتبار الغاية، و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذا قال بعضهم: الأمد
و المدى يتقاربان، انتهى.
و في قوله: تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا، دلالة على أن حضور سيىء العمل
يسوء النفس كما يشعر بالمقابلة بأن حضور خير العمل يسرها، و إنما تود الفاصلة
الزمانية بينها و بينه دون أن تود أنه لم يكن من أصله لما يشاهد من بقائه بحفظ
الله فلا يسعها إلا أن تحب بعده و عدم حضوره في أشق الأحوال، و عند أعظم
الأهوال كما يقول لقرين السوء نظير ذلك، قال تعالى: "نقيض له شيطانا فهو له
قرين إلى أن قال: حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس
القرين": الزخرف - 38.
قوله تعالى: و يحذركم الله نفسه و الله رءوف بالعباد ذكر التحذير ثانيا يعطي من
أهمية المطلب و البلوغ في التهديد ما لا يخفى، و يمكن أن يكون هذا التحذير
الثاني ناظرا إلى عواقب المعصية في الآخرة كما هو مورد نظر هذه الآية، و
التحذير الأول ناظرا إلى وبالها في الدنيا أو في الأعم من الدنيا و الآخرة.
و أما قوله: و الله رءوف بالعباد فهو - على كونه حاكيا عن رأفته و حنانه تعالى
المتعلق بعباده كما يحكي عن ذلك الإتيان بوصف العبودية و الرقية - دليل آخر على
تشديد التهديد إذ أمثال هذا التعبير في موارد التخويف و التحذير إنما يؤتى بها
لتثبيت التخويف و إيجاد الإذعان بأن المتكلم ناصح لا يريد إلا الخير و الصلاح،
تقول: إياك أن تتعرض لي في أمر كذا فإني آليت أن لا أسامح مع من تعرض لي فيه،
إنما أخبرك بهذا رأفة بك و شفقة.
فيئول المعنى - و الله أعلم - إلى مثل أن يقال: إن الله لرأفته بعباده ينهاهم
قبلا أن يتعرضوا لمثل هذه المعصية التي وبال أمرها واقع لا محالة من غير أن
يؤثر فيه شفاعة شافع و لا دفع دافع.
قوله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله، قد تقدم كلام في معنى
الحب، و أنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله
تعالى: "و الذين آمنوا أشد حبا لله" الآية: البقرة - 165.
و نزيد عليه هاهنا: أنه لا ريب أن الله سبحانه - على ما ينادي به كلامه - إنما
يدعو عبده إلى الإيمان به و عبادته بالإخلاص له و الاجتناب عن الشرك كما قال
تعالى: "ألا لله الدين الخالص": الزمر - 3، و قال تعالى: "و ما أمروا إلا
ليعبدوا الله مخلصين له الدين": البينة - 5، و قال تعالى: "فادعوا الله مخلصين
له الدين و لو كره الكافرون": المؤمن - 14، إلى غير ذلك من الآيات.
و لا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان -
الذي لا يريد شيئا و لا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي و تعلق قلبي - بغيره تعالى من
معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل و لا مطلوب أخروي كفوز بالجنة أو
خلاص من النار و إنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته، فالإخلاص لله
في دينه إنما يكون بحبه تعالى.
ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه و كل
مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده و يتم بالمحبوب ما للمحب من
النقص و لا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه، و عند ذلك يتلاقى حبان،
و يتعاكس دلالان.
فالإنسان إنما يحب الغذاء و ينجذب ليجده و يتم به ما يجده في نفسه من النقص
الذي آتيه الجوع، و كذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق و
كذا يريد لقاء الصديق ليجده و يملك لنفسه الأنس و له يضيق صدره، و كذا العبد
يحب مولاه و الخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية، و مخدوما له
حق المخدومية، و لو تأملت موارد التعلق و الحب أو قرأت قصص العشاق و المتولهين
على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.
فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله
و يكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله
سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا و الحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي
تربط أحد الشيئين بالآخر على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب
الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به، و يوجب الخضوع و التسليم لكل ما هو في جانبه،
و الله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شئون وجوده
و يبتغي إليه الوسيلة و يصير إليه كل ما دق و جل، فمن الواجب أن يكون حبه و
الإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد و طريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك
الإنسان و شعوره، و إن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو الدين الذي يندب إليه
سفراؤه، و يدعو إليه أنبياؤه و رسله، و خاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص
ما لا إخلاص فوقه، و هو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع و طرق النبوة كما
يختم بصادعه الأنبياء (عليهم السلام)، و هذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه
المتدبر في كلامه تعالى.
و قد عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، و
طريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله
على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين": يوسف - 108،
فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة و الإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة
و إخلاص، و اتباعه و اقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.
ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله وسلم) هي
الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة و الإخلاص فقال: "ثم جعلناك على شريعة من
الأمر فاتبعها": الجاثية - 18، و ذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: "فإن حاجوك
فقل أسلمت وجهي لله و من اتبعن": آل عمران - 20، ثم نسبه إلى نفسه و بين أنه
صراطه المستقيم فقال: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه": الأنعام - 153، فتبين
بذلك كله أن الإسلام و هو الشريعة المشرعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الذي هو مجموع المعارف الأصلية و الخلقية و العملية و سيرته في الحيوة هو سبيل
الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد و يبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، و هو
دين الحب.
و من جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها، أعني قوله:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله فالمراد - و الله أعلم - إن كنتم
تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة
التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص و الإسلام و هو صراط الله المستقيم
الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي و شأنه هذا الشأن أحبكم
الله و هو أعظم البشارة للمحب، و عند ذلك تجدون ما تريدون، و هذا هو الذي
يبتغيه محب بحبه، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.
و أما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء و ارتباطها
بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان و بين
من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله و أنهم من حزبه فإن ولاية
الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم و لا ولاية إلا باتباع و ابتغاء ما
عندهم من مطامع الدنيا من عز و مال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال
تعالى: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون
إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي
المتقين": الجاثية - 19، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية
في الآية الثانية.
فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهي ذلك إلى
ولاية الله له بحبه.
و إنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتني عليه الولاية، و إنما
اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي و المؤمنين تئول بالحقيقة
إلى ولاية الله.
قوله تعالى: و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم، الرحمة الواسعة الإلهية و ما
عنده من الفيوضات المعنوية و الصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف
من أشخاص عباده و أصنافهم، و لا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، و لا سبيل
يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع
أبداه بسوء اختياره، قال تعالى: "و ما كان عطاء ربك محظورا": إسراء - 20.
و الذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب و الزلفى و جميع الأمور
التي هي من توابعها كالجنة و ما فيها، و إزالة رينها عن قلب الإنسان و مغفرتها
و سترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة و الدخول في دار الكرامة،
و لذلك عقب قوله: يحببكم الله بقوله: و يغفر لكم ذنوبكم، فإن الحب كما تقدم
يجذب المحب إلى المحبوب، و كما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص
له و قصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد، و كشفه حجب
البعد و سبحات الغيبة، و لا حجاب إلا الذنب فيستدعي ذلك مغفرة الذنوب، و أما ما
بعده من الكرامة و الإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا.
و التأمل في قوله تعالى: "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن
ربهم يومئذ لمحجوبون": المطففين - 15 مع قوله تعالى في هذه الآية: "يحببكم الله
و يغفر لكم ذنوبكم" كاف في تأييد ما ذكرناه.
قوله تعالى: قل أطيعوا الله و الرسول، الخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى
اتباع الرسول، و الاتباع و هو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع اسم مفعول
سالك سبيل، و السبيل الذي يسلكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو
الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه، و هو الشريعة التي شرعها لنبيه و افترض
طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع
أوامر و نواه و دعوة و إرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله و
رسوله في الشريعة المشرعة.
و لعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد، و ذكر الرسول معه سبحانه
لأن الكلام في اتباعه.
و من هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أن المعنى: أطيعوا الله في
كتابه و الرسول في سنته.
و ذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله: قل أطيعوا الله و الرسول "الخ"
كالمبين لقوله: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني"، على أن الآية مشعرة بكون
إطاعة الله و إطاعة الرسول واحدة، و لذا لم يكرر الأمر، و لو كان مورد الإطاعة
مختلفا في الله و رسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول كما
في قوله تعالى: "أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم": النساء - 59،
كما لا يخفى.
و اعلم أن الكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها و من حيث انطباقها على المورد
نظير الكلام في الآية السابقة.
قوله تعالى: فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين، فيه دلالة على كفر المتولي عن
هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار و فيه أيضا إشعار
بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر
الإطاعة، و قد كانت الآية الأولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر
الاتباع فافهم ذلك.
و قد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور: أحدها: الرخصة في التقية في
الجملة.
و ثانيها: أن مؤاخذة تولي الكفار و التمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة، و هي
من القضاء الحتم.
و ثالثها: أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله و الإخلاص له ممثل لحب الله
سبحانه، و بعبارة أخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية و الأمور الخلقية و
الأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى
الإخلاص فقط، و هو وضع الإنسان ذاته و صفات ذاته و هي الأخلاق و أعمال ذاته و
أفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار، و الإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى
الحب، هذا من جهة التحليل.
و من جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص، و الإخلاص إلى مجموع الشريعة، كما أن
الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم و التسليم إلى التوحيد.
و رابعها: أن تولي الكافرين كفر و المراد به الكفر في الفروع دون الأصول ككفر
مانع الزكوة و تارك الصلوة و يمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر
التولي على ما مر بيانه، و سيأتي في سورة المائدة.
بحث روايي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء الآية،
أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الحجاج بن عمرو
حليف كعب بن الأشرف و ابن أبي الحقيق و قيس بن زيد و قد بطنوا بنفر من الأنصار
ليفتنوهم عن دينهم فقال رفاعة بن المنذر و عبد الله بن جبير و سعد بن خثيمة
لأولئك النفر اجتنبوا هؤلاء النفر من يهود، و احذروا مباطنتهم لا يفتنوكم عن
دينكم فأبى أولئك النفر فأنزل الله: لا يتخذ المؤمنون الكافرين إلى قوله: و
الله على كل شيء قدير.
أقول: الرواية لا تلائم ظاهر الآية لما تقدم أن الكافرين في القرآن غير معلوم
الإطلاق على أهل الكتاب، فأولى بالقصة أن تكون سببا لنزول الآيات الناهية عن
اتخاذ اليهود و النصارى أولياء دون هذه الآيات.
و في الصافي،: في قوله تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقية الآية، عن كتاب الاحتجاج،
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث: و أمرك أن تستعمل التقية في دينك فإن
الله يقول: و إياك ثم إياك أن تتعرض للهلاك، و أن تترك التقية التي أمرتك بها
فإنك شائط بدمك و دماء إخوانك، معرض لزوال نعمك و نعمهم، مذلهم في أيدي أعداء
دين الله و قد أمرك الله بإعزازهم و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام)
قال: كان رسول الله يقول: لا دين لمن لا تقية له، و يقول: قال الله: إلا أن
تتقوا منهم تقية.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): التقية في كل شيء يضطر إليه ابن آدم و
قد أحل الله له.
أقول: و الأخبار في مشروعية التقية من طرق أئمة أهل البيت كثيرة جدا ربما بلغت
حد التواتر، و قد عرفت دلالة الآية عليها دلالة غير قابلة للدفع.
و في معاني الأخبار، عن سعيد بن يسار قال: قال لي أبو عبد الله: هل الدين إلا
الحب؟ إن الله عز و جل يقول: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله.
أقول: و رواه في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) و كذا القمي و العياشي في
تفسيريهما، عن الحذاء عنه (عليه السلام): و كذا العياشي في تفسيره، عن بريد عنه
(عليه السلام)، و عن ربعي عن الصادق (عليه السلام)، و الرواية تؤيد ما أوضحناه
في البيان المتقدم.
و في المعاني، عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أحب الله من عصاه ثم تمثل
بقوله: تعصي الإله و أنت تظهر حبه. هذا لعمري في الفعال بديع. لو كان حبك صادقا
لأطعته. إن المحب لمن يحب مطيع و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث
قال: و من سره أن يعلم أن الله يحبه فليعمل بطاعة الله و ليتبعنا، أ لم يسمع
قول الله عز و جل لنبيه: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله - و يغفر
لكم ذنوبكم الحديث.
أقول: و سيأتي بيان كون اتباعهم اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
الكلام على قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و
أولي الأمر منكم" الآية: النساء - 59.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): من رغب عن سنتي فليس مني ثم تلا هذه الآية: قل إن كنتم تحبون
الله فاتبعوني يحببكم الله إلى آخر الآية.
و فيه، أيضا أخرج ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و الحاكم عن عائشة قالت:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا
في الليلة الظلماء و أدناه أن يحب على شيء من الجور، و يبغض على شيء من العدل،
و هل الدين إلا الحب و البغض في الله؟ قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله
فاتبعوني يحببكم الله".
و فيه، أيضا أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و ابن حبان و الحاكم عن
أبي رافع عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا ألقين أحدكم متكئا على
أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في
كتاب الله اتبعناه.
3 سورة آل عمران - 33 - 34
إِنّ اللّهَ اصطفَى ءَادَمَ وَ نُوحاً وَ ءَالَ إِبْرَهِيمَ وَ ءَالَ عِمْرَنَ
عَلى الْعَلَمِينَ (33) ذُرِّيّةَ بَعْضهَا مِن بَعْضٍ وَ اللّهُ سمِيعٌ
عَلِيمٌ (34)
بيان
افتتاح لقصص عيسى بن مريم و ما يلحق بها و ذكر حق القول فيها، و الاحتجاج على
أهل الكتاب فيها، و بالآيتين يرتبط ما بعدهما بما قبلهما من الآيات المتعرضة
لحال أهل الكتاب.
قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم و نوحا إلى آخر الآية الاصطفاء كما مر بيانه في
قوله تعالى: "لقد اصطفيناه في الدنيا": البقرة - 130، أخذ صفوة الشيء و تخليصه
مما يكدره فهو قريب من معنى الاختيار، و ينطبق من مقامات الولاية على مقام
الإسلام، و هو جري العبد في مجرى التسليم المحض لأمر ربه فيما يرتضيه له.
لكن ذلك غير الاصطفاء على العالمين، و لو كان المراد بالاصطفاء هنا ذاك
الاصطفاء لكان الأنسب أن يقال: من العالمين، و أفاد اختصاص الإسلام بهم و اختل
معنى الكلام، فالاصطفاء على العالمين، نوع اختيار و تقديم لهم عليهم في أمر أو
أمور لا يشاركهم فيه أو فيها غيرهم.
و من الدليل على ما ذكرناه من اختلاف الاصطفاء قوله تعالى: "و إذ قالت الملائكة
يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين: آل عمران - 42، حيث
فرق بين الاصطفاءين فالاصطفاء غير الاصطفاء.
و قد ذكر سبحانه في هؤلاء المصطفين آدم و نوحا، فأما آدم فقد اصطفى على
العالمين بأنه أول خليفة من هذا النوع الإنساني جعله الله في الأرض، قال تعالى:
"و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة": البقرة - 30، و أول من فتح
به باب التوبة.
قال تعالى: "ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى": طه - 122، و أول من شرع له الدين،
قال تعالى: "فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى الآيات": طه
- 123، فهذه أمور لا يشاركه فيها غيره، و يا لها من منقبة له (عليه السلام).
و أما نوح فهو أول الخمسة أولي العزم صاحب الكتاب و الشريعة كما مر بيانه في
تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين": البقرة - 213، و
هو الأب الثاني لهذا النوع، و قد سلم الله تعالى عليه في العالمين، قال تعالى:
"و جعلنا ذريته هم الباقين و تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين":
الصافات - 79.
ثم ذكر سبحانه آل إبراهيم و آل عمران من هؤلاء المصطفين، و الآل خاصة الشيء،
قال الراغب في المفردات: الآل قيل مقلوب عن الأهل، و يصغر على أهيل إلا أنه خص
بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات و دون الأزمنة و الأمكنة، يقال آل
فلان و لا يقال: آل رجل و آل زمان كذا، أو موضع كذا، و لا يقال آل الخياط بل
يضاف إلى الأشرف الأفضل، يقال آل الله و آل السلطان، و الأهل يضاف إلى الكل،
يقال: أهل الله و أهل الخياط كما يقال أهل زمن كذا و بلد كذا، و قيل هو في
الأصل اسم الشخص و يصغر أويلا، و يستعمل فيمن يختص بالإنسان اختصاصا ذاتيا إما
بقرابة قريبة أو بموالاة انتهى موضع الحاجة، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران
خاصتهما من أهلهما و الملحقين بهما على ما عرفت.
فأما آل إبراهيم فظاهر لفظه أنهم الطيبون من ذريته كإسحاق و إسرائيل و الأنبياء
من بني إسرائيل و إسماعيل و الطاهرون من ذريته، و سيدهم محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و الملحقون بهم في مقامات الولاية إلا أن ذكر آل عمران مع آل
إبراهيم يدل على أنه لم يستعمل على تلك السعة فإن عمران هذا إما هو أبو مريم أو
أبو موسى (عليه السلام)، و على أي تقدير هو من ذرية إبراهيم و كذا آله و قد
أخرجوا من آل إبراهيم فالمراد بآل إبراهيم بعض ذريته الطاهرين لا جميعهم.
و قد قال الله تعالى فيما قال: "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد
آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة و آتيناهم ملكا عظيما": النساء - 54، و الآية
في مقام الإنكار على بني إسرائيل و ذمهم كما يتضح بالرجوع إلى سياقها و ما يحتف
بها من الآيات، و من ذلك يظهر أن المراد من آل إبراهيم فيها غير بني إسرائيل
أعني غير إسحاق و يعقوب و ذرية يعقوب و هم أي ذرية يعقوب بنو إسرائيل فلم يبق
لآل إبراهيم إلا الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و فيهم النبي و آله.
على أنا سنبين إن شاء الله أن المراد بالناس في الآية هو رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم)، و أنه داخل في آل إبراهيم بدلالة الآية.
على أنه يشعر به قوله تعالى في ذيل هذه الآيات: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين
اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا" الآية: آل عمران - 68، و قوله تعالى: "و إذ
يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم،
ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا إلى أن قال:
ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و
يزكيهم الآيات": البقرة - 129.
فالمراد بآل إبراهيم الطاهرون من ذريته من طريق إسماعيل، و الآية ليست في مقام
الحصر فلا تنافي بين عدم تعرضها لاصطفاء نفس إبراهيم و اصطفاء موسى و سائر
الأنبياء الطاهرين من ذريته من طريق إسحاق و بين ما تثبتها آيات كثيرة من
مناقبهم و سمو شأنهم و علو مقامهم، و هي آيات متكثرة جدا لا حاجة إلى إيرادها،
فإن إثبات الشيء لا يستلزم نفي ما عداه.
و كذا لا ينافي مثل ما ورد في بني إسرائيل من قوله تعالى: "و لقد آتينا بني
إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على
العالمين": الجاثية - 16، كل ذلك ظاهر.
و لا أن تفضيلهم على العالمين ينافي تفضيل غيرهم على العالمين، و لا تفضيل
غيرهم عليهم فإن تفضيل قوم واحد أو أقوام مختلفين على غيرهم إنما يستلزم تقدمهم
في فضيلة دنيوية أو أخروية على من دونهم من الناس، و لو نافى تفضيلهم على الناس
تفضيل غيرهم أو نافى تفضيل هؤلاء المذكورين في الآية أعني آدم و نوح و آل
إبراهيم و آل عمران على العالمين تفضيل غيرهم على العالمين لاستلزم ذلك التنافي
بين هؤلاء المذكورين في الآية أنفسهم، و هو ظاهر.
و لا أن تفضيل هؤلاء على غيرهم ينافي وقوع التفاضل فيما بينهم أنفسهم فقد فضل
الله النبيين على سائر العالمين و فضل بعضهم على بعض، قال تعالى: "و كلا فضلنا
على العالمين": الأنعام - 86، و قال أيضا: "و لقد فضلنا بعض النبيين على بعض":
إسراء - 55.
و أما آل عمران فالظاهر أن المراد بعمران أبو مريم كما يشعر به تعقيب هاتين
الآيتين بالآيات التي تذكر قصة امرأة عمران و مريم ابنة عمران، و قد تكرر ذكر
عمران أبي مريم باسمه في القرآن الكريم، و لم يرد ذكر عمران أبي موسى حتى في
موضع واحد يتعين فيه كونه هو المراد بعينه، و هذا يؤيد كون المراد بعمران في
الآية أبا مريم (عليها السلام) و على هذا فالمراد بآل عمران هو مريم و عيسى
(عليهما السلام) أو هما و زوجة عمران.
و أما ما يذكر أن النصارى غير معترفين بكون اسم أبي مريم عمران فالقرآن غير
تابع لهواهم.
قوله تعالى: ذرية بعضها من بعض، الذرية - في الأصل صغار الأولاد على ما ذكروا
ثم استعملت في مطلق الأولاد و هو المعنى المراد في الآية، و هي منصوبة عطف
بيان.
و في قوله: بعضها من بعض دلالة على أن كل بعض فرض منها يبتدىء و ينتهي من البعض
الآخر و إليه.
و لازمه كون المجموع متشابه الأجزاء لا يفترق البعض من البعض في أوصافه و
حالاته، و إذا كان الكلام في اصطفائهم أفاد ذلك أنهم ذرية لا يفترقون في صفات
الفضيلة التي اصطفاهم الله لأجلها على العالمين إذ لا جزاف و لا لعب في الأفعال
الإلهية، و منها الاصطفاء الذي هو منشأ خيرات هامة في العالم.
قوله تعالى: و الله سميع عليم، أي سميع بأقوالهم الدالة على باطن ضمائرهم، عليم
بباطن ضمائرهم و ما في قلوبهم فالجملة بمنزلة التعليل لاصطفائهم، كما أن قوله:
ذرية بعضها من بعض، بمنزلة التعليل لشمول موهبة الاصطفاء لهؤلاء الجماعة،
فالمحصل من الكلام: أن الله اصطفى هؤلاء على العالمين، و إنما سرى الاصطفاء إلى
جميعهم لأنهم ذرية متشابهة الأفراد، بعضهم يرجع إلى البعض في تسليم القلوب و
ثبات القول بالحق، و إنما أنعم عليهم بالاصطفاء على العالمين لأنه سميع عليم
يسمع أقوالهم و يعلم ما في قلوبهم.
بحث روايي
في العيون، في حديث الرضا مع المأمون: فقال المأمون هل فضل الله العترة على
سائر الناس؟ فقال أبو الحسن: إن الله أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم
كتابه، فقال المأمون: أين ذلك في كتاب الله؟ فقال له الرضا (عليه السلام) في
قوله: إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم - و آل عمران على العالمين ذرية
بعضها من بعض الحديث.
و في تفسير العياشي، عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر (عليه السلام): من
زعم أنه فرغ من الأمر فقد كذب لأن المشية لله في خلقه، يريد ما يشاء و يفعل ما
يريد، قال الله: ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم، آخرها من أولها و أولها
من آخرها فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن و كان في غيره منه فقد وقع
الخبر على ما أخبرتم عنه.
أقول: و فيه دلالة على ما تقدم في البيان السابق من معنى قوله: ذرية بعضها من
بعض الآية.
و فيه، أيضا عن الباقر (عليه السلام): أنه تلا هذه الآية فقال: نحن منهم و نحن
بقية تلك العترة.
أقول: قوله (عليه السلام): و نحن بقية تلك العترة، العترة بحسب الأصل في معناها
الأصل الذي يعتمد عليه الشيء، و منه العترة للأولاد و الأقارب الأدنين ممن مضى،
و بعبارة أخرى العمود المحفوظ في العشيرة، و منه يظهر أنه (عليه السلام) استفاد
من قوله تعالى ذرية بعضها من بعض، أنها عترة محفوظة آخذة من آدم إلى نوح إلى آل
إبراهيم و آل عمران، و من هنا يظهر النكتة في ذكر آدم و نوح مع آل إبراهيم و
عمران فهي إشارة إلى اتصال السلسلة في الاصطفاء.
3 سورة آل عمران - 35 - 41
إِذْ قَالَتِ امْرَأَت عِمْرَنَ رَب إِنى نَذَرْت لَك مَا فى بَطنى مُحَرّراً
فَتَقَبّلْ مِنى إِنّك أَنت السمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمّا وَضعَتهَا قَالَت
رَب إِنى وَضعْتهَا أُنثى وَ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضعَت وَ لَيْس الذّكَرُ
كالأُنثى وَ إِنى سمّيْتهَا مَرْيَمَ وَ إِنى أُعِيذُهَا بِك وَ ذُرِّيّتَهَا
مِنَ الشيْطنِ الرّجِيمِ (36) فَتَقَبّلَهَا رَبّهَا بِقَبُولٍ حَسنٍ وَ
أَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسناً وَ كَفّلَهَا زَكَرِيّا كلّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا
زَكَرِيّا الْمِحْرَاب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَمَرْيَمُ أَنى لَكِ
هَذَا قَالَت هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيرِ
حِسابٍ (37) هُنَالِك دَعَا زَكرِيّا رَبّهُ قَالَ رَب هَب لى مِن لّدُنك
ذُرِّيّةً طيِّبَةً إِنّك سمِيعُ الدّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَئكَةُ وَ
هُوَ قَائمٌ يُصلى فى الْمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشرُك بِيَحْيى مُصدِّقَا
بِكلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَ سيِّداً وَ حَصوراً وَ نَبِيّا مِّنَ الصلِحِينَ
(39) قَالَ رَب أَنى يَكُونُ لى غُلَمٌ وَ قَدْ بَلَغَنىَ الْكبَرُ وَ
امْرَأَتى عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِك اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (40) قَالَ رَب
اجْعَل لى ءَايَةً قَالَ ءَايَتُك أَلا تُكلِّمَ النّاس ثَلَثَةَ أَيّامٍ إِلا
رَمْزاً وَ اذْكُر رّبّك كثِيراً وَ سبِّحْ بِالْعَشىِّ وَ الابْكرِ (41)
بيان
قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني
إنك أنت السميع العليم، النذر إيجاب الإنسان على نفسه ما ليس بواجب.
و التحرير هو الإطلاق عن وثاق، و منه تحرير العبد عن الرقية، و تحرير الكتاب
كأنه إطلاق للمعاني عن محفظة الذهن و الفكر.
و التقبل هو القبول عن رغبة و رضى كتقبل الهدية و تقبل الدعاء و نحو ذلك.
و في قوله: قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني، دلالة على أنها إنما
قالت هذا القول حينما كانت حاملا، و أن حملها كان من عمران، و لا يخلو الكلام
من إشعار بأن زوجها عمران لم يكن حيا عندئذ و إلا لم يكن لها أن تستقل بتحرير
ما في بطنها هذا الاستقلال كما يدل عليه أيضا ما سيأتي من قوله تعالى: و ما كنت
لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم" الآية: آل عمران - 44، على ما سيجيء من
البيان.
و من المعلوم أن تحرير الأب أو الأم للولد ليس تحريرا عن الرقية و إنما هو
تحرير عن قيد الولاية التي للوالدين على الولد من حيث تربيته و استعماله في
مقاصدهما و افتراض طاعتهما فبالتحرير يخرج من تسلط أبويه عليه في استخدامه، و
إذا كان التحرير منذورا لله سبحانه يدخل في ولاية الله يعبده و يخدمه، أي يخدم
في البيع و الكنائس و الأماكن المختصة بعبادته تعالى في زمان كان فيه تحت ولاية
الأبوين لو لا التحرير، و قد قيل: إنهم كانوا يحررون الولد لله فكان الأبوان لا
يستعملانه في منافعهما: و لا يصرفانه في حوائجهما بل كان يجعل في الكنيسة
يكنسها و يخدمها لا يبرح حتى يبلغ الحلم ثم يخير بين الإقامة و الرواح فإن أحب
أن يقيم أقام، و إن أحب الرواح ذهب لشأنه.
و في الكلام دلالة على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكر لا إناث حيث إنها
تناجي ربها عن جزم و قطع من غير اشتراط و تعليق حيث تقول: نذرت لك ما في بطني
محررا من غير أن تقول مثلا إن كان ذكرا و نحو ذلك.
و ليس تذكير قوله: محررا، من جهة كونه حالا عن ما الموصولة التي يستوي فيه
المذكر و المؤنث إذ لو كانت نذرت تحرير ما في بطنها سواء كان ذكرا أو أنثى لم
يكن وجه لما قالتها تحزنا و تحسرا لما وضعتها رب إني وضعتها أنثى، و لا وجه
ظاهر لقوله تعالى: و الله أعلم بما وضعت و ليس الذكر كالأنثى، على ما سيجيء
بيانه.
و في حكايته تعالى لما قالتها عن جزم دلالة على أن اعتقادها ذلك لم يكن عن جزاف
أو اعتمادا على بعض القرائن الحدسية التي تسبق إلى أذهان النسوان بتجارب و نحوه
فكل ذلك ظن، و الظن لا يغني من الحق شيئا، و كلامه تعالى لا يشتمل على باطل إلا
مع إبطاله، و قد قال تعالى: "الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما
تزداد": الرعد - 8، و قال تعالى: "عنده علم الساعة و ينزل الغيث و يعلم ما في
الأرحام": لقمان - 34، فجعل العلم بما في الأرحام من الغيب المختص به تعالى، و
قال تعالى: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى": الجن - 27، فجعل
علم غيره بالغيب منتهيا إلى الوحي فحكايته عنها الجزم في القول فيما يختص علمه
بالله سبحانه يدل على أن علمها بذكورة ما في بطنها كان ينتهي بوجه إلى الوحي، و
لذلك لما تبينت أن الولد أنثى لم تيأس عن ولد ذكر فقالت ثانيا عن جزم و قطع: و
إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم الآية فأثبتت لها ذرية و لا سبيل إلى
العلم به ظاهرا.
و مفعول قولها: فتقبل مني، و إن كان محذوفا محتملا لأن يكون هو.
نذرها من حيث إنه عمل صالح أو يكون هو ولدها المحرر لكن قوله تعالى: فتقبلها
ربها بقبول حسن، لا يخلو عن إشعار أو دلالة على كون مرادها هو قبول الولد
المحرر.
قوله تعالى: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، في وضع الضمير المؤنث موضع
ما في بطنها إيجاز لطيف، و المعنى فلما وضعت ما في بطنها و تبينت أنه أنثى
قالت: رب إني وضعتها أنثى، و هو خبر أريد به التحسر و التحزن دون الإخبار و هو
ظاهر.
قوله تعالى: و الله أعلم بما وضعت و ليس الذكر كالأنثى، جملتان معترضتان و هما
جميعا مقولتان له تعالى لا لامرأة عمران، و لا أن الثانية مقولة لها و الأولى
مقولة لله.
أما الأولى فهي ظاهرة لكن لما كانت قولها رب إني وضعتها أنثى، مسوقا لإظهار
التحسر كان ظاهر قوله: و الله أعلم بما وضعت، أنه مسوق لبيان أنا نعلم أنها
أنثى لكنا أردنا بذلك إنجاز ما كانت تتمناه بأحسن وجه و أرضى طريق، و لو كانت
تعلم ما أردناه من جعل ما في بطنها أنثى لم تتحسر و لم تحزن ذاك التحسر و
التحزن و الحال أن الذكر الذي كانت ترجوه لم يكن ممكنا أن يصير مثل هذا الأنثى
التي وهبناها لها، و يترتب عليه ما يترتب على خلق هذه الأنثى فإن غاية أمره أن
يصير مثل عيسى نبيا مبرئا للأكمه و الأبرص و محييا للموتى لكن هذه الأنثى ستتم
به كلمة الله و تلد ولدا بغير أب، و تجعل هي و ابنها آية للعالمين، و يكلم
الناس في المهد، و يكون روحا و كلمة من الله، مثله عند الله كمثل آدم إلى غير
ذلك من الآيات الباهرات في خلق هذه الأنثى الطاهرة المباركة و خلق ابنها عيسى
(عليه السلام).
و من هنا يظهر: أن قوله: و ليس الذكر كالأنثى، مقول له تعالى لا لامرأة عمران،
و لو كان مقولا لها لكان حق الكلام أن يقال: و ليس الأنثى كالذكر لا بالعكس و
هو ظاهر فإن من كان يرجو شيئا شريفا أو مقاما عاليا ثم رزق ما هو أخس منه و
أردأ إنما يقول عند التحسر: ليس هذا الذي وجدته هو الذي كنت أطلبه و أبتغيه، أو
ليس ما رزقته كالذي كنت أرجوه، و لا يقول: ليس ما كنت أرجوه كهذا الذي رزقته
البتة، و ظهر من ذلك أن اللام في الذكر و الأنثى معا أو في الأنثى فقط للعهد.
و قد أخذ أكثر المفسرين قوله: و ليس الذكر كالأنثى، تتمة قول امرأة عمران، و
تكلفوا في توجيه تقديم الذكر على الأنثى بما لا يرجع إلى محصل، من أراده فليرجع
إلى كتبهم.
قوله تعالى: و إني سميتها مريم و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم،
معنى مريم في لغتهم العابدة و الخادمة على ما قيل، و منه يعلم وجه مبادرتها إلى
تسمية المولودة عند الوضع، و وجه ذكره تعالى لتسميتها بذلك فإنها لما أيست من
كون الولد ذكرا محررا للعبادة و خدمة الكنيسة بادرت إلى هذه التسمية و أعدتها
بالتسمية للعبادة و الخدمة.
فقولها: و إني سميتها مريم بمنزلة أن تقول: إني جعلت ما وضعتها محررة لك، و
الدليل على كون هذا القول منها في معنى النذر قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول
حسن و أنبتها نباتا حسنا الآية.
ثم أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم ليستقيم لها العبادة و الخدمة و
يطابق اسمها المسمى.
و الكلام في قولها: و ذريتها، من حيث إنه قول مطلق من شرط و قيد لا يصح انتفوه
به في حضرة التخاطب ممن لا علم له به مع أن مستقبل حال الإنسان من الغيب الذي
لا يعلمه إلا الله سبحانه، نظير الكلام في قولها رب إني نذرت لك ما في بطني
محررا، على ما تقدم بيانه فليس إلا أنها كانت تعلم أن سترزق من عمران ولدا ذكرا
صالحا ثم لما حملت و توفي عمران لم تشك أن ما في بطنها هو ذلك الولد الموعود،
ثم لما وضعتها و بان لها خطأ حدسها أيقنت أنها سترزق ذلك الولد من نسل هذه
البنت المولودة فحولت نذرها من الابن إلى البنت، و سمتها مريم العابدة، الخادمة
و أعاذتها و ذريتها بالله من الشيطان الرجيم هذا ما يعطيه التدبر في كلامه
تعالى.
قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن و أنبتها نباتا حسنا، القبول إذا قيد
بالحسن كان بحسب المعنى هو التقبل الذي معناه القبول عن الرضا، فالكلام في معنى
قولنا: فتقبلها ربها تقبلا فإنما حلل التقبل إلى القبول الحسن ليدل على أن حسن
القبول مقصود في الكلام، و لما في التصريح بحسن القبول من التشريف البارز.
و حيث قوبل بهاتين الجملتين أعني قوله: فتقبلها إلى قوله: حسنا، الجملتان في
قولها: و إني سميتها إلى قولها: الرجيم كان مقتضى الانطباق أن يكون قوله:
فتقبلها ربها بقبول حسن، قبولا لقولها و إني سميتها مريم، و قوله: و أنبتها
نباتا حسنا، قبولا و إجابة لقولها: و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان
الرجيم، فالمراد بتقبلها بقبول حسن ليس هو القبول بمعنى قبول تقرب امرأة عمران
بالنذر، و إعطاء الثواب الأخروي لعملها فإن القبول إنما نسب إلى مريم لا إلى
النذر و هو ظاهر بل قبول البنت بما أنها مسماة بمريم و محررة فيعود معناه إلى
اصطفائها و قد مر أن معنى الاصطفاء هو التسليم التام لله سبحانه فافهم ذلك.
و المراد بإنباتها نباتا حسنا إعطاء الرشد و الزكاة لها و لذريتها، و إفاضة
الحيوة لها و لمن ينمو منها من الذرية حيوة لا يمسها نفث الشيطان و رجس تسويله
و وسوسته، و هو الطهارة.
و هذان أعني القبول الحسن الراجع إلى الاصطفاء، و النبات الحسن الراجع إلى
التطهير هما اللذان يشير إليهما قوله تعالى في ذيل هذه الآية: و إذ قالت
الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك الآية و سنوضحه بيانا إن شاء الله
العزيز.
فقد تبين أن اصطفاء مريم و تطهيرها إنما هما استجابة لدعوة أمها كما أن
اصطفاءها على نساء العالمين في ولادة عيسى، و كونها و ابنها آية للعالمين تصديق
لقوله تعالى: و ليس الذكر كالأنثى.
قوله تعالى: و كفلها زكريا، و إنما كفلها بإصابة القرعة حيث اختصموا في تكفلها
ثم تراضوا بينهم بالقرعة فأصابت القرعة زكريا كما يدل عليه قوله تعالى: و ما
كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم و ما كنت لديهم إذ يختصمون، الآية.
قوله تعالى: كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا "الخ" المحراب المكان
المخصوص بالعبادة من المسجد و البيت، قال الراغب: و محراب المسجد، قيل: سمي
بذلك لأنه موضع محاربة الشيطان و الهوى، و قيل: سمي بذلك لكون حق الإنسان فيه
أن يكون حريبا أي سليبا من أشغال الدنيا و من توزع الخاطر، و قيل الأصل فيه أن
محراب البيت صدر المجلس ثم اتخذت المساجد فسمي صدره به و قيل: بل المحراب أصله
في المسجد و هو اسم خص به صدر المجلس فسمي صدر البيت محرابا تشبيها بمحراب
المسجد، و كان هذا أصح، قال عز و جل: يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل،
انتهى.
و ذكر بعضهم أن المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في
مقدم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة، و يكون من فيه محجوبا عمن
في المعبد.
أقول: و إليه ينتهي اتخاذ المقصورة في الإسلام.
و في تنكير قوله: رزقا، إشعار بكونه رزقا غير معهود كما قيل: إنه كان يجد عندها
فاكهة الشتاء في الصيف، و فاكهة الصيف في الشتاء، و يؤيده أنه لو كان من الرزق
المعهود، و كان تنكيره يفيد أنه ما كان يجد محرابها خاليا من الرزق بل كان
عندها رزق ما دائما لم يقنع زكريا بقولها: هو من عند الله إن الله يرزق "الخ"
في جواب قوله: يا مريم أنى لك هذا، لإمكان أن يكون يأتيها بعض الناس ممن كان
يختلف إلى المسجد لغرض حسن أو سيىء.
على أن قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه "الخ"، يدل على أن زكريا تلقى وجود هذا
الرزق عندها كرامة إلهية خارقة فأوجب ذلك أن يسأل الله أن يهب له من لدنه ذرية
طيبة، فقد كان الرزق رزقا يدل بوجوده على كونه كرامة من الله سبحانه لمريم
الطاهرة، و مما يشعر بذلك قوله تعالى: قال يا مريم "الخ" على ما سيجيء من
البيان.
و قوله: قال يا مريم أنى لك "الخ" فصل الكلام من غير أن يعطف على قوله: وجد
عندها رزقا، يدل على أنه (عليه السلام) إنما قال لها ذلك مرة واحدة فأجابت بما
قنع به و استيقن أن ذلك كرامة لها و هنالك دعا و سأل ربه ذرية طيبة.
قوله تعالى: هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة "الخ"، طيب
الشيء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث
الماء و الهواء و الرزق و نحو ذلك، قال تعالى: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن
ربه": الأعراف - 58، و العيشة الطيبة و الحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها
بعضا و يسكن إليها قلب صاحبها و منه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد
الصالح لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته و أفعاله ما عند أبيه من الرجاء و
الأمنية فقول زكريا (عليه السلام): رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لما كان الباعث
له عليه ما شاهد من أمر مريم و خصوص كرامتها على الله و امتلاء قلبه من شأنها
لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا و كرامة، فكون ذريته
طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله و الشخصية في نفسها، و لذلك
استجيب في عين ما سأله من الله، و وهب له يحيى و هو أشبه الأنبياء بعيسى (عليه
السلام)، و أجمع الناس لما عند عيسى و أمه مريم الصديقة من صفات الكمال و
الكرامة، و من هنا ما سماه تعالى بيحيى و جعله مصدقا بكلمة من الله و سيدا و
حصورا و نبيا من الصالحين، و هذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم و ابنها
عيسى (عليه السلام) على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: فنادته الملائكة و هو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى
إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة و الخطاب لزكريا، و البشرى و الإبشار و التبشير
الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.
و قوله: إن الله يبشرك بيحيى، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب الله
سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم، قال تعالى: "يا زكريا إنا
نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا": مريم - 7.
و تسميته بيحيى و كون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل
تولد يحيى و خلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا: أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه
ولدا يكون شأنه شأن مريم، و قد كانت مريم هي و ابنها عيسى (عليه السلام) آية
واحدة كما قال تعالى: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين": الأنبياء - 91.
فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، و قد روعي في عيسى كمال ما
روعي في مريم، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام و المحاذاة الكاملة مع عيسى
(عليه السلام) فيما يمكن ذلك، و لعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان
مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، و لذلك سبقه عيسى في كونه من أولي
العزم صاحب شريعة و كتاب و غير ذلك لكنهما تشابها و تشابه أمرهما فيما يمكن.
و إن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم
فقال في يحيى: "يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا إلى
أن قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا و حنانا من لدنا و زكوة و
كان تقيا و برا بوالديه و لم يكن جبارا عصيا و سلام عليه يوم ولد و يوم يموت و
يوم يبعث حيا": مريم - 15، و قال في عيسى (عليه السلام): "فأرسلنا إليها روحنا
إلى أن قال: إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا - إلى أن قال -: قال ربك هو
علي هين و لنجعله آية للناس و رحمة منا - إلى أن قال -: فأشارت إليه قالوا كيف
نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني
مباركا أينما كنت و أوصاني بالصلوة و الزكوة ما دمت حيا و برا بوالدتي و لم
يجعلني جبارا شقيا و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا": مريم -
33، و يقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن
فيها عند التطبيق.
و بالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى و سمى ابن مريم عيسى و هو بمعنى "يعيش"
على ما قيل و جعله مصدقا بكلمة منه و هو عيسى كما قال تعالى: "بكلمة منه اسمه
المسيح عيسى" و آتاه الحكم و علمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى، و عده حنانا من
لدنه و زكاة و برا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، و سلم عليه في المواطن
الثلاث كعيسى و عده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده، و جعله حصورا و نبيا و من
الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا و دعوته حيث سأل ذرية طيبة و
وليا رضيا عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم و عجيب شأنها و كرامتها على
الله كما مر بيانه.
و في قوله: مصدقا بكلمة من الله دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى
المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.
و السيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس و جماعتهم في أمر حيوتهم و معاشهم أو
فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي
المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى.
و الحصور هو الذي لا يأتي النساء و المراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع
عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهدا.
قوله تعالى: قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني الكبر و امرأتي عاقر استفهام
تعجيب و استعلام لحقيقة الحال لا استبعاد و استعظام مع تصريح البشارة بذلك و أن
الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما
منشأ للتعجب و الاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال: "رب إني
وهن العظم مني و اشتعل الرأس شيبا و لم أكن بدعائك رب شقيا و إني خفت الموالي
من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا": مريم - 5.
لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه (عليه السلام) لما انقلب حالا من مشاهدة أمر
مريم و تذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا و قد سأل ربه ما سأل و قد ذكر في دعائه ما
له سهم وافر في تأثره و تحزنه و هو بلوغ الكبر، و كون امرأته عاقرا، فلما
استجيبت دعوته و بشر بالولد كأنه صحا و أفاق مما كان عليه من الحال، و أخذ
يتعجب من ذلك و هو بالغ الكبر و امرأته عاقر، فصار ما كان يثير على وجهه غبار
اليأس و سيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.
على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة و استعلام كيفية رفع واحد
واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة و الإنعام التذاذا بالنعمة الفائضة
بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى: و نبئهم عن ضيف
إبراهيم إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا
نبشرك بغلام عليم قال أ بشرتمون على أن مسني الكبر فبم تبشرون قالوا بشرناك
بالحق فلا تكن من القانطين قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون": الحجر -
56، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف
و هو غير ضال و القنوط ضلالة، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب و
الأنس و الكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد و ابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث
و تمتعه في كل باب.
و في قوله: و قد بلغني الكبر من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا
يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة و الهرم.
و قد اجتمعت في امرأته الكبر و العقر معا فإن ذلك ظاهر قوله: و كانت امرأتي
عاقرا، و لم يقل: و امرأتي عاقر.
قوله تعالى: قال كذلك الله يفعل ما يشاء، فاعل قال و إن كان هو الله سبحانه
سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه
فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك
فالقائل هو الملك و قد نسب إليه تعالى لأنه بأمره، و الدليل على ذلك قوله تعالى
في سورة مريم في القصة: "قال كذلك قال ربك هو علي هين و قد خلقتك من قبل و لم
تك شيئا": مريم - 9.
و منه يظهر أولا: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا.
و ثانيا: أن قوله: كذلك، خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت
به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة، و فيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم
الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى:
"قال كذلك قال ربك هو علي هين إلى أن قال -: و كان أمرا مقضيا": مريم - 21، و
ثالثا: أن قوله: الله يفعل ما يشاء كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله:
كذلك اه.
قوله تعالى: قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا
إلى آخر الآية، قال في المجمع، الرمز الإيماء بالشفتين، و قد يستعمل في الإيماء
بالحاجب و العين و اليد، و الأول أغلب، انتهى، و العشي الطرف المؤخر من النهار،
و كأنه مأخوذ من العشوة و هي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار
فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة، و الإبكار صدر النهار و الطرف المقدم
منه، و الأصل في معناه الاستعجال.
و وقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه و بين عيسى فإنها تضاهي
قول عيسى لمريم بعد تولده: "فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن
صوما فلن أكلم اليوم إنسيا": مريم - 26.
و سؤاله (عليه السلام) من ربه أن يجعل له آية و الآية هي العلامة الدالة على
الشيء - هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه، و بعبارة أخرى هو
خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته، و يعلم
وقت الحمل، خلاف بين المفسرين.
و الوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات و جريان القصة لكن الذي أوجب
تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب
رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك
و وسوسة الشيطان، و لا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق
الإفهام.
و هو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من
قبل أنفسهم و استقلال ذواتهم، و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من
ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ و أي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعاءه و
لم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله.
على أن خصوصية نفس الآية - و هي عدم التكليم ثلاثة أيام - تؤيد بل تدل على ذلك
فإن الشيطان و إن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما
يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين و استقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين
كما يدل عليه قوله تعالى: "و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان
بنصب و عذاب": ص - 41، و قوله تعالى: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي
إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله
آياته" الآية: الحج - 52، و قوله تعالى: "فإني نسيت الحوت و ما أنسانيه إلا
الشيطان: الكهف - 63.
لكن هذه و أمثالها من مس الشيطان و تعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي و أما مسه
الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك و قد مر في ما تقدم من المباحث
إثبات عصمتهم (عليهم السلام).
و الذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله آيتك أن لا تكلم الناس
ثلثة أيام إلا رمزا و اذكر ربك كثيرا و سبح بالعشي و الإبكار هو أنه كان لا
يقدر ثلاثة أيام على تكليم أحد و يعتقل لسانه إلا بذكر الله و تسبيحه، و هذه
آية واقعة على نفس النبي و لسانه و تصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان
العصمة فليس إلا رحمانيا و هذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه
الثاني.
فإن قلت لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني
الكبر و امرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء الآية فإن ظاهره أنه خاطب ربه
و سأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في أمر
النداء؟ و لو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟.
قلت: مراتب الركون و الاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على
كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب
منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية
توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا و طمأنينة.
و مما يؤيد ذلك قوله تعالى: فنادته الملائكة، فإن النداء إنما يكون من بعيد و
لذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، و ليس
بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا
إذ نادى ربه نداء خفيا: مريم - 3 فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا: و
تواضعه قبال تعزز الله سبحانه و ترفعه و تعاليه، ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام
لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه، و إنما سمع صوتا يهتف به هاتف.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم
الناس ثلاثة أيام، و الانقطاع فيها إلى ذكر الله و تسبيحه دون اعتقال لسانه،
قال: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي
ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه و يبشر أهله فسأل عن الكيفية، و لما
أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، و يكون إتمامه إياها
آية و علامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع
إلى الذكر و التسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ
إليهم إيماء، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال، انتهى.
و أنت خبير بأنه ليس لما ذكره من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة، و انتهائها
إلى حصول المقصود، و كون انتهائها هو الآية، و كون قوله: أن لا تكلم مسوقا
للنهي التشريعي و كذا إرادته بشارة أهله في الآية عين و لا أثر.
كلام في الخواطر الملكية و الشيطانية و ما يلحق بها من التكليم
قد مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة
منها، و أن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا يصح
السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام و قول سواء كان مفيدة صوتا واحدا أو أصواتا
متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإيماء و الرمز، و الناس لا يتوقفون في تسمية الصوت
المفيد فائدة تامة كلاما و إن لم يخرج عن شق فم، و كذلك في تسمية الإيماء قولا
و كلاما و إن لم يشتمل على صوت.
و القرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له و قولا منه،
قال تعالى حكاية عن الشيطان: "و لآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام": النساء - 119 و
قال: "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر": الحشر - 16، و قال: "يوسوس في صدور
الناس": الناس - 5، و قال "يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول": الأنعام - 112 و
قال أيضا حكاية عن إبليس: "إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم": إبراهيم - 22 و
قال: "الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا و
الله واسع عليم يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا":
البقرة - 269، و من الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى
الشيطان، و سميت بالأمر و القول و الوسوسة و الوحي و الوعد، و جميعها قول و
كلام و لم تخرج عن شق فم و لا تحريك لسان.
و من هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة و الفضل
قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان، و قد سماه
تعالى الحكمة، و مثلها قوله تعالى: "و يجعل لكم نورا تمشون به": الحديد - 28، و
قوله: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و
لله جنود السموات و الأرض": الفتح - 4، و قد مر بيانها في الكلام على السكينة
في ذيل قوله تعالى: "فيه سكينة من ربكم": البقرة - 248، و كذا قوله: "فمن يرد
الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما
يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون": الأنعام - 125، و
قد سمى الوسوسة رجزا فقال: "رجز الشيطان": الأنفال - 11، فمن جميع ذلك يظهر أن
الشياطين و الملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
و هنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله: "و ما كان لبشر أن
يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب" الآية: الشورى - 51، فسماه تكليما و قسمه
إلى الوحي، و هو الذي لا حجاب فيه بينه و بين العبد المكلم، و إلى التكليم من
وراء حجاب، هذه أقسام من الكلام لله سبحانه و للملائكة و الشياطين.
أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه
ألقى التقابل بينه و بين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين
الإنسان و بين ربه، و من المحال أن يقع هناك لبس، و هو ظاهر، و أما غيره فيحتاج
إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.
و أما الكلام الملكي و الشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها
فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، و يدعو إلى المغفرة و الفضل، و ينتهي
بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه و سنة نبيه، و الخاطر الشيطاني
يلازم تضيق الصدر، و شح النفس و يدعو إلى متابعة الهوى، و يعد الفقر، و يأمر
بالفحشاء، و بالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب و السنة، و يخالف الفطرة.
ثم إن الأنبياء و من يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك و الشيطان و معرفتهما
كما حكى الله تعالى عن آدم و إبراهيم و لوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز، و أما
مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين، و ينتهي بالأخرة إلى تمييز
الوحي و هو ظاهر.
0340 3
بحث روايي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: إذ قالت امرأة عمران الآية، عن الصادق (عليه
السلام) قال: إن الله أوحى إلى عمران أني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرىء
الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذن الله، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل،
فحدث عمران امرأته حنة بذلك و هي أم مريم فلما حملت كان حملها بها عند نفسها
غلاما فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى، و ليس الذكر كالأنثى لا تكون البنت
رسولا، يقول الله: و الله أعلم بما وضعت فلما وهب الله لمريم عيسى كان هو الذي
بشر به عمران و وعده إياه فإذا قلنا في الرجل منا شيئا و كان في ولده أو ولد
ولده فلا تنكروا ذلك.
أقول: و روي قريبا منه في الكافي، عنه (عليه السلام) و في تفسير العياشي، عن
الباقر (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، في الآية عن الصادق (عليه السلام): أن المحرر يكون في
الكنيسة لا يخرج منها فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى و ليس الذكر
كالأنثى، إن الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، و المحرر لا يخرج من المسجد.
و فيه، عن أحدهما: نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد، و ليس الذكر
كالأنثى في الخدمة، قال فشبت و كانت تخدمهم و تناولهم حتى بلغت فأمر زكريا أن
تتخذ لها حجابا دون العباد.
أقول: و الروايات كما ترى تنطبق على ما قدمناه في البيان السابق إلا أن ظاهرها:
أن قوله: و ليس الذكر كالأنثى، كلام لامرأة عمران لا له تعالى، و يبقى عليه وجه
تقديم الذكر على الأنثى في الجملة، مع أن مقتضى القواعد العربية خلافه، و كذا
يبقى عليه وجه تسميتها بمريم، و قد مر أنه في معنى التحرير إلا أن يفرق بين
التحرير و جعلها خادمة فليتأمل.
و في الرواية الأولى دلالة على كون عمران نبيا يوحى إليه، و يدل عليه ما في
البحار، عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن عمران أ كان نبيا؟
فقال نعم كان نبيا مرسلا إلى قومه، الحديث.
و تدل الرواية أيضا على كون اسم امرأة عمران: حنة، و هو المشهور، و في بعض
الروايات: مرثار، و لا يهمنا البحث عن ذلك.
و في تفسير القمي،: في ذيل الرواية السابقة: فلما بلغت مريم صارت في المحراب، و
أرخت على نفسها سترا، و كان لا يراها أحد، و كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد
عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف فكان يقول: أنى لك هذا
فتقول: هو من عند الله - إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن زكريا لما دعا ربه أن يهب
له ولدا فنادته الملائكة بما نادته به أحب أن يعلم أن ذلك الصوت من الله فأوحى
إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام فلما أمسك لسانه و لم
يتكلم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا الله و ذلك قول الله رب اجعل لي آية.
أقول: و روى قريبا منه القمي في تفسيره، و قد عرفت فيما تقدم أن سياق الآيات لا
يأبى عن ذلك.
و بعض المفسرين شدد النكير على ما تضمنته هذه الروايات كالوحي إلى عمران و وجود
الفاكهة في محراب مريم في غير وقتها، و كون سؤال زكريا للآية للتمييز فقال: إن
هذه أمور لا طريق إلى إثباتها فلا هو سبحانه ذكرها، و لا رسوله قالها، و لا هي
مما يعرف بالرأي و لم يثبتها تاريخ يعتد به، و ليس هناك إلا روايات إسرائيلية و
غير إسرائيلية، و لا موجب للتكلف في تحصيل معنى القرآن و حمله على أمثال هذه
الوجوه البعيدة عن الأفهام.
و هو منه كلام من غير حجة، و الروايات و إن كانت آحادا غير خالية عن ضعف الطريق
لا يجب على الباحث الأخذ بها، و الاحتجاج بما فيها لكن التدبر في الآيات يقرب
الذهن منها، و الذي نقل منها عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) لا يشتمل على
أمر غير جائز عند العقل.
نعم في بعض ما نقل عن قدماء المفسرين أمور غير معقولة كما نقل عن قتادة و
عكرمة: أن الشيطان جاء إلى زكريا و شككه في كون البشارة من الله تعالى، و قال:
لو كانت من الله لأخفى لك في ندائه كما أخفيت له في ندائك إلى غير ذلك فهي معان
لا مجوز لتسليمها كما ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا "و ها أنت تكون
صامتا و لا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي
سيتم في وقته" إنجيل لوقا 1 - 20.
بحث روائي آخر
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): ما من قلب إلا و له أذنان على إحداهما
ملك مرشد، و على الأخرى شيطان مفتن: هذا يأمره، و هذا يزجره، الشيطان يأمره
بالمعاصي، و الملك يزجره عنها، و ذلك قول الله عز و جل: ما يلفظ من قول - إلا
لديه رقيب عتيد عن اليمين و عن الشمال قعيد.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة سيأتي شطر منها، و تطبيقه (عليه السلام)
الآية على الملك و الشيطان في هذه الرواية لا ينافي تطبيقه إياها على الملكين
الكاتبين للحسنات و السيئات في رواية أخرى فإن الآية لا تدل على أزيد من وجود
رقيب عتيد عند الإنسان يرقبه في جميع ما يتكلم به، و أنه متعدد عن يمين الإنسان
و شماله، و أما أنه من الملائكة محضا أو ملك و شيطان فالآية غير صريحة في ذلك
قابلة للانطباق على كل من المحتملين.
و فيه، أيضا عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرسول و عن
النبي و عن المحدث، قال: الرسول الذي يعاين الملك يأتيه بالرسالة من ربه يقول:
يأمرك كذا و كذا، و الرسول يكون نبيا مع الرسالة، و النبي لا يعاين الملك ينزل
عليه الشيء النبأ على قلبه فيكون كالمغمى عليه فيرى في منامه، قلت فما علمه أن
الذي في منامه حق؟ قال: يبينه الله حتى يعلم أن ذلك حق، و لا يعاين الملك،
الحديث.
أقول: قوله: و الرسول يكون نبيا إشارة إلى إمكان اجتماع الوصفين و قد تقدم
الكلام في معنى الرسالة و النبوة في تفسير قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة
فبعث الله" الآية: البقرة - 213.
و قوله: فيكون كالمغمى عليه تفسير معنى رؤيته في المنام، و أن معناه الغيبة عن
الحس دون المنام المعروف، و قوله: يبينه الله "الخ" إشارة إلى التمييز بين
الإلقاء الملكي و الشيطاني بما بينه الله من الحق.
و في البصائر، عن بريد عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في حديث قال بريد:
فما الرسول و النبي و المحدث؟ قال الرسول الذي يظهر الملك فيكلمه، و النبي يرى
في المنام، و ربما اجتمعت النبوة و الرسالة لواحد، و المحدث الذي يسمع الصوت و
لا يرى الصورة، قال: قلت: أصلحك الله كيف يعلم أن الذي رأى في المنام هو الحق و
أنه من الملك؟ قال: يوفق لذلك حتى يعرفه لقد ختم الله بكتابكم الكتب و بنبيكم
الأنبياء، الحديث.
أقول: و هو في مساق الحديث السابق، و بيانه (عليه السلام) واف بتمييز المحدث ما
يسمعه من صوت الهاتف، و في قوله: لقد ختم الله "الخ" إشارة إلى ذلك، و سيأتي
الكلام في المحدث في ذيل الآيات التالية.
3 سورة آل عمران - 42 - 60
وَ إِذْ قَالَتِ الْمَلَئكةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصطفَاكِ وَ طهّرَكِ وَ
اصطفَاكِ عَلى نِساءِ الْعَلَمِينَ (42) يَمَرْيَمُ اقْنُتى لِرَبِّكِ وَ
اسجُدِى وَ ارْكَعِى مَعَ الرّكِعِينَ (43) ذَلِك مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ
نُوحِيهِ إِلَيْك وَ مَا كُنت لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَمَهُمْ أَيّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ مَا كنت لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قَالَتِ
الْمَلَئكَةُ يَمَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُبَشرُكِ بِكلِمَةٍ مِّنْهُ اسمُهُ
الْمَسِيحُ عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مِنَ
الْمُقَرّبِينَ (45) وَ يُكلِّمُ النّاس فى الْمَهْدِ وَ كهْلاً وَ مِنَ
الصلِحِينَ (46) قَالَت رَب أَنى يَكُونُ لى وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسسنى بَشرٌ
قَالَ كذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذَا قَضى أَمْراً فَإِنّمَا
يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتَب وَ الْحِكمَةَ وَ
التّوْرَاةَ وَ الانجِيلَ (48) وَ رَسولاً إِلى بَنى إِسرءِيلَ أَنى قَدْ
جِئْتُكُم بِئَايَةٍ مِّن رّبِّكمْ أَنى أَخْلُقُ لَكم مِّنَ الطينِ كَهَيْئَةِ
الطيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طيرَا بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُبْرِئُ الأَكمَهَ
وَ الأَبْرَص وَ أُحْىِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللّهِ وَ أُنَبِّئُكُم بِمَا
تَأْكلُونَ وَ مَا تَدّخِرُونَ فى بُيُوتِكمْ إِنّ فى ذَلِك لاَيَةً لّكُمْ إِن
كُنتُم مّؤْمِنِينَ (49) وَ مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَى مِنَ التّوْرَاةِ وَ
لأُحِلّ لَكم بَعْض الّذِى حُرِّمَ عَلَيْكمْ وَ جِئْتُكم بِئَايَةٍ مِّن
رّبِّكمْ فَاتّقُوا اللّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنّ اللّهَ رَبى وَ رَبّكمْ
فَاعْبُدُوهُ هَذَا صرَاطٌ مّستَقِيمٌ (51) * فَلَمّا أَحَس عِيسى مِنهُمُ
الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصارِى إِلى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيّونَ نحْنُ
أَنصارُ اللّهِ ءَامَنّا بِاللّهِ وَ اشهَدْ بِأَنّا مُسلِمُونَ (52) رَبّنَا
ءَامَنّا بِمَا أَنزَلْت وَ اتّبَعْنَا الرّسولَ فَاكتُبْنَا مَعَ الشهِدِينَ
(53) وَ مَكرُوا وَ مَكرَ اللّهُ وَ اللّهُ خَيرُ الْمَكِرِينَ (54) إِذْ قَالَ
اللّهُ يَعِيسى إِنى مُتَوَفِّيك وَ رَافِعُك إِلىّ وَ مُطهِّرُك مِنَ الّذِينَ
كفَرُوا وَ جَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوك فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ
الْقِيَمَةِ ثُمّ إِلىّ مَرْجِعُكمْ فَأَحْكمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ
تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً
شدِيداً فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ مَا لَهُم مِّن نّصرِينَ (56) وَ أَمّا
الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ
اللّهُ لا يُحِب الظلِمِينَ (57) ذَلِك نَتْلُوهُ عَلَيْك مِنَ الاَيَتِ وَ
الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنّ مَثَلَ عِيسى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ
خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (59) الْحَقّ مِن رّبِّك
فَلا تَكُن مِّنَ الْمُمْترِينَ (60)
بيان
قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفيك و طهرك، الجملة معطوفة
على قوله: إذ قالت امرأة عمران، فتكون شرحا مثله لاصطفاء آل عمران المشتمل عليه
قوله تعالى: إن الله اصطفى، الآية.
و في الآية دليل على كون مريم محدثة تكلمها الملائكة و هي تسمع كلامهم كما يدل
عليه أيضا قوله في سورة مريم: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا إلى آخر
الآيات، و سيأتي الكلام في المحدث.
و قد تقدم في قوله تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن الآية: أن ذلك بيان لاستجابة
دعوة أم مريم: و إني سميتها مريم و إني أعيذها بك و ذريتها من الشيطان الرجيم،
الآية و أن قول الملائكة لمريم: إن الله اصطفيك و طهرك إخبار لها بما لها عند
الله سبحانه من الكرامة و المنزلة فارجع إلى هناك.
فاصطفاؤها تقبلها لعبادة الله، و تطهيرها اعتصامها بعصمة الله فهي مصطفاة
معصومة، و ربما قيل: إن المراد من تطهيرها جعلها بتولا لا تحيض فيتهيأ لها بذلك
أن لا تضطر إلى الخروج من الكنيسة، و لا بأس به غير أن الذي ذكرناه هو الأوفق
بسياق الآيات.
قوله تعالى: و اصطفاك على نساء العالمين قد تقدم في قوله تعالى: إن الله اصطفى
إلى قوله: على العالمين أن الاصطفاء المتعدي بعلى يفيد معنى التقدم، و أنه غير
الاصطفاء المطلق الذي يفيد معنى التسليم، و على هذا فاصطفاؤها على نساء
العالمين تقديم لها عليهن.
و هل هذا التقديم تقديم من جميع الجهات أو من بعضها؟ ظاهر قوله تعالى فيما بعد
الآية: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك الآية، و قوله تعالى: "و التي
أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية للعالمين": الأنبياء -
91 و قوله تعالى: "و مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و
صدقت بكلمات ربها و كتبه و كانت من القانتين": التحريم - 12، حيث لم تشتمل مما
تختص بها من بين النساء إلا على شأنها العجيب في ولادة المسيح (عليه السلام) أن
هذا هو وجه اصطفائها و تقديمها على النساء من العالمين.
و أما ما اشتملت عليه الآيات في قصتها من التطهير و التصديق بكلمات الله و
كتبه، و القنوت و كونها محدثة فهي أمور لا تختص بها بل يوجد في غيرها، و أما ما
قيل: إنها مصطفاة على نساء عالمي عصرها فإطلاق الآية يدفعه.
قوله تعالى: يا مريم اقنتي لربك و اسجدي و اركعي مع الراكعين، القنوت هو لزوم
الطاعة عن خضوع على ما قيل، و السجدة معروفة.
و الركوع هو الانحناء أو مطلق التذلل.
و لما كان النداء يوجب تلفيت نظر المنادى اسم مفعول و توجيه فهمه نحو المنادي
اسم فاعل كان تكرار النداء في المقام بمنزلة أن يقال لها: إن لك عندنا نبأ بعد
نبإ فاستمعي لهما و أصغي إليهما: أحدهما ما أكرمك الله به من منزلة و هو ما لك
عند الله، و الثاني ما يلزمك من وظيفة العبودية بالمحاذاة، و هو ما لله سبحانه
عندك، فيكون هذا إيفاء للعبودية و شكرا للمنزلة فيئول معنى الكلام إلى كون
قوله: يا مريم اقنتي "الخ" بمنزلة التفريع لقوله: يا مريم إن الله اصطفيك "الخ"
أي إذا كان كذلك فاقنتي و اسجدي و اركعي مع الراكعين، و لا يبعد أن يكون كل
واحدة من الخصال الثلاث المذكورة في هذه الآية فرعا لواحدة من الخصال الثلاث
المذكورة في الآية السابقة، و إن لم يخل عن خفاء فليتأمل.
قوله تعالى: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك، عده من أنباء الغيب نظير ما عدت
قصة يوسف (عليه السلام) من أنباء الغيب التي توحى إلى رسول الله، قال تعالى:
ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون":
يوسف - 102، و أما ما يوجد من ذلك عند أهل الكتاب فلا عبرة به لعدم سلامته من
تحريف المحرفين كما أن كثيرا من الخصوصيات المقتصة في قصص زكريا غير موجودة في
كتب العهدين على ما وصفه الله في القرآن.
و يؤيد هذا الوجه قوله تعالى في ذيل الآية: و ما كنت لديهم إذ يلقون "الخ".
على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قومه كانوا أميين غير عالمين بهذه
القصص و لا أنهم قرءوها في الكتب كما ذكره تعالى بعد سرد قصة نوح: "تلك من
أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا": هود - 49، و
الوجه الأول أوفق بسياق الآية.
قوله تعالى: و ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم "الخ"، القلم
بفتحتين القدح الذي يضرب به القرعة، و يسمى سهما أيضا، و جمعه أقلام، فقوله:
يلقون أقلامهم أي يضربون بسهامهم ليعينوا بالقرعة أيهم يكفل مريم.
و في هذه الجملة دلالة على أن الاختصام الذي يدل عليه قوله: و ما كنت لديهم إذ
يختصمون إنما هو اختصامهم و تشاحهم في كفالة مريم، و أنهم لم يتناهوا حتى
تراضوا بالاقتراع بينهم فضربوا بالقرعة فخرج السهم لزكريا فكفلها بدليل قوله: و
كفلها زكريا، الآية.
و ربما احتمل بعضهم أن هذا الاختصام و الاقتراع بعد كبرها و عجز زكريا عن
كفالتها، و كان منشؤه ذكر هذا الاقتراع و الاختصام بعد تمام قصة ولادتها و
اصطفائها و ذكر كفالة زكريا في أثنائها، فيكونان واقعتين اثنتين.
و فيه أنه لا ضير في إعادة بعض خصوصيات القصة أو ما هو بمنزلة الإعادة لتثبيت
الدعوى كما وقع نظيره في قصة يوسف حيث قال تعالى بعد تمام القصة -: "ذلك من
أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون": يوسف -
102 يشير بذلك إلى معنى قوله تعالى في أوائل القصة.
"إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إلى أن قال: لا تقتلوا
يوسف و ألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين": يوسف - 10.
قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك "الخ"، الظاهر أن هذه
البشارة هي التي يشتمل عليها قوله تعالى في موضع آخر: "فأرسلنا إليها روحنا
فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول
ربك لأهب لك غلاما زكيا الآيات": مريم - 19، فتكون البشارة المنسوبة إلى
الملائكة هاهنا هي المنسوبة إلى الروح فقط هناك.
و قد قيل في وجهه إن المراد بالملائكة هو جبرئيل، عبر بالجمع عن الواحد تعظيما
لأمره كما يقال: سافر فلان فركب الدواب و ركب السفن، و إنما ركب دابة واحدة و
سفينة واحدة، و يقال: قال له الناس كذا، و إنما قاله واحد و هكذا، و نظير الآية
قوله في قصة زكريا السابقة: فنادته الملائكة ثم قوله: قال كذلك الله يفعل ما
يشاء الآية.
و ربما قيل: إن جبرئيل كان معه غيره فاشتركوا في ندائها.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات التي تذكر شأن الملائكة أن بين الملائكة تقدما و
تأخرا من حيث مقام القرب، و أن للمتأخر التبعية المحضة لأوامر المتقدم بحيث
يكون فعل المتأخر رتبة، عين فعل المتقدم، و قوله عين قوله نظير ما نشاهده و
نذعن به من كون أفعال قوانا و أعضائنا عين أفعالنا من غير تعدد فيه تقول: رأته
عيناي و سمعته أذناي، و رأيته و سمعته، و يقال فعلته جوارحي و كتبته يدي و
رسمته أناملي و فعلته أنا و كتبته أنا، و كذلك فعل المتبوع من الملائكة فعل
التابعين له المؤتمرين لأمره بعينه، و قوله قولهم من غير اختلاف، و بالعكس كما
أن فعل الجميع فعل الله سبحانه و قولهم قوله، كما قال تعالى: "الله يتوفى
الأنفس حين موتها": الزمر - 42، فنسب التوفي إلى نفسه، و قال: "قل يتوفيكم ملك
الموت الذي وكل بكم": السجدة - 11، فنسبه إلى ملك الموت و قال: "حتى إذا جاء
أحدكم الموت توفته رسلنا": الأنعام - 61، فنسبه إلى جمع من الملائكة.
و نظيره قوله تعالى: "إنا أوحينا إليك": النساء - 163، و قوله: نزل به الروح
الأمين على قلبك": الشعراء - 194، و قوله: من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على
قلبك": البقرة - 97، و قوله: كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة
مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة": عبس - 16.
فظهر أن بشارة جبرئيل هي عين بشارة من هو تحت أمره من جماعة الملائكة و هو من
سادات الملائكة و مقربيهم على ما يدل عليه قوله تعالى: "إنه لقول رسول كريم ذي
قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين": التكوير - 21، و سيأتي زيادة توضيح لهذا
الكلام في سورة فاطر إن شاء الله تعالى.
و يؤيد ما ذكرناه قوله تعالى في الآية التالية: قال كذلك الله يخلق ما يشاء،
فإن ظاهره أن القائل هو الله سبحانه مع أنه نسب هذا القول في سورة مريم في
القصة إلى الروح، قال تعالى: "قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت
أنى يكون لي غلام و لم يمسسني بشر و لم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين
الآيات": مريم - 21.
و في تكلم الملائكة و الروح مع مريم دلالة على كونها محدثة بل قوله تعالى في
سورة مريم في القصة بعينها: "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا": مريم -
17، يدل على معاينتها الملك زيادة على سماعها صوته، و سيجيء تمام الكلام في
المعنى في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
قوله تعالى: بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم، قد مر البحث في معنى كلامه
تعالى في تفسير قوله: "تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض": البقرة - 253.
و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و فرد و تطلق الكلمة على اللفظ الواحد
الدال على المعنى، و على الجملة سواء صح السكوت عليها مثل زيد قائم أو لم يصح
مثل إن كان زيد قائما، هذا بحسب اللغة، و أما بحسب ما يصطلح عليه القرآن أعني
الكلمة المنسوبة إلى الله تعالى فهي الذي يظهر به ما أراده الله تعالى من أمر
نحو كلمة الإيجاد و هو قوله تعالى لشيء أراده: كن، أو كلمة الوحي و الإلهام و
نحو ذلك.
و أما المراد بالكلمة فقد قيل: إن المراد به المسيح (عليه السلام) من جهة أن من
أسبقه من الأنبياء أو خصوص أنبياء بني إسرائيل بشروا به بعنوان أنه منجي بني
إسرائيل، يقال في نظير المورد هذه كلمتي التي كنت أقولها، و نظيره قوله تعالى
في ظهور موسى (عليه السلام): "و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما
صبروا": الأعراف - 137، و فيه أن ذلك و إن كان ربما ساعده كتب العهدين لكن
القرآن الكريم خال عن ذلك بل القرآن يعد عيسى بن مريم مبشرا لا مبشرا به، على
أن سياق قوله: اسمه المسيح لا يناسبه فإن الكلمة على هذا ظهور عيسى المخبر به
قبلا لا نفس عيسى، و ظاهر قوله: اسمه المسيح، أن المسيح اسم الكلمة لا اسم من
تقدمت في حقه الكلمة.
و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) لإيضاحه مراده تعالى بالتوراة، و
بيانه تحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه من أمور الدين كما حكى الله تعالى عنه
ذلك فيما يخاطب به بني إسرائيل: "و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه": الزخرف -
63، و فيه أنه نكتة تصحح هذا التعبير لكنها خالية عما يساعدها من القرائن.
و ربما قيل: إن المراد بكلمة منه البشارة نفسها، و هي الإخبار بحملها بعيسى و
ولادته فمعنى قوله: يبشرك بكلمة منه: يبشرك ببشارة هي أنك ستلدين عيسى من غير
مس بشر، و فيه أن سياق الذيل أعني قوله: اسمه المسيح لا يلائمه و هو ظاهر.
و ربما قيل: إن المراد به عيسى (عليه السلام) من جهة كونه كلمة الإيجاد أعني
قوله: كن و إنما اختص عيسى (عليه السلام) بذلك مع كون كل إنسان بل كل شيء
موجودا بكلمة كن التكوينية لأن سائر الأفراد من الإنسان يجري ولادتهم على مجرى
الأسباب العادية المألوفة في العلوق من ورود ماء الرجل على نطفة الإناث، و عمل
العوامل المقارنة في ذلك، و لذلك يسند العلوق إليه كما يسند سائر المسببات إلى
أسبابها، و لما لم يجر علوق عيسى هذا المجرى و فقد بعض الأسباب العادية
التدريجية كان وجوده بمجرد كلمة التكوين من غير تخلل الأسباب العادية فكان نفس
الكلمة كما يؤيده قوله تعالى: "و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه": النساء -
171، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من
تراب ثم قال له كن فيكون" الآية، و هذا أحسن الوجوه.
و المسيح هو الممسوح سمي به عيسى (عليه السلام) لأنه كان مسيحا باليمن و البركة
أو لأنه مسح بالتطهير من الذنوب، أو مسح بدهن زيت بورك فيه و كانت الأنبياء
يمسحون به أو لأن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان، أو
لأنه كان يمسح رءوس اليتامى، أو لأنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، أو لأنه
كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلا برأ، فهذه وجوه ذكروها في تسميته بالمسيح.
لكن الذي يمكن أن يعول عليه أن هذا اللفظ كان واقعا في ضمن البشارة التي بشر
بها جبرائيل مريم (عليهما السلام) على ما يحكيه تعالى بقوله: إن الله يبشرك
بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم"، و هذا اللفظ بعينه معرب "مشيحا" الواقع
في كتب العهدين.
و الذي يستفاد منها أن بني إسرائيل كان من دأبهم أن الملك منهم إذا قام بأمر
الملك مسحته الكهنة بالدهن المقدس ليبارك له في ملكه فكان يسمى مشيحا فمعناه:
إما الملك و إما المبارك.
و قد يظهر من كتبهم أنه (عليه السلام) إنما سمي مشيحا من جهة كون بشارته متضمنا
لملكه، و أنه سيظهر في بني إسرائيل ملكا عليهم منجيا لهم كما يلوح ذلك من إنجيل
لوقا في بشارة مريم، قال: فلما دخل إليها الملك قال السلام لك يا ممتلية نعمة
الرب معك مباركة أنت في النساء، فلما رأته اضطربت من كلامه و فكرت ما هذا
السلام، فقال لها الملك لا تخافي يا مريم فقد ظفرت بنعمة من عند الله، و أنت
تحبلين و تلدين ابنا و تدعين اسمه يسوع، هذا يكون عظيما و ابن العلي يدعى و
يعطيه الرب له كرسي داود أبيه و يملك على بيت يعقوب إلى الأبد و لا يكون لملكه
انقضاء" لوقا 1 - 34.
و لذلك تتعلل اليهود عن قبول نبوته بأن البشارة لاشتمالها على ملكه لا تنطبق
على عيسى (عليه السلام) لأنه لم ينل الملك أيام دعوته و في حيوته، و لذلك أيضا
ربما وجهته النصارى و تبعه بعض المفسرين من المسلمين بأن المراد بملكه الملك
المعنوي دون الصوري.
أقول: و ليس من البعيد أن يقال: إن تسميته بالمسيح في البشارة بمعنى كونه
مباركا فإن التدهين عندهم إنما كان للتبريك، و يؤيده قوله تعالى: "قال إني عبد
الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما كنت": مريم - 31.
و عيسى أصله يشوع، فسروه بالمخلص و هو المنجي، و في بعض الأخبار تفسيره بيعيش و
هو أنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى على ما مر من المشابهة التامة بين هذين
النبيين.
و تقييد عيسى بابن مريم مع كون الخطاب في الآية لمريم للتنبيه على أنه مخلوق من
غير أب، و يكون معروفا بهذا النعت، و أن مريم شريكته في هذه الآية كما قال
تعالى: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين": الأنبياء - 91.
قوله تعالى: وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين، الوجاهة هي المقبولية، و
كونه (عليه السلام) مقبولا في الدنيا مما لا خفاء فيه، و كذا في الآخرة بنص
القرآن.
و معنى المقربين ظاهر فهو مقرب عند الله داخل في صف الأولياء و المقربين من
الملائكة من حيث التقريب كما ذكره تعالى بقوله: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا
لله و لا الملائكة المقربون": النساء - 172، و قد عرف تعالى معنى التقريب
بقوله: "إذا وقعت الواقعة - إلى أن قال - و كنتم أزواجا ثلثة - إلى أن قال: و
السابقون السابقون أولئك المقربون": الواقعة - 11، و الآية كما ترى تدل على أن
هذا التقرب و هو تقرب إلى الله سبحانه حقيقته سبق الإنسان سائر أفراد نوعه في
سلوك طريق العود إلى الله الذي سلوكه مكتوب على كل إنسان بل كل شيء، قال تعالى:
"يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": الانشقاق - 6، و قال تعالى:
ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى - 53.
و أنت إذا تأملت كون المقربين صفة الأفراد من الإنسان و صفة الأفراد من
الملائكة علمت أنه لا يلزم أن يكون مقاما اكتسابيا فإن الملائكة لا يحرزون ما
أحرزوه من المقام عند الله سبحانه بالكسب فلعله مقام تناله المقربون من
الملائكة بهبة إلهية و المقربون من الإنسان بالعمل.
و قوله وجيها في الدنيا و الآخرة، حال، و كذا ما عطف عليه من قوله: و من
المقربين، و يكلم اه، و من الصالحين، و يكلمه اه، رسولا اه.
قوله تعالى: و يكلم الناس في المهد و كهلا، المهد ما يهيأ للصبي من الفراش، و
الكهل من الكهولة و هو ما بين الشباب و الشيخوخة، و هو ما يكون الإنسان فيه
رجلا تاما قويا، و لذا قيل: الكهل من وخطه الشيب أي خالطه، و ربما قيل: إن
الكهل من بلغ أربعا و ثلاثين.
و كيف كان ففيه دلالة على أنه سيعيش حتى يبلغ سن الكهولة ففيه بشارة أخرى
لمريم.
و في التصريح بذلك مع دلالة الأناجيل على أنه لم يعش في الأرض أكثر من ثلاث و
ثلاثين سنة نظر ينبغي أن يمعن فيه و لذا ربما قيل: إن تكليمه للناس كهلا إنما
هو بعد نزوله من السماء فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة، و ربما
قيل: إن الذي يعطيه التاريخ بعد التثبت أن عيسى (عليه السلام) عاش نحوا من أربع
و ستين سنة خلافا لما يظهر من الأناجيل.
و الذي يظهر من سياق قوله: في المهد و كهلا، أنه لا يبلغ سن الشيخوخة، و إنما
ينتهي إلى سن الكهولة، و على هذا فقد أخذ في البيان كلامه في طرفي عمره: الصبا
و الكهولة.
و المعهود من وضع الصبي في المهد أن يوضع فيه أوائل عمره ما دام في القماط قبل
أن يدرج و يمشي و هو في السنة الثانية فما دونها غالبا، و هو سن الكلام فكلام
الصبي في المهد و إن لم يكن في نفسه من خوارق العادة لكن ظاهر الآية أنه يكلم
الناس في المهد كلاما تاما يعتني به العقلاء من الناس كما يعتنون بكلام الكهل،
و بعبارة أخرى يكلمهم في المهد كما يكلمهم كهلا، و الكلام من الصبي بهذه الصفة
آية خارقة.
على أن القصة في سورة مريم تبين أن تكليمه الناس إنما كان لأول ساعة أتت به
مريم إلى الناس بعد وضعه و كلام الصبي لأول يوم ولادته آية خارقة لا محالة، قال
تعالى: "فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون ما
كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما
كنت الآيات": مريم - 31.
قوله تعالى: قالت رب أنى يكون لي ولد و لم يمسسني بشر، خطابها لربها مع كون
المكلم إياها الروح المتمثل بناء على ما تقدم أن خطاب الملائكة و خطاب الروح و
كلامهم كلام الله سبحانه فقد كانت تعلم أن الذي يكلمها هو الله سبحانه و إن كان
الخطاب متوجها إليها من جهة الروح المتمثل أو الملائكة و لذلك خاطبت ربها و
يمكن أن يكون الكلام من قبيل قوله تعالى: "قال رب ارجعون": المؤمنون - 99، فهو
من الاستغاثة المعترضة في الكلام.
قوله سبحانه: قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون
قد مرت الإشارة إلى أن تطبيق هذا الجواب بما في سورة مريم من قوله: "قال كذلك
قال ربك هو علي هين و لنجعله آية للناس و رحمة منا و كان أمرا مقضيا": مريم -
21، يفيد أن يكون قوله هاهنا: كذلك كلاما تاما تقديره: الأمر كذلك و معناه أن
الذي بشرت به أمر مقضي لا مرد له.
و أما التعجب من هذا الأمر فإنما يصح لو كان هذا الأمر مما لا يقدر عليه الله
سبحانه أو يشق أما القدرة فإن قدرته غير محدودة يفعل ما يشاء و أما صعوبته و
مشقته فإن العسر و الصعوبة إنما يتصور إذا كان الأمر مما يتوسل إليه بالأسباب
فكلما كثرت المقدمات و الأسباب و عزت و بعد منالها اشتد الأمر صعوبة، و الله
سبحانه لا يخلق ما يخلق بالأسباب بل إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.
فقد ظهر أن قوله كذلك كلام تام أريد به رفع اضطراب مريم و تردد نفسها، و قوله:
الله يخلق ما يشاء، رفع العجز الذي يوهمه التعجب، و قوله: إذا قضى، رفع لتوهم
العسر و الصعوبة.
قوله تعالى: و يعلمه الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل اللام في الكتاب و
الحكمة للجنس.
و قد مر أن الكتاب هو الوحي الرافع لاختلافات الناس، و الحكمة هي المعرفة
النافعة المتعلقة بالاعتقاد أو العمل، و على هذا فعطف التوراة و الإنجيل على
الكتاب و الحكمة مع كونهما كتابين مشتملين على الحكمة من قبيل ذكر الفرد بعد
الجنس لأهمية في اختصاصه بالذكر، و ليست لام الكتاب للاستغراق لقوله تعالى: "و
لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه
فاتقوا الله و أطيعون": الزخرف - 63، و قد مر بيانه.
و أما التوراة فالذي يريده القرآن منها هو الذي نزله الله على موسى (عليه
السلام) في الميقات في ألواح على ما يقصه الله سبحانه في سورة الأعراف، و أما
الذي عند اليهود من الأسفار فهم معترفون بانقطاع اتصال السند ما بين بخت نصر من
ملوك بابل و كورش من ملوك الفرس، غير أن القرآن يصدق أن التوراة الموجود
بأيديهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير مخالفة للتوراة الأصل
بالكلية و إن لعبت بها يد التحريف، و دلالة آيات القرآن على ذلك واضحة.
و أما الإنجيل و معناه البشارة فالقرآن يدل على أنه كان كتابا واحدا نازلا على
عيسى فهو الوحي المختص به، قال تعالى "و أنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى
للناس": آل عمران - 4، و أما هذه الأناجيل المنسوبة إلى متى و مرقس و لوقا و
يوحنا فهي كتب مؤلفة بعده (عليه السلام).
و يدل أيضا على أن الأحكام إنما هي في التوراة، و أن الإنجيل لا تشتمل إلا على
بعض النواسخ كقوله في هذه الآيات: مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض
الذي حرم عليكم الآية، و قوله: "و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور و مصدقا لما
بين يديه من التوراة و هدى و موعظة للمتقين و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله
فيه": المائدة - 47، و لا يبعد أن يستفاد من الآية أن فيه بعض الأحكام
الإثباتية.
و يدل أيضا على أن الإنجيل مشتمل على البشارة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كالتوراة قال، تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة و الإنجيل": الأعراف - 157.
قوله تعالى: و رسولا إلى بني إسرائيل، ظاهره أنه (عليه السلام) كان مبعوثا إلى
بني إسرائيل خاصة كما هو اللائح من الآيات في حق موسى (عليه السلام)، و قد مر
في الكلام على النبوة في ذيل قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله
النبيين" الآية: البقرة - 213، أن عيسى (عليه السلام) كموسى من أولي العزم و هم
مبعوثون إلى أهل الدنيا كافة.
لكن العقدة تنحل بما ذكرناه هناك في الفرق بين الرسول و النبي أن النبوة هي
منصب البعث و التبليغ، و الرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم و القضاء
بالحق بين الناس، إما بالبقاء و النعمة، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى: "و
لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط": يونس - 47.
و بعبارة أخرى النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس، و الرسول هو
المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع رده الهلاك و قبوله البقاء و السعادة كما يؤيده
بل يدل عليه ما حكاه الله سبحانه من مخاطبات الرسل لأممهم كنوح و هود و صالح و
شعيب و غيرهم (عليهم السلام).
و إذا كان كذلك لم يستلزم الرسالة إلى قوم خاص البعثة إليهم، و كان من الممكن
أن يكون الرسول إلى قوم خاص نبيا مبعوثا إليهم و إلى غيرهم كموسى و عيسى
(عليهما السلام).
و على ذلك شواهد من القرآن الكريم كرسالة موسى إلى فرعون، قال تعالى: "اذهب إلى
فرعون إنه طغى": طه - 24، و إيمان السحرة لموسى و ظهور قبول إيمانهم و لم
يكونوا من بني إسرائيل، قال تعالى: "قالوا آمنا برب هارون و موسى": طه - 70، و
دعوة قوم فرعون، قال تعالى: "و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم":
الدخان - 17، و نظير ذلك ما كان من أمر إيمان الناس بعيسى فلقد آمن به (عليه
السلام) قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الروم و أمم عظيمة من
الغربيين كالإفرنج و النمسا و البروس و إنجلترا و أمم من الشرقيين كنجران و هم
جميعهم ليسوا من بني إسرائيل، و القرآن لم يخص - فيما يذكر فيه النصارى - نصارى
بني إسرائيل خاصة بالذكر بل يعمم مدحه أو ذمه الجميع.
قوله تعالى: أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين - إلى قوله -: و
أحيي الموتى بإذن الله، الخلق جمع أجزاء الشيء، و فيه نسبة الخلق إلى غيره
تعالى كما يشعر به أيضا قوله تعالى: "فتبارك الله أحسن الخالقين": المؤمنون -
14.
و الأكمه هو الذي يولد مطموس العين، و قد يقال لمن تذهب عينه قال: كمهت عيناه
حتى ابيضتا، قاله الراغب، و الأبرص من كان به برص و هو مرض جلدي معروف.
و في قوله: و أحيي الموتى حيث علق الإحياء بالموتى و هو جمع دلالة و لا أقل من
الإشعار بالكثرة و التعدد.
و كذا قوله: بإذن الله، سيق للدلالة على أن صدور هذه الآيات المعجزة منه (عليه
السلام) مستند إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى (عليه السلام) بشيء من ذلك،
و إنما كرر تكرارا يشعر بالإصرار لما كان من المترقب أن يضل فيه الناس فيعتقدوا
بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه (عليه السلام)، و لذا كان يقيد
كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به كالخلق و إحياء الموتى بإذن الله
ثم ختم الكلام بقوله: إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.
و ظاهر قوله: أني أخلق لكم "الخ" أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا
أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج و التحدي، و لو كان مجرد قول لقطع العذر و إتمام
الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو
نحو ذلك.
على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على وقوع هذه
الآيات أتم الدلالة، قال: "إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك و على
والدتك - إلى أن قال -: و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون
طيرا بإذني و تبرىء الأكمه و الأبرص بإذني و إذ تخرج الموتى" الآية: المائدة -
110.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية أن الله سبحانه
جعل في عيسى بن مريم هذا السر، و أنه احتج على الناس بذلك، و أتم الحجة عليهم
بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها وقع فلا دلالة فيها
على ذلك.
قوله تعالى: و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم، و هذا إخبار بالغيب
المختص بالله تعالى، و من خصه من رسله بالوحي، و هو آية أخرى و إخبار بغيب صريح
التحقق لا يتطرق إليه الشك و الريب فإن الإنسان لا يشك عادة فيما أكله و لا
فيما ادخره في بيته.
و إنما لم يقيد هذه الآية بإذن الله مع أن الآية لا تتحقق إلا بإذن منه تعالى
كما قال: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله": المؤمن - 78، لأن هذه
الآية عبر عنها بالإنباء و هو كلام قائم بعيسى (عليه السلام) يعد فعلا له فلا
يليق أن يسند إلى ساحة القدس بخلاف الآيتين السابقتين أعني الخلق و الإحياء
فإنها فعل الله بالحقيقة و لا ينسبان إلى غيره إلا بإذنه.
على أن الآيتين المذكورتين ليستا كالإنباء فإن الضلال إلى الناس فيهما أسرع منه
في الإنباء فإن القلوب الساذجة تقبل ألوهية خالق الطير و محيي الموتى بأدنى
وسوسة و مغلطة بخلاف ألوهية من يخبر بالمغيبات فإنها لا تذعن باختصاص الغيب
بالله سبحانه بل تعتقده أمرا مبتذلا جائز النيل لكل مرتاض أو كاهن مشعبذ فكان
من الواجب عند مخاطبتهم أن يقيد الآيتين المذكورتين بالإذن دون الأخيرة، و كذا
الإبراء فيكفي فيها مجرد ذكر أنها آية من الله، و خاصة إذا ألقي الخطاب إلى قوم
يدعون أنهم مؤمنون، و لذلك ذيل الكلام بقوله: إن في ذلك لآية لكم إن كنتم
مؤمنين أي إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان.
قوله تعالى: و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم،
عطف على قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، و كون المعطوف مبنيا على التكلم مع كون
المعطوف عليه مبنيا على الغيبة أعني كون عيسى (عليه السلام) في قوله: و مصدقا
لما بين يدي، متكلما و في قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، غائبا ليس مما يضر
بالعطف بعد تفسير قوله: و رسولا إلى بني إسرائيل، بقول عيسى: أني قد جئتكم، فإن
وجه الكلام يتبدل بذلك من الغيبة إلى الحضور فيستقيم به العطف.
و تصديقه للتوراة التي بين يديه إنما هو تصديق لما علمه الله من التوراة على ما
تفيده الآية السابقة، و هو التوراة الأصل النازلة على موسى (عليه السلام) فلا
دلالة لكونه مصدقا للتوراة التي في زمانه على كونها غير محرفة كما لا دلالة
لتصديق نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للتوراة التي بين يديه على كونها
غير محرفة.
قوله تعالى: و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، فإن الله تعالى كان حرم عليهم بعض
الطيبات، قال تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية:
النساء - 160.
و الكلام لا يخلو عن دلالة على إمضائه (عليه السلام) لأحكام التوراة إلا ما
نسخه الله تعالى بيده من الأحكام الشاقة المكتوبة على اليهود، و لذا قيل: إن
الإنجيل غير مشتمل على الشريعة، و قوله: و لأحل، معطوف على قوله: بآية من ربكم،
و اللام للغاية، و المعنى: قد جئتكم لأنسخ بعض الأحكام المحرمة المكتوبة عليكم.
قوله تعالى: و جئتكم بآية من ربكم، الظاهر أنه لبيان أن قوله: فاتقوا الله و
أطيعون، متفرع على إتيان الآية لا على إحلال المحرمات فهو لدفع الوهم، و يمكن
أن يكون هو مراد من قال: إن إعادة الجملة للتفرقة بين ما قبلها و ما بعدها فإن
مجرد التفرقة ليست من المزايا في الكلام.
قوله تعالى: إن الله ربي و ربكم فاعبدوه، فيه قطع لعذر من اعتقد ألوهيته لتفرسه
(عليه السلام) ذلك منهم أو لعلمه بذلك بالوحي كما ذكرنا نظير ذلك في تقييد
قوله: فيكون طيرا، و قوله و أحيي الموتى، بقوله: بإذن الله لكن الظاهر من قوله
تعالى فيما يحكي قول عيسى (عليه السلام): "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن
اعبدوا الله ربي و ربكم": المائدة - 117، إن ذلك كان بأمر من ربه و وحي منه.
قوله تعالى: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله، لما كانت
البشارة التي بشر بها مريم مشتملة على جمل قصص عيسى (عليه السلام) من حين حمله
إلى حين رسالته و دعوته اقتصر عليها اقتصاصا إيجازا في الكلام و فرع عليها تتمة
الجملة من قصته و هو انتخابه حوارييه و مكر قومه به و مكر الله بهم في تطهيره
منهم و توفيه و رفعه إليه، و هو تمام القصة.
و قد اعتبر في القصة المقدار الذي يهم إلقاؤه إلى النصارى حين نزول الآيات، و
هم نصارى نجران: الوفد الذين أتوا المدينة للبحث و الاحتجاج، و لذلك أسقط منها
بعض الخصوصيات التي تشتمل عليه قصصه المذكورة في سائر السور القرآنية كسورة
النساء و المائدة و الأنبياء و الزخرف و الصف.
و في استعمال لفظ الإحساس في مورد الكفر مع كونه أمرا قلبيا إشعار بظهوره منهم
حتى تعلق به الإحساس أو أنهم هموا بإيذائه و قتله بسبب كفرهم فأحس به فقوله:
فلما أحس عيسى أي استشعر و استظهر منهم أي من بني إسرائيل المذكور اسمهم في
البشارة الكفر قال من أنصاري إلى الله؟ و إنما أراد بهذا الاستفهام أن يتميز
عدة من رجال قومه فيتمحضوا للحق فتستقر فيهم عدة الدين، و تتمركز فيهم قوته ثم
تنتشر من عندهم دعوته، و هذا شأن كل قوة من القوى الطبيعية و الاجتماعية و
غيرها، أنها إذا شرعت في الفعل و نشر التأثير و بث العمل كان من اللازم أن تتخذ
لنفسها كانونا تجتمع فيه و تعتمد عليه و تستمد منه و لو لا ذلك لم تستقر على
عمل، و ذهبت سدى لا تجدي نفعا.
و نظير ذلك في دعوة الإسلام بيعة العقبة و بيعة الشجرة أراد بها رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) ركوز القدرة و تجمع القوة ليستقيم به أمر الدعوة.
فلما أيقن عيسى (عليه السلام) أن دعوته غير ناجحة في بني إسرائيل كلهم أو جلهم،
و أنهم كافرون به لا محالة، و أنهم لو أخمدوا أنفاسه بطلت الدعوة و اشتدت
المحنة مهد لبقاء دعوته هذا التمهيد فاستنصر منهم للسلوك إلى الله سبحانه
فأجابه الحواريون على ذلك فتميزوا من سائر القوم بالإيمان فكان ذلك أساسا لتميز
الإيمان من الكفر و ظهوره عليه بنشر الدعوة و إقامة الحجة كما قال تعالى: "يا
أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري
إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل و كفرت
طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين": الصف - 14.
و قد قيد الأنصار في قوله: من أنصاري بقوله: إلى الله ليتم به معنى التشويق و
التحريص الذي سيق لأجله هذا الاستفهام نظير قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله
قرضا حسنا": البقرة - 245.
و الظرف متعلق بقوله: أنصاري، بتضمين النصرة معنى السلوك و الذهاب أو ما
يشابههما كما حكى عن إبراهيم (عليه السلام) من قوله: "إني ذاهب إلى ربي
سيهدين": الصافات - 99.
و أما ما احتمله بعض المفسرين من كون إلى بمعنى مع فلا دليل عليه و لا يساعد
أدب القرآن أن يجعله تعالى في عداد غيره فيعد غير الله ناصرا كما يعده ناصرا، و
لا يساعد عليه أدب عيسى (عليه السلام) اللائح مما يحكيه القرآن من قوله، على أن
قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله، أيضا لا يساعد عليه إذ كان من
اللازم على ذلك أن يقولوا: نحن أنصارك مع الله فليتأمل.
قوله تعالى: قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون،
حواري الإنسان من اختص به من الناس، و قيل أصله من الحور و هو شدة البياض، و لم
يستعمل القرآن هذا اللفظ إلا في خواص عيسى (عليه السلام) من أصحابه.
و قولهم: آمنا بالله، بمنزل التفسير لقولهم: نحن أنصار الله و هذا مما يؤيد كون
قوله: أنصاري إلى الله جاريا مجرى التضمين كما مر فإنه يفيد معنى السلوك في
الطريق إلى الله، و الإيمان طريق.
و هل هذا أول إيمانهم بعيسى (عليه السلام)؟ ربما استفيد من قوله تعالى: "كما
قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله
فآمنت طائفة": الصف - 14، أنه إيمان، بعد إيمان و لا ضير فيه كما يظهر بالرجوع
إلى ما أوضحناه من كون الإيمان و الإسلام ذوي مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.
بل ربما دل قوله تعالى: "و إذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي و برسولي قالوا
آمنا و اشهد بأننا مسلمون": المائدة - 111، أن إجابتهم إنما كانت بوحي من الله
تعالى إليهم، و أنهم كانوا أنبياء فيكون الإيمان الذي أجابوه به هو الإيمان بعد
الإيمان.
على أن قولهم: و اشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول، و هذا
الإسلام هو التسليم المطلق لجميع ما يريده الله تعالى منهم و فيهم - يدل أيضا
على ذلك فإن هذا الإسلام لا يتأتى إلا من خلص المؤمنين لا من كل من شهد
بالتوحيد و النبوة مجرد شهادة، بيان ذلك أنه قد مر في البحث عن مراتب الإيمان و
الإسلام: أن كل مرتبة من الإيمان تسبقها مرتبة من مراتب الإسلام كما يدل عليه
قولهم: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون، حيث أتوا في الإيمان بالفعل و في
الإسلام بالصفة فأول مراتب الإسلام هو التسليم و الشهادة على أصل الدين إجمالا،
و يتلوه الإذعان القلبي بهذه الشهادة الصورية في الجملة، و يتلوه و هو المرتبة
الثانية من الإسلام التسليم القلبي لمعنى الإيمان و ينقطع عنده السخط و
الاعتراض الباطني بالنسبة إلى جميع ما يأمر به الله و رسوله و هو الاتباع
العملي في الدين، و يتلوه و هو المرتبة الثانية من الإيمان خلوص العمل و
استقرار وصف العبودية في جميع الأعمال و الأفعال، و يتلوه و هو المرتبة الثالثة
من الإسلام التسليم لمحبة الله و إرادته تعالى فلا يحب و لا يريد شيئا إلا
بالله، و لا يقع هناك إلا ما أحبه الله و أراده و لا خبر عن محبة العبد و
إرادته في نفسه، و يتلوه و هو المرتبة الثالثة من الإيمان شيوع هذا التسليم
العبودي في جميع الأعمال.
فإذا تذكرت هذا الذي ذكرناه، و تأملت في قوله (عليه السلام) فيما نقل من دعوته:
فاتقوا الله و أطيعون إن الله ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم الآية، وجدت
أنه (عليه السلام) أمر أولا بتقوى الله و إطاعة نفسه ثم علل ذلك بقوله: إن الله
ربي و ربكم، أي إن الله ربكم معشر الأمة و رب رسوله الذي أرسله إليكم، فيجب
عليكم أن تتقوه بالإيمان، و أن تطيعوني بالاتباع، و بالجملة يجب عليكم أن
تعبدوه بالتقوى و طاعة الرسول أي الإيمان و الاتباع، فهذا هو المستفاد من هذا
الكلام، و لذا بدل التقوى و الإطاعة في التعليل من قوله: فاعبدوه و إنما فعل
ذلك ليتضح ارتباط الأمر بالله لظهور الارتباط به في العبودية ثم ذكر أن هذه
العبادة صراط مستقيم فجعله سبيلا ينتهي بسالكه إلى الله سبحانه.
ثم لما أحس منهم الكفر و لاحت أسباب اليأس من إيمان عامتهم قال من أنصاري إلى
الله فطلب أنصارا لسلوك هذا الصراط المستقيم الذي كان يندب إليه، و هو العبودية
أعني التقوى و الإطاعة فأجابه الحواريون بعين ما طلبه فقالوا: نحن أنصار الله،
ثم ذكروا ما هو كالتفسير له فقالوا: آمنا بالله و اشهد بأنا مسلمون، و مرادهم
بالإسلام إطاعته و تبعيته، و لذا لما خاطبوا ربهم خطاب تذلل و التجاء، و ذكروا
له ما وعدوا به عيسى (عليه السلام) قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا
الرسول، فبدلوا الإسلام من الاتباع، و وسعوا في الإيمان بتقييده بجميع ما أنزل
الله.
فأفاد ذلك أنهم آمنوا بجميع ما أنزل الله مما علمه عيسى بن مريم من الكتاب و
الحكمة و التوراة و الإنجيل، و اتبعوا الرسول في ذلك، و هذا كما ترى ليس أول
درجة من الإيمان بل من أعلى درجاته و أسماها.
و إنما استشهدوا عيسى (عليه السلام) في إسلامهم و اتباعهم و لم يقولوا: آمنا
بالله و إنا مسلمون أو ما يفيد معناه ليكونوا على حجة في عرضهم حالهم على ربهم
إذ قالوا: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول، فكأنهم قالوا: ربنا حالنا هذا
الحال، و يشهد بذلك رسولك.
قوله تعالى: ربنا آمنا بما أنزلت و اتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين، مقول
قول الحواريين حذف القول من اللفظ للدلالة على حكاية نفس الواقعة و هو من
الأساليب اللطيفة في القرآن الكريم، و قد مر بيانه، و قد سألوا ربهم أن يكتبهم
من الشاهدين، و فرعوا ذلك على إيمانهم و إسلامهم جميعا لأن تبليغ الرسول رسالته
إنما يتحقق ببيانه ما أنزله الله عليه قولا و فعلا، أي بتعليمه معالم الدين و
عمله بها، فالشهادة على التبليغ إنما يكون بتعلمها من الرسول و اتباعه عملا حتى
يشاهد أنه عامل بما يدعو إليه لا يتخطاه و لا يتعداه.
و الظاهر أن هذه الشهادة هي التي يومىء إليها قوله تعالى: "فلنسألن الذين أرسل
إليهم و لنسألن المرسلين": الأعراف - 6، و هي الشهادة على التبليغ، و أما قوله
تعالى: "و إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من
الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين": المائدة - 83، فهو شهادة على حقية
رسالة الرسول دون التبليغ، و الله أعلم.
و ربما أمكن أن يستفاد من قولهم: فاكتبنا مع الشاهدين بعد استشهادهم الرسول على
إسلامهم أن المسئول: أن يكتبهم الله من شهداء الأعمال كما يلوح ذلك مما حكاه
الله تعالى في دعاء إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام): "ربنا و اجعلنا مسلمين
لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك و أرنا مناسكنا": البقرة - 128، و ليرجع إلى ما
ذكرناه في ذيل الآية.
قوله تعالى: و مكروا و مكر الله و الله خير الماكرين، الماكرون هم بنو إسرائيل،
بقرينة قوله: فلما أحس عيسى منهم الكفر، و قد مر الكلام في معنى المكر المنسوب
إليه تعالى في ذيل قوله: "و ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة - 26.
قوله تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك، التوفي أخذ الشيء أخذا تاما، و
لذا يستعمل في الموت لأن الله يأخذ عند الموت نفس الإنسان من بدنه قال تعالى:
"توفته رسلنا": الأنعام - 61، أي أماتته، و قال تعالى: "و قالوا أ إذا ضللنا في
الأرض أ إنا لفي خلق جديد - إلى أن قال -: قل يتوفيكم ملك الموت الذي وكل بكم":
السجدة - 11، و قال تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في
منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى": الزمر - 42، و التأمل في
الآيتين الأخيرتين يعطي أن التوفي لم يستعمل في القرآن بمعنى الموت بل بعناية
الأخذ و الحفظ، و بعبارة أخرى إنما استعمل التوفي بما في حين الموت من الأخذ
للدلالة على أن نفس الإنسان لا يبطل و لا يفنى بالموت الذي يظن الجاهل أنه فناء
و بطلان بل الله تعالى يحفظها حتى يبعثها للرجوع إليه، و إلا فهو سبحانه يعبر
في الموارد التي لا تجري فيه هذه العناية بلفظ الموت دون التوفي كما في قوله
تعالى: "و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم": آل عمران - 144، و قوله تعالى: "لا يقضى عليهم فيموتوا": الفاطر -
36، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدا حتى ما ورد في عيسى (عليه السلام) بنفسه
كقوله: "و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا": مريم - 33، و قوله:
"و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا":
النساء - 159، فمن هذه الجهة لا صراحة للتوفي في الموت.
على أن قوله تعالى في رد دعوى اليهود: "و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم و إن الذين اختلفوا فيه لفي شك
منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن و ما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه و كان
الله عزيزا حكيما و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة
يكون عليهم شهيدا": النساء - 159، يؤيد ذلك فإن اليهود كانت تدعي أنهم قتلوا
المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) و كذلك كانت تظن النصارى أن اليهود قتلت
عيسى بن مريم (عليهما السلام) بالصلب غير أنهم كانوا يزعمون أن الله سبحانه
رفعه بعد قتله من قبره إلى السماء على ما في الأناجيل، و الآيات كما ترى تكذب
قصة القتل و الصلب صريحا.
و الذي يعطيه ظاهر قوله: و إن من أهل الكتاب الآية أنه حي عند الله و لن يموت
حتى يؤمن به أهل الكتاب، على هذا فيكون توفيه (عليه السلام) أخذه من بين اليهود
لكن الآية مع ذلك غير صريحة فيه و إنما هو الظهور، و سيجيء تمام الكلام في ذلك
في آخر سورة النساء.
قوله تعالى: و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا، الرفع خلاف الوضع، و الطهارة
خلاف القذارة، و قد مر الكلام في معنى الطهارة.
و حيث قيد الرفع بقوله: إلى، أفاد ذلك أن المراد بالرفع الرفع المعنوي دون
الرفع الصوري إذ لا مكان له تعالى من سنخ الأمكنة الجسمانية التي تتعاورها
الأجسام و الجسمانيات بالحلول فيها، و القرب و البعد منها، فهو من قبيل قوله
تعالى في ذيل الآية: ثم إلي مرجعكم، و خاصة لو كان المراد بالتوفي هو القبض
لظهور أن المراد حينئذ هو رفع الدرجة و القرب من الله سبحانه، نظير ما ذكره
تعالى في حق المقتولين في سبيله: "أحياء عند ربهم": آل عمران - 169، و ما ذكره
في حق إدريس (عليه السلام): "و رفعناه مكانا عليا": مريم - 57.
و ربما يقال: إن المراد برفعه إليه رفعه بروحه و جسده حيا إلى السماء على ما
يشعر به ظاهر القرآن الشريف أن السماء أي الجسمانية هي مقام القرب من الله
سبحانه، و محل نزول البركات، و مسكن الملائكة المكرمين، و لعلنا نوفق للبحث عن
معنى السماء فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و التطهير من الكافرين حيث أتبع به الرفع إلى الله سبحانه أفاد معنى التطهير
المعنوي دون الظاهري الصوري فهو إبعاده من الكفار و صونه عن مخالطتهم و الوقوع
في مجتمعهم المتقذر بقذارة الكفر و الجحود.
قوله تعالى: و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وعد منه
تعالى له (عليه السلام) أنه سيفوق متبعي عيسى (عليه السلام) على مخالفيه
الكافرين بنبوته، و أن تفوقهم هذا سيدوم إلى يوم القيامة و إنما ذكر تعالى في
تعريف هؤلاء الفائقين على غيرهم أن الفائقين هم الذين اتبعوه و أن غيرهم هم
الذين كفروا من غير أن يقول هم بنو إسرائيل أو اليهود المنتحلون بشريعة موسى
(عليه السلام) أو غير ذلك.
غير أنه تعالى لما أخذ الكفر في تعريف مخالفيه ظهر منه أن المراد باتباعه هو
الاتباع على الحق أعني الاتباع المرضي لله سبحانه فيكون الذين اتبعوه هم أتباعه
المستقيمون من النصارى قبل ظهور الإسلام و نسخه دين عيسى، و المسلمون بعد ظهور
الإسلام فإنهم هم أتباعه على الحق، و على هذا فالمراد بالتفوق هو التفوق بحسب
الحجة دون السلطنة و السيطرة، فمحصل معنى الجملة: أن متبعيك من النصارى و
المسلمين ستفوق حجتهم على حجة الكافرين بك من اليهود إلى يوم القيامة، هذا ما
ذكره و ارتضاه المفسرون في معنى الآية.
و الذي أراه أن الآية لا تساعد عليه لا بلفظها و لا بمعناها فإن ظاهر قوله إني
متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتبعوك، أنه إخبار عن
المستقبل و أنه سيتحقق فيما يستقبل حال التكلم توف و رفع و تطهير و جعل على أن
قوله: و جاعل الذين اتبعوك، وعد حسن و بشرى، و ما هذا شأنه لا يكون إلا في ما
سيأتي، و من المعلوم أن ليست حجة متبعي عيسى (عليه السلام) إلا حجة عيسى نفسه،
و هي التي ذكرها الله تعالى في ضمن آيات البشارة أعني بشارة مريم، و هذه الحجج
حجج فائقة حين حضور عيسى قبل الرفع، و بعد رفع عيسى بل كانت قبل رفعه (عليه
السلام) أقطع لعذر الكفار و منبت خصومتهم، و أوضح في رفع شبههم، فما معنى وعده
(عليه السلام) أنه ستفوق حجة متبعيه على حجة مخالفيه ثم ما معنى تقييد هذه
الغلبة و التفوق بقوله: إلى يوم القيامة، مع أن الحجة في غلبتها لا تقبل
التقييد بوقت و لا يوم على أن تفوق الحجة على الحجة باق على حاله يوم القيامة
على ما يخبر به القرآن في ضمن أخبار القيامة.
فإن قلت: لعل المراد من تفوق الحجة تفوقها من جهة المقبولية بأن يكون الناس
أسمع لحجة المتبعين و أطوع لها فيكونوا بذلك أكثر جمعا و أوثق ركنا و أشد قوة.
قلت: مرجع ذلك إما إلى تفوق متبعيه الحقيقيين من حيث السلطنة و القوة و الواقع
خلافه، و احتمال أن يكون إخبارا عن ظهور للمتبعين و تفوق منهم سيتحقق في آخر
الزمان لا يساعد عليه لفظ الآية، و إما إلى كثرة العدد بأن يراد أن متبعيه
(عليه السلام) سيفوقون الكافرين أي يكون أهل الحق بعد عيسى أكثر جمعا من أهل
الباطل، ففيه مضافا إلى أن الواقع لا يساعد عليه فلم يزل أهل الباطل يربو و
يزيد جمعهم على أهل الحق من زمن عيسى إلى يومنا هذا و قد بلغ الفصل عشرين قرنا
أن لفظ الآية لا يساعد عليه فإن الفوقية في الآية و خاصة من جهة كون المقام
مقام الإنباء عن نزول السخط الإلهي على اليهود و شمول الغضب عليهم إنما يناسب
القهر و الاستعلاء إما من حيث الحجة البالغة أو من حيث السلطة و القوة و أما من
حيث كثرة العدد فلا يناسب المقام كما هو ظاهر.
و الذي ينبغي أن يقال أن الذي أخذ في الآية معرفا للفرقتين هو قوله: الذين
اتبعوك، و قوله الذين كفروا، و الفعل إنما يدل على التحقق و الحدوث دون التلبس
الذي يدل عليه الوصف كالمتبعين و الكافرين، و مجرد صدور فعل من بعض أفراد أمة
مع رضاء الباقين به و سلوك اللاحقين مسلك السابقين و جريهم على طريقتهم كاف في
نسبة ذلك الفعل إليهم، كما أن القرآن يؤنب اليهود و يوبخهم على كثير من أفعال
سلفهم كقتل الأنبياء و إيذائهم و الاستكبار عن امتثال أوامر الله سبحانه و رسله
و تحريف آيات الكتاب، و غير ذلك.
و على هذا صح أن يراد بالذين كفروا اليهود، و بالذين اتبعوا النصارى لما صدر من
صدرهم و سلفهم من الإيمان بعيسى (عليه السلام) و اتباعه - و قد كان إيمانا
مرضيا و اتباعا حقا - و إن كان الله سبحانه لم يرتض اتباعهم له (عليه السلام)
بعد ظهور الإسلام، و لا اتباع أهل التثليث منهم قبل ظهور الدعوة الإسلامية.
فالمراد جعل النصارى - و هم الذين اتبع أسلافهم عيسى (عليه السلام) - فوق
اليهود و هم الذين كفروا بعيسى (عليه السلام) و مكروا به، و الغرض في المقام
بيان نزول السخط الإلهي على اليهود، و حلول المكر بهم، و تشديد العذاب على
أمتهم، و لا ينافي ما ذكرناه كون المراد بالاتباع هو الاتباع على الحق كما
استظهرناه في أول الكلام كما لا يخفى.
و يؤيد هذا المعنى تغيير الأسلوب في الآية الآتية أعني قوله: و أما الذين آمنوا
و عملوا الصالحات، إذ لو كان المراد بالذين اتبعوا هم أهل الحق و النجاة من
النصارى و المسلمين فقط كان الأنسب أن يقال: و أما الذين اتبعوك فيوفيهم أجورهم
من غير تغيير للسياق كما لا يخفى.
و هاهنا وجه آخر و هو أن يكون المراد بالذين اتبعوا هم النصارى و المسلمون
قاطبة و تكون الآية مخبرة عن كون اليهود تحت إذلال من يذعن لزوم اتباع عيسى إلى
يوم القيامة، و التقريب عين التقريب، و هذا أحسن الوجوه في توجيه الآية عند
التدبر.
قوله تعالى: ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون، و قد جمع سبحانه
في هذا الخطاب بين عيسى و بين الذين اتبعوه و الذين كفروا به و هذا مآل أمرهم
يوم القيامة، و بذلك يختتم أمر عيسى و خبره من حين البشارة به إلى آخر أمره و
نبإه.
قوله تعالى: فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا و الآخرة، ظاهره
أنه متفرع على قوله: فأحكم بينكم، تفرع التفصيل على الإجمال فيكون بيانا للحكم
الإلهي في يوم القيامة بالعذاب لليهود الذين كفروا و توفيه الأجر للمؤمنين.
لكن اشتمال التفريع على قوله: في الدنيا، يدل على كونه متفرعا على مجموع قوله:
و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا ثم إلي مرجعكم "الخ" فيدل على أن نتيجة
هذا الجعل و الرجوع تشديد العذاب عليهم في الدنيا بيد الذين فوقهم الله تعالى
عليهم، و في الآخرة بالنار، و ما لهم في ذلك من ناصرين.
و هذا أحد الشواهد على أن المراد بالتفويق في الآية السابقة هو التسليط
بالسيطرة و القوة دون التأييد بالحجة
|