قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و في المجمع،: في قوله تعالى: إن أولى الناس بإبراهيم الآية، قال أمير المؤمنين
(عليه السلام): إن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به ثم تلا هذه الآية
و قال: إن ولي محمد من أطاع الله و إن بعدت لحمته، و إن عدو محمد من عصى الله و
إن قربت لحمته.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): هم الأئمة و من اتبعهم.
و في تفسيري القمي، و العياشي، عن عمر بن أذينة عنه (عليه السلام) قال: أنتم و
الله من آل محمد، فقلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم و الله من أنفسهم ثلاثا،
ثم نظر إلي و نظرت إليه، فقال: يا عمر إن الله يقول في كتابه: إن أولى الناس
الآية،.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و قالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا الآية، عن
الباقر (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم المدينة
و هو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه الله عن بيت المقدس إلى بيت
الله الحرام وجدت اليهود من ذلك، و كان صرف القبلة صلاة الظهر، فقالوا صلى محمد
الغداة و استقبل قبلتنا فآمنوا بالذي أنزل على محمد وجه النهار و اكفروا آخره
يعنوه القبلة حين استقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد الحرام.
أقول: و الرواية كما ترى تجعل قوله وجه النهار، ظرفا لقوله: أنزل، دون قوله:
آمنوا، و قد تقدم الكلام فيه في البيان السابق.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس:
في قوله: و قالت طائفة الآية، قال: إن طائفة من اليهود قالت: إذا لقيتم أصحاب
محمد أول النهار فآمنوا، و إذا كان آخره فصلوا صلاتكم لعلهم يقولون: هؤلاء أهل
الكتاب و هم أعلم منا لعلهم ينقلبون عن دينهم.
أقول: و رواه فيه أيضا عن السدي و مجاهد.
و في الكافي،: في قوله تعالى: إن الذين يشترون بعهد الله الآية عن الباقر (عليه
السلام) قال: أنزل في العهد: إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا -
أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم الله - و لا ينظر إليهم يوم القيامة و
لهم عذاب أليم، و الخلاق النصيب فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل
الجنة.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عدي بن عدي عن أبيه قال: اختصم امرؤ القيس و رجل
من حضرموت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أرض فقال: أ لك بينة؟
قال: لا، قال: فبيمينه، قال: إذن و الله يذهب بأرضي، قال: إن ذهب بأرضك بيمينه
كان ممن لا ينظر الله إليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم، قال: ففزع
الرجل و ردها إليه.
أقول: و الرواية كما ترى لا تدل على نزول الآية في مورد القصة، و قد روي من طرق
أهل السنة في عدة روايات أن الآية نزلت في هذا الشأن، و هي متعارضة من حيث مورد
القصة: ففي بعضها أن النزاع كان بين امرىء القيس و رجل من حضرموت كما مر في
الرواية السابقة، و في بعضها أنه كان بين الأشعث بن القيس و بين رجل من اليهود
في أرض له، و في بعضها أنها نزلت في رجل من الكفار و قد كان أقام سلعة له في
السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع بها رجلا من المسلمين فنزلت
الآية.
و قد عرفت في البيان السابق أن ظاهر الآية أنها واقعة موقع التعليل لمضمون
الآية السابقة عليها: فالوجه حمل الروايات إن أمكن على بيان انطباق الآية على
مورد القصة دون النزول بالمعنى المعهود منه.
3 سورة آل عمران - 79 - 80
مَا كانَ لِبَشرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَب وَ الْحُكْمَ وَ النّبُوّةَ
ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَاداً لى مِن دُونِ اللّهِ وَ لَكِن كُونُوا
رَبّنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَب وَ بِمَا كُنتُمْ تَدْرُسونَ
(79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَن تَتّخِذُوا المَْلَئكَةَ وَ النّبِيِّينَ
أَرْبَاباً أَ يَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مّسلِمُونَ (80)
بيان
وقوع الآيات عقيب الآيات المرتبطة بأمر عيسى (عليه السلام) يفيد أنها بمنزلة
الفصل الثاني من الاحتجاج على براءة ساحة المسيح مما يعتقده في حقه أهل الكتاب
من النصارى، و الكلام بمنزلة قولنا: إنه ليس كما تزعمون فلا هو رب و لا أنه
ادعى لنفسه الربوبية: أما الأول: فلأنه مخلوق بشري حملته أمه و وضعته و ربته في
المهد غير أنه لا أب له كآدم (عليه السلام) فمثله عند الله كمثل آدم، و أما
الثاني: فلأنه كان نبيا أوتي الكتاب و الحكم و النبوة و النبي الذي هذا شأنه لا
يعدو طور العبودية و لا يتعرى عن زي الرقية فكيف يتأتى أن يقول للناس اتخذوني
ربا و كونوا عبادا لي من دون الله، أو يجوز ذلك في حق غيره من عباد الله من ملك
أو نبي فيعطي لعبد من عباد الله ما ليس له بحق، أو ينفي عن نبي من الأنبياء ما
أثبت الله في حقه من الرسالة فيأخذ منه ما هو له من الحق.
قوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس
كونوا عبادا لي من دون الله، البشر مرادف للإنسان، و يطلق على الواحد و الكثير
فالإنسان الواحد بشر كما أن الجماعة منه بشر.
و قوله: ما كان لبشر، اللام للملك أي لا يملك ذلك أي ليس له بحق كقوله تعالى:
"ما يكون لنا أن نتكلم بهذا": النور - 16، و قوله: "و ما كان لنبي أن يغل": آل
عمران - 161.
و قوله تعالى: أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة، اسم كان إلا أنه توطئة
لما يتبعه من قوله: ثم يقول للناس، و ذكر هذه التوطئة مع صحة المعنى بدونها
ظاهرا يفيد وجها آخر لمعنى قوله ما كان لبشر، فإنه لو قيل ما كان لبشر أن يقول
للناس، كان معناه أنه لم يشرع له هذا الحق و إن أمكن أن يقول ذلك فسقا و عتوا،
و لكنه إذا قيل: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب و الحكم و النبوة، ثم يقول:
كان معناه أن إيتاء الله له العلم و الفقه مما عنده و تربيته له بتربية ربانية
لا يدعه أن يعدو طور العبودية، و لا يوسع له أن يتصرف فيما لا يملكه و لا يحق
له كما يحكيه تعالى عن عيسى (عليه السلام) في قوله: "و إذ قال الله يا عيسى بن
مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي
أن أقول ما ليس لي بحق": المائدة - 116.
و من هنا تظهر النكتة في قوله: أن يؤتيه الله "الخ" دون أن يقال: ما كان لبشر
آتاه الله الكتاب و الحكم و النبوة أن يقول "الخ" فإن العبارة الثانية تفيد
معنى أصل التشريع كما تقدم بخلاف قوله: أن يؤتيه الله "الخ" فإنه يفيد أن ذلك
غير ممكن البتة أي إن التربية الربانية و الهداية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها
كما قال تعالى: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة فإن يكفر بها
هؤلاء يعني قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد وكلنا بها قوما ليسوا
بها بكافرين": الأنعام - 89.
فمحصل المعنى أنه لا يسع لبشر أن يجمع بين هذه النعم الإلهية و بين دعوة الناس
إلى عبادة نفسه بأن يؤتى الكتاب و الحكم و النبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي
من دون الله، فالآية بحسب السياق بوجه كقوله تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون
عبدا لله و لا الملائكة المقربون - إلى أن قال -: و أما الذين استنكفوا و
استكبروا فيعذبهم عذابا أليما و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا":
النساء - 173، فإن المستفاد من الآية: أن المسيح و كذا الملائكة المقربون أجل
شأنا و أرفع قدرا أن يستنكفوا عن عبادة الله فإن الاستنكاف عن عبادته يستوجب
أليم العذاب، و حاشا أن يعذب الله كرام أنبيائه و مقربي ملائكته.
فإن قلت: الإتيان بثم الدالة على التراخي في قوله: ثم يقول للناس، ينافي الجمع
الذي ذكرته.
قلت: ما ذكرناه من معنى الجمع محصل المعنى، و كما يصح اعتبار الاجتماع و المعية
بين المتحدين زمانا كذلك يصح اعتباره بين المترتبين و المتتاليين فهو نوع من
الجمع.
و أما قوله: كونوا عبادا لي من دون الله، فالعباد كالعبيد جمع عبد، و الفرق
بينهما أن العباد يغلب استعماله فيما إذا نسب إلى الله سبحانه، يقال: عباد
الله، و لا يقال: غالبا عباد الناس، بل عبيد الناس و تقييد قوله: عبادا لي
بقوله: من دون الله تقييد قهري فإن الله سبحانه لا يقبل من العبادة إلا ما هو
خالص لوجهه الكريم كما قال تعالى: "ألا لله الدين الخالص و الذين اتخذوا من
دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم
فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار": الزمر - 3، فرد عبادة من يعبد
مع عبادته غيره حتى بعنوان التقرب و التوسل و الاستشفاع.
على أن حقيقة العبادة لا تتحقق إلا مع إعطاء استقلال ما للمعبود حتى في صورة
الإشراك فإن الشريك من حيث إنه شريك مساهم ذو استقلال ما، و الله سبحانه له
الربوبية المطلقة فلا يتم ربوبيته و لا تستقيم عبادته إلا مع نفي الاستقلال عن
كل شيء من كل جهة فعبادة غير الله عبادة له من دون الله و إن عبد الله معه.
قوله تعالى: و لكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب و بما كنتم تدرسون
الرباني منسوب إلى الرب، زيد عليه الألف و النون للدلالة على التفخيم كما يقال
لحياني لكثير اللحية و نحو ذلك، فمعنى الرباني شديد الاختصاص بالرب و كثير
الاشتغال بعبوديته و عبادته، و الباء في قوله: بما كنتم، للسببية و ما مصدرية،
و الكلام بتقدير القول و المعنى، و لكن يقول: كونوا ربانيين بسبب تعليمكم
الكتاب للناس و دراستكم إياه فيما بينكم.
و الدراسة أخص من التعليم فإنه يستعمل غالبا فيما يتعلم عن الكتاب بقراءته قال
الراغب: درس الدار بقي أثرها، و بقاء الأثر يقتضي انمحاءه في نفسه، فلذلك فسر
الدروس بالانمحاء، و كذا درس الكتاب، و درست العلم تناولت أثره بالحفظ، لما كان
تناول ذلك بمداومة القراءة عبر عن إدامة القراءة بالحفظ، قال تعالى: و درسوا ما
فيه، و قال: بما كنتم تعلمون الكتاب و بما كنتم تدرسون، و ما آتيناهم من كتب
يدرسونها انتهى.
و محصل الكلام أن البشر الذي هذا شأنه إنما يدعوكم إلى التلبس بالإيمان و
اليقين بما في الكتاب الذي تعلمونه و تدرسونه من أصول المعارف الإلهية، و
الاتصاف و التحقق بالملكات و الأخلاق الفاضلة التي يشتمل عليها، و العمل
بالصالحات التي تدعون الناس إليها حتى تنقطعوا بذلك إلى ربكم، و تكونوا به
علماء ربانيين.
و قوله: بما كنتم، حيث اشتمل على الماضي الدال على التحقق لا يخلو عن دلالة ما
على أن الكلام في الآية مسوق للتعريض بالنصارى من أهل الكتاب في قولهم: إن عيسى
أخبرهم بأنه ابنه و كلمته على الخلاف في تفسير البنوة، و ذلك أن بني إسرائيل هم
الذين كان في أيديهم كتاب سماوي يعلمونه و يدرسونه و قد اختلفوا فيه اختلافا
يصاحب التغيير و التحريف، و ما بعث عيسى (عليه السلام) إلا ليبين لهم بعض ما
اختلفوا فيه، و ليحل بعض الذي حرم عليهم، و بالجملة ليدعوهم إلى القيام بالواجب
من وظائف التعليم و التدريس و هو أن يكونوا ربانيين في تعليمهم و دراستهم كتاب
الله سبحانه.
و الآية و إن لم تأب الانطباق على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجه
فقد كانت لدعوته أيضا مساس بأهل الكتاب الذين كانوا يعلمون و يدرسون كتاب الله
لكن عيسى (عليه السلام) أسبق انطباقا عليه، و كانت رسالته خاصة ببني إسرائيل
بخلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما سائر الأنبياء العظام من أولي العزم و الكتاب: كنوح و إبراهيم و موسى
فمضمون الآية لا ينطبق عليهم و هو ظاهر.
قوله تعالى: و لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أربابا عطف على قوله
يقول: على القراءة المشهورة التي هي نصب يأمركم، و هذا كما كان طائفة من أهل
الكتاب كالصابئين يعبدون الملائكة و يسندون ذلك إلى الدعوة الدينية، و كعرب
الجاهلية حيث كانوا يقولون إن الملائكة بنات الله، و هم يدعون أنهم على دين
إبراهيم (عليه السلام) هذا في اتخاذ الملائكة أربابا.
و أما اتخاذ النبيين أربابا فكقول اليهود: عزير بن الله على ما حكاه القرآن و
لم يجوز لهم موسى (عليه السلام) ذلك، و لا وقع في التوراة إلا توحيد الرب و لو
جوز لهم ذلك لكان آمرا به حاشاه من ذلك.
و قد اختلفت الآيتان: أعني قوله: ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله و
قوله: و لا يأمركم أن تتخذوا الملائكة و النبيين أربابا من جهتين في سياقهما:
الأولى: أن المأمور في الأولى ثم يقول للناس الناس، و في الثانية هم المخاطبون
بالآية، و الثانية: أن المأمور به في الأولى العبودية له و في الثانية الاتخاذ
أربابا.
أما الأولى فحيث كان الكلام مسوقا للتعريض بالنصارى في عبادتهم لعيسى، و قولهم
بألوهيته صريحا مسندين ذلك إلى دعوته كان ذلك نسبة منهم إليه أنه قال: كونوا
عبادا لي بخلاف اتخاذ الملائكة و النبيين أربابا بالمعنى الذي قيل في غير عيسى
فإنه يضاد الألوهية بلازمه لا بصريحه فلذلك قيل: أربابا، و لم يقل: آلهة.
و أما الثانية فالوجه فيه أن التعبيرين كليهما كونوا عبادا لي - لا يأمركم أن
تتخذوا أمر لو تعلق بأحد تعلق بهؤلاء الذين يخاطبون بهذه الآيات من أهل الكتاب
و العرب لكن التعبير لما وقع في الآية الأولى بالقول، و القول يقضي بالمشافهة و
لم يكن الحاضرون في زمن نزول الآية حاضرين إذ ذاك لا جرم قيل: ثم يقول للناس، و
لم يقل: ثم يقول لكم، و هذا بخلاف لفظ الأمر المستعمل في الآية الثانية فإنه لا
يستلزم شفاها بل يتم مع الغيبة فإن الأمر المتعلق بالأسلاف متعلق بالأخلاف مع
حفظ الوحدة القومية، و أما القول فهو لإفادته بحسب الانصراف إسماع الصوت يقضي
بالمشافهة و الحضور إلا أن يعني به مجرد معنى التفهيم.
و على هذا فالأصل في سياق هذه الآيات الحضور و خطاب الجمع، كما جرى عليه قوله
تعالى و لا يأمركم إلى آخر الآية.
قوله تعالى: أ يأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون، ظاهر الخطاب أنه متعلق بجميع
المنتحلين بالنبوة من أهل الكتاب أو المدعين للانتساب إلى الأنبياء كما كانت
عرب الجاهلية تزعم أنهم حنفاء و الكلام موضوع على الفرض و التقدير فالمعنى أنكم
على تقدير إجابتكم هذا البشر الذي أوتي الكتاب و الحكم و النبوة تكونون مسلمين
لله متحلين بحلية الإسلام مصبوغين بصبغته فكيف يمكنه أن يأمركم بالكفر و يضلكم
عن السبيل الذي هداكم إليه بإذن الله سبحانه.
و من هنا يظهر أن المراد بالإسلام هو دين التوحيد الذي هو دين الله عند جميع
الأنبياء على ما يدل عليه أيضا احتفاف الآيات بهذا المعنى من الإسلام أعني قوله
تعالى من قبل: "إن الدين عند الله الإسلام": آل عمران - 19، و قوله تعالى من
بعد: "أ فغير دين الله يبغون" - إلى أن قال -: "و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين": آل عمران - 85.
و قد ذكر بعض المفسرين أن المراد بقوله تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله إلى
آخر الآيتين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بناء على ما روي في سبب
النزول و حاصله أن أبا رافع القرظي و رجلا من نصارى نجران قالا لرسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): أ تريد أن نعبدك يا محمد؟ فأنزل الله: ما كان لبشر أن
يؤتيه الله إلى آخر الآيتين الحديث ثم أيده بقوله في آخرهما بعد إذ أنتم مسلمون
فإن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه أنه خلط بين الإسلام في عرف القرآن و هو دين التوحيد الذي بعث به جميع
الأنبياء و بين الإسلام بالاصطلاح الحادث بين المسلمين بعد عصر النزول، و قد
تقدم الكلام فيه.
خاتمة فيها فصول
1 - ما هي قصة عيسى و أمه في القرآن؟
كانت أم المسيح مريم بنت عمران حملت بها أمها فنذرت أن تجعل ما في بطنها إذا
وضعته محررا يخدم المسجد و هي تزعم أن ما في بطنها ذكور فلما وضعتها و بان لها
أنها أنثى حزنت و تحسرت ثم سمتها مريم أي الخادمة و قد كان توفي أبوها عمران
قبل ولادتها فأتت بها المسجد تسلمها للكهنة و فيهم زكريا فتشاجروا في كفالتها
ثم اصطلحوا على القرعة و ساهموا فخرج لزكريا فكفلها حتى إذا أدركت ضرب لها من
دونهم حجابا فكانت تعبد الله سبحانه فيها لا يدخل عليها إلا زكريا و كلما دخل
عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا؟ قالت هو من عند
الله، و الله يرزق من يشاء بغير حساب، و قد كانت (عليها السلام) صديقة، و كانت
معصومة بعصمة الله، طاهرة مصطفاة محدثة حدثها الملائكة: بأن الله اصطفاها و
طهرها و كانت من القانتين و من آيات الله للعالمين سورة آل عمران آية 35 - 44،
سورة مريم آية 16، سورة الأنبياء آية 91، سورة التحريم آية 12.
ثم إن الله تعالى أرسل إليها الروح و هي محتجبة فتمثل لها بشرا سويا، و ذكر لها
أنه رسول من ربها ليهب لها بإذن الله ولدا من غير أب، و بشرها بما سيظهر من
ولدها من المعجزات الباهرة، و أخبرها أن الله سيؤيده بروح القدس، و يعلمه
الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل، و رسولا إلى بني إسرائيل ذا الآيات
البينات، و أنبأها بشأنه و قصته ثم نفخ الروح فيها فحملت بها حمل المرأة بولدها
الآيات من آل عمران: 35 - 44.
ثم انتبذت مريم به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت
قبل هذا و كنت نسيا منسيا فناداها من تحتها أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا و
هزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي و اشربي و قري عينا فإما ترين
من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها
تحمله سورة مريم آية 20 - 27، و كان حمله و وضعه و كلامه و سائر شئون وجوده من
سنخ ما عند سائر الأفراد من الإنسان.
فلما رآها قومها - و الحال هذه - ثاروا عليها بالطعنة و اللوم بما يشهد به حال
امرأة حملت و وضعت من غير بعل، و قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا يا أخت هرون
ما كان أبوك امرأ سوء و ما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا؟ قال: إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أينما
كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا
شقيا، و السلام علي يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا: سورة مريم آية - 27 -
33 فكان هذا الكلام منه (عليه السلام) كبراعة الاستهلال بالنسبة إلى ما سينهض
على البغي و الظلم و إحياء شريعة موسى (عليه السلام) و تقويمه، و تجديد ما
اندرس من معارفه، و بيان ما اختلفوا فيه من آياته.
ثم نشأ عيسى (عليه السلام) و شب و كان هو و أمه على العادة الجارية في الحياة
البشرية يأكلان و يشربان و فيهما ما في سائر الناس من عوارض الوجود إلى آخر ما
عاشا.
ثم إن عيسى (عليه السلام) أوتي الرسالة إلى بني إسرائيل فانبعث يدعوهم إلى دين
التوحيد، و يقول: إني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير
فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله و أبرىء الأكمه و الأبرص و أحيي الموتى بإذن
الله و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم، إن في ذلك لآية لكم، إن الله
هو ربي و ربكم فاعبدوه.
و كان يدعوهم إلى شريعته الجديدة و هو تصديق شريعة موسى (عليه السلام) إلا أنه
نسخ بعض ما حرم في التوراة تشديدا على اليهود، و كان يقول: قد جئتكم بالحكمة و
لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، و كان يقول: يا بني إسرائيل إني رسول الله
إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.
و أنجز (عليه السلام) ما ذكره لهم من المعجزات كخلق الطير و إحياء الموتى و
إبراء الأكمه و الأبرص و الإخبار عن المغيبات بإذن الله.
و لم يزل يدعوهم إلى توحيد الله و شريعته الجديدة حتى أيس من إيمانهم لما شاهد
من عتو القوم و عنادهم و استكبار الكهنة و الأحبار عن ذلك فانتخب من الشرذمة
التي آمنت به الحواريين أنصارا له إلى الله.
ثم إن اليهود ثاروا عليه يريدون قتله فتوفاه الله و رفعه إليه، و شبه لليهود:
فمن زاعم أنهم قتلوه، و من زاعم أنهم صلبوه، و لكن شبه لهم آل عمران آية 45 -
58، الزخرف آية 63 - 65، الصف آية 6 و 14، المائدة آية 110 و 111، النساء آية
157 و 158 فهذه جمل ما قصه القرآن في عيسى بن مريم و أمه.
2 - منزلة عيسى عند الله و موقفه في نفسه:
كان (عليه السلام) عبدا لله و كان نبيا سورة مريم آية 30 و كان رسولا إلى بني
إسرائيل آل عمران آية 49 و كان واحدا من الخمسة أولي العزم صاحب شرع و كتاب و
هو الإنجيل الأحزاب آية 7، الشورى آية 13، المائدة آية 46 و كان سماه الله
بالمسيح عيسى آل عمران آية 45 و كان كلمة لله و روحا منه النساء آية 171 و كان
إماما الأحزاب آية 7 و كان من شهداء الأعمال النساء آية 159، المائدة آية 117 و
كان مبشرا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصف آية 6 و كان وجيها في
الدنيا و الآخرة و من المقربين آل عمران آية 45 و كان من المصطفين آل عمران آية
33 و كان من المجتبين، و كان من الصالحين الأنعام آية 85 - 87 و كان مباركا
أينما كان و كان زكيا و كان آية للناس و رحمة من الله و برا بوالدته و كان
مسلما عليه مريم آية 19 33 و كان ممن علمه الله الكتاب و الحكمة آل عمران آية
48، فهذه اثنتان و عشرون خصلة من مقامات الولاية هي جمل ما وصف الله به هذا
النبي المكرم و رفع بها قدره، و هي على قسمين: اكتسابية كالعبودية و القرب و
الصلاح، و اختصاصية، و قد شرحنا كلا منها في الموضع المناسب له من هذا الكتاب
بما نطيق فهمه فليرجع فيها إلى مظانها منه.
3 - ما الذي قاله عيسى (عليه السلام)
؟ و ما الذي قيل فيه؟ ذكر القرآن أن عيسى كان عبدا رسولا، و أنه لم يدع لنفسه
ما نسبوه إليه، و لا تكلم معهم إلا بالرسالة، كما قال تعالى: "و إذ قال الله يا
عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما
يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي و لا
أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به: أن اعبدوا
الله ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب
عليهم و أنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت
العزيز الحكيم، قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم": المائدة - 116 119.
و هذا الكلام العجيب الذي يشتمل من العبودية على عصارتها، و يتضمن من بارع
الأدب على مجامعة يفصح عما كان يراه عيسى المسيح (عليه السلام) من موقفه نفسه
تلقاء ربوبية ربه، و تجاه الناس و أعمالهم فذكر أنه كان يرى نفسه بالنسبة إلى
ربه عبدا لا شأن له إلا الامتثال لا يرد إلا عن أمر، و لا يصدر إلا عن أمر، و
لم يؤمر إلا بالدعوة إلى عبادة الله وحده و لم يقل لهم إلا ما أمر به: أن
اعبدوا الله ربي و ربكم.
و لم يكن له من الناس إلا تحمل الشهادة على أعمالهم فحسب، و أما ما يفعله الله
فيهم و بهم يوم يرجعون إليه فلا شأن له في ذلك، غفر أو عذب.
فإن قلت: فما معنى ما تقدم في الكلام على الشفاعة أن عيسى (عليه السلام) من
الشفعاء يوم القيامة يشفع فيشفع؟.
قلت: القرآن صريح أو كالصريح في ذلك، قال تعالى: "و لا يملك الذين يدعون من
دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": الزخرف - 86، و قد قال تعالى فيه:
"و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا": النساء - 159، و قال تعالى: "و إذ علمتك
الكتاب و الحكمة و التوراة و الإنجيل: المائدة - 110، و قد تقدم إشباع الكلام
في معنى الشفاعة، و هذا غير التفدية التي يقول بها النصارى، و هي إبطال الجزاء
بالفدية و العوض فإنها تبطل السلطنة المطلقة الإلهية على ما سيجيء من بيانه، و
الآية إنما تنفي ذلك، و أما الشفاعة فالآية غير متعرضة لأمرها لا إثباتا و لا
نفيا فإنها لو كانت بصدد إثباتها - على منافاته للمقام - لكان حق الكلام أن
يقال: و إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، و لو كانت بصدد نفيها لم يكن لذكر
الشهادة على الناس وجه، و هذا إجمال ما سيأتي في تفسير الآيات تفصيله إن شاء
الله تعالى.
و أما ما قاله الناس في عيسى (عليه السلام) فإنهم و إن تشتتوا في مذاهبهم بعده،
و اختلفوا في مسالكهم بما ربما جاوز السبعين من حيث كليات ما اختلفوا فيه، و
جزئيات المذاهب و الآراء كثيرة جدا.
لكن القرآن إنما يهتم بما قالوا به في أمر عيسى نفسه و أمه لمساسه بأساس
التوحيد الذي هو الغرض الوحيد فيما يدعو إليه القرآن الكريم و الدين الفطري
القويم، و أما بعض الجزئيات كمسألة التحريف و مسألة التفدية فلم يهتم به ذاك
الاهتمام.
و الذي حكاه القرآن الكريم عنهم أو نسبه إليهم ما في قوله تعالى: "و قالت
النصارى المسيح بن الله": التوبة - 30، و ما في معناه، كقوله تعالى: "و قالوا
اتخذ الرحمن ولدا سبحانه": الأنبياء - 26، و ما في قوله تعالى: "لقد كفر الذين
قالوا إن الله هو المسيح بن مريم": المائدة - 72، و ما في قوله تعالى: "لقد كفر
الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة": المائدة - 73، و ما في قوله تعالى: "و لا
تقولوا ثلثة": النساء - 171.
و هذه الآيات و إن اشتملت بظاهرها على كلمات مختلفة ذوات مضامين و معان
متفاوتة، و لذلك ربما حملت على اختلاف المذاهب في ذلك كمذهب الملكانية القائلين
بالبنوة الحقيقية، و النسطورية القائلين بأن النزول و البنوة من قبيل إشراق
النور على جسم شفاف كالبلور، و اليعقوبية القائلين بأنه من الانقلاب، و قد
انقلب الإله سبحانه لحما و دما.
لكن الظاهر أن القرآن لا يهتم بخصوصيات مذاهبهم المختلفة، و إنما يهتم بكلمة
واحدة مشتركة بينهم جميعا و هو البنوة، و أن المسيح من سنخ الإله سبحانه، و ما
يتفرع عليه من حديث التثليث و إن اختلفوا في تفسيرها اختلافا كثيرا، و تعرقوا
في المشاجرة و النزاع، و الدليل على ذلك وحدة الاحتجاج الوارد عليهم في القرآن
لسانا.
بيان ذلك: أن التوراة و الأناجيل الحاضرة جميعا تصرح بتوحيد الإله تعالى، من
جانب و الإنجيل يصرح بالبنوة من جانب آخر، و صرح بأن الابن هو الأب لا غير.
و لم يحملوا البنوة الموجودة فيه على التشريف و التبريك مع ما في موارد منه من
التصريح بذلك كقوله: "و أنا أقول لكم أحبوا أعداءكم، و باركوا على لاعنيكم و
أحسنوا إلى من أبغضكم، و صلوا على من يطردكم و يعسفكم كيما تكونوا بني أبيكم
الذي في السماوات لأنه المشرق شمسه على الأخيار و الأشرار و الممطر على
الصديقين و الظالمين، و إذا أحببتم من يحبكم فأي أجر لكم؟ أ ليس العشارون
يفعلون كذلك؟ و إن سلمتم على إخوتكم فقط فأي فضل لكم؟ أ ليس كذلك يفعل الوثنيون
كونوا كاملين مثل أبيكم السماوي فهو كامل" آخر الإصحاح الخامس من إنجيل متى و
قوله أيضا: فليضىء نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الحسنة و يمجدوا أباكم الذي
في السماوات" إنجيل متى - الإصحاح الخامس.
و قوله أيضا: "لا تصنعوا جميع مراحمكم قدام الناس كي يروكم فليس لكم أجر عند
أبيكم الذي في السماوات".
و قوله أيضا في الصلوة: "و هكذا تصلون أنتم يا أبانا الذي في السماوات يتقدس
اسمك "الخ".
و قوله: أيضا "فإن غفرتم للناس خطاياهم غفر لكم أبوكم السمائي خطاياكم" كل ذلك
في الإصحاح السادس من إنجيل متى.
و قوله: "و كونوا رحماء مثل أبيكم الرحيم" إنجيل لوقا - الإصحاح السادس.
و قوله لمريم المجدلية: "امضي إلى إخوتي و قولي لهم: إني صاعد إلى أبي الذي هو
أبوكم و إلهي الذي هو إلهكم" إنجيل يوحنا - الإصحاح العشرون.
فهذه و أمثالها من فقرات الأناجيل تطلق لفظ الأب على الله تعالى و تقدس بالنسبة
إلى عيسى و غيره جميعا كما ترى بعناية التشريف و نحوه.
و إن كان ما في بعض الموارد منها يعطي أن هذه البنوة و الأبوة نوع من الاستكمال
المؤدي إلى الاتحاد كقوله: "تكلم اليسوع بهذا و رفع عينيه إلى السماء فقال: يا
أبة قد حضرت الساعة فمجد ابنك ليمجدك ابنك ثم ذكر دعاءه لرسله من تلامذته ثم
قال: "و لست أسأل في هؤلاء فقط بل و في الذين يؤمنون بي بقولهم ليكونوا بأجمعهم
واحدا كما أنك يا أبة ثابت في و أنا أيضا فيك ليكونوا أيضا فينا واحدا ليؤمن
العالم أنك أرسلتني و أنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن
واحد أنا فيهم و أنت في و يكونوا كاملين لواحد لكي يعلم العالم أنك أرسلتني و
أنني أحببتهم كما أحببتني" إنجيل يوحنا - الإصحاح السابع عشر.
لكن وقع فيها أقاويل يتأبى ظواهرها عن تأويلها إلى التشريف و نحوه كقوله: "قال
له توما: يا سيد ما نعلم أين تذهب؟ و كيف نقدر أن نعرف الطريق؟ قال له يسوع:
أنا هو الطريق و الحق و الحياة لا يأتي أحد إلى أبي إلا بي لو كنتم تعرفونني
لعرفتم أبي أيضا و من الآن تعرفونه و قد رأيتموه أيضا، قال له فيلبس: يا سيد
أرنا الأب و حسبنا، قال له يسوع: أنا معكم كل هذا الزمان و لم تعرفني يا فيلبس؟
من رآني فقد رأى الأب فكيف تقول أنت: أرنا الأب؟ أ ما تؤمن أني في أبي و أبي في
و هذا الكلام الذي أقوله لكم ليس هو من ذاتي وحدي بل أبي الحال في هو يفعل هذه
الأفعال آمنوا بي، أنا في أبي و أبي في" إنجيل يوحنا - الإصحاح الرابع عشر.
و قوله: "لكني خرجت من الله و جئت و لم آت من عندي بل هو أرسلني" إنجيل - يوحنا
الإصحاح الثامن.
و قوله: أنا و أبي واحد نحن" إنجيل يوحنا - الإصحاح العاشر.
و قوله لتلامذته: "اذهبوا و تلمذوا كل الأمم و عمدوهم باسم الأب و الابن و روح
القدس" إنجيل متى - الإصحاح الثامن و العشرون.
و قوله: "في البدء كان الكلمة و الكلمة كان عند الله، و الله كان الكلمة منذ
البدء كان هذا عند الله كل به كان و بغيره لم يكن شيء مما كان به كانت الحياة،
و الحياة كانت نور الناس" إنجيل يوحنا - الإصحاح الأول.
فهذه الكلمات و ما يماثلها مما وقع في الإنجيل هي التي دعت النصارى إلى القول
بالتثليث في الوحدة.
و المراد به حفظ "أن المسيح بن الله" مع التحفظ على التوحيد الذي نص عليه
المسيح في تعليمه كما في قوله: "إن أول كل الوصايا: اسمع يا إسرائيل الرب إلهك
إله واحد هو" إنجيل مرقس - الإصحاح الثاني عشر.
و محصل ما قالوا به و إن كان لا يرجع إلى محصل معقول: أن الذات جوهر واحد له
أقانيم ثلاث، و المراد بالأقنوم هو الصفة التي هي ظهور الشيء و بروزه و تجليه
لغيره و ليست الصفة غير الموصوف،: و الأقانيم الثلاث هي: أقنوم الوجود و أقنوم
العلم، و هو الكلمة، و أقنوم الحياة و هو الروح.
و هذه الأقانيم الثلاث هي: الأب و الابن و الروح القدس: و الأول أقنوم الوجود،
و الثاني أقنوم العلم و الكلمة، و الثالث أقنوم الحياة، فالابن و هو الكلمة و
أقنوم العلم نزل من عند أبيه و هو أقنوم الوجود بمصاحبة روح القدس و هو أقنوم
الحيوة التي بها يستنير الأشياء.
ثم اختلفوا في تفسير هذا الإجمال اختلافا عظيما أوجب تشتتهم و انشعابهم شعبا و
مذاهب كثيرة تجاوز السبعين، و سيأتيك نبؤها على قدر ما يلائم حال هذا الكتاب.
إذا تأملت ما قدمناه عرفت: أن ما يحكيه القرآن عنهم، أو ينسبه إليهم بقوله: "و
قالت النصارى المسيح بن الله،" الآية، و قوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو
المسيح بن مريم،" الآية، و قوله: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة،"
الآية، و قوله: "و لا تقولوا ثلثة انتهوا،" الآية، كل ذلك يرجع إلى معنى واحد و
هو تثليث الوحدة هو المشترك بين جميع المذاهب المستحدثة في النصرانية، و هو
الذي قدمناه في معنى تثليث الوحدة.
و إنما اقتصر فيه على هذا المعنى المشترك لأن الذي يرد على أقوالهم في خصوص
المسيح (عليه السلام) على كثرتها و تشتتها مما يحتج به القرآن أمر واحد يرد على
وتيرة واحدة كما سيتضح.
4 - احتجاج القرآن على مذهب التثليث
يرد القرآن في الاحتجاج، و يرد قول المثلثة من طريقين، أحدهما: الطريق العام، و
هو بيان استحالة الابن عليه تعالى في نفسه أي سواء كان عيسى هو الابن أو غيره،
الثاني: الطريق الخاص و هو بيان أن عيسى بن مريم ليس ابنا إلها بل عبد مخلوق.
أما الطريق الأول فتوضيحه أن حقيقة البنوة و التولد هو أن يجزىء واحد من هذه
الموجودات الحية المادية كالإنسان و الحيوان بل النبات أيضا شيئا من مادة نفسه
ثم يجعله بالتربية التدريجية فردا آخر من نوعه مماثلا لنفسه يترتب عليه من
الخواص و الآثار ما كان يترتب على المجزأ منه كالحيوان يفصل من نفسه النطفة، و
النبات يفصل من نفسه اللقاح ثم يأخذ في تربيته تدريجا حتى يصيره حيوانا أو
نباتا آخر مماثلا لنفسه، و من المعلوم أن الله سبحانه يمتنع عليه ذلك: أما أولا
فلاستلزامه الجسمية المادية، و الله سبحانه منزه من المادة و لوازمها
الافتقارية كالحركة و الزمان و المكان و غير ذلك، و أما ثانيا فلأن الله سبحانه
لإطلاق ألوهيته و ربوبيته له القيومية المطلقة على ما سواه فكل شيء سواه مفتقر
الوجود إليه قائم الوجود به فكيف يمكن فرض شيء غيره يماثله في النوعية يستقل
عنه بنفسه، و يكون له من الذات و الأوصاف و الأحكام ما له من غير افتقار إليه،
و أما ثالثا فلأن جواز الإيلاد و الاستيلاد عليه تعالى يستلزم جواز الفعل
التدريجي عليه تعالى، و هو يستلزم دخوله تحت ناموس المادة و الحركة و هو خلف بل
ما يقع بإرادته و مشيته تعالى إنما يقع من غير مهلة و تدريج.
و هذا البيان هو الذي يفيده قوله تعالى: "و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له
ما في السموات و الأرض كل له قانتون بديع السموات و الأرض و إذا قضى أمرا فإنما
يقول له كن فيكون": البقرة - 117، و على ما قربناه فقوله: سبحانه برهان، و
قوله: له ما في السموات و الأرض كل له قانتون برهان آخر و قوله: بديع السموات و
الأرض إذا قضى "الخ" برهان ثالث.
و يمكن أن يجعل قوله: بديع السموات و الأرض من قبيل إضافة الصفة إلى فاعلها، و
يستفاد منه أن خلقه تعالى على غير مثال سابق فلا يمكن منه الإيلاد لأنه خلق على
مثال نفسه لأن مفروضهم العينية فيكون هذه الفقرة وحدها برهانا آخر.
و لو فرض قولهم: اتخذ الله ولدا كلاما ملقى لا على وجه الحقيقة بل على وجه
التوسع في معنى الابن و الولد بأن يراد به انفصال شيء عن شيء يماثله في الحقيقة
من غير تجز مادي أو تدريج زماني و هذا هو الذي يرومه النصارى بقولهم: المسيح بن
الله بعد تنقيحه ليتخلص بذلك عن إشكال الجسمية و المادية و التدريج بقي إشكال
المماثلة.
توضيحه أن إثبات الابن و الأب إثبات للعدد بالضرورة، و هو إثبات للكثرة
الحقيقية و إن فرضت الوحدة النوعية بين الأب و الابن كالأب و الابن من الإنسان
هما واحد في الحقيقة الإنسانية، و كثير من حيث إنهما فردان من الإنسان، و على
هذا فلو فرض وحدة الإله كان كل ما سواه و من جملتها الابن غيرا له مملوكا
مفتقرا إليه فلا يكون الابن المفروض إلها مثله، و لو فرض ابن مماثل له غير
مفتقر إليه بل مستقل مثله بطل التوحيد في الإله عز اسمه.
و هذا البيان هو المدلول عليه بقوله تعالى: "و لا تقولوا ثلثة انتهوا خيرا لكم
إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات و ما في الأرض، و
كفى بالله وكيلا": النساء - 171.
و أما الطريق الثاني و هو بيان أن شخص عيسى بن مريم (عليهما السلام) ليس ابنا
لله مشاركا له في الحقيقة الإلهية فلما كان فيه من البشرية و لوازمها.
و توضيحه أن المسيح (عليه السلام) حملت به مريم، و ربته جنينا في رحمها، ثم
وضعته وضع المرأة ولدها، ثم ربته كما يتربى الولد في حضانة أمه، ثم أخذ في
النشوء و قطع مراحل الحيوة و الارتقاء في مدارج العمر من الصبا و الشباب و
الكهولة، و في جميع ذلك كان حاله حال إنسان طبيعي في حيوته، يعرضه من العوارض و
الحالات ما يعرض الإنسان: من جوع و شبع، و سرور و مساءة، و لذة و ألم، و أكل و
شرب، و نوم و يقظة، و تعب و راحة، و غير ذلك.
فهذا ما شوهد من حال المسيح (عليه السلام) حين مكثه بين الناس، و لا يرتاب ذو
عقل أن من كان هذا شأنه فهو إنسان كسائر الأناسي من نوعه و إذا كان كذلك فهو
مخلوق مصنوع كسائر أفراد نوعه، و أما صدور الخوارق و تحقق المعجزات بيده كإحياء
الأموات و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و كذا تحقق الخوارق من الآيات في
وجوده كتكونه من غير أب فإنما هي أمور خارقة للعادة المألوفة و السنة الجارية
في الطبيعة فإنها نادرة الوجود لا مستحيلته فهذا آدم تذكر الكتب السماوية أنه
خلق من تراب و لا أب له، و هؤلاء أنبياء الله كصالح و إبراهيم و موسى (عليهما
السلام) جرت بأيديهم آيات معجزة كثيرة مذكورة في مسفورات الوحي من غير أن تقتضي
فيهم ألوهية، و لا خروجا عن طور الإنسانية.
و هذه الطريقة هي المسلوكة في قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة و ما من إله إلا إله واحد - إلى أن قال -: ما المسيح بن مريم إلا رسول قد
خلت من قبله الرسل و أمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم
انظر أنى يؤفكون: المائدة - 75، و قد خص أكل الطعام من بين جميع الأفعال بالذكر
لكونه من أحسنها دلالة على المادية و استلزاما للحاجة و الفاقة المنافية
للألوهية، فمن المعلوم أن من يجوع و يظمأ بطبعه ثم يشبع بأكلة أو يرتوي بشربة
ليس عنده غير الحاجة و الفاقة التي لا يرفعها إلا غيره، و ما معنى ألوهية من
هذا شأنه؟ فإن الذي قد أحاطت به الحاجة و احتاج في رفعها إلى الخارج من نفسه
فهو ناقص في نفسه مدبر بغيره، و ليس بإله غني بذاته بل هو مخلوق مدبر بربوبية
من ينتهي إليه تدبيره.
و إلى هذا يمكن أن يرجع قوله تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن
مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم و أمه و من في
الأرض جميعا و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما يخلق ما يشاء و الله على كل
شيء قدير": المائدة - 17.
و كذا قوله تعالى في ذيل الآية المنقولة سابقا آية 75 خطابا للنصارى: "قل أ
تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و لا نفعا و الله هو السميع العليم":
المائدة - 76.
فإن الملاك في هذا النوع من الاحتجاجات هو أن الذي شوهد من أمر المسيح أنه كان
يعيش على الناموس الجاري في حيوة الإنسان متصفا بجميع صفاته و أفعاله و أحواله
النوعية كالأكل و الشرب و سائر الاحتياجات الإنسانية، و الخواص البشرية و لم
يكن هذا التلبس و الاتصاف بحسب ظاهر الحس أو تسويل الخيال فحسب بل كان على
الحقيقة و كان المسيح (عليه السلام) إنسانا ذا هذه الأوصاف و الأحوال و
الأفعال، و الأناجيل مشحونة بتسميته نفسه إنسانا و ابن الإنسان، مملوءة بالقصص
الناطقة بأكله و شربه و نومه و مشيه و مسافرته و تعبه و تكلمه و نحو ذلك بحيث
لا يقبل شيء منها صرفا و لا تأويلا، و مع تسليم هذه الأمور يجري على المسيح ما
يجري على غيره فهو لا يملك من غيره شيئا كغيره، و يمكن أن يهلك كغيره.
و كذا حديث عبادته و دعائه بحيث لا يرتاب في أن ما كان يأتيه من عبادة فإنما
للتقرب من الله و الخضوع لقدس ساحته لا لتعليم الناس أو لأغراض أخر تشابه ذلك.
و إلى حديث العبادة و الاحتجاج به يومىء قوله تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون
عبدا لله و لا الملائكة المقربون و من يستنكف عن عبادته و يستكبر فسيحشرهم إليه
جميعا": النساء - 172، فعبادة المسيح أول دليل على أنه ليس بإله، و أن الألوهية
لغيره لا نصيب له فيها، فأي معنى لنصب الشيء نفسه في مقام العبودية و المملوكية
لنفسه؟ و كون الشيء قائما بنفسه من عين الجهة التي بها يقوم نفسه و الأمر ظاهر
و كذا عبادة الملائكة كاشفة عن أنها ليست ببنات الله سبحانه و لا أن روح القدس
إله بعد ما كانوا بأجمعهم عابدين لله طائعين له كما قال تعالى: "و قالوا اتخذ
الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون يعلم
ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و هم من خشيته مشفقون":
الأنبياء - 28.
على أن الأناجيل مشحونة بأن الروح طائع لله و رسله مؤتمر للأمر محكوم بالحكم و
لا معنى لأمر الشيء نفسه و لا لطاعته لذاته، و لا لانقياده و ائتماره لمخلوق
نفسه.
و نظير عبادة المسيح لله سبحانه في الدلالة على المغايرة دعوته الناس إلى عبادة
الله كما يشير إليه قوله تعالى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم،
و قال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي و ربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم
الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار": المائدة - 72، و سبيل
الآية و احتجاجها ظاهر.
و الأناجيل أيضا مشحونة في دعوته إلى الله سبحانه، و هي و إن لم تشتمل على هذا
اللفظ الجامع اعبدوا الله ربي و ربكم لكنها مشتملة على الدعوة إلى عبادة الله،
و على اعترافه بأنه ربه الذي بيده زمام أمره، و على اعترافه بأنه رب الناس، و
لا تتضمن دعوته إلى عبادة نفسه صريحا و لا مرة مع ما فيها من قوله: أنا و أبي
واحد نحن" إنجيل يوحنا - الإصحاح العاشر، فمن الواجب أن يحمل على تقدير صحته
على أن المراد: أن إطاعتي إطاعة الله كما قال تعالى في كتابه الكريم: "من يطع
الرسول فقد أطاع الله": النساء - 80.
5 - المسيح من الشفعاء عند الله و ليس بفاد:
زعمت النصارى: أن المسيح فداهم بدمه الكريم، و لذلك لقبوه بالفادي، قالوا: إن
آدم لما عصى الله بالأكل من الشجرة المنهية في الجنة أخطأ بذلك و لزمته
الخطيئة، و كذلك لزمت ذريته من بعده ما توالدوا و تناسلوا، و جزاء الخطيئة
العقاب في الآخرة و الهلاك الأبدي الذي لا مخلص منه، و قد كان الله سبحانه
رحيما عادلا.
فبدا إذ ذاك إشكال عويص لا انحلال له، و هو أنه لو عاقب آدم و ذريته بخطيئتهم
كان ذلك منافيا لرحمته التي لها خلقهم، و لو غفر لهم كان ذلك منافيا لعدله فإن
مقتضى العدل أن يعاقب المجرم الخاطىء بجرمه و خطيئته كما أن مقتضاه أن يثاب
المحسن المطيع بإحسانه و إساءته.
و لم تزل هذه العويصة على حالها حتى حلها ببركة المسيح، و ذلك بأن حل المسيح و
هو ابن الله، و هو الله نفسه رحم واحدة من ذرية آدم و هو مريم البتول و تولد
منها كما يتولد إنسان فكان بذلك إنسانا كاملا لأنه ابن إنسان، و إلها كاملا
لأنه ابن الله، و ابن الله هو الله تعالى معصوما عن جميع الذنوب و الخطايا.
و بعد أن عاش بين الناس برهة يسيرة من الزمان يعاشرهم و يخالطهم، و يأكل و يشرب
معهم، و يكلمهم و يستأنس بهم، و يمشي فيهم تسخر لأعدائه ليقتلوه شر قتلة، و هي
قتلة الصلب التي لعن صاحبها في الكتاب الإلهي فاحتمل اللعن و الصلب بما فيه من
الزجر و الأذى و العذاب ففدى الناس بنفسه ليخلصوا بذلك من عقاب الآخرة و هلاك
السرمد و هو كفارة لخطايا المؤمنين به بل لخطايا كل العالم هذا ما قالوه.
و قد جعلت النصارى هذه الكلمة أعني مسألة الصلب و الفداء أساس دعوتهم فلا
يبدءون إلا بها، و لا يختمون إلا عليها كما أن القرآن يجعل أساس الدعوة
الإسلامية هو التوحيد كما قال الله مخاطبا لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
"قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا
من المشركين": يوسف - 108، مع أن المسيح على ما يصرح به الأناجيل، و قد تقدم
نقله.
كان يجعل أول الوصايا هو التوحيد و محبة الله سبحانه.
و قد ناقشهم غيرهم من المسلمين و سائر الباحثين فيما يشتمل عليه قولهم هذا من
وجوه الفساد و البطلان، و ألفت فيها كتب و رسائل و ملئت بها صحف و طوامير ببيان
منافاتها لضرورة العقل، و مناقضتها لكتب العهدين.
و الذي يهمنا و يوافق الغرض الموضوع له هذا الكتاب بيان جهات منافاته لأصول
تعليم القرآن و ختمه ببيان الفرق بين ما يثبته القرآن من الشفاعة و ما يثبتونه
من الفداء.
على أن القرآن يذكر صراحة أنه إنما يخاطب الناس و يكلمهم ببيان ما يقرب من أفق
عقولهم، و يمكن بياناته من فقههم و فهمهم، و هو الأمر الذي به يميز الإنسان
الحق من الباطل فينقاد لهذا و يأبى ذاك، و يفرق بين الخير و الشر و النافع و
الضار فيأخذ بهذا و يترك ذاك، و الذي ذكرناه من اعتبار القرآن في بياناته حكم
العقل السليم مما لا غبار عليه عند من راجع الكتاب العزيز.
فأما ما ذكروه ففيه أولا: أنهم ذكروا معصية آدم (عليه السلام) بالأكل من الشجرة
المنهية، و القرآن يدفع ذلك من جهتين: الأولى: أن النهي هناك كان نهيا إرشاديا
يقصد به صلاح المنهي و وجه الرشد في أمره لا إعمال المولوية و الأمر الذي هو من
هذا القبيل لا يترتب على امتثاله و لا تركه ثواب و لا عقاب مولوي كأوامر المشير
و نواهيه لمن يستشيره، و أوامر الطبيب و نواهيه للمريض بل إنما يترتب على
امتثال التكليف الإرشادي الرشد المنظور لمصلحة المكلف، و على مخالفته الوقوع في
مفسدة المخالفة و ضرر الفعل بما أنه فعل، و بالجملة لم يلحق بآدم (عليه السلام)
إلا أنه أخرج من الجنة و فاته راحة القرب و سرور الرضا، و أما العقاب الأخروي
فلا لأنه لم يعص معصية مولوية حتى يستتبع عقابا، راجع تفسير الآيات 35 - 39، من
سورة البقرة.
و الثانية: أنه (عليه السلام) كان نبيا و القرآن ينزه ساحة الأنبياء (عليهم
السلام) و يبرىء نفوسهم الشريفة عن اقتراف المعاصي و الفسق عن أمر الله سبحانه،
و البرهان العقلي أيضا يؤيد ذلك، راجع ما ذكرناه في البحث عن عصمة الأنبياء في
تفسير الآية 213 من سورة البقرة.
و ثانيا: قولهم: إن الخطيئة لزمت آدم فإن القرآن يدفعه بقوله: "ثم اجتباه ربه
فتاب عليه و هدى": طه - 122، و قوله: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو
التواب الرحيم": البقرة - 37.
و الاعتبار العقلي يؤيد ذلك بل يبينه فإن الخطيئة و تبعة الذنب إنما هو أمر
محذور مخوف منه يعتبره العقل أو المولى لازما للمخالفة و التمرد ليستحكم بذلك
أمر التكليف فلو لا العقاب و الثواب لم يستقم أمر المولوية و لم يمتثل أمر و لا
نهي و كما أن من شئون المولوية بسط العقاب على المجرمين في جرائمهم كالثواب على
المطيعين في طاعاتهم كذلك من شئون المولوية إطلاق التصرف في دائرة مولويته
فللمولى أن يغمض عن خطيئة المخطئين و معصية العاصين بالعفو و المغفرة فإنه نوع
تصرف و حكومة كما أن له أن يؤاخذ بها و هي نوع حكومة، و حسن العفو و المغفرة عن
الموالي و أولي القوة و السطوة في الجملة مما لا ريب فيه، و العقلاء من الإنسان
يستعملونه إلى هذا الحين فكون كل خطيئة صادرة من الإنسان لازمة للإنسان مما لا
وجه له البتة و إلا لم يكن لأصل العفو و المغفرة تحقق لأن المغفرة و العفو إنما
يكون لإمحاء الخطيئة و إبطال أثر الذنب، و مع فرض أن الخطيئة لازمة غير منفكة
لا يبقى موضوع للعفو و المغفرة، مع أن الوحي الإلهي مملو بحديث العفو و
المغفرة، و كتب العهدين كذلك حتى أن هذا الكلام المنقول منهم لا يخلو عنه، و
بالجملة دعوى كون ذنب من الذنوب أو خطيئة من الخطايا لازمة غير قابلة في نفسه
للمغفرة و الإمحاء حتى بالتوبة و الإنابة و الرجوع و الندم مما لا يقبله عقل
سليم و لا طبع مستقيم.
و ثالثا: أن قولهم: إن خطيئة آدم كما لزمته كذلك لزمت ذريته إلى يوم القيامة
يستلزم أن يشمل تبعة الذنب الصادر من واحد غيره أيضا ممن لم يذنب في المعاصي
المولوية.
و بعبارة أخرى أن يصدر فعل عن واحد و يعم عصيانه و تبعته غير فاعله كما يشمل
فاعله، و هذا غير أن يأتي قوم بالمعصية و يرضى به آخرون من أخلافهم فتحسب
المعصية على الجميع و بالجملة هو تحمل الوزر من غير صدور الذنب و القرآن يرد
ذلك كما في قوله: "ألا تزر وازرة وزر أخرى - و أن ليس للإنسان إلا ما سعى":
النجم - 39، و العقل يساعده عليه لقبح مؤاخذة من لم يذنب بذنب لم يصدر عنه.
راجع أبحاث الأفعال في تفسير آية 216 - 218 من سورة البقرة.
و رابعا: أن كلامهم مبني على كون تبعة جميع الخطايا و الذنوب هو الهلاك الأبدي
من غير فرق بينها، و لازمه أن لا يختلف الخطايا و الذنوب من حيث الصغر و الكبر
بل يكون جميعها كبائر موبقات، و الذي يراه القرآن الكريم في تعليمه أن الخطايا
و المعاصي مختلفة فمنها كبائر، و منها صغائر، و منها ما تناله المغفرة، و منها
ما لا تناله إلا بالتوبة كالشرك، قال تعالى: "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
نكفر عنكم سيئاتكم": النساء - 31، و قال تعالى: "إن الله لا يغفر أن يشرك به و
يغفر ما دون ذلك لمن يشاء": النساء - 48، فجعل تعالى من المحرمات المنهي عنها و
هي الخطايا و الذنوب ما هي كبائر، و ما هي سيئات أي صغائر بقرينة المقابلة، و
جعل تعالى من الذنوب ما لا يقبل المغفرة، و منها ما يقبلها فالذنوب على أي حال
مختلفة، و ليس كل ذنب بموجب للخلود في النار و الهلاك الأبدي.
على أن العقل يأبى عن نضد جميع الذنوب و نظمها في سلك واحد فاللطم غير القتل و
النظر المريب غير الزنا، و هكذا، و العقلاء من الإنسان في جميع الأدوار لم
يضعوا كل ذنب و خطإ موضع غيره، و يرون للمعاصي المختلفة تبعات و مؤاخذات مختلفة
فكيف يصح إجراء الجميع مجرى واحدا مع هذا الاختلاف الفاحش بينها، و إذا فرض
اختلافها لم يصح إلا جعل العقاب الخالد و الهلاك الأبدي لبعضها كالشرك بالله،
كما يقول القرآن الكريم.
و من المعلوم أن مخالفة نهي ما في الأكل من الشجرة ليس يحل محل الكفر بالله
العظيم و ما يشابه ذلك فلا وجه لجعل عقابه و تبعته هو العذاب المؤبد راجع بحث
الأفعال السابق الذكر.
و خامسا: ما ذكروه من وقوع الإشكال، و حدوث التزاحم بين صفة الرحمة و صفة العدل
ثم الاحتيال إلى رفعه بنزول المسيح و صعوده بالوجه الذي ذكروه.
و المتأمل في هذا الكلام و ما يستتبعه من اللوازم يجد أنهم يرون أن الله تعالى
و تقدس موجود خالق ينسب و ينتهي إليه هذا العالم المخلوق بجميع أجزائه غير أنه
إنما يفعل بإرادة و علم في نفسه، و إرادته في تحققها تتوقف إلى ترجيح علمي كما
أن الإنسان إنما يريد شيئا إذا رجحه بعلمه، فهناك مصالح و مفاسد يطبق الله
أفعاله عليها فيفعلها، و ربما أخطأ في التطبيق فندم على الفعل، و ربما فكر في
أمر و لم يهتد إلى طريق صلاحه، و ربما جهل أمرا، و بالجملة هو تعالى في أوصافه
و أفعاله كالإنسان إنما يفعل ما يفعل بالتفكر و التروي و يروم فيه تطبيق فعله
على المصلحة فهو محكوم بحكم المصالح و مقهور بعملها فيه من الخارج، و يمكن له
الاهتداء إلى الصلاح و يمكن له الضلال و الاشتباه و الغفلة فربما يعلم و ربما
يجهل، و ربما يغلب و ربما يغلب عليه فقدرته محدودة كعلمه، و إذا جاز عليه هذا
الذي ذكر جاز عليه سائر ما يطرأ الفاعل المتفكر المريد في فعله من سرور و حزن و
حمد و ندم و ابتهاج و انفعال و غير ذلك، و الذي هذا شأنه يكون موجودا ماديا
جسمانيا واقعا تحت ناموس الحركة و التغير و الاستكمال، و الذي هو كذلك ممكن
مخلوق بل إنسان مصنوع، و ليس بالواجب تعالى، الخالق لكل شيء.
و أنت بالرجوع إلى كتب العهدين تجد صدق جميع ما نسبناه إليهم في الواجب تعالى
من جسميته و اتصافه بجميع أوصاف الجسمانيات و خاصة الإنسان.
و القرآن في جميع هذه المعاني المذكورة ينزه الله تعالى عن هذه الأوهام
الخرافية، كما يقول تعالى: "سبحان الله عما يصفون": الصافات - 159، و البراهين
العقلية القاطعة قائمة على أنه تعالى ذات مستجمع لجميع صفات الكمال فله الوجود
من غير شائبة عدم، و القدرة المطلقة من غير عجز، و العلم المطلق من غير طرو
جهل، و الحيوة المطلقة من غير إمكان موت و فناء، و إذا كان كذلك لم يجز عليه
تغير حال في وجوده أو علمه أو قدرته أو حيوته.
و إذا كان كذلك لم يكن جسما و لا جسمانيا لأن الأجسام و الجسمانيات محاط
التغيرات و التحولات، و محال الإمكانات و الافتقارات و الاحتياجات، و إذا لم
يكن جسما و لا جسمانيا لم يطرأ عليه الحالات المختلفة و الطواري المتنوعة: من
غفلة و سهو و غلط و ندم و تحير و تأثر و انفعال و هوان و صغر و مغلوبية و
نحوها، و قد استوفينا البحث البرهاني المتعلق بهذه المعاني في هذا الكتاب في
موارد يناسبها، يجدها المراجع إذا راجع.
و على الناقد المتبصر و المتأمل المتدبر أن يقايس بين القولين: ما يقول به
القرآن الكريم في إله العالم فيثبت له كل صفة كمال، و ينزهه عن كل صفة نقص، و
بالأخرة يعده أكبر و أعظم من أن يحكم فيه أفهامنا بما صحبته من عالم الحد و
التقدير، و بين ما يثبته العهدان في الباري تعالى بما لا يوجد إلا في أساطير
يونان، و خرافات هند القديم و الصين، و أمور كان الإنسان الأولي يتوهمها فيتأثر
مما قدمه إليه وهمه.
و سادسا: قولهم إن الله أرسل ابنه المسيح و أمره أن يحل رحما من الأرحام ليتولد
إنسانا و هو إله، و هذا هو القول غير المعقول الذي انتهض لبيان بطلانه القرآن
الكريم على ما أوضحناه في البيان السابق فلا نعيد.
و من المعلوم أن العقل أيضا لا يساعد عليه فإنك إذا تأملت فيما يجب من الصفات
أن يقال باتصاف الواجب تعالى بها كالثبات السرمدي، و عدم التغير، و عدم تحدد
الوجود، و الإحاطة بكل شيء، و التنزه عن الزمان و المكان و ما يتبعهما، و تأملت
في تكون إنسان من حين كونه نطفة فجنينا في رحم سواء اعتبرت في معناه تفسير
الملكانيين لهذه الكلمة أو تفسير النسطوريين، أو تفسير اليعقوبيين أو غيرهم إذ
لا نسبة بين ما له الجسمية و جميع أوصاف الجسمية و آثارها و بين ما ليس فيه
جسمية و لا شيء مما يتصف به من زمان أو مكان أو حركة أو غير ذلك فكيف يمكن تعقل
الاتحاد بينهما بوجه.
و عدم انطباق القول المذكور على القضايا الضرورية العقلية هو السر فيما يذكره
بولس و غيره من رؤسائهم القديسين من تقبيح الفلسفة و الإزراء بالأحكام العقلية،
يقول بولس: "قد كتب لأهلكن حكمة الحكماء و لأخالفن فهم الفقهاء أين الحكيم أين
الكاتب أين مستفحص هذا الدهر بتعمق؟ أ و ليس قد حمق الله حكمة هذا العالم - إلى
أن قال -: و إذ اليهود يسألون آية و اليونانيون يطلبون حكمة نكرز نحن بالمسيح
مصلوب" رسالة بولس - الإصحاح الأول، و نظائر هذه الكلمات كثيرة في كلامه و كلام
غيره و ليست إلا لسياسة النشر و الإذاعة و التبليغ و العظة، يوقن بذلك من أرعى
نظره في هذه الرسائل و الكتب و تعمق في طريق تكليمها الناس و إلقاء بياناتها
إليهم.
و من ما مر يظهر ما في قولهم: إنه تعالى معصوم من الذنوب و الخطايا فإن الإله
الذي صوروه غير مصون عن الخطإ أصلا بمعنى الغلط في الإدراك و الغلط في الفعل من
غير أن ينتهي إلى مخالفة من يجب موافقته.
و أما الذنب و المعصية بمعنى التمرد فيما يجب فيه الطاعة و الانقياد فهو غير
متصور في حقه تعالى فالعصمة أيضا غير متصورة في حقه سبحانه.
و سابعا: قولهم: إنه بعد أن صار إنسانا عاشر الناس معاشرة الإنسان للإنسان حق
تسخر لأعدائه فيه تجويز اتصاف الواجب بحقيقة من حقائق الممكنات حتى يكون إلها و
إنسانا في عرض واحد، فكان من الجائز أن يصير الواجب شيئا من مخلوقاته أي يتصف
بحقيقة كل نوع من هذه الأنواع الخارجية، فتارة يكون إنسانا من الأناسي، و تارة
فرسا، و تارة طائرا، و تارة حشرة، و تارة غير ذلك، و تارة يكون أزيد من نوع
واحد من الأنواع كالإنسان و الفرس و الحشرة معا.
و هكذا يجوز أن يصدر عنه أي فعل فرض من أفعال الموجودات لجواز أن يصير هو ذلك
النوع فيفعل فعله المختص به، و كذا يجوز أن يصدر عنه أفعال متقابلة معا كالعدل
و الظلم، و أن يتصف بصفات متقابلة كالعلم و الجهل، و القدرة و العجز، و الحياة
و الموت و الغنى و الفقر، تعالى الملك الحق، و هذا غير المحذور المتقدم في
الأمر السادس.
و ثامنا: قولهم: إنه تحمل الصلب و اللعن أيضا لأن المصلوب ملعون، ما ذا يريدون
بقولهم: إنه تحمل اللعن؟ و ما ذا يراد بهذا اللعن؟ أ هو هذا اللعن الذي يعرفه
العرف و اللغة و هو الإبعاد من الرحمة و الكرامة أو غير ذلك؟ فإن كان هو الذي
نعرفه، و تعرفه اللغة فما معنى إبعاده تعالى نفسه من الرحمة أو إبعاد غيره إياه
من الرحمة؟ فهل الرحمة إلا الفيض الوجودي و موهبة النعمة و الاختصاص بمزايا
الوجود فيرجع هذا الإبعاد و اللعن بحسب المعنى إلى الفقر في المال أو الجاه أو
نحو ذلك في الدنيا أو الآخرة أو كلتيهما، و حينئذ فما معنى لحوق اللعن بالله
تعالى و تقدس بأي وجه تصوروه؟ مع أنه الغني بالذات الذي هو يسد باب الفقر عن كل
شيء.
و التعليم القرآني على خلاف هذا التعليم العجيب بتمام معنى الكلمة، قال تعالى:
"يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني": الفاطر - 15، و القرآن
يسميه تعالى بأسماء و يصفه بصفات يستحيل معها عروض أي فقر و فاقة و حاجة و
نقيصة و فقد و عدم و سوء و قبح و ذل و هوان إلى ساحة قدسه و كبريائه.
فإن قيل: إن اتصافه بالهوان، و حمله اللعن بواسطة اتحاده بالإنسان، و إلا فهو
تعالى في نفسه و حيال ذاته أجل من أن يعرضه ذلك.
قيل لهم: هل يوجب هذا الاتحاد حمله اللعن و اتصافه بهذه الأمور الشاقة حقيقة و
من غير مجاز أو لا؟ فإن كان الأول لزم المحذور الذي ذكرناه، و إن كان الثاني
عاد الإشكال، أعني أن تولد المسيح لم يوجب انحلال إشكال تزاحم الرحمة و العدل،
فإن تحمل غيره تعالى للمصائب و أقسام العذاب و اللعن لا يتم أمر الفدية أي
صيرورة الله فدية عن أفراد الإنسان، و هو ظاهر.
و تاسعا: قولهم: إن ذلك كفارة لخطايا المؤمنين بعيسى بل لخطايا كل العالم، يدل
ذلك على أنهم لم يحصلوا حقيقة معنى الذنوب و الخطايا و كيفية استتباعها للعقاب
الأخروي و كيف يتحقق هذا العقاب، و لم يعرفوا حقيقة الارتباط بين هذه الذنوب و
الخطايا و بين التشريع، و ما هو موقف التشريع من ذلك؟ على ما يتكفله البيان
القرآني و تعليمه.
فقد بينا في المباحث السابقة في هذا الكتاب و من جملتها ما في تفسير قوله
تعالى: "إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما": البقرة - 26، و في ذيل قوله
تعالى: "كان الناس أمة واحدة: البقرة - 213، أن الأحكام و القوانين التي يقع
فيها المخالفة و التمرد ثم الذنب و الخطيئة إنما هي أمور وضعية اعتبارية أريد
بوضعها و اعتبارها أن يحفظ مصالح المجتمع الإنساني بالعمل بها و الرقوب لها، و
أن العقاب المترتب على المعصية و المخالفة إنما هو تبعة سوء اعتبروه و وضعوه
ليكون ذلك صارفا للإنسان المكلف عن اقتراف المعصية و التمرد عن الطاعة، هذا ما
عند العقلاء البانين للمجتمع الإنساني.
لكن التعليم القرآني يعطي في هذا المعنى ما هو أرقى من ذلك و أرق و يؤيده البحث
العقلي على ما مر و هو أن الإنسان بانقياده للشرع المنصوب له من جانب الله و
عدم انقياده له تتهيأ في نفسه حقائق من الصفات الباطنة الحميدة الفاضلة أو
الرذيلة الخسيسة الخبيثة، و هذه هي التي تهيىء للإنسان نعمة أخروية أو نقمة
أخروية اللتين ممثلهما الجنة و النار و حقيقتهما القرب و البعد من الله
فالحسنات أو الخطايا تتكي و تنتهي إلى أمور حقيقية لها نظام حقيقي غير اعتباري.
و من البين أيضا أن التشريع الإلهي إنما هو تتمة للتكميل الإلهي في الخلقة، و
إنهاء الهداية التكوينية إلى غايتها و هدفها من الخلقة، و بعبارة أخرى، شأنه
تعالى إيصال كل نوع إلى كمال وجوده و هدف ذاته و من كمال وجود الإنسان النظام
النوعي الصالح في الدنيا، و الحيوة الناعمة السعيدة في الآخرة، و الطريق إلى
ذلك الدين الذي يتكفل قوانين صالحة لإصلاح الاجتماع و جهات من التقرب باسم
العبادات يعمل بها الإنسان فينتظم بذلك معاشه و يتهيأ في نفسه و يصلح في ذاته و
عمله للكرامة الإلهية في الدار الآخرة، كل ذلك من جهة النور المجعول في قلبه و
الطهارة الحاصلة في نفسه هذا حق الأمر.
فللإنسان قرب و بعد من الله سبحانه هما الملاكان في سعادته و شقاوته الدائمتين
و لصلاح اجتماعه المدني في الدنيا، و الدين هو العامل الوحيد في إيجاد هذا
القرب و البعد، و جميع ذلك أمور حقيقية غير مبتنية على اللغو و الجزاف.
و إذا فرضنا أن اقتراف معصية واحدة كالأكل من الشجرة المنهية من آدم أوجب له
الهلاك الدائم و لا له فحسب بل و لجميع ذريته ثم لم يكن هناك ما يعالج به الداء
و يفرج به الهم إلا فداء المسيح فما فائدة تشريع الدين قبل المسيح؟ و ما فائدة
تشريعه معه؟ و ما فائدة تشريعه بعده؟!.
و ذلك أنه لما فرض أن الهلاك الدائم و العقاب الأخروي محتوم من جهة صدور
المعصية لا ينفع في صرفه عن الإنسان لا عمل و لا توبة إلا بنحو الفداء لم يكن
معنى لتشريع الشرائع و إنزال الكتب و إرسال الرسل من عند الله سبحانه، و لم يزل
الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير خالية عن وجه الصحة فما ذا كاد يصلحه هذا
السعي بعد وجوب العذاب و حتم الفساد.
و إذا فرض هناك من تكمل بالعمل بالشرائع السابقة و كم من الأنبياء و الربانيين
من الأمم السالفة كذلك كالنبي المكرم إبراهيم و موسى (عليهما السلام) و غيرهما
و قد قضوا و ماتوا قبل إدراك زمان الفداء فما ذا ترى أ ترى أنهم ختموا الحيوة
على الشقاء أو السعادة؟ و ما الذي استقبلهم به الموت و عالم الآخرة؟ استقبلهم
بالعقاب و الهلاك أم بالثواب و الحيوة السعيدة؟.
مع أن المسيح يصرح بأنه إنما أرسل لتخليص المذنبين و المخطئين و أما الصلحاء و
الأخيار فلا حاجة لهم إلى ذلك؟ و بالجملة فلا يبقى لتشريع الشرائع الإلهية و
جعل النواميس الدينية قبل فداء المسيح غرض صحيح يصونه عن العبث و اللغوية، و لا
لهذا الفعل العجيب من الله تعالى و تقدس - محمل حق إلا أن يقال، إنه تعالى كان
يعلم أن لو لم يرفع محذور خطيئة آدم لم ينفعه شيء من هذه التشريعات قط، و إنما
شرع هذه الشرائع على سبيل الاحتياط برجاء أن سيوفق يوما لرفع المحذور و يجني
ثمرة تشريعه بعد ذلك، و يبلغ غايته و يظفر بأمنيته إذ ذاك فشرع ما شرع بكتمان
الأمر عن الأنبياء و الناس، و إخفاء أن هاهنا محذورا لو لم يرتفع خابت مساعي
الأنبياء و المؤمنين كافة، و ذهبت الشرائع سدى، و إظهار أن التشريع و الدعوة
على الجد و الحقيقة.
فغر الناس و غر نفسه: أما غرور الناس فبإظهار أن العمل بالشرائع يضمن مغفرتهم و
سعادتهم، و أما غرور نفسه فلأن التشريع بعد رفع المحذور بالفداء يعود لغوا لا
أثر له في سعادة الناس كما أنه من غير رفع المحذور كان لا أثر له فهذا، حال
تشريع الدين قبل وصول أوان الفداء و تحققه!.
و أما في زمان الفداء و بعده فالأمر في صيرورة التشريع و الدعوة الدينية و
الهداية الإلهية لغوا أوضح و أبين، فما هي الفائدة في الإيمان بالمعارف الحقة و
الإتيان بالأعمال الصالحة بعد ارتفاع محذور الخطيئة، و استيجاب نزول المغفرة و
الرحمة على الناس مؤمنهم و كافرهم، برهم و فاجرهم، من غير فرق بين أتقى
الأتقياء و أشقى الأشقياء في أنهما يشتركان في الهلاك المؤبد مع بقاء الخطيئة،
و في الرحمة اللازمة مع ارتفاعها بالفداء و المفروض أنه لا ينفع أي عمل صالح في
رفعها لو لا الفداء.
فإن قيل: إن الفداء إنما ينفع في حق من آمن بالمسيح فللدعوة ثمرة كما يصرح به
المسيح في بشارته.
قيل: مضافا إلى أنه مناقض لما تقدمت الإشارة إليه من كلام يوحنا في رسالته، أنه
هدم لجميع الأصول الماضية إذ لا يبقى من الناس - آدم فمن دونه - في حظيرة
النجاة و الخلاص إلا شرذمة منهم و هم المؤمنون بالمسيح و الروح بل واحدة من
طوائفهم المختلفة في الأصول و أما غيرهم فهم باقون على الهلاك الدائم، فليت
شعري إلى ما يئول أمر الأنبياء المكرمين قبل المسيح و أمر المؤمنين من أممهم؟ و
بما ذا يتصف الدعوة التي جاءوا بها من كتاب و حكم، أ بالصدق أم بالكذب؟ و
الأناجيل تصدق التوراة و دعوتها، و ليس فيها دعوة إلى قصة الروح و الفداء! و هل
هي تصدق ما هو صادق أو تصدق الكاذب.
فإن قيل: إن الكتب السماوية السابقة فيما نعلم تبشر بالمسيح، و هذه منهم دعوة
إجمالية إلى المسيح و إن لم تفصل القول في كيفية نزوله و فدائه فلم يزل الله
يبشر أنبياءه بظهور المسيح ليؤمنوا به و يطيبوا نفسا بما سيصنعه.
قيل: أولا: إن القول به قبل موسى تخرص على الغيب، على أن البشارة لو كانت فإنما
هي بشارة بالخلاص و ليست بدعوة إلى الإيمان و التدين به.
و ثانيا: إن ذلك لا يدفع محذور لغوية الدعوة في فروع الدين من الأخلاق و
الأفعال حتى من المسيح نفسه، و الأناجيل مملوءة بذلك.
و ثالثا: إن محذور الخطيئة و انتقاض الغرض الإلهي باق على حاله فإن الله تعالى
إنما خلقهم ليرحم جميعهم و يبسط النعمة و السعادة على كافتهم و قد آل أمره إلى
عقابهم و الغضب عليهم و إهلاكهم للأبد إلا شرذمة منهم.
فهذه نبذة من وجوه فساده عند العقل، و يؤيده و يجري عليه القرآن الكريم، قال
تعالى: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه - 50، فبين أن كل شيء مهدي إلى
غايته و ما يبتغيه بوجوده، و الهداية تعم التكوينية و التشريعية فالسنة الإلهية
جارية على بسط الهداية، و منها هداية الإنسان هداية دينية.
ثم قال تعالى و هو أول هداية دينية ألقاها إلى آدم و من معه حين إهباطهم من
الجنة: "قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف
عليهم و لا هم يحزنون و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها
خالدون": البقرة - 39، و ما يشتمل عليه بمنزلة التلخيص لتفاصيل الشرائع إلى يوم
القيامة ففيه تشريع و وعد و وعيد عليه من غير تردد و ارتياب، و قد قال تعالى:
"الحق أقول": ص - 84، و قال تعالى: "ما يبدل القول لدي و ما أنا بظلام للعبيد،:
ق - 29، فبين أنه لا يتردد فيما جزم به من الأمر و لا ينقض ما أنفذه من الأمر
فما يقضيه، هو الذي يمضيه، و إنما يفعل ما قاله، فلا ينحرف فعله عن المجرى الذي
أراد عليه لا من جهة نفسه بأن يريد شيئا ثم يتردد في فعله، أو يريده ثم يبدو له
فلا يفعله و لا جهة غيره بأن يريد شيئا و يقطع به و يعزم عليه ثم يمنعه مانع من
العقل أو يبدو إشكال يعترض عليه في طريق الفعل فكل ذلك من قهر القاهر، و غلبة
المانع الخارجي قال تعالى: "و الله غالب على أمره": يوسف - 21، و قال تعالى:
"إن الله بالغ أمره": الطلاق - 3، و قال تعالى حكاية عن موسى: "قال علمها عند
ربي في كتاب لا يضل ربي و لا ينسى": طه - 52، و قال تعالى: "اليوم تجزى كل نفس
بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب: المؤمن - 17.
تدل هذه الآيات و ما يشابهها على أنه تعالى إنما خلق الخلق و لم يغفل عن أمره،
و لم يجهل شيئا مما سيظهر منه و لم يندم على ما فعله، ثم شرع لهم الشرائع
تشريعا جديا فاصلا من غير هزل و لا خوف و لا رجاء، ثم إنه يجزي كل ذي عمل
بعمله، إن خيرا فخير و إن شرا فشر من غير أن يغلبه تعالى غالب، أو يحكم عليه
حاكم من شريك أو فدية أو خلة أو شفاعة من دون إذنه فكل ذلك ينافي ملكه المطلق
لما سواه من خلقه.
و عاشرا: ما ذكروه من حديث الفداء و حقيقة الفداء أن يلزم الإنسان أو ما يتعلق
به من نفس أو مال أثر سيىء من قتل أو فناء فيعوض بغيره أي شيء كان ليصان بذلك
من لحوق ذلك الأثر به كما يفدي الإنسان الأسير بنفس أو مال و كما تفدي الجرائم
و الجنايات بالأموال و يسمى البدل فدية و فداء، فالتفدية نوع معاملة ينتزع بها
حق صاحب الحق و سلطنته عن المفدي عنه إلى الفداء فيستنقذ به المفدي عنه من أن
يلحق به الشر.
و من هنا يظهر أن الفداء غير معقول في ما يتعلق بالله سبحانه فإن السلطنة
الإلهية - على خلاف السلطنة الوضعية الاعتبارية الإنسانية - سلطنة حقيقية
واقعية غير جائزة التبديل مستحيلة الصرف، فالأشياء بأعيانها و آثارها موجودة
قائمة بالله سبحانه و كيف يتصور تغيير الواقع عما هو عليه فليس إلا أمرا لا
يمكن تعقله فضلا عن أن يمكن وقوعه و هذا بخلاف الملك و السلطنة و الحق و
أمثالها الدائرة بيننا معاشر أبناء الاجتماع فإنها و أمثالها أمور وضعية
اعتبارية زمامها بأيدينا، نحن المجتمعين نبطلها مرة، و نبدلها أخرى على حسب
تغير مصالحنا في الحيوة و المعاش راجع ما تقدم من البحث في تفسير قوله تعالى:
"ملك يوم الدين: الحمد - 4، و قوله تعالى: "قل اللهم مالك الملك الآية: آل
عمران - 26.
و قد نفى الله سبحانه الفدية بالخصوص في قوله: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا
من الذين كفروا مأويكم النار": الحديد - 15، و قد تقدم فيما مر أن من هذا
القبيل قول المسيح فيما يحكيه الله تعالى عنه: "و إذ قال الله يا عيسى بن مريم
أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن
أقول ما ليس لي بحق - إلى أن قال - ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله
ربي و ربكم و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و
أنت على كل شيء شهيد إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم": المائدة - 118 فإن قوله: و كنت عليهم "الخ" في معنى أنه لم يكن لي شأن
فيهم إلا ما أنت وظفته علي و عينته و هو تبليغ الرسالة و الشهادة على الأعمال
ما دمت فيهم، و أما هلاكهم و نجاتهم و عذابهم و مغفرتهم فإنما ذلك إليك من غير
أن يرتبط بي شيء من ذلك أو يكون لي شأن فيه فأملك لهم شيئا منك أخرجهم به من
عذابك أو تسلطك عليهم، و في ذلك نفي الفداء إذ لو كان هناك فداء لم يصح تبريه
من أعمالهم و إرجاع العذاب و المغفرة معا إلى الله سبحانه بنفي ارتباطهما به
أصلا.
و في معنى هذه الآيات قوله تعالى: "و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا و لا
يقبل منها شفاعة و لا يؤخذ منها عدل و لا هم ينصرون": البقرة - 48، و كذا قوله
تعالى: "يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة": البقرة - 254، و قوله تعالى:
"يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم": المؤمن - 33، فإن العدل في الآية
الأولى و البيع في الآية الثانية و العصمة من الله في الآية الثالثة مما ينطبق
عليه الفداء فنفيها نفي الفداء.
نعم أثبت القرآن الشريف في مورد المسيح الشفاعة بدل ما يثبتونه من الفداء و
الفرق بينهما أن الشفاعة كما تقدم البحث عنها في قوله تعالى: "و اتقوا يوما لا
تجزي"،: البقرة - 48، نوع من ظهور قرب الشفيع و مكانته لدى المشفوع عنده من غير
أن يملك الشفيع منه شيئا أو يسلب عنه ملك أو سلطنة، أو يبطل حكمه الذي خالفه
المجرم أو يبطل قانون المجازاة بل إنما هو نوع دعاء و استدعاء من الشفيع لتصرف
المشفوع عنده و هو الرب ما يجوز له من التصرف في ملكه، و هذا التصرف الجائز مع
وجود الحق هو العفو الجائز للمولى مع كونه ذا حق أن يعذبه لمكان المعصية و
قانون العقوبة.
فالشفيع يحضه و يستدعي منه أن يعمل بالعفو و المغفرة في مورد استحقاق العذاب
للمعصية من غير أن يسلب من المولى ملك أو سلطان بخلاف الفداء فإنه كما مر
معاملة يتبدل به سلطنة من شيء إلى شيء آخر هو الفداء و يخرج المفدي عنه عن
سلطان القابل الآخذ للفداء.
و يدل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى: "و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة
إلا من شهد بالحق و هم يعلمون": الزخرف - 86، فإنه صريح في وقوع الشفاعة من
المستثنى، و المسيح (عليه السلام) ممن كانوا يدعونهم من دون الله، و قد نص
القرآن بأن الله علمه الكتاب و الحكمة، و بأنه من الشهداء يوم القيامة، قال
تعالى: "و يعلمه الكتاب و الحكمة": آل عمران - 48، و قال تعالى حكاية عنه: "و
كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم": المائدة - 117، و قال تعالى: "و يوم القيامة
يكون عليهم شهيدا": النساء - 159، فالآيات كما ترى تدل على كون المسيح (عليه
السلام) من الشفعاء، و قد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:
"و اتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا الآية: البقرة - 48.
6 - من أين نشأ هذه الآراء؟
القرآن ينفي أن يكون المسيح (عليه السلام) هو الملقي لهذه الآراء و العقائد
إليهم و المروج لها فيما بينهم بل إنهم تعبدوا لرؤسائهم في الدين و سلموا الأمر
إليهم و هم نقلوا إليهم عقائد الماضين من الوثنيين كما قال تعالى: "و قالت
اليهود عزير ابن الله و قالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم
يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم و
رهبانهم أربابا من دون الله و المسيح ابن مريم و ما أمروا إلا ليعبدوا إلها
واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون الآيات": التوبة - 31.
و هؤلاء الكافرون الذين يشير تعالى إليهم بقوله: يضاهئون قول الذين كفروا من
قبل، ليسوا هم عرب الجاهلية في وثنيتهم حيث قالوا: إن الملائكة بنات الله فإن
قولهم بأن لله ابنا أقدم تاريخا من تماسهم مع العرب و اختلاطهم بهم و خاصة قول
اليهود بذلك مع أن ظاهر قوله: من قبل، أنهم سابقون فيه على اليهود و النصارى،
على أن اتخاذ الأصنام في الجاهلية مما نقل إليهم من غيرهم و لم يكونوا بمبتكرين
في ذلك.
على أن الوثنية من الروم و يونان و مصر و سورية و الهند كانوا أقرب إلى أهل
الكتاب القاطنين بفلسطين و حواليه، و انتقال العقائد و المزاعم الدينية إليهم
منهم أسهل، و الأسباب بذلك أوفق.
فليس المراد بالذين كفروا الذين ضاهاهم أهل الكتاب في القول بالبنوة إلا قدماء
وثنية الهند و الصين و وثنية الغرب من الروم و يونان و شمال إفريقا كما أن
التاريخ يحكي عنهم نظائر هذه المزاعم الموجودة في أهل الكتاب من اليهود و
النصارى من البنوة و الأبوة و التثليث و حديث الصلب و الفداء و غير ذلك، و هذا
من الحقائق التاريخية التي ينبه عليها القرآن الشريف.
و نظير الآيات السابقة في الدلالة على هذه الحقيقة قوله تعالى: "قل يا أهل
الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق و لا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل و
أضلوا كثيرا و ضلوا عن سواء السبيل": المائدة - 77، فإن الآية تبين أن غلوهم في
الدين بغير الحق إنما طرأ عليهم بالتقليد و اتباع أهواء قوم ضالين من قبلهم.
و ليس المراد بهؤلاء القوم أحبارهم و رهبانهم، فإن الكلام مطلق غير مقيد و لم
يقل: قوم منكم، و أضلوا كثيرا منكم، و ليس المراد بهم عرب الجاهلية كما تقدم،
على أنه وصف هؤلاء القوم بأنهم أضلوا كثيرا أي كانوا أئمة ضلال مقلدين متبعين
بصيغة المفعول فيهما و لم يكن العرب يومئذ إلا شرذمة مضطهدين أميين ليس عندهم
من العلم و الحضارة و التقدم ما يتبعهم به و فيه غيرهم من الأمم كفارس و الروم
و الهند و غيرهم.
فليس المراد بهؤلاء القوم المذكورين إلا وثنية الصين و الهند و الغرب كما تقدم.
7 - ما هو الكتاب الذي ينتسب إليه أهل الكتاب و كيف هو؟
الرواية و إن عدت المجوس من أهل الكتاب، و لازم ذلك أن يكون لهم كتاب خاص أو
ينتموا إلى واحد من الكتب التي يذكرها القرآن ككتاب، نوح و صحف إبراهيم، و
توراة موسى، و إنجيل عيسى، و زبور داود، لكن القرآن لا يذكر شأنهم، و لا يذكر
كتابا لهم، و الذي عندهم من "أوستا" لا ذكر منه فيه، و ليس عندهم من سائر الكتب
اسم.
و إنما يطلق القرآن "أهل الكتاب" فيما يطلق، و يريد بهم اليهود و النصارى لكان
الكتاب الذي أنزله الله عليهم.
و الذي عند اليهود من الكتب المقدسة خمسة و ثلاثون كتابا منها توراة موسى
مشتملة على خمسة أسفار، و منها كتب المؤرخين اثنا عشر كتابا، و منها كتاب أيوب،
و منها زبور داود، و منها ثلاثة كتب لسليمان، و منها كتب النبوات سبعة عشر
كتابا.
و لم يذكر القرآن من بينها إلا توراة موسى و زبور داود (عليه السلام).
و الذي عند النصارى من مقدسات الكتب، الأناجيل الأربعة: و هي إنجيل متى، و
إنجيل مرقس، و إنجيل لوقا، و إنجيل يوحنا، و منها كتاب أعمال الرسل، و منها عدة
من الرسائل،.
و منها رؤيا يوحنا.
و لم يذكر القرآن شيئا من هذه الكتب المقدسة المختصة بالنصارى إلا أنه ذكر أن
هناك كتابا سماويا أنزله الله على عيسى بن مريم يسمى بالإنجيل، و هو إنجيل واحد
ليس بالأناجيل، و النصارى و إن كانوا لا يعرفونه و لا يعترفون به إلا أن في
كلمات رؤسائهم لقيطات تتضمن الاعتراف بأنه كان للمسيح كتاب اسمه إنجيل.
و القرآن مع ذلك لا يخلو من إشعار بأن بعضا من التوراة الحقة موجود فيما عند
اليهود، و كذا بعض من الإنجيل الحق موجود في أيدي النصارى، قال تعالى: "و كيف
يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله": المائدة - 43، و قال تعالى: "و من
الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به": المائدة - 14، و
الدلالة ظاهرة.
بحث تاريخي
1 - قصة التوراة الحاضرة:
بنو إسرائيل هم الأسباط من آل يعقوب كانوا يعيشون أولا عيشة القبائل البدويين
ثم أشخصهم الفراعنة إلى مصر و كانوا يعامل معهم معاملة الأسراء المملوكين حتى
نجاهم الله بموسى من فرعون و عمله.
و كانوا في زمن موسى يسيرون مسير الحيوة بالإمام و هو موسى و بعده يوشع (عليه
السلام) ثم كانوا برهة من الزمان يدبر أمرهم القضاة مثل إيهود و جدعون و
غيرهما.
و بعد ذلك يشرع فيهم عصر الملك و أول الملوك فيهم شاءول و هو الذي يسميه القرآن
الشريف بطالوت ثم داود ثم سليمان.
ثم انقسمت المملكة و انشعبت القدرة و مع ذلك ملك فيهم ملوك كثيرون كرحبعام و
أبيام و يربعام و يهوشافاط و يهورام و غيرهم بضعة و ثلاثون ملكا.
و لم تزل تضعف القدرة بعد الانقسام حتى تغلبت عليهم ملوك بابل و تصرفوا في
أورشليم و هو بيت المقدس، و ذلك في حدود سنة ستمائة قبل المسيح، و ملك بابل
يومئذ بخت نصر بنو كدنصر ثم تمردت اليهود عن طاعته فأرسل إليهم عساكره فحاصروهم
ثم فتحوا البلدة، و نهبوا خزائن الملك، و خزائن الهيكل المسجد الأقصى و جمعوا
من أغنيائهم و أقويائهم و صناعهم ما يقرب من عشرة آلاف نفسا و ساروا بهم إلى
بابل، و ما أبقوا في المحل إلا الضعفاء و الصعاليك، و نصب بخت نصر "صديقا" و هو
آخر ملوك بني إسرائيل ملكا عليهم، و عليه الطاعة لبخت نصر.
و كان الأمر على ذلك قريبا من عشر سنين حتى وجد صدقيا بعض القوة و الشدة، و
اتصل بعض الاتصال بواحد من فراعنة مصر فاستكبر و تمرد عن طاعة بخت نصر.
فأغضب ذلك بخت نصر غضبا شديدا فساق إليهم الجيوش و حاصر بلادهم فتحصنوا عنه
بالحصون، و تمادى بهم التحصن قريبا من سنة و نصف حتى ظهر فيهم القحط و الوباء.
و أصر بخت نصر على المحاصرة حتى فتح الحصون، و ذلك في سنة خمسمائة و ست و
ثمانين قبل المسيح، و قتل نفوسهم، و خرب ديارهم و خربوا بيت الله، و أفنوا كل
آية و علامة دينية، و بدلوا هيكلهم تلا من تراب، و فقدت عند ذلك التوراة و
التابوت الذي كانت تجعل فيه.
و بقي الأمر على هذا الحال خمسين سنة تقريبا و هم قاطنون ببابل و ليس من كتابهم
عين و لا أثر، و لا من مسجدهم و ديارهم إلا تلال و رياع.
ثم لما جلس كورش من ملوك فارس على سرير الملك، و كان من أمره مع البابليين ما
كان، و فتح بابل و دخله أطلق أسراء بابل من بني إسرائيل، و كان عزرا المعروف من
المقربين عنده فأمره عليهم، و أجاز له أن يكتب لهم كتابهم التوراة، و يبني لهم
الهيكل، و يعيدهم إلى سيرتهم الأولى و كان رجوع عزرا بهم إلى بيت المقدس سنة
أربعمائة و سبعة و خمسين قبل المسيح، و بعد ذلك جمع عزرا كتب العهد العتيق و
صححها، و هي التوراة الدائرة اليوم.
و أنت ترى بعد التدبر في القصة أن سنة التوراة الدائرة اليوم مقطوعة غير متصلة
بموسى (عليه السلام) إلا بواحد و هو عزرا، لا نعرفه أولا و لا نعرف كيفية
اطلاعه و تعمقه ثانيا، و لا نعرف مقدار أمانته ثالثا، و لا نعرف من أين أخذ ما
جمعه من أسفار التوراة رابعا، و لا ندري بالاستناد إلى أي مستند صحح الأغلاط
الواقعة أو الدائرة خامسا.
و قد أعقبت هذه الحادثة المشئومة أثرا مشئوما آخر و هو إنكار عدة من باحثي
المؤرخين من الغربيين وجود موسى و ما يتبعه، و قولهم: إنه شخص خيالي كما قيل
نظيره في المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام)، لكن ذلك لا يسع لمسلم فإن
القرآن الشريف يصرح بوجوده (عليه السلام) و ينص عليه.
2 - قصة المسيح و الإنجيل:
اليهود مهتمون بتاريخ قوميتهم، و ضبط الحوادث الظاهرة في الأعصار التي مرت بهم،
و مع ذلك فإنك لو تتبعت كتبهم و مسفوراتهم لم تعثر فيها على ذكر المسيح عيسى بن
مريم (عليهما السلام): لا على كيفية ولادته، و لا على ظهوره و دعوته و لا على
سيرته و الآيات التي أظهرها الله على يديه، و لا على خاتمة حيوته من موت أو قتل
أو صلب أو غير ذلك، فما هو السبب في ذلك؟ و ما هو الذي أوجب خفاء أمره عليهم أو
إخفاءهم أمره.
و القرآن يذكر عنهم أنهم قذفوا مريم و رموها بالبهتان في ولادة عيسى، و أنهم
ادعوا قتل عيسى، قال تعالى: "و بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما و قولهم
إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم
و إن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن و ما قتلوه
يقينا": النساء - 157.
فهل كانت دعواهم تلك مستندة إلى حديث دائر بينهم كانوا يذكرونه بين قصصهم
القومية من غير أن يكون مودعا في كتاب؟ و عند كل أمة أحاديث دائرة من واقعيات و
أساطير لا اعتبار بها ما لم تنته إلى مآخذ صحيحة قويمة.
أو أنهم سمعوا من النصارى الذكر المكرر من المسيح و ولادته و ظهوره و دعوته
أخذوا ذلك من أفواههم و باهتوا مريم و ادعوا قتل المسيح؟ لا طريق إلى استبانة
شيء من ذلك غير أن القرآن - كما يظهر بالتدبر في الآية السابقة - لا ينسب إليهم
صريحا إلا دعوى القتل دون الصلب، و يذكر أنهم على ريب من الأمر، و أن هناك
اختلافا!.
و أما حقيقة ما عند النصارى من قصة المسيح و أمر الإنجيل و البشارة فهي أن قصته
(عليه السلام) و ما يتعلق بها تنتهي عندهم إلى الكتب المقدسة عندهم و هي
الأناجيل الأربعة التي هي أناجيل متى و مرقس و لوقا و يوحنا، و كتاب أعمال
الرسل للوقا، و عدة رسائل لبولس و بطرس و يعقوب و يوحنا و يهوذا، و اعتبار
الجميع ينتهي إلى اعتبار الأناجيل فلنشتغل بها: أما إنجيل متى فهو أقدم
الأناجيل في تصنيفه و انتشاره ذكر بعضهم أنه صنف سنة 38 الميلادية، و ذكر آخرون
أنه كتب ما بين سنة 50 إلى سنة 60.
فهو مؤلف بعد المسيح.
و المحققون من قدمائهم و متأخريهم على أنه كان أصله مكتوبا بالعبرانية ثم ترجم
إلى اليونانية و غيرها أما النسخة الأصلية العبرانية فمفقودة، و أما الترجمة
فلا يدرى حالها، و لا يعرف مترجمها.
و أما إنجيل مرقس: فمرقس هذا كان تلميذا لبطرس، و لم يكن من الحواريين و ربما
ذكروا أنه إنما كتب إنجيله بإشارة بطرس و أمره، و كان لا يرى إلهية المسيح، و
لذلك ذكر بعضهم أنه إنما كتب إنجيله للعشائر و أهل القرى فعرف المسيح تعريف
رسول إلهي مبلغ لشرائع الله، و كيف كان فقد كتب إنجيله سنة 61 ميلادية.
و أما إنجيل لوقا فلوقا هذا لم يكن حواريا و لا رأى المسيح و إنما تلقن
النصرانية من بولس، و بولس كان يهوديا متعصبا على النصرانية يؤذي المؤمنين
بالمسيح و يقلب الأمور عليهم، ثم اتفق مفاجأة أن ادعى أنه صرع و في حال الصرع
لمسه المسيح و لامه و زجره عن الإساءة إلى متبعيه و أنه آمن بالمسيح و أرسله
المسيح ليبشر بإنجيله.
و بولس هذا هو الذي شيد أركان النصرانية الحاضرة على ما هي عليها فبنى التعليم
على أن الإيمان بالمسيح كاف في النجاة من دون عمل، و أباح لهم أكل الميتة و لحم
الخنزير و نهى عن الختنة و كثيرا مما في التوراة مع أن الإنجيل لم يأت إلا
مصدقا لما بين يديه من التوراة، و لم يحلل إلا أشياء معدودة، و بالجملة إنما
جاء عيسى ليقوم شريعة التوراة و يرد إليها المنحرفين و الفاسقين لا ليبطل العمل
و يقصر السعادة على الإيمان الخالي.
و قد كتب لوقا إنجيله بعد إنجيل مرقس.
و ذلك بعد موت بطرس و بولس، و قد صرح جمع بأن إنجيله ليس كتابا إلهاميا كسائر
الأناجيل كما يدل عليه ما وقع في مبتدإ إنجيله.
و أما إنجيل يوحنا فقد ذكر كثير من النصارى أن يوحنا هذا هو يوحنا بن زبدي
الصياد أحد التلاميذ الاثنى عشر الحواريين الذي كان يحبه المسيح حبا شديدا.
و ذكروا أن "شيرينطوس" و "أبيسون" و جماعتهما لما كانوا يرون أن المسيح ليس إلا
إنسانا مخلوقا لا يسبق وجوده وجود أمه اجتمعت أساقفة آسيا و غيرهم في سنة 96
ميلادية عند يوحنا و التمسوا منه أن يكتب ما لم يكتبه الآخرون في أناجيلهم، و
يبين بنوع خصوصي لاهوت المسيح فلم يسعه أن ينكر إجابة طلبهم.
و قد اختلفت كلماتهم في السنة التي ألف فيها هذا الإنجيل فمن قائل إنها سنة 65،
و قائل إنها سنة 96، و قائل إنها سنة 98.
و قال جمع منهم إنه ليس تأليف يوحنا التلميذ: فبعضهم على أنه تأليف طالب من
طلبة المدرسة الإسكندرية، و بعضهم على أن هذا الإنجيل كله و كذا رسائل يوحنا
ليست من تصنيفه بل إنما صنفه بعضهم في ابتداء القرن الثاني، و نسبه إلى يوحنا
ليعتبره الناس، و بعضهم على أن إنجيل يوحنا كان في الأصل عشرين بابا فألحقت
كنيسة "أفاس" الباب الحادي و العشرين بعد موت يوحنا، فهذه حال هذه الأناجيل
الأربعة، و إذا أخذنا بالقدر المتيقن من هذه الطرق انتهت إلى سبعة رجال هم:
متى، مرقس، لوقا، يوحنا، بطرس، بولس، يهوذا، ينتهي ركونهم كله إلى هذه الأناجيل
الأربعة و ينتهي الأربعة إلى واحد هو أقدمها و أسبقها و هو إنجيل متى، و قد مر
أنه ترجمة مفقود الأصل لا يدرى من الذي ترجمه؟ و كيف كان أصله و على ما ذا كان
يبني تعليمه، أ برسالة المسيح أم بألوهيته.
و هذا الإنجيل الموجود يترجم أنه ظهر في بني إسرائيل رجل يدعى عيسى بن يوسف
النجار و أقام الدعوة إلى الله، و كان يدعي أنه ابن الله مولود من غير أب بشري
و أن أباه أرسله ليفدي به الناس عن ذنوبهم بالصلب و القتل، و أنه أحيا الميت، و
أبرأ الأكمه و الأبرص، و شفى المجانين بإخراج الجن من أبدانهم، و أنه كان له
اثنا عشر تلميذا: أحدهم متى صاحب الإنجيل بارك لهم و أرسلهم للدعوة و تبليغ
الدين المسيحي "الخ".
فهذا ملخص ما تنتهي إليه الدعوة المسيحية على انبساطها على شرق الأرض و غربها،
و هو لا يزيد على خبر واحد مجهول الاسم و الرسم، مبهم العين و الوصف.
و هذا الوهن العجيب في مبدإ القصة هو الذي أوجب لبعض أحرار الباحثين من أروبا
أن ادعى أن المسيح عيسى بن مريم شخص خيالي صوره بعض النزعات الدينية على حكومات
الوقت أو لها و تأيد ذلك بموضوع خرافي آخر يشبهه كل الشبه في جميع شئون القصة،
و هو موضوع "كرشنا" الذي تدعي وثنية الهند القديمة أنه ابن الله نزل عن لاهوته،
و فدى الناس بنفسه صلبا ليخلصهم من الأوزار و الخطايا كما يدعى في عيسى المسيح
حذو النعل بالنعل كما سيجيء ذكره.
و أوجب لآخرين من منتقدي الباحثين أن يذهبوا إلى أن هناك شخصين مسميين بالمسيح:
المسيح غير المصلوب، و المسيح المصلوب، و بينهما من الزمان ما يزيد على خمسة
قرون.
و أن التاريخ الميلاد الذي سنتنا هذه سنة ألف و تسعمائة و ستة و خمسين منه لا
ينطبق على واحد منهما بل المسيح الأول غير المصلوب يتقدم عليه بما يزيد على
مائتين و خمسين سنة و قد عاش نحوا من ستين سنة، و المسيح الثاني المصلوب يتأخر
عنه بما يزيد على مائتين و تسعين سنة و قد عاش نحو من ثلاث و ثلاثين سنة.
على أن عدم انطباق التاريخ الميلاد على ميلاد المسيح في الجملة مما لم يسع
للنصارى إنكاره و هو سكتة تاريخية.
على أن هاهنا أمورا مريبة موهمة أخرى فقد ذكروا أنه كتب في القرنين الأولين من
الميلاد أناجيل كثيرة أخرى ربما أنهوها إلى نيف و مائة من الأناجيل، و الأناجيل
الأربعة منها ثم حرمت الكنيسة جميع تلك الأناجيل إلا الأناجيل الأربعة التي
عرفت قانونية لموافقة متونها تعليم الكنيسة.
و من جملة الأناجيل المتروكة إنجيل برنابا الذي ظهرت نسخة منها منذ سنين فترجمت
إلى العربية و الفارسية و هو يوافق في عامة قصصه ما قصه القرآن في المسيح عيسى
بن مريم.
و من العجيب أن المواد التاريخية المأثورة عن غير اليهود أيضا ساكتة عن تفاصيل
ما ينسبه الإنجيل إلى الدعوة المسيحية من حديث البنوة و الفداء و غيرهما ذكر
المؤرخ الأمريكي الشهير هندريك ويلم وان لون في تأليفه في تاريخ البشر كتابا
كتبه الطبيب إسكولابيوس كولتلوس الرومي سنة 62 الميلادية إلى ابن أخيه
جلاديوسأنسا و كان جنديا في عسكر الروم بفلسطين يذكر فيه أنه عاد مريضا برومية
يسمى بولس فأعجبه كلامه و قد كان بولس كلمه بالدعوة المسيحية و ذكر له طرفا من
أخبار المسيح و دعوته.
ثم يذكر أنه ترك بولس و لم يره حتى سمع بعد حين أنه قتل في طريق أوستى ثم يسأل
ابن أخيه أن يبحث عن أخبار هذا النبي الإسرائيلي الذي كان يذكره بولس و عن
أخبار بولس نفسه و يكتب إليه ما بلغه من ذلك.
فكتب إليه جلاديوسأنسا بعد ستة أسابيع من معسكر الروم بأورشليم أني سألت عدة من
شيوخ البلد و معمريهم عن عيسى المسيح فوجدتهم لا يحسنون مجاوبتي فيما أسألهم
هذا و السنة سنة 62 ميلادية و هم شيوخ.
حتى لقيت بياع زيتون فسألته هل يعرفه فأنعم لي في الجواب ثم دلني على رجل اسمه
يوسف و ذكر أنه كان من أتباعه و محبيه و أنه خبير بقصصه بصير بأخباره يستطيع أن
يجيبك فيما تسأله عنه.
فلقيت يوسف اليوم بعد ما تفحصت أياما فوجدته شيخا هرما و قد كان قديما يصطاد
السمك في بعض البحيرات من هذه الناحية.
كان الرجل على كبر سنه صحيح المشاعر جيد الحافظة و قص لي جميع الأخبار و
القضايا الحادثة في ذلك الأوان أوان الاغتشاش و الفتنة.
ذكر أن فونتيوس فيلاطوس كان حاكما على سامرا و يهودية في عهد القيصر تيبريوس.
فاتفق أن وقع أيام حكومته فتنة في أورشليم فسافر فونتيوس فيلاطوس إليه لإخماد
ما فيه من نار الفتنة و كانت الفتنة هي ما شاع يومئذ أن ابن نجار من أهل
الناصرة يدعو الناس و يستنهضهم على الحكومة.
فلما تحققوا أمره تبين أن ابن النجار المتهم شاب عاقل متين لم يرتكب ما يوجب
عليه سياسة غير أن رؤساء المذهب من اليهود كانوا يخالفونه و يباغضونه بأشد ما
يكون و قد قالوا لفيلاطوس إن هذا الشاب الناصري يقول لو أن يونانيا أو روميا أو
فلسطينيا عامل الناس و عاشرهم بالعدالة و الشفقة كان عند الله كمن صرف عمره في
مطالعة كتاب الله و تلاوة آياته.
و كان هذه التعرضات و الاقتراحات لم تؤثر في فيلاطوس أثرها لكنه لما سمع ازدحام
الناس قبال المعبد و هم يريدون أن يقبضوا على عيسى و أصحابه و يقطعوهم إربا
إربا رأى أن الأصلح أن يقبض هو على هذا الشاب النجار و يسجنه حتى لا يقتل بأيدي
الناس في غوغائهم.
و كان فيلاطوس لم يتضح له سبب ما ينقمه الناس من عيسى كل الاتضاح و كلما كلم
الناس في أمره و سألهم و استوضحهم علت أصواتهم و تنادوا هو كافر هو ملحد هو
خائن فلم ينته الأمر إلى طائل.
حتى استقر رأي فيلاطوس أن يكلم عيسى بنفسه فأشخصه و كلمه و سأله عما يقصده بما
يبلغه من الدين فأجابه عيسى أنه لا يهتم بأمر الحكومة و السياسة و لا له في ذلك
غرض و أنه يهتم بالحياة الروحانية أكثر مما يهتم بأمر الحياة الجسمانية و أنه
يعتقد أن الإنسان يجب أن يحسن إلى الناس و يعبد الله الفرد الواحد وحده الذي هو
في حكم الأب لجميع أرباب الحياة من المخلوقات.
و كان فيلاطوس ذا خبرة في مذاهب الرواقيين و سائر فلاسفة يونان فكأنه لم ير في
ما كلمه به عيسى موضع غمضة و لا محل مؤاخذة و لذلك عزم ثانيا أن يخلص هذا النبي
السليم المتين من شر اليهود و سوف في حكم قتله و إنجازه.
لكن اليهود لم يرضوا بذلك و لم يتركوه على حاله بل أشاعوا عليه أنه فتن بأكاذيب
عيسى و أقاويله و أن فيلاطوس يريد الخيانة على قيصر و أخذوا يستشهدون عليه و
يسجلون الطوامير على ذلك يريدون به عزله من الحكومة و قد كان برز قبل ذلك فتن و
انقلابات في فلسطين و القوى المؤمنة القيصرية قليلة العدة لا تقوى على إسكات
الناس فيها كل القوة.
و كان على الحكام و سائر المأمورين من ناحية قيصر أن لا يعاملوا الناس بما يجلب
شكواهم و عدم رضايتهم.
فلهذه الأسباب لم ير فيلاطوس بدا من أن يفدي هذا الشاب المسجون للأمن العام و
يجيب الناس فيما سألوه من قتله.
و أما عيسى فإنه لم يجزع من الموت بل استقبله على شهامة من نفسه و قد عفا قبل
موته عمن تسبب إلى قتله من اليهود ثم قضى به على الصليب و الناس يسخرون منه و
يشتمونه و يسبونه.
قال جلاديوسأنسا هذا ما قص لي يوسف من قصة عيسى و دموعه تجري على خديه و حين
ودعني للمفارقة قدمت إليه شيئا من المسكوك الذهبي لكنه أبى أن يأخذه و قال لي
يوجد هاهنا من هو أفقر مني فأعطه إياه.
و سألته عن بولس رفيقك المعهود فما كان يعرفه معرفة تامة و القدر الذي تبين من
أمره أنه كان رجلا خياما ثم ترك شغله و اشتغل بالتبليغ لهذا المذهب الجديد مذهب
الرب الرءوف الرحيم الإله الذي بينه و بين يهوه إله يهود الذي لا نزال نسمعه من
علماء اليهود من الفرق ما هو أبعد مما بين السماء و الأرض.
و الظاهر أن بولس سافر أولا إلى آسيا الصغرى ثم إلى يونان و أنه كان يقول
للعبيد و الأرقاء إنهم جميعا أبناء لأب يحبهم و يرأف بهم و أن السعادة ليست تخص
بعض الناس دون بعض بل تعم جميع الناس من فقير و غني بشرط أن يعاشروا على
المؤاخاة و يعيشوا على الطهارة و الصداقة انتهى ملخصا.
هذه عامة فقرات هذا الكتاب مما يرتبط بما نحن فيه من البحث.
و بالتأمل في جمل مضامين هذا الكتاب يتحصل للمتأمل أن ظهور الدعوة المسيحية كيف
كان في بني إسرائيل بعيد عيسى (عليه السلام) و أنه لم يكن إلا ظهور دعوة نبوية
بالرسالة من عند الله لا ظهور دعوة إلهية بظهور اللاهوت و نزولها إليهم و
تخليصهم بالفداء ثم إن عدة من تلامذة عيسى أو المنتسبين إليه كبولس و تلامذة
تلامذتهم سافروا بعد وقعة الصلب إلى مختلف أقطار الأرض من الهند و إفريقية و
رومية و غيرها و بسطوا الدعوة المسيحية لكنهم لم يلبثوا دون أن اختلفوا في
مسائل أصلية من التعليم كلاهوت المسيح و كفاية الإيمان بالمسيح عن العمل بشريعة
موسى و كون دين الإنجيل دينا أصيلا ناسخا لدين موسى أو كونه تابعا لشريعة
التوراة مكملا إياها فافترقوا عند ذلك فرقا.
و الذي يجب الإمعان فيه أن الأمم التي بسطت الدعوة المسيحية و ظهرت فيها أول
ظهورها كالروم و الهند و غيرهما كانوا قبلها منتحلين بالوثنية الصابئة أو
البرهمنية أو البوذائية و فيها أصول من مذاق التصوف من جهة و الفلسفة البرهمنية
من جهة و فيها جميعا شطر وافر من ظهور اللاهوت في مظهر الناسوت على أن القول
بتثليث الوحدة و نزول اللاهوت في لباس الناسوت و تحملها الصلب و العذاب فداء
كان دائرا بين القدماء من وثنية الهند و الصين و مصر و كلدان و الآشور و الفرس،
و كذا قدماء وثنية الغرب كالرومان و الإسكندناويين و غيرهم على ما يوجد في
الكتب المؤلفة في الأديان و المذاهب القديمة.
ذكر "دوان" في كتابه "خرافات التوراة و ما يماثلها في الأديان الأخرى" إذا
رجعنا البصر إلى الهند نرى أن أعظم و أشهر عبادتهم اللاهوتية هو التثليث، و
يسمون هذا التعليم بلغتهم "ترىمورتى" و هي عبارة مركبة من كلمتين بلغتهم
السنسكريتية "ترى" و معناها الثلاثة و "مورتى" و معناها هيئات أو أقانيم، و هي
"برهما"، و فشنو، و سيفا" ثلاثة أقانيم متحدة لا ينفك عن الوحدة فهي إله واحد
بزعمهم.
ثم ذكر: أن برهما عندهم هو الأب و فشنو هو الابن و سيفا هو روح القدس.
ثم ذكر أنهم يدعون سيفا "كرشنا" الرب المخلص و الروح العظيم الذي ولد منه
"فشنو" الإله الذي ظهر بالناسوت على الأرض ليخلص الناس فهو أحد الأقانيم
الثلاثة التي هي الإله الواحد.
و ذكر أيضا: أنهم يرمزون للأقنوم الثالث بصورة حمامة كما يقوله النصارى.
و قال مستر "فابر" في كتابه "أصل الوثنية" كما نجد عند الهنود ثالوثا مؤلفا من
"برهما" و "فشنو" و "سيفا" نجد عند البوذيين ثالوثا فإنهم يقولون: إن "بوذ" إله
له ثلاثة أقانيم، و كذلك بوذيو جينست يقولون: إن "جيفا" مثلث الأقانيم.
قال: و الصينيون يعبدون بوذه و يسمونه "فو" و يقولون إنه ثلاثة أقانيم كما تقول
الهنود.
و قال دوان في كتابه المتقدم ذكره: و كان قسيسوا هيكل منفيس بمصر يعبرون عن
الثالوث المقدس للمبتدئين بتعلم الدين بقولهم: إن الأول خلق الثاني و الثاني
خلق الثالث، و بذلك تم الثالوث المقدس.
و سأل توليسو ملك مصر الكاهن تنيشوكى أن يخبره: هل كان قبله أحد أعظم منه؟ و هل
يكون بعده أحد أعظم منه؟ فأجابه الكاهن: نعم يوجد من هو أعظم و هو الله قبل كل
شيء ثم الكلمة و معهما روح القدس، و لهذه الثلاثة طبيعة واحدة، و هم واحد
بالذات و عنهم صدرت القوة الأبدية، فاذهب يا فاني يا صاحب الحياة القصيرة.
و قال بونويك في كتابه "عقائد قدماء المصريين" أغرب كلمة عم انتشارها في ديانة
المصريين هي قولهم بلاهوت الكلمة، و أن كل شيء حصل بواسطتها، و أنها منبثقة من
الله، و أنها هي الله، انتهى، و هذا عين العبارة التي يبتدي بها إنجيل يوحنا
|