قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء" إلى آخر الآيتين
السلطان هو الحجة.
و الدرك بفتحتين - و قد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال
اعتبارا بالصعود، و الدرك اعتبارا بالحدور، و لهذا قيل: درجات الجنة و دركات
النار، و لتصور الحدور في النار سميت هاوية انتهى.
و الآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار و ترك ولاية
المؤمنين، ثم الآية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، و
ليس إلا أن الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.
و السياق يدل على أن قوله "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا"، كالنتيجة المستنتجة
مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، و هذا كالصريح في أن الآيات السابقة إنما
تتعرض لحال مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان من المؤمنين و يسميهم المنافقين، و لا
أقل من شمولها لهم ثم يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى و لا يتعرضوا لسخط
الله، و لا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم و يخدعهم و يذبذبهم
في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم و بين الكافرين في جهنم جميعا، ثم يسكنهم في
أسفل درك من النار، و يقطع بينهم و بين كل نصير ينصرهم، و شفيع يشفع لهم.
و يظهر من الآيتين أولا: أن الإضلال و الخدعة و كل سخط إلهي من هذا القبيل إنما
عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة و المجازاة، و
حاشا الجناب الإلهي أن يبدأهم بالشر و الشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من
قبلهم، فقوله "أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا"؟ يجري مجرى قوله "و
ما يضل به إلا الفاسقين": البقرة: 26.
و ثانيا: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، و لا محالة يشتد بحسبها
عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.
قوله تعالى: "إلا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله"
استثناء من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: "إن المنافقين في الدرك الأسفل
من النار" الآية و لازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، و لحوقهم بصف المؤمنين،
و لذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، و ذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال
تعالى: "فأولئك مع المؤمنين و سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما.
و قد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، و ليست
تنبت أصول النفاق و أعراقه إلا بها، فذكر التوبة و هي الرجوع إلى الله تعالى، و
لا ينفع الرجوع و التوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس و عمل، و لا
ينفع الإصلاح إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه و سنة نبيه (صلى الله عليه
وآله وسلم) إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه و ما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.
و لا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - و هو الذي فيه الاعتصام -
لله، فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه و لا يغفر، فإذا تابوا إلى الله و أصلحوا كل
فاسد منهم و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب
إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق و اهتدوا قال تعالى: "الذين ءامنوا و لم يلبسوا
إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82.
و يظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للإيمان،
و قد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا
دينهم لله، و هذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من
صفاتهم و نعوتهم كقوله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون و
الذين هم عن اللغو معرضون" إلى آخر الآيات: المؤمنون: 3، و قوله تعالى "و عباد
الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما و الذين
يبيتون لربهم سجدا و قياما" الآيات: الفرقان: 64، و قوله "فلا و ربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا
تسليما": النساء: 65.
فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على
خلافه.
و قد قال تعالى: "فأولئك مع المؤمنين" و لم يقل: فأولئك من المؤمنين لأنهم
بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، و لن يكونوا منهم حتى تستمر
فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.
قوله تعالى: "ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و ءامنتم"، ظاهره أنه خطاب
للمؤمنين، لأن الكلام جار على خطابهم و إنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن
إيمانهم و فرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.
و هو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، و أنهم لو لم يستوجبوا العذاب
بتركهم الشكر و الإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع
بعذابهم حتى يؤثره، و لا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا
موجب لعذابكم إن شكرتم نعمة الله بأداء واجب حقه و آمنتم به و كان الله شاكرا
لمن شكره و آمن به، عليما لا يجهل مورده.
و في الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، و
كذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، و لو كان شيء من ذلك من قبله
تعالى لكان العذاب الذي يستتبعه أيضا من قبله لأن المسبب يستند إلى من استند
إليه السبب.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم: عن أبي جعفر و أبي عبد
الله (عليه السلام) في قول الله "إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا - ثم
كفروا ثم ازدادوا كفرا" قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى
مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق فيه من الإيمان شيء و فيه، عن أبي بصير قال:
سمعته يقول: "إن الذين ءامنوا ثم كفروا" الآية من زعم أن الخمر حرام ثم شربها،
و من زعم أن الزنا حرام ثم زنى، و من زعم أن الزكاة حق و لم يؤدها.
أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، و من مراتبه ترك الواجبات و فعل
المحرمات، و تأييد لما تقدم في البيان.
و فيه، عن محمد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله "و قد
نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله - إلى قوله إنكم إذا مثلهم" قال:
إذا سمعت الرجل يجحد الحق و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي: عن الرضا (عليه السلام) في قول الله
جل جلاله "و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا" قال: فإنه يقول: و لن
يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، و لقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا
نبيهم بغير الحق و مع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا. و في
الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: "و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين
سبيلا" قال: في الآخرة.
أقول: و قد تقدم أن ظاهر السياق هو الآخرة و لو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها
شملت الحجة في الدنيا.
و في العيون، بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت علي بن موسى الرضا (عليهما
السلام) عن قوله "يخادعون الله و هو خادعهم" فقال الله تبارك و تعالى: لا
يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة. و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن زياد عن
جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل: فيما
النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله
يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر. فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال:
يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائي
يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك،
و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له. و في الكافي،
بإسناده عن أبي المعزى الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من
ذكر الله عز و جل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله
علانية، و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: "يراءون الناس و لا يذكرون
الله إلا قليلا" أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف.
و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن علي قال: لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل
ما يتقبل؟.
أقول: و هذا أيضا معنى لطيف، و مرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق.
و فيه: أخرج مسلم و أبو داود و البيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين
قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى
الله بقيامه إلى الصلاة، و كان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور و الطمأنينة في
صلاته.
و المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار و
الليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.
و فيه: أخرج عبد بن حميد و البخاري في تاريخه و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر
عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل المنافق مثل
الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة و إلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع
و فيه: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس
قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة و فيه: و أخرج ابن أبي شيبة و المروزي في
زوائد الزهد و أبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه
على لسانه.
أقول: و الرواية من المشهورات، و قد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق أخرى.
و فيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا
رسول الله و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.
أقول: و الرواية مستفيضة معنى و قد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة و
الشيعة عن النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و سنورد عمدة ألفاظها
المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
و في ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها
لظهورها في الجري و تطبيق المصداق.
و الله أعلم.
4 سورة النساء - 148 - 149
* لا يحِب اللّهُ الْجَهْرَ بِالسوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَن ظلِمَ وَ كانَ
اللّهُ سمِيعاً عَلِيماً (148) إِن تُبْدُوا خَيراً أَوْ تخْفُوهُ أَوْ
تَعْفُوا عَن سوءٍ فَإِنّ اللّهَ كانَ عَفُوّا قَدِيراً (149)
بيان
قوله تعالى: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال الراغب في
مادة "جهر" يقال لظهور الشيء بإفراط لحاسة البصر أو حاسة السمع، أما البصر فنحو
رأيته جهارا، قال الله تعالى: "لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة" "أرنا الله جهرة"
- إلى أن قال - و أما السمع فمنه قوله تعالى: "سواء منكم من أسر القول و من جهر
به". و السوء من القول كل كلام يسوء من قيل فيه كالدعاء عليه، و شتمه بما فيه
من المساوىء و العيوب و بما ليس فيه، فكل ذلك لا يحب الله الجهر به و إظهاره، و
من المعلوم أنه تعالى منزه من الحب و البغض على حد ما يوجد فينا معشر الإنسان و
ما يجانسنا من الحيوان، إلا أنه لما كان الأمر و النهي عندنا بحسب الطبع صادرين
عن حب و بغض كني بهما عن الإرادة و الكراهة و عن الأمر و النهي.
فقوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" كناية عن الكراهة التشريعية أعم من
التحريم و الإعانة.
و قوله "إلا من ظلم" استثناء منقطع أي لكن من ظلم لا بأس بأن يجهر بالسوء من
القول فيمن ظلمه من حيث ظلم، و هذه هي القرينة على أنه إنما يجوز له الجهر
بالسوء من القول يبين فيه ما ظلمه، و يظهر مساوئه التي فيه مما ظلمه به، و أما
التعدي إلى غيره مما ليس فيه، أو ما لا يرتبط بظلمه فلا دليل على جواز الجهر به
من الآية.
و المفسرون و إن اختلفوا في تفسير السوء من القول فمن قائل إنه الدعاء عليه، و
من قائل إنه ذكر ظلمه و ما تعدى به عليه و غير ذلك إلا أن الجميع مشمول لإطلاق
الآية فلا موجب لتخصيص الكلام ببعضها.
و قوله "و كان الله سميعا عليما" في مقام التأكيد للنهي المستفاد من قوله "لا
يحب الله الجهر"، أي لا ينبغي الجهر بالسوء من القول من غير المظلوم فإن الله
سميع يسمع القول عليم يعلم به.
قوله تعالى: "إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا"
الآية لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تشمل إظهار الخير من القول شكرا لنعمة
أنعمها منعم على الإنسان، و تشمل العفو عن السوء و الظلم فلا يجهر على الظالم
بالسوء من القول.
فإبداء الخير إظهاره سواء كان فعلا كإظهار الإنفاق على مستحقه و كذا كل معروف
لما فيه من إعلاء كلمة الدين و تشويق الناس إلى المعروف، أو كان قولا كإظهار
الشكر على المنعم و ذكره بجميل القول لما فيه من حسن التقدير و تشويق أهل
النعمة.
و إخفاء الخير منصرفه إخفاء فعل المعروف ليكون أبعد من الرئاء و أقرب إلى
الخلوص كما قال: "إن تبدوا الصدقات فنعما هي و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو
خير لكم و يكفر عنكم من سيئاتكم": البقرة: 271.
و العفو عن السوء هو الستر عليه قولا بأن لا يذكر ظالمة بظلمه، و لا يذهب بماء
وجهه عند الناس، و لا يجهر عليه بالسوء من القول، و فعلا بأن لا يواجهه بما
يقابل ما أساء به، و لا ينتقم عنه فيما يجوز له ذلك كما قال تعالى: "فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله": البقرة: 194.
و قوله "فإن الله كان عفوا قديرا" سبب أقيم مقام المسبب و التقدير: إن تعفوا عن
سوء فقد اتصفتم بصفة من صفات الله الكمالية - و هو العفو على قدرة - فإن الله
ذو عفو على قدرته، فالجزاء جزاء بالنسبة إلى بعض الشروط، و أما إبداء الخير و
إخفاؤه أي إيتاؤه على أي حال فهو أيضا من صفاته تعالى بما أنه الله تعالى، و
يمكن أن يلوح إليه الكلام.
بحث روائي
في المجمع، قال: لا يحب الله الشتم في الانتصار إلا من ظلم فلا بأس له أن ينتصر
ممن ظلم مما يجوز الانتصار في الدين: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه
السلام) و في تفسير العياشي، عن أبي الجارود عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: الجهر بالسوء من القول أن يذكر الرجل بما فيه. و في تفسير القمي: و في
حديث آخر في تفسير هذا قال: إن جاءك رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و
الثناء و العمل الصالح فلا تقبله منه و كذبه فقد ظلمك. و في تفسير العياشي،
بإسناده عن الفضل بن أبي قرة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله: "لا
يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم" قال: من أضاف قوما فأساء ضيافتهم
فهو ممن ظلم فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه: أقول: و رواه في المجمع، عنه (عليه
السلام) مرسلا، و روي من طرق أهل السنة عن مجاهد. و الروايات على أي حال دالة
على التعميم كما استفدناه من الآية.
4 سورة النساء - 150 - 152
إِنّ الّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا
بَينَ اللّهِ وَ رُسلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكفُرُ بِبَعْضٍ
وَ يُرِيدُونَ أَن يَتّخِذُوا بَينَ ذَلِك سبِيلاً (150) أُولَئك هُمُ
الْكَفِرُونَ حَقّا وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً (151) وَ
الّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ رُسلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَينَ أَحَدٍ
مِّنهُمْ أُولَئك سوْف يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللّهُ غَفُوراً
رّحِيماً (152)
بيان
انعطاف إلى حال أهل الكتاب، و بيان لحقيقة كفرهم، و شرح لعدة من مظالمهم، و
معاصيهم و مفاسد أقوالهم.
قوله تعالى: "إن الذين يكفرون بالله و رسله"، هؤلاء أهل الكتاب من اليهود و
النصارى فاليهود تؤمن بموسى و تكفر بعيسى و محمد، و النصارى تؤمن بموسى و عيسى
و تكفر بمحمد صلى الله عليهم أجمعين، و هؤلاء على زعمهم لا يكفرون بالله و ببعض
رسله، و إنما يكفرون ببعض الرسل، و قد أطلق الله عليهم أنهم كافرون بالله و
رسله جميعا و لذلك احتيج إلى بيان المراد من إطلاق قوله "إن الذين يكفرون بالله
و رسله". و لذلك عطف على قوله "إن الذين يكفرون"، قوله "و يريدون أن يفرقوا بين
الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض" بعطف التفسير و نفس المعطوف أيضا
بعضه يفسر بعضه، فهم كافرون بالله و رسله لأنهم بقولهم: "نؤمن ببعض و نكفر
ببعض" يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله فيؤمنون بالله و بعض رسله و يكفروا
ببعض رسله مع كونه رسولا من الله، و الرد عليه رد على الله تعالى.
ثم بين ذلك ببيان آخر بالعطف عليه عطف التفسير فقال: "و يريدون أن يتخذوا بين
ذلك سبيلا" أي سبيلا متوسطا بين الإيمان بالله و رسله جميعا، و الكفر بالله و
رسله جميعا، و هو الإيمان ببعض و الكفر ببعض، و لا سبيل إلى الله إلا الإيمان
به و برسله جميعا فإن الرسول بما أنه رسول ليس له من نفسه شيء و لا له من الأمر
شيء، فالإيمان به إيمان بالله و الكفر به كفر بالله محضا.
فالكفر بالبعض و الإيمان بالبعض و بالله ليس إلا تفرقة بين الله و بين رسله، و
إعطاء الاستقلال للرسول فيكون الإيمان به غير مرتبط بالإيمان بالله، و الكفر به
غير مرتبط بالكفر به فيكون طرفا لا وسطا، و كيف يصح فرض الرسالة ممن لا يرتبط
الإيمان به و الكفر به بالإيمان بالله و الكفر به.
فمن البين الذي لا مرية فيه أن الإيمان بمن هذا شأنه و الخضوع له شرك بالله
العظيم، و لذلك ترى أنه تعالى بعد وصفهم بأنهم يريدون بالإيمان ببعض الرسل و
الكفر بالبعض أن يفرقوا بين الله و رسله و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ذكر
أنهم كافرون بذلك حقا فقال: "أولئك هم الكافرون حقا" ثم أوعدهم فقال: "و اعتدنا
للكافرين عذابا مهينا".
قوله تعالى: "و الذين آمنوا بالله و رسله و لم يفرقوا بين أحد منهم"، لما كفر
أولئك المفرقين بين الله و رسله، و ذكر أنهم كافرون بالله و رسله ذكر من
يقابلهم بالإيمان بالله و رسله على سبيل عدم التفرقة تتميما للأقسام.
و في الآيات التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير في قوله "و اعتدنا للكافرين
عذابا مهينا" ثم إلى الخطاب في قوله "أولئك سوف يؤتيهم أجورهم"، و لعل الوجه
فيه أن إسناد الجزاء إلى المتكلم أقرب من الوقوع بحسب لحن الكلام من إسناده إلى
الغائب.
و يفيد هذه الفائدة أيضا الالتفات الواقع في الآية الثانية فإن توجيه الخطاب
إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الوعد الجميل و هو يعلم بإنجازه تعالى
يفيد القرب من الوقوع
4 سورة النساء - 153 - 169
يَسئَلُك أَهْلُ الْكِتَبِ أَن تُنزِّلَ عَلَيهِمْ كِتَباً مِّنَ السمَاءِ
فَقَدْ سأَلُوا مُوسى أَكْبرَ مِن ذَلِك فَقَالُوا أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً
فَأَخَذَتْهُمُ الصعِقَةُ بِظلْمِهِمْ ثُمّ اتخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَت فَعَفَوْنَا عَن ذَلِك وَ ءَاتَيْنَا مُوسى سلْطناً
مّبِيناً (153) وَ رَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطورَ بِمِيثَقِهِمْ وَ قُلْنَا
لهَُمُ ادْخُلُوا الْبَاب سجّداً وَ قُلْنَا لهَُمْ لا تَعْدُوا فى السبْتِ وَ
أَخَذْنَا مِنهُم مِّيثَقاً غَلِيظاً (154) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ وَ
كُفْرِهِم بِئَايَتِ اللّهِ وَ قَتْلِهِمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقٍّ وَ
قَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْف بَلْ طبَعَ اللّهُ عَلَيهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا
يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ
بهْتَناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا المَْسِيحَ عِيسى ابْنَ
مَرْيَمَ رَسولَ اللّهِ وَ مَا قَتَلُوهُ وَ مَا صلَبُوهُ وَ لَكِن شبِّهَ
لهَُمْ وَ إِنّ الّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شكٍ مِّنْهُ مَا لهَُم بِهِ
مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظنِّ وَ مَا قَتَلُوهُ يَقِينَا (157) بَل
رّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَ إِن مِّنْ
أَهْلِ الْكِتَبِ إِلا لَيُؤْمِننّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيَمَةِ
يَكُونُ عَلَيهِمْ شهِيداً (159) فَبِظلْمٍ مِّنَ الّذِينَ هَادُوا حَرّمْنَا
عَلَيهِمْ طيِّبَتٍ أُحِلّت لهَُمْ وَ بِصدِّهِمْ عَن سبِيلِ اللّهِ كَثِيراً
(160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نهُوا عَنْهُ وَ أَكلِهِمْ أَمْوَلَ
النّاسِ بِالْبَطِلِ وَ أَعْتَدْنَا لِلْكَفِرِينَ مِنهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
(161) لّكِنِ الرّسِخُونَ فى الْعِلْمِ مِنهُمْ وَ المُْؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ
بمَا أُنزِلَ إِلَيْك وَ مَا أُنزِلَ مِن قَبْلِك وَ المُْقِيمِينَ الصلَوةَ وَ
الْمُؤْتُونَ الزّكوةَ وَ المُْؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الْيَوْمِ الاَخِرِ
أُولَئك سنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) * إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك
كَمَا أَوْحَيْنَا إِلى نُوحٍ وَ النّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنَا
إِلى إِبْرَهِيمَ وَ إِسمَعِيلَ وَ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب وَ الأَسبَاطِ وَ عِيسى
وَ أَيّوب وَ يُونُس وَ هَرُونَ وَ سلَيْمَنَ وَ ءَاتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً
(163) وَ رُسلاً قَدْ قَصصنَهُمْ عَلَيْك مِن قَبْلُ وَ رُسلاً لّمْ نَقْصصهُمْ
عَلَيْك وَ كلّمَ اللّهُ مُوسى تَكلِيماً (164) رّسلاً مّبَشرِينَ وَ
مُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللّهِ حُجّةُ بَعْدَ الرّسلِ وَ كانَ
اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لّكِنِ اللّهُ يَشهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْك
أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلَئكَةُ يَشهَدُونَ وَ كَفَى بِاللّهِ شهِيداً
(166) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ صدّوا عَن سبِيلِ اللّهِ قَدْ ضلّوا ضلَلا
بَعِيداً (167) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ ظلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللّهُ
لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيهْدِيَهُمْ طرِيقاً (168) إِلا طرِيقَ جَهَنّمَ
خَلِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَ كانَ ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيراً (169)
بيان
الآيات تذكر سؤال أهل الكتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزيل كتاب
من السماء عليهم حيث لم يقنعوا بنزول القرآن بوحي الروح الأمين نجوما، و نجيب
عن مسألتهم.
قوله تعالى: "يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء"، أهل الكتاب هم
اليهود و النصارى على ما هو المعهود في عرف القرآن في أمثال هذه الموارد و عليه
فالسائل هو الطائفتان جميعا دون اليهود فحسب.
و لا ينافيه كون المظالم و الجرائم المعدودة في ضمن الآيات مختصة باليهود كسؤال
الرؤية، و اتخاذ العجل، و نقض الميثاق عند رفع الطور و الأمر بالسجدة و النهي
عن العدو في السبت و غير ذلك.
فإن الطائفتين ترجعان إلى أصل واحد و هو شعب إسرائيل بعث إليهم موسى و عيسى
(عليهما السلام) و إن انتشرت دعوة عيسى بعد رفعه في غير بني إسرائيل كالروم و
العرب و الحبشة و مصر و غيرهم، و ما قوم عيسى بأقل ظلما لعيسى من اليهود لموسى
(عليه السلام).
و لعد الطائفتين جميعا ذا أصل واحد يخص اليهود بالذكر فيما يخصهم من الجزاء حيث
قال: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" و لذلك أيضا عد عيسى
بين الرسل المذكورين بعد كما عد موسى (عليه السلام) بينهم و لو كان وجه الكلام
إلى اليهود فقط لم يصح ذلك، و لذلك أيضا قيل بعد هذه الآيات: "يا أهل الكتاب لا
تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح" إلخ.
و بالجملة السائل هم أهل الكتاب جميعا و وجه الكلام معهم لاشتراكهم في الخصيصة
القومية و هو التحكم و القول بغير الحق و المجازفة و عدم التقيد بالعهود و
المواثيق، و الكلام جار معهم فيما اشتركوا فإذا اختص منهم طائفة بشيء خص الكلام
به.
و الذي سألوه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو أن ينزل عليهم كتابا من
السماء، و لم يسألوه ما سألوه قبل نزول القرآن و تلاوته عليهم كيف و القصة إنما
وقعت في المدينة و قد بلغهم من القرآن ما نزل بمكة و شطر مما نزل بالمدينة؟ بل
هم ما كانوا يقنعون به دليلا للنبوة، و لا يعدونه كتابا سماويا مع أن القرآن
نزل فيما نزل مشفعا بالتحدي و دعوى الإعجاز كما في سور: إسراء، و يونس، و هود،
و البقرة النازلة جميعا قبل سورة النساء.
فسؤالهم تنزيل الكتاب من السماء بعد ما كانوا يشاهدونه من أمر القرآن لم يكن
إلا سؤالا جزافيا لا يصدر إلا ممن لا يخضع للحق و لا ينقاد للحقيقة و إنما يلغو
و يهذو بما قدمته له أيدي الأهواء من غير أن يتقيد بقيد أو يثبت على أساس، نظير
ما كانت تتحكم به قريش مع نزول القرآن، و ظهور دعوته فتقول على ما حكاه الله
سبحانه عنهم: "لو لا أنزل عليه آية من ربه": يونس: 20 "أو ترقى في السماء و لن
نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه: إسراء: 93.
و لهذا الذي ذكرناه أجاب الله سبحانه عن مسألتهم أولا بأنهم قوم متمادون في
الجهالة و الضلالة لا يأبون عن أنواع الظلم و إن عظمت، و الكفر و الجحود و إن
جاءت البينة، و عن نقض المواثيق و إن غلظت و غير ذلك من الكذب و البهتان و أي
ظلم، و من هذا شأنه لا يصلح لإجابة ما سأله و الإقبال على ما اقترحه.
و ثانيا أن الكتاب الذي أنزله الله و هو القرآن مقارن لشهادة الله سبحانه و
ملائكته و هو الذي يفصح عن التحدي بعد التحدي بآياته الكريمة.
فقال تعالى في جوابهم أولا: "فقد سألوا موسى أكبر من ذلك" أي مما سألوك من
تنزيل كتاب من السماء إليهم "فقالوا أرنا الله جهرة" أي إراءة عيان نعاينه
بأبصارنا، و هذه غاية ما يبلغه البشر من الجهالة و الهذر و الطغيان "فأخذتهم
الصاعقة بظلمهم" و القصة مذكورة في سورة البقرة آية: 55 - 56 و سورة الأعراف
آية: 155.
ثم قال تعالى: "ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات" و هذه عبادة الصنم
بعد ظهور بطلانه أو بيان أن الله سبحانه منزه عن شائبة الجسمية و الحدوث، و هو
من أفظع الجهالات البشرية "فعفونا عن ذلك و آتينا موسى سلطانا مبينا" و قد
أمرهم موسى في ذلك أن يتوبوا إلى بارئهم فيقتلوا أنفسهم فأخذوا فيه فعفا الله
عنهم و لما يتم التقتيل و لما يقتل الجميع، و هو المراد بالعفو، و آتى موسى
(عليه السلام) سلطانا مبينا حيث سلطه عليهم و على السامري و عجله، و القصة
مذكورة في سورة البقرة آية: 54.
ثم قال تعالى: "و رفعنا فوقهم الطور بميثاقهم" و هو الميثاق الذي أخذه الله
منهم ثم رفع فوقهم الطور، و القصة مذكورة مرتين في سورة البقرة آية 63، 93.
ثم قال تعالى: "و قلنا لهم ادخلوا الباب سجدا و قلنا لهم لا تعدوا في السبت و
أخذنا منهم ميثاقا غليظا" و القصتان مذكورتان في سورة البقرة آية: 58 - 65 و
سورة الأعراف 161 - 163 و ليس من البعيد أن يكون الميثاق المذكور راجعا إلى
القصتين و إلى غيرهما فإن القرآن يذكر أخذ الميثاق منهم متكررا كقوله تعالى و
إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله" الآية: البقرة: 83، و قوله
تعالى "و إذا أخذنا ميثاقكم لا تسفكوا دماءكم و لا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم
أقررتم و أنتم تشهدون": البقرة: 84.
قوله تعالى: "فبما نقضهم ميثاقهم"، الفاء للتفريع و المجرور متعلق بما سيأتي
بعد عدة آيات - يذكر فيها جرائمهم - من قوله "حرمنا عليهم" و الآيات مسوقة
لبيان ما جازاهم الله به من وخيم الجزاء الدنيوي و الأخروي، و فيها ذكر بعض ما
لم يذكر من سننهم السيئة أولا.
و قوله "فبما نقضهم ميثاقهم" تلخيص لما ذكر منهم من نقض المواثيق و لما لم يذكر
من المواثيق المأخوذة منهم.
و قوله "و كفرهم بآيات الله تلخص لأنواع من الكفر كفروا بها في زمن موسى (عليه
السلام) و بعده قص القرآن كثيرا منها، و من جملتها الموردان المذكوران في صدر
الآيات أعني قوله فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة"، و قوله
"ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات" و إنما قدما في الصدر، و أخرا في
هذه الآية لأن المقامين مختلفان فيختلف مقتضاهما فإن صدر الآيات متعرض لسؤالهم
تنزيل كتاب من السماء و، ذكر سؤالهم أكبر من ذلك و عبادتهم العجل أنسب به و
ألصق، و هذه الآية و ما بعدها متعرضة لمجازاتهم في قبال أعمالهم بعد ما كانوا
أجابوا دعوة الحق و ذكر أسباب ذلك و الابتداء بذكر نقض الميثاق أنسب في هذا
المقام و أقرب.
و قوله "و قتلهم الأنبياء بغير حق" يعني بهم زكريا و يحيى و غيرهما ممن ذكر
القرآن قتلهم إجمالا من غير تسمية.
و قوله "و قولهم قلوبنا غلف" جمع أغلف أي في أغشية تمنعها عن استماع الدعوة
النبوية، و قبول الحق لو دعيت إليه، و هذه كلمة ذكروها يريدون بها رد الدعوة، و
إسناد عدم إجابتهم للدعوة إلى الله سبحانه كأنهم كانوا يدعون أنهم خلقوا غلف
القلوب، أو أنهم جعلوا بالنسبة إلى دعوة غير موسى كذلك من غير استناد ذلك إلى
اختيارهم و صنعهم.
و لذلك رد الله سبحانه عليهم بقوله "بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا
قليلا" فبين أن إباء قلوبهم عن استماع الدعوة الحقة مستند إلى صنع الله لكن لا
كما يدعون أنهم لا صنع لهم في ذلك بل إنما فعل ذلك بهم في مقابل كفرهم و جحودهم
للحق، و كان أثر ذلك أن هذا القوم لا يؤمنون إلا قليل منهم.
و قد تقدم الكلام في هذا الاستثناء، و أن هذه النقمة الإلهية إنما نزلت بهم
بقوميتهم و مجتمعهم، فالمجموع من حيث المجموع مكتوب عليهم النقمة، و مطبوع على
قلوبهم محال لهم أن يؤمنوا بأجمعهم، و لا ينافي ذلك إيمان البعض القليل منهم.
قوله تعالى: "بكفرهم و قولهم على مريم بهتانا عظيما" و هو قذفها (عليها السلام)
في ولادة عيسى بالزنا، و هو كفر و بهتان معا و قد كلمهم عيسى في أول ولادته و
قال: "إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا": مريم. 30.
قوله تعالى: "و قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله و ما قتلوه و ما
صلبوه و لكن شبه لهم" قد تقدم في قصص عيسى (عليه السلام) في سورة آل عمران أنهم
اختلفوا في كيفية قتله صلبا و غير صلب فلعل حكايته تعالى عنهم دعوى قتله أولا
ثم ذكر القتل و الصلب معا في مقام الرد و النفي لبيان النفي التام بحيث لا
يشوبه ريب فإن الصلب لكونه نوعا خاصا في تعذيب المجرمين لا يلازم القتل دائما،
و لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاق القتل، و قد اختلف في كيفية قتله فمجرد نفي
القتل ربما أمكن أن يتأول فيه بأنهم ما قتلوه قتلا عاديا، و لا ينافي ذلك أن
يكونوا قتلوه صلبا فلذلك ذكر تعالى بعد قوله "و ما قتلوه" قوله "و ما صلبوه"
ليؤدي الكلام حقه من الصراحة، و ينص على أنه (عليه السلام) لم يتوف بأيديهم لا
صلبا و لا غير مصلوب، بل شبه لهم أمره فأخذوا غير المسيح (عليه السلام) مكان
المسيح فقتلوه أو صلبوه، و ليس من البعيد عادة، فإن القتل في أمثال تلك
الاجتماعات الهمجية و الهجمة و الغوغاء ربما أخطأ المجرم الحقيقي إلى غيره و قد
قتله الجنديون من الروميين، و ليس لهم معرفة بحاله على نحو الكمال فمن الممكن
أن يأخذوا مكانه غيره، و مع ذلك فقد وردت روايات أن الله تعالى ألقى شبهه على
غيره فأخذ و قتل مكانه.
و ربما ذكر بعض محققي التاريخ أن القصص التاريخية المضبوطة فيه (عليه السلام) و
الحوادث المربوطة بدعوته و قصص معاصريه من الحكام و الدعاة تنطبق على رجلين
اثنين مسميين بالمسيح - و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة -: المتقدم منهما محق
غير مقتول، و المتأخر منهما مبطل مصلوب، و على هذا فما يذكره القرآن من التشبيه
هو تشبيه المسيح عيسى بن مريم رسول الله بالمسيح المصلوب.
و الله أعلم.
و قوله "و إن الذين اختلفوا فيه" أي اختلفوا في عيسى أو في قتله "لفي شك منه"
أي في جهل بالنسبة إلى أمره "ما لهم به من علم إلا اتباع الظن" و هو التخمين أو
رجحان ما بحسب ما أخذه بعضهم من أفواه بعض.
و قوله "و ما قتلوه يقينا" أي ما قتلوه قتل يقين أو ما قتلوه أخبرك خبر يقين، و
ربما قيل: إن الضمير في قوله "و ما قتلوه" راجع إلى العلم أي ما قتلوا العلم
يقينا.
و قتل العلم لغة تمحيضه و تخليصه من الشك و الريب، و ربما قيل: إن الضمير يعود
إلى الظن أي ما محضوا ظنهم و ما تثبتوا فيه، و هذا المعنى على تقدير ثبوته معنى
غريب لا يحمل عليه لفظ القرآن.
قوله تعالى: "بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما" و قد قص الله سبحانه
هذه القصة في سورة آل عمران فقال: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك و رافعك
إلى": آل عمران: 55 فذكر التوفي ثم الرفع.
و هذه الآية بحسب السياق تنفي وقوع ما ادعوه من القتل و الصلب عليه فقد سلم من
قتلهم و صلبهم، و ظاهر الآية أيضا أن الذي ادعي إصابة القتل و الصلب إياه، و هو
عيسى (عليه السلام) بشخصه البدني هو الذي رفعه الله إليه، و حفظه من كيدهم فقد
رفع عيسى بجسمه و روحه لا أنه توفي ثم رفع روحه إليه تعالى فهذا مما لا يحتمله
ظاهر الآية بمقتضى السياق فإن الإضراب الواقع في قوله "بل رفعه الله إليه" لا
يتم بمجرد رفع الروح بعد الموت الذي يصح أن يجامع القتل و الموت حتف الأنف.
فهذا الرفع نوع التخليص الذي خلصه الله به و أنجاه من أيديهم سواء كان توفي عند
ذلك بالموت حتف الأنف أو لم يتوف حتف الأنف و لا قتلا و صلبا بل بنحو آخر لا
نعرفه أو كان حيا باقيا بإبقاء الله بنحو لا نعرفه فكل ذلك محتمل.
و ليس من المستحيل أن يتوفى الله المسيح و يرفعه إليه و يحفظه، أو يحفظ الله
حياته على نحو لا ينطبق على العادة الجارية عندنا فليس يقصر عن ذلك سائر ما
يقتصه القرآن الكريم من معجزات عيسى نفسه في ولادته و حياته بين قومه، و ما
يحكيه من معجزات إبراهيم و موسى و صالح و غيرهم، فكل ذلك يجري مجرى واحدا يدل
الكتاب العزيز على ثبوتها دلالة لا مدفع لها إلا ما تكلفه بعض الناس من التأويل
تحذرا من لزوم خرق العادة و تعطل قانون العلية العام، و قد مر في الجزء الأول
من هذا الكتاب استيفاء البحث عن الإعجاز و خرق العادة.
و بعد ذلك كله فالآية التالية لا تخلو عن إشعار أو دلالة على حياته (عليه
السلام) و عدم توفيه بعد.
قوله تعالى: "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته و يوم القيامة يكون
عليهم شهيدا". "إن" نافية و المبتدأ محذوف يدل عليه الكلام في سياق النفي، و
التقدير: و إن أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن، و الضمير في قوله "به" و قوله
"يكون" راجع إلى عيسى، و أما الضمير في قوله "قبل موته" ففيه خلاف.
فقد قال بعضهم: إن الضمير راجع إلى المقدر من المبتدأ و هو أحد، و المعنى: و كل
واحد من أهل الكتاب يؤمن قبل موته بعيسى أي يظهر له قبيل الموت عند الاحتضار أن
عيسى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عبده حقا و إن كان هذا الإيمان
منه إيمانا لا ينتفع به، و يكون عيسى شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة سواء آمنوا
به إيمانا ينتفع به أو إيمانا لا ينتفع به كمن آمن به عند موته.
و يؤيده أن إرجاع ضمير "قبل موته" إلى عيسى يعود إلى ما ورد في بعض الأخبار أن
عيسى حي لم يمت، و أنه ينزل في آخر الزمان فيؤمن به أهل الكتاب من اليهود و
النصارى، و هذا يوجب تخصيص عموم قوله "و إن من أهل الكتاب" من غير مخصص، فإن
مقتضى الآية على هذا التقدير أن يكون يؤمن بعيسى عند ذلك النزول من السماء
الموجودون من أهل الكتاب دون المجموع منهم، ممن وقع بين رفع عيسى و نزوله فمات
و لم يدرك زمان نزوله، فهذا تخصيص لعموم الآية من غير مخصص ظاهر.
و قد قال آخرون: إن الضمير راجع إلى عيسى (عليه السلام) و المراد به إيمانهم به
عند نزوله في آخر الزمان من السماء، استنادا إلى الرواية كما سمعت.
هذا ما ذكروه، و الذي ينبغي التدبر و الإمعان فيه هو أن وقوع قوله "و يوم
القيامة يكون عليهم شهيدا" في سياق قوله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل
موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا" ظاهر في أن عيسى شهيد على جميعهم يوم
القيامة كما أن جميعهم يؤمنون به قبل الموت، و قد حكى سبحانه قول عيسى في خصوص
هذه الشهادة على وجه خاص، فقال عنه: "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما
توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد": المائدة: 117.
فقصر (عليه السلام) شهادته في أيام حياته فيهم قبل توفيه، و هذه الآية أعني
قوله: "و إن من أهل الكتاب" إلخ تدل على شهادته على جميع من يؤمن به فلو كان
المؤمن به هو الجميع كان لازمه أن لا يتوفى إلا بعد الجميع، و هذا ينتج المعنى
الثاني، و هو كونه (عليه السلام) حيا بعد، و يعود إليهم ثانيا حتى يؤمنوا به.
نهاية الأمر أن يقال: إن من لا يدرك منهم رجوعه إليهم ثانيا يؤمن به عند موته،
و من أدرك ذلك آمن به إيمانا اضطرارا أو اختيارا.
على أن الأنسب بوقوع هذه الآية: "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به" فيما وقع
فيه من السياق أعني بعد قوله تعالى "و ما قتلوه و ما صلبوه و لكن شبه لهم - إلى
أن قال - بل رفعه الله إليه و كان الله عزيزا حكيما" أن تكون الآية في مقام
بيان أنه لم يمت و أنه حي بعد إذ لا يتعلق ببيان إيمانهم الاضطراري و شهادته
عليهم في غير هذه الصورة غرض ظاهر.
فهذا الذي ذكرناه يؤيد كون المراد بإيمانهم به قبل الموت إيمانهم جميعا به قبل
موته (عليه السلام).
لكن هاهنا آيات أخر لا تخلو من إشعار بخلاف ذلك كقوله تعالى: "إذ قال الله يا
عيسى إني متوفيك و رافعك إلي و مطهرك من الذين كفروا و جاعل الذين اتبعوك فوق
الذين كفروا إلى يوم القيامة": آل عمران: 55 حيث يدل على أن من الكافرين بعيسى
من هو باق إلى يوم القيامة، و كقوله تعالى: "و قولهم قلوبنا غلف بل طبع الله
عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا" حيث إن ظاهره أنه نقمة مكتوبة عليهم، فلا
يؤمن مجتمعهم بما هو مجتمع اليهود أو مجتمع أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
بل ظاهر ذيل قوله "و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب
عليهم" حيث إن ذيله يدل على أنهم باقون بعد توفي عيسى (عليه السلام).
لكن الإنصاف أن الآيات لا تنافي ما مر فإن قوله "و جاعل الذين اتبعوك فوق الذين
كفروا إلى يوم القيامة" لا يدل على بقائهم إلى يوم القيامة على نعت أنهم أهل
الكتاب.
و كذا قوله تعالى: "بل طبع الله عليها بكفرهم" الآية إنما يدل على أن الإيمان
لا يستوعبهم جميعا، و لو آمنوا في حين من الأحيان شمل الإيمان منهم قليلا من
كثير.
على أن قوله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" لو دل على إيمانهم به
قبل موته فإنما يدل على أصل الإيمان، و أما كونه إيمانا مقبولا غير اضطراري فلا
دلالة له على ذلك.
و كذا قوله "فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم" الآية مرجع الضمير فيه إنما هو
الناس دون أهل الكتاب أو النصارى بدليل قوله تعالى في صدر الكلام: "و إذ قال
الله يا عيسى بن مريم أ أنت قلت للناس اتخذوني و أمي إلهين من دون الله" الآية:
المائدة: 116، و يدل على ذلك أيضا أنه (عليه السلام) من أولي العزم من الرسل
مبعوث إلى الناس كافة، و شهادته على أعمالهم تعم بني إسرائيل و المؤمنين به و
غيرهم.
و بالجملة، الذي يفيده التدبر في سياق الآيات و ما ينضم إليها من الآيات
المربوطة بها هو أن عيسى (عليه السلام) لم يتوف بقتل أو صلب و لا بالموت حتف
الأنف على نحو ما نعرفه من مصداقه - كما تقدمت الإشارة إليه - و قد تكلمنا بما
تيسر لنا من الكلام في قوله تعالى "يا عيسى إني متوفيك و رافعك إلي": آل عمران:
55 في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
و من غريب الكلام في هذا الباب ما ذكره الزمخشري في الكشاف: أنه يجوز أن يراد
أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في
قبورهم في ذلك الزمان، و يعلمهم نزوله، و ما أنزل له، و يؤمنون به حين لا
ينفعهم إيمانهم، و هذا قول بالرجعة.
و في معنى الآية بعض وجوه رديئة أخرى: منها: ما يظهر من الزجاج أن ضمير قوله
"قبل موته" يرجع إلى الكتابي و أن معنى قوله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
قبل موته" أن جميعهم يقولون: إن عيسى الذي يظهر في آخر الزمان نحن نؤمن به.
و هذا معنى سخيف فإن الآيات مسوقة لبيان دعواهم قتل عيسى (عليه السلام) و صلبه
و الرد عليهم دون كفرهم به و لا يرتبط ذلك باعترافهم بظهور مسيح في آخر الزمان
يحيي أمر شعب إسرائيل حتى يذيل به الكلام.
على أنه لو كان المراد به ذلك لم يكن حاجة إلى ذكر قوله: "قبل موته" لارتفاع
الحاجة بدونه، و كذا قوله "و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا" لأنه على هذا
التقدير فضل من الكلام لا حاجة إليه.
و منها: ما ذكره بعضهم أن المراد بالآية: و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد
قبل موت ذلك الكتابي.
و هذا في السخافة كسابقه فإنه لم يجر لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر في
سابق الكلام حتى يعود إليه الضمير.
و لا أن المقام يدل على ذلك، فهو قول من غير دليل.
نعم، ورد هذا المعنى في بعض الروايات مما سيمر بك في البحث الروائي التالي لكن
ذلك من باب الجري كما سنشير إليه و هذا أمر كثير الوقوع في الروايات كما لا
يخفى على من تتبع فيها.
قوله تعالى: "فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الفاء للتفريع،
و قد نكر لفظ الظلم و كأنه للدلالة على تفخيم أمره أو للإبهام، إذ لا يتعلق على
تشخيصه غرض مهم و هو بدل مما تقدم ذكره من فجائعهم غير أنه ليس بدل الكل من
الكل كما ربما قيل، بل بدل البعض من الكل، فإنه تعالى جعل هذا الظلم منهم سببا
لتحريم الطيبات عليهم، و لم تحرم عليهم إلا في شريعة موسى المنزلة في التوراة،
و بها تختتم شريعة موسى، و قد ذكر فيما ذكر من فجائعهم و مظالمهم أمور جرت و
وقعت بعد ذلك كالبهتان على مريم و غير ذلك.
فالمراد بالظلم بعض ما ذكر من مظالمهم الفجيعة فهو السبب لتحريم ما حرم عليهم
من الطيبات بعد إحلالها.
ثم ضم إلى ذلك قوله "و بصدهم عن سبيل الله كثيرا" و هو إعراضهم المتكرر عن سبيل
الله "و أخذهم الربوا و قد نهوا عنه و أكلهم أموال الناس بالباطل". قوله تعالى:
"و اعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما" معطوف على قوله "حرمنا عليهم طيبات" فقد
استوجبوا بمظالمهم من الله جزاءين: جزاء دنيوي عام و هو تحريم الطيبات، و جزاء
أخروي خاص بالكافرين منهم و هو العذاب الأليم.
قوله تعالى: "لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنين يؤمنون بما أنزل إليك و ما
أنزل من قبلك" استثناء و استدراك من أهل الكتاب، و الراسخون" و ما عطف عليه
مبتدأ و "يؤمنون" خبره، و قوله "منهم" متعلق بالراسخون و "من" فيه تبعيضية.
و الظاهر أن "المؤمنون" يشارك "الراسخون" في تعلق قوله "منهم" به معنى و
المعنى: لكن الراسخون في العلم و المؤمنون بالحقيقة من أهل الكتاب يؤمنون بك و
بما أنزل من قبلك، و يؤيده التعليل الآتي في قوله "إنا أوحينا إليك كما أوحينا
إلى نوح و النبيين من بعده" إلخ، فإن ظاهر الآية كما سيأتي بيان أنهم آمنوا بك
لما وجدوا أن نبوتك و الوحي الذي أكرمناك به يماثل الوحي الذي جاءهم به الماضون
السابقون من أنبياء الله: نوح و النبيون من بعده، و الأنبياء من آل إبراهيم، و
آل يعقوب، و آخرون ممن لم نقصصهم عليك من غير فرق.
و هذا المعنى - كما ترى - أنسب بالمؤمنين من أهل الكتاب أن يوصفوا به دون
المؤمنين من العرب الذين وصفهم الله سبحانه بقوله "لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم
فهم غافلون": يس: 6.
و قوله "و المقيمين الصلاة" معطوف على "الراسخون" و منصوب على المدح، و مثله في
العطف قوله "و المؤتون الزكاة" و قوله "و المؤمنون بالله و اليوم الآخر" مبتدأ
خبره قوله "أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما" و لو كان قوله "و المقيمين الصلاة"
مرفوعا كما نقل عن مصحف ابن مسعود كان هو و ما عطف عليه مبتدأ خبره قوله
"أولئك".
قال في المجمع: اختلف في نصب المقيمين فذهب سيبويه و البصريون إلى أنه نصب على
المدح على تقدير أعني المقيمين الصلاة، قالوا: إذا قلت، مررت بزيد الكريم و أنت
تريد أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجر، و إذا أردت المدح و
الثناء فإن شئت نصبت و قلت: مررت بزيد الكريم كأنك قلت: أذكر الكريم، و إن شئت
رفعت فقلت: الكريم، على تقدير هو الكريم.
و قال الكسائي، موضع المقيمين جر، و هو معطوف "على" ما من قوله "بما أنزل إليك"
أي و بالمقيمين الصلاة.
و قال قوم: إنه معطوف على الهاء و الميم من قوله "منهم" على معنى: لكن الراسخون
في العلم منهم و من المقيمين الصلاة، و قال آخرون: إنه معطوف على الكاف من
"قبلك" أي مما أنزل من قبلك و من قبل المقيمين الصلاة.
و قيل: إنه معطوف على الكاف في "إليك" أو الكاف في قبلك.
و هذه الأقوال الأخيرة لا تجوز عند البصريين لأنه لا يعطف بالظاهر على الضمير
المجرور من غير إعادة الجار.
قال: و أما ما روي عن عروة عن عائشة قال: سألتها عن قوله "و المقيمين الصلاة" و
عن قوله "و الصابئين" و عن قوله "إن هذان" فقالت: يا ابن أختي هذا عمل الكتاب
أخطئوا في الكتاب، و ما روي عن بعضهم: أن في كتاب الله أشياء ستصلحها العرب
بألسنتها، قالوا: و في مصحف ابن مسعود: "و المقيمون الصلاة" فمما لا يلتفت إليه
لأنه لو كان كذلك لم يكن ليعلمه الصحابة الناس على الغلط و هم القدوة و الذين
أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى.
و بالجملة قوله "لكن الراسخون في العلم" استثناء من أهل الكتاب من حيث لازم
سؤالهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل عليهم كتابا من السماء كما
تقدم أن لازم سؤالهم ذلك أن لا يكفي ما جاءهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
من الكتاب و الحكمة المصدقين لما أنزل من قبله من آيات الله على أنبيائه و
رسله، في دعوتهم إلى الحق و إثباته، مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأتهم
إلا مثل ما أتاهم به من قبله من الأنبياء، و لم يعش فيهم و لم يعاشرهم إلا بما
عاشوا به و عاشروا به كما قال تعالى "قل ما كنت بدعا من الرسل": الأحقاف: 9 و
قال تعالى: "و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين - إلى أن قال
- لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أ فلا تعقلون": الأنبياء: 10.
فذكر الله سبحانه في فصل من القول: أن هؤلاء السائلين و هم أهل الكتاب ليست
عندهم سجية اتباع الحق و لا ثبات و لا عزم و لا رأي، و كم من آية بينة ظلموها،
و دعوة حق صدوا عنها، إلا أن الراسخين في العلم منهم لما كان عندهم ثبات على
علمهم و ما وضح من الحق لديهم، و كذا المؤمنون حقيقة منهم لما كان عندهم سجية
اتباع الحق يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك لما وجدوا أن الذي نزل إليك
من الوحي يماثل ما نزل من قبلك على سائر النبيين: نوح و من بعده.
و من هنا يظهر أولا وجه توصيف من اتبع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل
الكتاب بالراسخين في العلم و المؤمنين، فإن الآيات السابقة تقص عنهم أنهم غير
راسخين فيما علموا غير مستقرين على شيء من الحق و إن استوثق منهم بأغلظ
المواثيق، و أنهم غير مؤمنين بآيات الله صادون عنها و إن جاءتهم البينات،
فهؤلاء الذين استثناهم الله راسخون في العلم أو مؤمنون حقيقة.
و ثانيا وجه ذكر ما أنزل قبلا مع القرآن في قوله "يؤمنون بما أنزل إليك و ما
أنزل من قبلك لأن المقام مقام نفي الفرق بين القبيلين.
و ثالثا أن قوله في الآية التالية: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا" إلخ في مقام
التعليل لإيمان هؤلاء المستثنين.
قوله تعالى: "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده" في مقام
التعليل لقوله "يؤمنون بما أنزل إليك" كما عرفت آنفا.
و محصل المعنى - و الله أعلم - أنهم آمنوا بما أنزل إليك لأنا لم نؤتك أمرا
مبتدعا يختص من الدعاوي و الجهات بما لا يوجد عند غيرك من الأنبياء السابقين،
بل الأمر على نهج واحد لا اختلاف فيه، فإنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و
النبيين من بعده، و نوح أول نبي جاء بكتاب و شريعة، و كما أوحينا إلى إبراهيم و
من بعده من آله، و هم يعرفونهم و يعرفون كيفية بعثتهم و دعوتهم، فمنهم من أوتي
بكتاب كداود أوتي زبورا و هو وحي نبوي، و موسى أوتي التكليم و هو وحي نبوي، و
غيرهما كإسماعيل و إسحاق و يعقوب أرسلوا بغير كتاب، و ذلك أيضا عن وحي نبوي.
و يجمع الجميع أنهم رسل مبشرون بثواب الله منذرون بعذابه، أرسلهم الله لإتمام
الحجة على الناس ببيان ما ينفعهم و ما يضرهم في أخراهم و دنياهم لئلا يكون
للناس على الله حجة بعد الرسل.
قوله تعالى: "و الأسباط" تقدم في قوله تعالى: "و يعقوب و الأسباط": آل عمران:
84 أنهم أنبياء من ذرية يعقوب أو من أسباط بني إسرائيل.
قوله تعالى: "و ءاتينا داود زبورا" قيل إنه بمعنى المكتوب من قولهم: زبره أي
كتبه فالزبور بمعنى المزبور.
قوله تعالى: "رسلا مبشرين و منذرين" أحوال ثلاثة أو الأول حال و الأخيران وصفان
له.
و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى إرسال الرسل و تمام الحجة من الله على الناس،
و أن العقل لا يغني وحده عن بعثة الأنبياء بالشرائع الإلهية في الكلام على قوله
تعالى: "كان الناس أمة واحدة": سورة البقرة: 213 في الجزء الثاني من هذا
الكتاب.
قوله تعالى: "و كان الله عزيزا حكيما" و إذا كانت له العزة المطلقة و الحكمة
المطلقة استحال أن يغلبه أحد بحجة بل له الحجة البالغة، قال تعالى: "قل فلله
الحجة البالغة": الأنعام: 149.
قوله تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون"،
استدراك آخر في معنى الاستثناء المنقطع من الرد المتعلق بسؤالهم النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) تنزيل كتاب إليهم من السماء، فإن الذي ذكر الله تعالى في
رد سؤالهم بقوله "فقد سألوا موسى أكبر من ذلك" إلى آخر الآيات لازم معناه أن
سؤالهم مردود إليهم، لأن ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بوحي من
ربه لا يغاير نوعا ما جاء به سائر النبيين من الوحي، فمن ادعى أنه مؤمن بما
جاءوا به فعليه أن يؤمن بما جاء به من غير فرق.
ثم استدرك عنه بأن الله مع ذلك يشهد بما أنزل على نبيه و الملائكة يشهدون و كفى
بالله شهيدا.
و متن شهادته قوله "أنزله بعلمه" فإن مجرد النزول لا يكفي في المدعى، لأن من
أقسام النزول النزول بوحي من الشياطين، بأن يفسد الشيطان أمر الهداية الإلهية
فيضع سبيلا باطلا مكان سبيل الله الحق، أو يخلط فيدخل شيئا من الباطل في الوحي
الإلهي الحق فيختلط الأمر، كما يشير إلى نفيه بقوله: "عالم الغيب فلا يظهر على
غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن
قد أبلغوا رسالات ربهم و أحاط بما لديهم و أحصى كل شيء عددا": الجن: 28 و قال
تعالى: "و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم": الأنعام. 121.
و بالجملة فالشهادة على مجرد النزول أو الإنزال لا يخرج الدعوى عن حال الإبهام
لكن تقييده بقوله "بعلمه" يوضح المراد كل الوضوح، و يفيد أن الله سبحانه أنزله
إلى رسوله و هو يعلم ما ذا ينزل، و يحيط به و يحفظه من كيد الشياطين.
و إذا كانت الشهادة على الإنزال و الإنزال إنما هو بواسطة الملائكة كما يدل
عليه قوله تعالى: "من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك": البقرة: 97 و قال
تعالى في وصف هذا الملك المكرم: "إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين
مطاع ثم أمين": التكوير: 21 فدل على أن تحت أمره ملائكة أخرى و هم الذين ذكرهم
إذ قال: "كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة
كرام بررة": عبس: 16.
و بالجملة لكون الملائكة وسائط في الإنزال فهم أيضا شهداء كما أنه تعالى شهيد و
كفى بالله شهيدا.
و الدليل على شهادته تعالى ما أنزله في كتابه من آيات التحدي كقوله تعالى: "قل
لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان
بعضهم لبعض ظهيرا": إسراء: 88 و قوله "أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند
غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا": النساء: 82، و قوله "فأتوا بسورة مثله و
ادعوا من استطعتم من دون الله: يونس. 38. قوله تعالى: "إن الذين كفروا و صدوا
عن سبيل الله قد ضلوا ضلالا بعيدا" لما ذكر تعالى الحجة البالغة في رسالة نبيه
و نزول كتابه من عند الله، و أنه من سنخ الوحي الذي أوحي إلى النبيين من قبله و
أنه مقرون بشهادته و شهادة ملائكته و كفى به شهيدا حقق ضلال من كفر به و أعرض
عنه كائنا من كان من أهل الكتاب.
و في الآية تبديل الكتاب الذي كان الكلام في نزوله من عند الله بسبيل الله حيث
قال: "و صدوا عن سبيل الله" و فيه إيجاز لطيف كأنه قيل: إن الذين كفروا و صدوا
عن هذا الكتاب و الوحي الذي يتضمنه فقد كفروا و صدوا عن سبيل الله و الذين
كفروا و صدوا عن سبيل الله إلخ.
قوله تعالى: "إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم" إلخ تحقيق و تثبيت
آخر مقامه التأكيد من الآية السابقة، و على هذا يكون المراد بالظلم هو الصد عن
سبيل الله كما هو ظاهر.
و يمكن أن يكون الآية في مقام التعليل بالنسبة إلى الآية السابقة، يبين فيها
وجه ضلالهم البعيد و المعنى ظاهر.
بحث روائي
و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: "و قولهم على مريم بهتانا عظيما": عن ابن
بابويه بإسناده عن علقمة عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: أ لم ينسبوا
مريم بنت عمران إلى أنها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف؟ و في تفسير القمي،:
في قوله تعالى: "و إن من أهل الكتاب - إلا ليؤمنن به قبل موته" الآية: قال:
حدثني أبي، عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر
بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب الله قد أعيتني فقلت: أيها الأمير
أية آية هي؟ فقال: قوله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" و الله
إني لأمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرك شفتيه
حتى يخمد، فقلت: أصلح الله الأمير ليس على ما أولت قال: كيف هو: قلت: إن عيسى
ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، فلا يبقى أهل ملة يهودي و لا غيره إلا آمن به
قبل موته، و يصلي خلف المهدي قال: ويحك أنى لك هذا؟ و من أين جئت به؟ فقلت:
حدثني به محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: و الله
جئت بها من عين صافية و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال:
قال لي الحجاج: يا شهر آية من كتاب الله ما قرأتها إلا اعترض في نفسي منها شيء
قال الله: "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" و إني أوتي بالأسارى
فأضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن
النصراني إذا خرجت روحه ضربته الملائكة من قبله و من دبره و قالوا: أي خبيث إن
المسيح الذي زعمت أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة عبد الله و روحه و كلمته
فيؤمن حين لا ينفعه إيمانه، و إن اليهودي إذا خرجت نفسه ضربته الملائكة من قبله
و من دبره، و قالوا: أي خبيث إن المسيح الذي زعمت أنك قتلته، عبد الله و روحه
فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى آمنت به أحياؤهم كما
آمنت به موتاهم: فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمد بن علي قال: لقد أخذتها من
معدنها. قال شهر: و ايم الله ما حدثنيه إلا أم سلمة، و لكني أحببت أن أغيظه:
أقول: و رواه أيضا ملخصا عن عبد بن حميد و ابن المنذر، عن شهر بن حوشب، عن محمد
بن علي بن أبي طالب و هو ابن الحنفية، و الظاهر أنه روى عن محمد بن علي، ثم
اختلف الرواة في تشخيص ابن الحنفية أو الباقر (عليه السلام)، و الرواية - كما
ترى - تؤيد ما قدمناه في بيان معنى الآية و فيه، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و
البيهقي في الأسماء و الصفات قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم؟. و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يوشك أن ينزل فيكم ابن
مريم حكما عدلا يقتل الدجال، و يقتل الخنزير، و يكسر الصليب، و يضع الجزية، و
يقبض المال، و تكون السجدة واحدة لله رب العالمين، و اقرءوا إن شئتم: "و إن من
أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته" موت عيسى بن مريم. ثم يعيدها أبو هريرة
ثلاث مرات.
أقول: و الروايات في نزول عيسى (عليه السلام) عند ظهور المهدي (عليه السلام)
مستفيضة من طرق أهل السنة، و كذا من طرق الشيعة عن النبي و الأئمة من أهل بيته
عليهم الصلاة و السلام.
و في تفسير العياشي، عن الحارث بن مغيرة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول
الله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم
شهيدا" قال: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: ظاهره و إن كان مخالفا لظاهر سياق الآيات المتعرضة لأمر عيسى (عليه
السلام) لكن يمكن أن يراد به بيان جري القرآن، بمعنى أنه بعد ما بعث رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) و جاء بكتاب و شريعة ناسخة لشريعة عيسى كان على كل
كتابي أن يؤمن به و يؤمن بعيسى و من قبله في ضمن الإيمان به، فلو انكشف لكتابي
عند الاحتضار مثلا حقية رسالة عيسى بعد بعثة رسول الله محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) فإنما ينكشف في ضمن انكشاف حقية رسالة محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم)، فإيمان كل كتابي لعيسى (عليه السلام) إنما يعد إيمانا إذا آمن بمحمد
(صلى الله عليه وآله وسلم) أصالة و بعيسى (عليه السلام) تبعا، فالذي يؤمن به كل
كتابي حقيقة و يكون عليهم يوم القيامة شهيدا هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعد بعثته، و إن كان عيسى (عليه السلام) كذلك أيضا فلا منافاة، و الخبر التالي
لا يخلو من ظهور ما في هذا المعنى.
و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله في عيسى: "و إن
من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا" فقال:
إيمان أهل الكتاب إنما هو لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، عن جابر عن
أبي جعفر (عليه السلام): في قوله "و إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به - قبل موته
و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا" قال: ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلا رأى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام) حقا من
الأولين و الآخرين.
أقول: و كون الرواية من الجري أظهر.
على أن الرواية غير صريحة في كون ما ذكره (عليه السلام) ناظرا إلى تفسير الآية
و تطبيقها، فمن المحتمل أن يكون كلاما أورد في ذيل الكلام على الآية و لذلك
نظائر في الروايات.
و فيه، عن المفضل بن عمر قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: "و
إن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، فقال: هذه نزلت فينا خاصة، إنه ليس
رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتى يقر للإمام و بإمامته، كما أقر
ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: "تالله لقد آثرك الله علينا".
أقول: الرواية من الآحاد، و هي مرسلة، و في معناها روايات مروية في ذيل قوله
تعالى: "ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه و منهم
مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير": فاطر: 32 سنستوفي
الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
و فيه،: في قوله تعالى: "إنا أوحينا إليك - كما أوحينا إلى نوح و النبيين من
بعده" الآية: عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
إني أوحيت إليك كما أوحيت إلى نوح و النبيين من بعده فجمع له كل وحي.
أقول: الظاهر أن المراد أنه لم يشذ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) من سنخ الوحي
ما يوجب تفرق السبيل و تفاوت الدعوة، لا أن كل ما أوحي به إلى نبي على خصوصياته
فقد أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهذا مما لا معنى له، و لا
أن ما أوحي إليك جامع لجميع الشرائع السابقة، فإن الكلام في الآية غير موضوع
لإفادة هذا المعنى، و يؤيد ما ذكرناه من المعنى الخبر التالي.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله
لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و
النبيين من بعده"، و أمر كل نبي بالسبيل و السنة. و في تفسير العياشي، عن
الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و كان بين آدم و بين نوح من الأنبياء
مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن
من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل: "و رسلا لم نقصصهم عليك و كلم الله موسى
تكليما" يعني لم أسم المستخفين كما سميت المستعلنين من الأنبياء. أقول: و رواه
في الكافي، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن محمد بن الفضيل،
عن أبي حمزة عنه (عليه السلام)، و فيه: من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم
في القرآن فلم يسموا كما سمي من استعلن من الأنبياء، و هو قول الله عز و جل.
"رسلا قد قصصناهم عليك" من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك يعني لم أسم المستخفين
كما سميت المستعلنين من الأنبياء الحديث.
و المراد بالرواية على أي حال أن الله تعالى لم يذكر قصة المستخفين أصلا و لا
سماهم، كما قص بعض قصص المستعلنين و سمى من سمى منهم.
و من الجائز أن يكون قوله: "يعني لم أسم" إلخ من كلام الراوي.
و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام)
يقول: لكن الله يشهد بما أنزل إليك في علي أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى
بالله شهيدا.
أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره مسندا عن أبي بصير عن أبي عبد الله
(عليه السلام) و هو من قبيل الجري و التطبيق فإن من القرآن ما نزل في ولايته
(عليه السلام)، و ليس المراد به تحريف الكتاب و لا هو قراءة منه (عليه السلام).
و نظيره ما رواه في الكافي، و تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام)، و
القمي في تفسيره، عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن الذين كفروا و ظلموا آل
محمد حقهم لم يكن الله ليغفر لهم الآية و ما رواه في المجمع، عن أبي جعفر (عليه
السلام): في قوله "قد جاءكم الرسول بالحق" أي بولاية من أمر الله بولايته.
4 سورة النساء - 170 - 175
يَأَيهَا النّاس قَدْ جَاءَكُمُ الرّسولُ بِالْحَقِّ مِن رّبِّكُمْ فَئَامِنُوا
خَيراً لّكُمْ وَ إِن تَكْفُرُوا فَإِنّ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ
كانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يَأَهْلَ الْكتَبِ لا تَغْلُوا فى
دِينِكمْ وَ لا تَقُولُوا عَلى اللّهِ إِلا الْحَقّ إِنّمَا الْمَسِيحُ عِيسى
ابْنُ مَرْيَمَ رَسولُ اللّهِ وَ كلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ
مِّنْهُ فَئَامِنُوا بِاللّهِ وَ رُسلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلَثَةٌ انتَهُوا
خَيراً لّكمْ إِنّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَحِدٌ سبْحَنَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ
لّهُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ وَ كَفَى بِاللّهِ وَكيلاً (171) لّن
يَستَنكِف الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَ لا الْمَلَئكَةُ
المُْقَرّبُونَ وَ مَن يَستَنكِف عَنْ عِبَادَتِهِ وَ يَستَكبرْ فَسيَحْشرُهُمْ
إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمّا الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ
فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُم مِّن فَضلِهِ وَ أَمّا الّذِينَ
استَنكَفُوا وَ استَكْبرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَ لا يجِدُونَ
لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَ لا نَصِيراً (173) يَأَيهَا النّاس قَدْ
جَاءَكُم بُرْهَنٌ مِّن رّبِّكُمْ وَ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مّبِيناً
(174) فَأَمّا الّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ اعْتَصمُوا بِهِ فَسيُدْخِلُهُمْ
فى رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَ فَضلٍ وَ يهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صرَطاً مّستَقِيماً (175)
بيان
بعد ما أجاب عما اقترحه أهل الكتاب من سؤالهم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) تنزيل كتاب من السماء ببيان أن رسوله إنما جاء بالحق من عند ربه، و أن
الكتاب الذي جاء به من عند ربه حجة قاطعة لا ريب فيها استنتج منه صحة دعوة
الناس كافة إلى نبيه و كتابه.
و قد كان بين فيما بين أن جميع رسله و أنبيائه - و قد ذكر فيهم عيسى - على سنة
واحدة متشابهة الأجزاء و الأطراف، و هي سنة الوحي من الله فاستنتج منه صحة دعوة
النصارى و هم أهل كتاب و وحي إلى أن لا يغلوا في دينهم، و أن يلحقوا بسائر
الموحدين من المؤمنين، و يقروا في عيسى بما أقروا به هم و غيرهم في سائر
الأنبياء أنهم عباد الله و رسله إلى خلقه.
فأخذ تعالى يدعو الناس كافة إلى الإيمان برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن
المبين أولا هو صدق نبوته في قوله "إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و
النبيين من بعده" الآيات.
ثم دعا إلى عدم الغلو في حق عيسى (عليه السلام) لأنه المتبين ثانيا في ضمن
الآيات المذكورة ثم دعا إلى اتباع كتابه و هو القرآن الكريم لأنه المبين أخيرا
في قوله تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه" الآية.
قوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم فآمنوا خيرا لكم"،
خطاب عام لأهل الكتاب و غيرهم من الناس كافة، متفرع على ما مر من البيان لأهل
الكتاب، و إنما عمم الخطاب لصلاحية المدعو إليه و هو الإيمان بالرسول كذلك
لعموم الرسالة.
و قوله "خيرا لكم" حال من الإيمان و هي حال لازمة أي حال كون الإيمان من صفته
اللازمة أنه خير لكم.
و قوله "و إن تكفروا فإن لله ما في السموات و الأرض"، أي إن تكفروا لم يزد
كفركم عليكم شيئا، و لا ينقص من الله سبحانه شيئا، فإن كل شيء مما في السماوات
و الأرض لله فمن المحال أن يسلب منه تعالى شيء من ملكه فإن في طباع كل شيء مما
في السماوات و الأرض أنه لله لا شريك له فكونه موجودا و كونه مملوكا شيء واحد
بعينه، فكيف يمكن أن ينزع من ملكه تعالى شيء و هو شيء؟.
و الآية من الكلمات الجامعة التي كلما أمعنت في تدبرها أفادت زيادة لطف في
معناها و سعة عجيبة في تبيانها، فإحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها تعطي
في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فعليك بزيادة التدبر فيها.
قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم و لا تقولوا على الله إلا الحق"،
ظاهر الخطاب بقرينة ما يذكر فيه من أمر المسيح (عليه السلام) أنه خطاب للنصارى،
و إنما خوطبوا بأهل الكتاب - و هو وصف مشترك - إشعارا بأن تسميهم بأهل الكتاب
يقتضي أن لا يتجاوزوا حدود ما أنزله الله و بينه في كتبه، و مما بينه أن لا
يقولوا عليه إلا الحق.
و ربما أمكن أن يكون خطابا لليهود و النصارى جميعا، فإن اليهود أيضا كالنصارى
في غلوهم في الدين، و قولهم على الله غير الحق، كما قال تعالى: "و قالت اليهود
عزير ابن الله: التوبة: 30، و قال تعالى: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من
دون الله": التوبة: 31، و قال تعالى: "قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
بيننا و بينكم - إلى أن قال - و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله": آل
عمران: 64.
و على هذا فقوله: "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله" إلخ تخصيص في الخطاب
بعد التعميم أخذا بتكليف طائفة من المخاطبين بما يخص بهم.
هذا، لكن يبعده أن ظاهر السياق كون قوله: "إنما المسيح عيسى بن مريم رسول
الله"، تعليلا لقوله: "لا تغلوا في دينكم"، و لازمه اختصاص الخطاب بالنصارى و
قوله "إنما المسيح" أي المبارك "عيسى بن مريم" تصريح بالاسم و اسم الأم ليكون
أبعد من التفسير و التأويل بأي معنى مغاير، و ليكون دليلا على كونه إنسانا
مخلوقا كأي إنسان ذي أم.
"و كلمته ألقاها إلى مريم" تفسير لمعنى الكلمة، فإنه كلمة "كن" التي ألقيت إلى
مريم البتول، لم يعمل في تكونه الأسباب العادية كالنكاح و الأب، قال تعالى:
"إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون": آل عمران: 47 فكل شيء كلمة له تعالى
غير أن سائر الأشياء مختلطة بالأسباب العادية، و الذي اختص لأجله عيسى (عليه
السلام) بوقوع اسم الكلمة هو فقدانه بعض الأسباب العادية في تولده "و روح منه"
و الروح من الأمر، قال تعالى: "قل الروح من أمر ربي": إسراء: 85 و لما كان عيسى
(عليه السلام) كلمة "كن" التكوينية و هي أمر فهو روح.
و قد تقدم البحث عن الآية في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا
الكتاب.
قوله تعالى: "فآمنوا بالله و رسله و لا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله
إله واحد" تفريع على صدر الكلام بما أنه معلل بقوله: "إنما المسيح" إلخ أي فإذا
كان كذلك وجب عليكم الإيمان على هذا النحو، و هو أن يكون إيمانا بالله
بالربوبية و لرسله - و منهم عيسى - بالرسالة، و لا تقولوا ثلاثة انتهوا حال كون
الانتهاء أو حال كون الإيمان بالله و رسله و نفي الثلاثة خيرا لكم.
و الثلاثة هم الأقانيم الثلاثة: الأب و الابن و روح القدس، و قد تقدم البحث عن
ذلك في الآيات النازلة في أمر المسيح (عليه السلام) من سورة آل عمران.
قوله تعالى: "سبحانه أن يكون له ولد له ما في السموات و ما في الأرض"، السبحان
مفعول مطلق مقدر الفعل، يتعلق به قوله: "أن يكون"، و هو منصوب بنزع الخافض، و
التقدير: أسبحه تسبيحا و أنزهه تنزيها من أن يكون له ولد، و الجملة اعتراض مأتي
به للتعظيم.
و قوله "له ما في السموات و ما في الأرض" حال أو جملة استيناف، و هو على أي حال
احتجاج على نفي الولد عنه سبحانه، فإن الولد كيفما فرض هو الذي يماثل المولد في
سنخ ذاته متكونا منه، و إذا كان كل ما في السماوات و الأرض مملوكا في أصل ذاته
و آثاره لله تعالى و هو القيوم لكل شيء وحده فلا يماثله شيء من هذه الأشياء فلا
ولد له.
و المقام مقام التعميم لكل ما في الوجود غير الله عز اسمه و لازم هذا أن يكون
قوله "ما في السموات و ما في الأرض" تعبيرا كنائيا عن جميع ما سوى الله سبحانه
إذ نفس السماوات و الأرض مشمولة لهذه الحجة، و ليست مما في السماوات و الأرض بل
هي نفسها.
ثم لما كان ما في الآية من أمر و نهي هداية عامة لهم إلى ما هو خير لهم في
دنياهم و أخراهم ذيل الكلام بقوله "و كفى بالله وكيلا" أي وليا لشئونكم، مدبرا
لأموركم، يهديكم إلى ما هو خير لكم و يدعوكم إلى صراط مستقيم.
قوله تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون"
احتجاج آخر على نفي ألوهية المسيح (عليه السلام) مطلقا سواء فرض كونه ولدا أو
أنه ثالث ثلاثة، فإن المسيح عبد لله لن يستنكف أبدا عن عبادته، و هذا مما لا
ينكره النصارى، و الأناجيل الدائرة عندهم صريحة في أنه كان يعبد الله تعالى، و
لا معنى لعبادة الولد الذي هو سنخ إله و لا لعبادة الشيء لنفسه و لا لعبادة أحد
الثلاثة لثالثها الذي ينطبق وجوده على كل منها، و قد تقدم الكلام على هذا
البرهان في مباحث المسيح (عليه السلام).
و قوله "و لا الملائكة المقربون" تعميم للكلام على الملائكة لجريان الحجة
بعينها فيهم و قد قال جماعة من المشركين - كمشركي العرب -: بكونهم بنات الله
فالجملة استطرادية.
و التعبير في الآية أعني قوله "لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا
الملائكة المقربون" عن عيسى (عليه السلام) بالمسيح، و كذا توصيف الملائكة
بالمقربين مشعر بالعلية لما فيهما من معنى الوصف، أي إن عيسى لن يستنكف عن
عبادته و كيف يستنكف و هو مسيح مبارك؟ و لا الملائكة و هم مقربون؟ و لو رجي
فيهم أن يستنكفوا لم يبارك الله في هذا و لا قرب هؤلاء، و قد وصف الله المسيح
أيضا بأنه مقرب في قوله: "وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين": آل عمران:
45.
قوله تعالى: "و من يستنكف عن عبادته و يستكبر فسيحشرهم إليه جميعا" حال.
من المسيح و الملائكة و هو في موضع التعليل أي و كيف يستنكف المسيح و الملائكة
المقربون عن عبادته و الحال أن الذين يستنكفون عن عبادته و يستكبرون من عباده
من الإنس و الجن و الملائكة يحشرون إليه جميعا، فيجزون حسب أعمالهم، و المسيح و
الملائكة يعلمون ذلك و يؤمنون به و يتقونه.
و من الدليل على أن قوله: "و من يستنكف عن عبادته و يستكبر" إلخ في معنى أن
المسيح و الملائكة المقربين عالمون بأن المستنكفين يحشرون إليه قوله "و يستكبر"
إنما قيد به قوله "و من يستنكف" لأن مجرد الاستنكاف لا يوجب السخط الإلهي إذا
لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أما المسيح و الملائكة فإن
استنكافهم لا يكون إلا عن استكبار لكونهم عالمين بمقام ربهم، و لذلك اكتفى بذكر
الاستنكاف فحسب فيهم، فيكون معنى تعليل هذا بقوله: "و من يستنكف عن عبادته و
يستكبر"، أنهم عالمون بأن من يستنكف عن عبادته إلخ".
و قوله "جميعا" أي صالحا و طالحا و هذا هو المصحح للتفضيل الذي يتلوه من قوله:
"فأما الذين ءامنوا و عملوا الصالحات" إلخ.
قوله تعالى: "و لا يجدون لهم من دون الله وليا و لا نصيرا" التعرض لنفي الولي و
النصير مقابلة لما قيل به من ألوهية المسيح و الملائكة.
قوله تعالى: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا
قال الراغب: البرهان بيان للحجة، و هو فعلان مثل الرجحان و الثنيان.
و قال بعضهم: هو مصدر بره يبره إذا ابيض.
انتهى، فهو على أي حال مصدر.
و ربما استعمل بمعنى الفاعل كما إذا أطلق على نفس الدليل و الحجة.
و المراد بالنور هو القرآن لا محالة بقرينة قوله "و أنزلنا إليكم" و يمكن أن
يراد بالبرهان أيضا ذلك، و الجملتان إذا تؤكد إحداهما الأخرى.
و يمكن أن يراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يؤيده وقوع الآية في ذيل
الآيات المبينة لصدق النبي في رسالته، و نزول القرآن من عند الله تعالى، و كون
الآية تفريعا لذلك و يؤيده أيضا قوله تعالى في الآية التالية.
"و اعتصموا به" لما تقدم في الكلام على قوله "و من يعتصم بالله فقد هدي إلى
صراط مستقيم": آل عمران. 101 إن المراد بالاعتصام الأخذ بكتاب الله و الاتباع
لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: "فأما الذين ءامنوا بالله و اعتصموا به"، بيان لثواب من اتبع برهان
ربه و النور النازل من عنده.
و الآية كأنها منتزعة من الآية السابقة المبينة لثواب الذين آمنوا و عملوا
الصالحات أعني قوله "فأما الذين ءامنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و
يزيدهم من فضله"، و لعله لذلك لم يذكر هاهنا جزاء المتخلف من تبعية البرهان و
النور، لأنه بعينه ما ذكر في الآية السابقة، فلا حاجة إلى تكراره ثانيا بعد
الإشعار بأن جزاء المتبعين هاهنا جزاء المتبعين هنالك، و ليس هناك إلا فريقان:
المتبعون و المتخلفون.
و على هذا فقوله في هذه الآية: "فسيدخلهم في رحمة منه" يحاذي قوله في تلك
الآية: "فيوفيهم أجورهم" و هو الجنة، و أيضا قوله في هذه الآية: "و فضل" يحاذي
قوله في تلك الآية: "و يزيدهم من فضله" و أما قوله "و يهديهم إليه صراطا
مستقيما" فهو من آثار ما ذكر فيها من الاعتصام بالله كما في قوله: "و من يعتصم
بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم: آل عمران: 101.
4 سورة النساء - 176
يَستَفْتُونَك قُلِ اللّهُ يُفْتِيكمْ فى الْكَلَلَةِ إِنِ امْرُؤٌا هَلَك
لَيْس لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصف مَا تَرَك وَ هُوَ يَرِثُهَا
إِن لّمْ يَكُن لهَّا وَلَدٌ فَإِن كانَتَا اثْنَتَينِ فَلَهُمَا الثّلُثَانِ
ممّا تَرَك وَ إِن كانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَ نِساءً فَلِلذّكَرِ مِثْلُ حَظ
الأُنثَيَينِ يُبَينُ اللّهُ لَكمْ أَن تَضِلّوا وَ اللّهُ بِكلِّ شىْءٍ
عَلِيمُ (176)
بيان
آية تبين فرائض الكلالة من جهة الأبوين أو الأب على ما يفسرها به السنة، كما أن
ما ذكر من سهام الكلالة في أول السورة سهام كلالة الأم بحسب البيان النبوي، و
من الدليل على ذلك أن الفرائض المذكورة هاهنا أكثر مما ذكر هناك، و من المستفاد
من الآيات أن سهام الذكور أكثر من سهام الإناث.
قوله تعالى: "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد"، قد
تقدم الكلام في معنى الاستفتاء و الإفتاء و معنى الكلالة في الآيات السابقة من
السورة.
و قوله "ليس له ولد" ظاهره الأعم من الذكر و الأنثى على ما يفيده إطلاق الولد
وحده.
و قال في المجمع:، فمعناه: ليس له ولد و لا والد، و إنما أضمرنا فيه الوالد
للإجماع، انتهى.
و لو كان لأحد الأبوين وجود لم تخل الآية من ذكر سهمه فالمفروض عدمهما.
و قوله "و له أخت فلها نصف ما ترك و هو يرثها إن لم يكن لها ولد" سهم الأخت من
أخيها، و الأخ من أخته، و منه يظهر سهم الأخت من أختها و الأخ من أخيه، و لو
كان للفرضين الأخيرين فريضة أخرى لذكرت.
على أن قوله "و هو يرثها" في معنى قولنا لو انعكس الأمر - أي كان الأخ مكان
الأخت - لذهب بالجميع، و على أن قوله "فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك
و إن كانوا إخوة رجالا و نساء فللذكر مثل حظ الأنثيين" و هو سهم الأختين، و سهم
الإخوة لم يقيد فيهما الميت بكونه رجلا أو امرأة فلا دخل لذكور الميت و أنوثته
في السهام.
و الذي صرحت به الآية من السهام سهم الأخت الواحدة، و الأخ الواحد، و الأختين،
و الإخوة المختلطة من الرجال و النساء، و من ذلك يعلم سهام باقي الفروض: منها:
الأخوان يذهبان بجميع المال و يقتسمان بالسوية يعلم ذلك من ذهاب الأخ الواحد
بالجميع، و منها الأخ الواحد مع أخت واحدة، و يصدق عليهما الإخوة كما تقدم في
أول السورة فيشمله "و إن كانوا إخوة" على أن السنة مبينة لجميع ذلك.
و السهام المذكورة تختص بما إذا كان هناك كلالة الأب وحده، أو كلالة الأبوين
وحده، و أما إذا اجتمعا كالأخت لأبوين مع الأخت لأب.
لم ترث الأخت لأب و قد تقدم ذكره في الكلام على آيات أول السورة.
قوله تعالى: "يبين الله لكم أن تضلوا"، أي حذر أن تضلوا، أو لئلا تضلوا و هو
شائع في الكلام، قال عمرو بن كلثوم.
"فعجلنا القرى أن تشتمونا".
بحث روائي
في المجمع، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي أو
سبع فدخل علي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنفخ في وجهي فأفقت، فقلت: يا
رسول الله أ لا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ قال: أحسن، قلت: الشطر؟ قال أحسن، ثم
خرج و تركني و رجع إلي فقال: يا جابر إني لا أراك ميتا من وجعك هذا، و إن الله
قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قالوا: و كانوا جابر يقول: أنزلت
هذه الآية في.
أقول: و روي ما يقرب عنه في الدر المنثور،.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و
ابن ضريس و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في الدلائل عن البراء قال: آخر
سورة نزلت كاملة: براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة.
أقول: و روي فيه عدة روايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الصحابة
كانوا يسمون الآية بآية الصيف، قال في المجمع: و ذلك أن الله تعالى أنزل في
الكلالة آيتين: إحداهما في الشتاء، و هي التي في أول هذه السورة، و أخرى في
الصيف، و هي هذه الآية.
و فيه، أخرج أبو الشيخ في الفرائض عن البراء قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن الكلالة فقال: ما خلا الولد و الوالد. و في تفسير القمي، قال:
حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن بكير، عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: إذا مات الرجل و له أخت لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت
لو كانت، و النصف الباقي يرد عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها،
فإن كان موضع الأخت أخ أخذ الميراث كله لقول الله "و هو يرثها إن لم يكن لها
ولد" فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية، و الثلث الباقي بالرحم، و إن كانوا
إخوة رجالا و نساء فللذكر مثل حظ الأنثيين، و ذلك كله إذا لم يكن للميت ولد أو
أبوان أو زوجة.
أقول: و روى العياشي في تفسيره ذيل الرواية في عدة أخبار عن أبي جعفر و أبي عبد
الله (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن بكير قال: دخل رجل على أبي جعفر (عليه السلام) فسأله عن
امرأة تركت زوجها و إخوتها لأمها و أختا لأب، قال: للزوج النصف: ثلاثة أسهم، و
للإخوة من الأم الثلث: سهمان، و للأخت للأب سهم. فقال الرجل: فإن فرائض زيد و
ابن مسعود و فرائض العامة و القضاة على غير ذا، يا أبا جعفر! يقولون: للأخت
للأب و الأم ثلاثة أسهم نصيب من ستة يقول: إلى ثمانية. فقال أبو جعفر: و لم
قالوا ذلك؟ قال لأن الله قال: "و له أخت فلها نصف ما ترك" فقال أبو جعفر (عليه
السلام): فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجون بأمر الله؟ فإن الله سمى لها
النصف، و إن الله سمى للأخ الكل فالكل أكثر من النصف فإنه تعالى قال: "فلها
النصف" و قال للأخ: "و هو يرثها" يعني جميع المال "إن لم يكن لها ولد" فلا
تعطون الذي جعل الله له الجميع في بعض فرائضكم شيئا و تعطون الذي جعل الله له
النصف تاما؟. و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و الحاكم و
البيهقي عن ابن عباس: أنه سئل عن رجل توفي و ترك ابنته و أخته لأبيه و أمه
فقال: للبنت النصف و ليس للأخت شيء، و ما بقي فلعصبته فقيل: إن عمر جعل للأخت
النصف فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله؟ قال الله: "إن امرؤ هلك ليس له ولد و
له أخت فلها نصف ما ترك" فقلتم أنتم: لها النصف و إن كان له ولد.
: أقول: و في المعاني السابقة روايات أخر
5 سورة المائدة - 1 - 3
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ أُحِلّت لَكُم بهِيمَةُ الأَنْعَمِ إِلا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ
غَيرَ محِلى الصيْدِ وَ أَنتُمْ حُرُمٌ إِنّ اللّهَ يحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لا تحِلّوا شعَئرَ اللّهِ وَ لا الشهْرَ
الحَْرَامَ وَ لا الهَْدْى وَ لا الْقَلَئدَ وَ لا ءَامِّينَ الْبَيْت
الحَْرَامَ يَبْتَغُونَ فَضلاً مِّن رّبهِمْ وَ رِضوَناً وَ إِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصطادُوا وَ لا يجْرِمَنّكُمْ شنَئَانُ قَوْمٍ أَن صدّوكمْ عَنِ الْمَسجِدِ
الحَْرَامِ أَن تَعْتَدُوا وَ تَعَاوَنُوا عَلى الْبرِّ وَ التّقْوَى وَ لا
تَعَاوَنُوا عَلى الاثْمِ وَ الْعُدْوَنِ وَ اتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ شدِيدُ
الْعِقَابِ (2) حُرِّمَت عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدّمُ وَ لحَْمُ
الخِْنزِيرِ وَ مَا أُهِلّ لِغَيرِ اللّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ
الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُترَدِّيَةُ وَ النّطِيحَةُ وَ مَا أَكلَ السبُعُ إِلا
مَا ذَكّيْتُمْ وَ مَا ذُبِحَ عَلى النّصبِ وَ أَن تَستَقْسِمُوا بِالأَزْلَمِ
ذَلِكُمْ فِسقٌ الْيَوْمَ يَئس الّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلا
تخْشوْهُمْ وَ اخْشوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتمَمْت
عَلَيْكُمْ نِعْمَتى وَ رَضِيت لَكُمُ الاسلَمَ دِيناً فَمَنِ اضطرّ فى
مخْمَصةٍ غَيرَ مُتَجَانِفٍ لاثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (3)
بيان
الغرض الجامع في السورة على ما يعطيه التدبر في مفتتحها و مختتمها، و عامة
الآيات الواقعة فيها، و الأحكام و المواعظ و القصص التي تضمنتها هو الدعوة إلى
الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق الحقة كائنة ما كانت، و التحذير البالغ عن نقضها
و عدم الاعتناء بأمرها، و أن عادته تعالى جرت بالرحمة و التسهيل و التخفيف على
من اتقى و آمن ثم اتقى و أحسن و التشديد على من بغى و اعتدى و طغا بالخروج عن
ربقة العهد بالطاعة، و تعدى حدود المواثيق المأخوذة عليه في الدين.
و لذلك ترى السورة تشتمل على كثير من أحكام الحدود و القصاص، و على مثل قصة
المائدة، و سؤال المسيح، و قصة ابني آدم، و على الإشارة إلى كثير من مظالم بني
إسرائيل و نقضهم المواثيق المأخوذة منهم، و على كثير من الآيات التي يمتن الله
تعالى فيها على الناس بأمور كإكمال الدين، و إتمام النعمة، و إحلال الطيبات، و
تشريع ما يطهر الناس من غير أن يريد بهم الحرج و العسر.
و هذا هو المناسب لزمان نزول السورة إذ لم يختلف أهل النقل أنها آخر سورة مفصلة
نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أواخر أيام حياته و قد ورد في
روايات الفريقين: أنها ناسخة غير منسوخة، و المناسب لذلك تأكيد الوصية بحفظ
المواثيق المأخوذة لله تعالى على عباده و للتثبت فيها.
قوله تعالى.
"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" العقود جمع عقد و هو شد أحد شيئين بالآخر
نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر، كعقد الحبل و الخيط بآخر من مثله، و
لازمه التزام أحدهما الآخر، و عدم انفكاكه عنه، و قد كان معتبرا عندهم في
الأمور المحسوسة أولا ثم استعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة
بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك، و كجميع العهود و المواثيق فأطلقت عليها
الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم و الالتزام فيها.
و لما كان العقد - و هو العهد - يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله
من عباده من أركان و أجزاء كالتوحيد و سائر المعارف الأصلية و الأعمال العبادية
و الأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء، و منها عقود المعاملات و غير ذلك، و كان
لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على
ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.
و بذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها
الناس بينهم كعقد البيع و النكاح و العهد، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد
اليمين.
و كذا ما ذكره بعض آخر: أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم
بعضا فيها على النصرة و المؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم، و هذا هو
الحلف الدائر بينهم.
و كذا ما ذكره آخرون: أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل
بما في التوراة و الإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ.
على أن ظاهر الجمع المحلى باللام و إطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد و حكم
لا يلائمها، فالحمل على العموم هو الأوجه.
كلام في معنى العقد
يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى: "أوفوا بالعقود" على الأمر بالوفاء
بالعقود، و هو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء.
و العقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي، و هو نوع ربط شيء بشيء آخر
بحيث يلزمه و لا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث
كان له أن يتصرف فيه ما شاء، و ليس للبائع بعد العقد ملك و لا تصرف، و كعقد
النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح، و ليس
للمرأة أن تمتع غيره من نفسها، و كالعهد الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من
نفسه فيما عهده و ليس له أن ينقضه.
و قد أكد القرآن في الوفاء بالعقد و العهد جميع معانيه و في جميع معانيه و في
جميع مصاديقه و شدد فيه كل التشديد، و ذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا، و
أوعدهم إيعادا عنيفا و مدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة
إلى نقلها.
و قد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم
الفطرية، و هو كذلك.
و ليس ذلك إلا لأن العهد و الوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا، و
الفرد و المجتمع في ذلك سيان، و إنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان
وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها و جميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي
نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام و العقود و العهود الفرعية
التي تترتب عليه، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا و لا نملك منهم شيئا إلا
عن عقد عملي و إن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان، و لو صح للإنسان أن
ينقض ما عقده و عهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر
به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي، و هو الركن الذي يلوذ به و يأوي
إليه الإنسان من إسارة الاستخدام و الاستثمار.
و لذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد و الوفاء به قال تعالى: "و أوفوا بالعهد
إن العهد كان مسئولا": إسراء: 34 و الآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به
الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد و الذامة لنقضه كما تشمل
العهد الاجتماعي الدائر بين قوم و قوم و أمة و أمة، بل الوفاء به في نظر الدين
أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم و البلية في نقضه أعم.
و لذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده و أهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح
القول و أوضح البيان قال تعالى: "براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من
المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله
مخزي الكافرين و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء
من المشركين و رسوله فإن تبتم فهو خير لكم و إن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي
الله و بشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم
شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب
المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و
احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد": براءة: 5 و الآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح
مكة و قد أذل الله رقاب المشركين، و أفنى قوتهم و أذهب شوكتهم، و هي تعزم على
المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها و ظهروا عليها من قذارة الشرك، و تهدر
دماء المشركين من دون أي قيد و شرط إلا أن يؤمنوا، و مع ذلك تستثني قوما من
المشركين بينهم و بين المسلمين عهد عدم التعرض، و لا تجيز للمسلمين أن يمسوهم
بسوء حينما استضعفوا و استذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع و لا دافع يدفع، كل
ذلك احتراما للعهد و مراعاة لجانب التقوى.
نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه و يتلقى هباء باطلا،
اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به، قال تعالى: "كيف يكون للمشركين عهد عند الله و
عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم
إن الله يحب المتقين - إلى أن قال - لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة و أولئك هم
المعتدون فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فإخوانكم في الدين و نفصل
الآيات لقوم يعلمون و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا
أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون": براءة: 12، و قال تعالى: "فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله": البقرة: 149، و
قال تعالى: "و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا و
تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله":
المائدة: 2.
و جملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد و وجوب الوفاء به على الإطلاق سواء
انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي
ألزم و أوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده
فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه و الاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه، فإن في
ذلك خروجا عن رقية الاستخدام و الاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا
لإماطتها.
و لعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس
إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها و التحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا
ينتظم سلك الاجتماع الإنساني إلا على أساسه و إماطة مظلمة الاستخدام و
الاستثمار، و قد صرح به الكتاب العزيز و سار به النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) في سيرته الشريفة، و لو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه
عليه أفضل الصلاة و السلام في ذلك، و عليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته
و تاريخ حياته.
و إذا قايست بين ما جرت عليه سنة الإسلام من احترام العهد و ما جرت عليه سنن
الأمم المتمدنة و غير المتمدنة و لا سيما ما نسمعه و نشاهده كل يوم من معاملة
الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم و معاقداتهم و حفظها لها ما درت لهم أو
استوجبته مصالح دولتهم و نقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية
الحق و خدمة الحقيقة.
و من الحري بالدين ذاك و بسننهم ذلك فإنما هناك منطقان: منطق يقول: إن الحق تجب
رعايته كيفما كان و في رعايته منافع المجتمع، و منطق يقول: إن منافع الأمة تجب
رعايتها بأي وسيلة اتفقت و إن دحضت الحق، و أول المنطقين منطق الدين، و ثانيهما
منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية و
الديموقراطية و الشيوعية و غيرها.
و قد عرفت مع ذلك أن الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل
يعمم حكمه إلى كل ما بني عليه بناء و يوصي برعايته و لهذا البحث أذيال ستعثر
عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم" إلخ الإحلال هو
الإباحة و البهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر و البحر على ما في المجمع، و
على هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا:
نوع الإنسان و جنس الحيوان، و قيل: البهيمة جنين الأنعام، و عليه فالإضافة
لامية.
و كيف كان فقوله "أحلت لكم بهيمة الأنعام" أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها،
و قوله "إلا ما يتلى عليكم" إشارة إلى ما سيأتي من قوله: "حرمت عليكم الميتة و
الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به" الآية.
و قوله "غير محلي الصيد و أنتم حرم" حال من ضمير الخطاب في قوله "أحلت لكم" و
مفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الإحرام، كالوحشي من الظباء و
البقرة و الحمر إذا صيدت، و ربما قيل: إنه حال من قوله "أوفوا" أو حال من ضمير
الخطاب في قوله "يتلى عليكم" و الصيد مصدر بمعنى المفعول، كما أن الحرم بضمتين
جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام و لا
الهدي و لا القلائد و لا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم و رضوانا" خطاب
مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى.
و الإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة و المنزلة، و يتعين معناه
بحسب ما أضيف إليه: فإحلال شعائر الله عدم احترامها و تركها، و إحلال الشهر
الحرام عدم حفظ حرمته و القتال فيه، و هكذا.
و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة، و كان المراد بها أعلام الحج و مناسكه.
و الشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية و هي: المحرم و رجب و ذو
القعدة و ذو الحجة.
و الهدي ما يساق للحج من الغنم و البقر و الإبل.
و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل و نحوه ليعلم أنه
هدي للحج فلا يتعرض له.
و الآمين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد، و المراد به القاصدون لزيارة البيت
الحرام.
و قوله "يبتغون فضلا"، حال من "آمين" و الفضل هو المال، أو الربح المالي فقد
أطلق عليه في قوله تعالى "فانقلبوا بنعمة من الله و فضل لم يمسسهم سوء": آل
عمران: 147 و غير ذلك أو هو الأجر الأخروي أو الأعم من المال و الأجر.
و قد اختلفوا في تفسير الشعائر و القلائد و غيرهما من مفردات الآية على أقوال
شتى، و الذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية، و لا جدوى في التعرض لتفاصيل
الأقوال.
قوله تعالى: "و إذا حللتم فاصطادوا" أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من
الإباحة بمعنى عدم المنع، و الحل و الإحلال - مجردا و مزيدا فيه - بمعنى و هو
الخروج من الإحرام.
قوله تعالى: "و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا"
يقال: جرمه يجرمه أي حمله، و منه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها،
و للعقوبة المالية و غيرها لأنها محمولة على المجرم.
و ذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع.
و الشنآن العداوة و البغض.
و قوله "أن صدوكم" أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن، و محصل معنى الآية: و
لا يحملنكم عداوة قوم و هو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما
أظهركم الله عليهم.
قوله تعالى: "و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان"
المعنى واضح، و هذا أساس السنة الإسلامية، و قد فسر الله سبحانه البر في كلامه
بالإيمان و الإحسان في العبادات و المعاملات، كما مر في قوله تعالى: "و لكن
البر من آمن بالله و اليوم الآخر" الآية: البقرة: 177 و قد تقدم الكلام فيه.
و التقوى مراقبة أمر الله و نهيه، فيعود معنى التعاون على البر و التقوى إلى
الاجتماع على الإيمان و العمل الصالح على أساس تقوى الله، و هو الصلاح و التقوى
الاجتماعيان، و يقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيىء المستتبع للتأخر
في أمور الحياة السعيدة، و على العدوان و هو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب
الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم و قد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في
ذيل قوله تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا اصبروا و صابروا و رابطوا" الآية: آل
عمران: 200 في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم و العدوان بقوله: "و اتقوا الله إن
الله شديد العقاب" و هو في الحقيقة تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: "حرمت عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل لغير الله به"
هذه الأربعة مذكورة فيما نزل من القرآن قبل هذه السورة كسورتي الأنعام و النحل
و هما مكيتان، و سورة البقرة و هي أول سورة مفصلة نازلة بالمدينة قال تعالى:
"قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا
أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن
ربك غفور رحيم": الأنعام: 154 و قال تعالى: "إنما حرم عليكم الميتة و الدم و
لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه إن
الله غفور رحيم": البقرة: 137.
و الآيات جميعا - كما ترى - تحرم هذه الأربعة المذكورة في صدر هذه الآية و
تماثل الآية أيضا في الاستثناء الواقع في ذيلها بقوله: "فمن اضطر في مخمصة غير
متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم" فآية المائدة بالنسبة إلى هذه المعاني
المشتركة بينها و بين تلك مؤكدة لتلك الآيات.
بل النهي عنها و خاصة عن الثلاثة الأول أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير أسبق
تشريعا من نزول سورتي الأنعام و النحل المكيتين، فإن آية الأنعام تعلل تحريم
الثلاثة أو خصوص لحم الخنزير بأنه رجس، فتدل على تحريم أكل الرجز، و قد قال
تعالى في سورة المدثر - و هي من السور النازلة في أول البعثة -: "و الرجز
فاهجر": المدثر: 5.
و كذلك ما عده تعالى بقوله "و المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما
أكل السبع" جميعا من مصاديق الميتة بدليل قوله "إلا ما ذكيتم" فإنما ذكرت في
الآية لنوع عناية بتوضيح أفراد الميتة و مزيد بيان للمحرمات من الأطعمة من غير
أن تتضمن الآية فيها على تشريع حديث.
و كذلك ما عده الله تعالى بقوله "و ما ذبح على النصب و أن تستقسموا بالأزلام
ذلكم فسق" فإنهما و إن كانا أول ما ذكرا في هذه السورة لكنه تعالى علل تحريمهما
أو تحريم الثاني منهما - على احتمال ضعيف - بالفسق، و قد حرم الفسق في آية
الأنعام، و كذا قوله "غير متجانف لإثم" يدل على تحريم ما ذكر في الآية لكونه
إثما، و قد دلت آية البقرة على تحريم الإثم، و قال تعالى أيضا: "و ذروا ظاهر
الإثم و باطنه": الأنعام: 102، و قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر
منها و ما بطن و الإثم": الأعراف: 33.
فقد اتضح و بان أن الآية لا تشتمل فيما عدته من المحرمات على أمر جديد غير
مسبوق بالتحريم فيما تقدم عليها من الآيات المكية أو المدنية المتضمنة تعداد
محرمات الأطعمة من اللحوم و نحوها.
قوله تعالى: "و المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل السبع إلا
ما ذكيتم" المنخنقة هي البهيمة التي تموت بالخنق، و هو أعم من أن يكون عن اتفاق
أو بعمل عامل اختيارا، و من أن يكون بأي آلة و وسيلة كانت كحبل يشد على عنقها و
يسد بضغطة مجرى تنفسها، أو بإدخال رأسها بين خشبتين، كما كانت هذه الطريقة و
أمثالها دائرة بينهم في الجاهلية.
و الموقوذة هي التي تضرب حتى تموت، و المتردية هي التي تردت أي سقطت من مكان
عال كشاهق جبل أو بئر و نحوهما.
و النطيحة هي التي ماتت عن نطح نطحها به غيرها، و ما أكل السبع هي التي أكلها
أي أكل من لحمها السبع فإن الأكل يتعلق بالمأكول سواء أفنى جميعه أو بعضه و
السبع هو الوحش الضاري كالأسد و الذئب و النمر و نحوها.
و قوله "إلا ما ذكيتم" استثناء لما يقبل التذكية بمعنى فري الأوداج الأربعة
منها كما إذا كانت فيها بقية من الحياة يدل عليها مثل حركة ذنب أو أثر تنفس و
نحو ذلك و الاستثناء كما ذكرنا آنفا متعلق بجميع ما يقبله من المعدودات من دون
أن يتقيد بالتعلق بالأخير من غير دليل عليه.
و هذه الأمور الخمسة أعني المنخنقة و الموقوذة و المتردية و النطيحة و ما أكل
السبع كل ذلك من أفراد الميتة و مصاديقها، بمعنى أن المتردية أو النطيحة مثلا
إنما تحرمان إذا ماتتا بالتردي و النطح، و الدليل على ذلك قوله: "إلا ما ذكيتم"
فإن من البديهي أنهما لا تؤكلان ما دامت الروح في جثمانهما، و إنما تؤكلان بعد
زهوقها و حينئذ فإما أن تذكيا أو لا، و قد استثنى الله سبحانه التذكية فلم يبق
للحرمة إلا إذا ماتتا عن ترد أو نطح من غير تذكية، و أما لو تردت شاة - مثلا -
في بئر ثم أخرجت سليمة مستقيمة الحال فعاشت قليلا أو كثيرا ثم ماتت حتف أنفها
أو ذكيت بذبح فلا تطلق عليها المتردية، يدل على ذلك السياق فإن المذكورات فيها
ما إذا هلكت، و استند هلاكها إلى الوصف الذي ذكر لها كالانخناق و الوقذ و
التردي و النطح.
و الوجه في تخصيص هذه المصاديق من الميتة بالذكر رفع ما ربما يسبق إلى الوهم
أنها ليست ميتة بناء على أنها أفراد نادرة منها و الذهن يسبق غالبا إلى الفرد
الشائع، و هو ما إذا ماتت بمرض و نحوه من غير أن يكون لمفاجاة سبب من خارج،
فصرح تعالى بهذه الأفراد و المصاديق النادرة بأسمائها حتى يرتفع اللبس و تتضح
الحرمة.
قوله تعالى: "و ما ذبح على النصب" قال الراغب في المفردات:، نصب الشيء وضعه
وضعا ناتئا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيب الحجارة تنصب على الشيء، و
جمعه نصائب و نصب، و كان للعرب حجارة تعبدها و تذبح عليها قال: "كأنهم إلى نصب
يوفضون"، قال: "و ما ذبح على النصب" و قد يقال في جمعه: أنصاب قال و الأنصاب و
الأزلام". و النصب و النصب: التعب.
|