قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
أركان كماله، و غير المتناهي هو القائم على نفسه، الشهيد عليه، المحيط به، ثم انظر في ذلك إلى ما يفيده قوله تعالى: "أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد، ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط": "حم السجدة: 54".
و هذا هو الذي يدل عليه عامة الآيات الواصفة لصفاته تعالى الواقعة في سياق الحصر أو الظاهر فيه كقوله تعالى: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى": "طه: 8"، و قوله: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين": "النور: 25"، و قوله: "هو الحي لا إله إلا هو": "المؤمن: 65"، و قوله: "و هو العليم القدير": "الروم: 54"، و قوله: "إن القوة لله جميعا": "البقرة: 156"، و قوله: "له الملك و له الحمد": "التغابن: 1"، و قوله: "إن العزة لله جميعا": "يونس: 65"، و قوله: "الحق من ربك": "البقرة: 174"، و قوله: "أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني": "فاطر: 15"، إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات - كما ترى - تنادي بأعلى صوتها أن كل كمال مفروض فهو لله سبحانه بالأصالة، و ليس لغيره شيء إلا بتمليكه تعالى له ذلك من غير أن ينعزل عما يملكه و يملكه كما ننعزل نحن معاشر الخليقة عما ملكناه غيرنا.
فكلما فرضنا شيئا من الأشياء ذا شيء من الكمال في قباله تعالى ليكون ثانيا له و شريكا عاد ما بيده من معنى الكمال لله سبحانه محضا، و هو الحق الذي يملك كل شيء، و غيره الباطل الذي لا يملك لنفسه شيئا قال تعالى: "لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا": "الفرقان: 3".
و هذا المعنى هو الذي ينفي عنه تعالى الوحدة العددية إذ لو كان واحدا عدديا أي موجودا محدودا منعزل الذات عن الإحاطة بغيره من الموجودات صح للعقل أن يفرض مثله الثاني له سواء كان جائز التحقق في الخارج أو غير جائز التحقق، و صح عند العقل أن يتصف بالكثرة بالنظر إلى نفسه و إن فرض امتناعه في الواقع، و ليس كذلك.
فهو تعالى واحد بمعنى أنه من الوجود بحيث لا يحد بحد حتى يمكن فرض ثان له فيما وراء ذلك الحد و هذا معنى قوله تعالى: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد": سورة التوحيد - 4 فإن لفظ أحد إنما يستعمل استعمالا يدفع إمكان فرض العدد في قباله يقال: "ما جاءني أحد" و ينفي به أن يكون قد جاء الواحد و كذا الاثنان و الأكثر و قال تعالى: "و إن أحد من المشركين استجارك": "التوبة: 6" فشمل الواحد و الاثنين و الجماعة و لم يخرج عن حكمه عدد، و قال تعالى: "أو جاء أحد منكم من الغائط" فشمل الواحد و ما وراءه، و لم يشذ منه شاذ.
فاستعمال لفظ أحد في قوله: "هو الله أحد" في الإثبات من غير نفي و لا تقييد بإضافة أو وصف يفيد أن هويته تعالى بحيث يدفع فرض من يماثله في هويته بوجه سواء كان واحدا أو كثيرا فهو محال بحسب الفرض الصحيح مع قطع النظر عن حاله بحسب الخارج.
و لذلك وصفه تعالى أولا بأنه صمد، و هو المصمت الذي لا جوف له و لا مكان خاليا فيه، و ثانيا بأنه لم يلد، و ثالثا بأنه لم يولد، و رابعا بأنه لم يكن له كفوا أحد، و كل هذه الأوصاف مما يستلزم نوعا من المحدودية و الانعزال.
و هذا هو السر في عدم وقوع توصيفات غيره تعالى عليه حق الوقوع و الاتصاف قال تعالى: "سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين": "الصافات: 106"، و قال تعالى: "و لا يحيطون به علما": "طه: 101"، فإن المعاني الكمالية التي نصفه تعالى بها أوصاف محدودة، و جلت ساحته سبحانه عن الحد و القيد، و هو الذي يرومه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته المشهورة: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك".
و هذا المعنى من الوحدة هو الذي يدفع به تثليث النصارى فإنهم موحدون في عين التثليث لكن الذي يذعنون به من الوحدة وحدة عددية لا تنفي الكثرة من جهة أخرى فهم يقولون: إن الأقانيم الأب و الابن و الروح الذات و العلم و الحياة ثلاثة و هي واحدة كالإنسان الحي العالم فهو شيء واحد لأنه إنسان حي عالم و هو ثلاثة لأنه إنسان و حياة و علم.
لكن التعليم القرآني ينفي ذلك لأنه يثبت من الوحدة ما لا يستقيم معه فرض أي كثرة و تمايز لا في الذات و لا في الصفات، و كل ما فرض من شيء في هذا الباب كان عين الآخر لعدم الحد فذاته تعالى عين صفاته، و كل صفة مفروضة له عين الأخرى، تعالى الله عما يشركون، و سبحانه عما يصفون.
و لذلك ترى أن الآيات التي تنعته تعالى بالقهارية تبدأ أولا بنعت الوحدة ثم تصفه بالقهارية لتدل على أن وحدته لا تدع لفارض مجال أن يفرض له ثانيا مماثلا بوجه فضلا عن أن يظهر في الوجود، و ينال الواقعية و الثبوت، قال تعالى: "أ أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم": "يوسف: 40"، فوصفه بوحدة قاهرة لكل شريك مفروض لا تبقى لغيره تعالى من كل معبود مفروض إلا الاسم فقط، و قال تعالى: "أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار": "الرعد: 16"، قال تعالى: "لمن الملك اليوم لله الواحد القهار": "المؤمن: 16"، إذ ملكه تعالى المطلق لا يخلي مالكا مفروضا غيره دون أن يجعله نفسه و ما يملكه ملكا لله سبحانه، و قال تعالى: "و ما من إله إلا الله الواحد القهار": ص: 65"، و قال تعالى: "لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار": "الزمر: 4"، فرتب القهارية في جميع الآيات على صفة الوحدة.
بحث روائي
في التوحيد، و الخصال، بإسناده عن المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه قال: إن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أ تقول: إن الله واحد؟ قال: فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابي أ ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسم القلب؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم!. ثم قال: يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على الله عز و جل، و وجهان يثبتان فيه فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد أ ما ترى أنه كفر من قال: إنه ثالث ثلاثة؟ و قول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز لأنه تشبيه، و جل ربنا و تعالى عن ذلك. و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحدي المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم، كذلك ربنا عز و جل:. أقول: و رواه أيضا في المعاني، بسند آخر عن أبي المقدام بن شريح بن هاني عن أبيه عنه (عليه السلام).
و في النهج،: أول الدين معرفته، و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله فقد قرنه، و من قرنه فقد ثناه، و من ثناه فقد جزأه، و من جزأه فقد جهله، و من جهله فقد أشار إليه، و من أشار إليه فقد حده، و من حده فقد عده الخطبة.
أقول: و هو من أبدع البيان، و محصل الشطر الأول من الكلام أن معرفته تنتهي في استكمالها إلى نفي الصفات عنه، و محصل الشطر الثاني المتفرع على الشطر الأول - أعني قوله (عليه السلام): فمن وصف الله فقد قرنه إلخ - أن إثبات الصفات يستلزم إثبات الوحدة العددية المتوقفة على التحديد غير الجائز عليه تعالى، و تنتج المقدمتان أن كمال معرفته تعالى يستوجب نفي الوحدة العددية منه، و إثبات الوحدة بمعنى آخر، و هو مراده (عليه السلام) من سرد الكلام.
أما مسألة نفي الصفات عنه فقد بينه (عليه السلام): "بقوله أول الدين معرفته" لظهور أن من لم يعرف الله سبحانه و لو بوجه لم يحل بعد في ساحة الدين، و المعرفة ربما كانت مع عمل بما يرتبط به من الأفعال و ترتب آثار المعروف، و ربما كانت من غير عمل، و من المعلوم أن العلم فيما يتعلق نوع تعلق بالأعمال إنما يثبت و يستقر في النفس إذا ترتب عليه آثاره العملية، و إلا فلا يزال العلم يضعف بإتيان الأعمال المخالفة حتى يبطل أو يصير سدى لا أثر له، و من كلامه (عليه السلام) في هذا الباب - و قد رواه في النهج: "العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، و العلم يهتف بالعمل فإن أجابه و إلا ارتحل عنه.
فالعلم و المعرفة بالشيء إنما يكمل إذا أخذ العارف معروفه صدقا، و أظهر ذلك في باطنه و ظاهره، و جنانه و أركانه بأن يخضع له روحا و جسما، و هو الإيمان المنبسط على سره و علانيته، و هو قوله: "و كمال معرفته التصديق به".
ثم هذا الخضوع المسمى بالتصديق به و إن جاز تحققه مع إثبات الشريك للرب المخضوع له كما يخضع عبدة الأصنام لله و لسائر آلهتهم جميعا لكن الخضوع بشيء لا يتم من غير انصراف عن غيره بالبداهة، فالخضوع لواحد من الآلهة في معنى الإعراض عن غيره و الاستكبار في الجملة عنه فلا يكمل التصديق بالله و الخضوع لمقامه إلا بالإعراض عن عبادة الشركاء، و الانصراف عن دعوة الآلهة الكثيرة، و هو قوله: "و كمال التصديق به توحيده".
ثم إن للتوحيد مراتب مختلفة بعضها فوق بعض، و لا يكمل حتى يعطى الإله الواحد حقه من الألوهية المنحصرة، و لا يقتصر على مجرد تسميته إلها واحدا بل ينسب إليه كل ما له نصيب من الوجود و الكمال كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و المنع، و أن يخص الخضوع و العبادة به فلا يتذلل لغيره بوجه من الوجوه بل لا يرجى إلا رحمته، و لا يخاف إلا سخطه، و لا يطمع إلا فيما عنده، و لا يعكف إلا على بابه.
و بعبارة أخرى أن يخلص له علما و عملا، و هو قوله (عليه السلام): "و كمال توحيده الإخلاص له".
و إذا استوى الإنسان على أريكة الإخلاص، و ضمته العناية الإلهية إلى أولياء الله المقربين لاحت على بصيرته لوائح العجز عن القيام بحق المعرفة، و توصيفه بما يليق بساحة كبريائه و عظمته فإنه ربما شاهد أن الذي يصفه تعالى به معان مدركة مما بين يديه من الأشياء المصنوعة، و أمور ألفها من مشهوداته الممكنة، و هي صور محدودة مقيدة يدفع بعضها بعضا، و لا تقبل الائتلاف و الامتزاج، انظر إلى مفاهيم الوجود و العلم و القدرة و الحياة و الرزق و العزة و الغنى و غيرها.
و المعاني المحدودة يدفع بعضها بعضا لظهور كون كل مفهوم خلوا عن المفهوم الآخر كمعنى العلم عن معنى القدرة فإنا حين ما نتصور العلم نصرف عن القدرة فلا نجد معناها في معنى العلم، و إذا تصورنا معنى العلم و هو وصف من الأوصاف ننعزل عن معنى الذات و هو الموصوف.
فهذه المفاهيم و العلوم و الإدراكات تقصر عن الانطباق عليه جل شأنه حق الانطباق، و عن حكاية ما هو عليه حق الحكاية فتمس حاجة المخلص في وصفه ربه إلى أن يعترف بنقص لا علاج له، و عجز لا جابر دونه فيعود فينفي ما أثبته، و يتيه في حيرة لا مخلص منها، و هو قوله (عليه السلام): "و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنها غير الصفة".
و هذا الذي فسرنا به هذا العقد من كلامه (عليه السلام) هو الذي يؤيده أول الخطبة حيث يقول: "الذي لا يدركه بعد الهمم، و لا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود، و لا وقت معدود، و لا أجل ممدود" على ما يظهر للمتأمل الفطن.
و أما قوله (عليه السلام): "فمن وصف الله فقد قرنه" إلخ، فهو توصل منه إلى المطلوب - و هو أن الله سبحانه لا حد له و لا عد - من طريق تحليل إثبات الوصف كما كان البيان الأول توصلا منه من طريق تحليل المعرفة إلى نفي الوصف.
فمن وصف الله فقد قرنه لما عرفت من المغايرة بين الموصوف و الصفة، و الجمع بين المتغارين قرن، و من قرنه فقد ثناه لأخذه إياه موصوفا و صفة و هما اثنان، و من ثناه فقد جزأه إلى جزءين، و من جزأه فقد جهله بالإشارة إليه إشارة عقلية، و من أشار إليه فقد حده لكون الإشارة مستلزمة لانفصال المشار إليه عن المشير حتى تتوسط بينهما الإشارة التي هي إيجاد بعد ما بين المشير و المشار إليه - يبتدىء من الأول و ينتهي إلى الثاني - "و من حده فقد عده" و جعله واحدا عدديا لأن العدد لازم الانقسام و الانعزال الوجودي تعالى الله عن ذلك.
و في النهج،: من خطبة له (عليه السلام): "الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا فيكون أولا قبل أن يكون آخرا، و يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا، كل مسمى بالوحدة غيره قليل، و كل عزيز غيره ذليل، و كل قوي غيره ضعيف، و كل مالك غيره مملوك، و كل عالم غيره متعلم، و كل قادر غيره يقدر و يعجز، و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها، و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان و لطيف الأجسام، و كل ظاهر غيره باطن، و كل باطن غيره ظاهر".
أقول: بناء البيان على كونه تعالى غير محدود و كون غيره محدودا فإن هذه المعاني و النعوت و كل ما كان من قبيلها إذا طرأ عليها الحد كانت لها إضافة ما إلى غيرها، و يستوجب التحدد حينئذ أن تنقطع و تزول عما أضيفت إليه، و تتبدل إلى ما يقابلها من المعنى.
فالظهور إذا فرض محدودا كان بالنسبة إلى جهة أو إلى شيء دون جهة أخرى و شيء آخر، و صار الأمر الظاهر باطنا خفيا بالنسبة إلى تلك الجهة الأخرى و الشيء الآخر، و العزة إذا أخذت بحد بطلت فيما وراء حدها فكانت ذلة بالنسبة إليه، و القوة إذا كانت مقيدة تبدلت بالنسبة إلى ما وراء قيدها ضعفا، و الظهور بطون في غير محله، و البطون ظهور في الخارج عن مستواه.
و الملك إذا كان محدودا كان من يحده مهيمنا على هذا المالك فهو و ملكه تحت ملك غيره، و العلم إذا كان محدودا لم يكن من صاحبه لأن الشيء لا يحد نفسه، فكان بإفاضة الغير و تعليمه، و هكذا.
و الدليل على أنه (عليه السلام) بنى بيانه على معنى الحد قوله: "و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات" إلخ، فإنه و ما بعده ظاهر في الإشارة إلى محدودية المخلوقات، و السياق واحد.
و أما قوله (عليه السلام): "و كل مسمى بالوحدة غيره قليل" - و الجملة هي المقصودة من نقل الخطبة - فبناؤه على معنى الحد ظاهر فإن الوحدة العددية المتفرعة على محدودية المسمى بالواحد لازمة تقسم المعنى و تكثره، و كلما زاد التقسم و التكثر أمعن الواحد في القلة و الضعف بالنسبة إلى الكثرة الحادثة، فكل واحد عددي فهو قليل بالنسبة إلى الكثير الذي بإزائه و لو بالفرض.
و أما الواحد الذي لا حد لمعناه و لا نهاية له فلا يحتمل فرض الكثرة لعدم احتماله طرو الحد و عروض التميز و لا يشذ عن وجوده شيء من معناه حتى يكثره و يقوى بضمه، و يقل و يضعف بعزله، بل كلما فرض له ثان في معناه فإذا هو هو.
و في النهج،: و من خطبة له (عليه السلام): "الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، و بمحدث خلقه على أزليته، و باشتباههم على أن لا شبه له، لا يستلمه المشاعر، و لا يحجبه السواتر لافتراق الصانع و المصنوع، و الحاد و المحدود، و الرب و المربوب، الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب، و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و البائن لا بتراخي مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله".
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مبني على أن جميع المعاني و الصفات المشهودة في الممكنات أمور محدودة لا تتم إلا بحاد يحدها و صانع يصنعها، و رب يربها، و هو الله سبحانه، و إذ كان الحد من صنعه فهو متأخر عنه غير لازم له، فقد تنزهت ساحة كبريائه عن هذه الحدود.
و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحد - و إن كان لفظنا قاصرا عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدودية، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.
و من فروع ذلك أن بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.
و قوله (عليه السلام): "من وصفه فقد حده و من حده، فقد عده و من عده، فقد أبطل أزله" فرع على إثبات الوحدة العددية إبطال الأزل لأن حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنه غير مسبوق بشيء يتقدم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنه غير ملحوق بشيء يتأخر عنه كان هو أبده، و ربما اعتبر من الجانبين فكان دواما.
و أما ما يظهر من عدة من الباحثين أن معنى كونه تعالى أزليا أنه سابق متقدم على خلقه المحدث تقدما في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطإ، و أين الزمان الذي هو مقدار حركة المتحركات و المشاركة معه تعالى في أزله؟!.
و في النهج،: و من خطبة له (عليه السلام): "الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوليته ابتداء، و لا لأزليته انقضاء، هو الأول لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرت له الجباه، و وحدته الشفاه، حد الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتى، الظاهر لا يقال: مما؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصادق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيؤ عليه القمر المنير، و تعقبه الشمس ذات النور في الأفول و الكرور و تقلب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار نهار مدبر، قبل كل غاية و مدة، و كل إحصاء و عدة، تعالى عما ينحله المحددون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثل المساكن، و تمكن الأماكن، فالحد لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من أصول أزلية، و لا أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده، و صور ما صور فأحسن صورته".
و في النهج،: من خطبة له (عليه السلام): "ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا صمده من أشار إليه و توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، و كل قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدر لا يحول فكره، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضاد النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتها، مفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد، و لا يحسب بعد، و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها "منذ" القدمة، و حمتها "قد" الأزلية، و جنبتها "لو لا" التكملة، بها تجلى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه".
أقول: أول كلامه (عليه السلام) مسوق لبيان امتناع ذاته المقدسة عن الحد، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدم توضيحه الإجمالي فيما تقدم.
و قوله: "لا يشمل بحد و لا يحسب بعد" كالنتيجة لما تقدمه من البيان، و قوله: "و إنما تحد الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها" بمنزلة بيان آخر لقوله: "لا يشمل بحد، إلخ" فإن البيان السابق إنما سيق من مسلك أن هذه الحدود المستقرة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخرة عنها تأخر الفعل عن فاعله فلا يمكن أن تتقيد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.
و أما ما في قوله: "و إنما تحد" "إلخ"، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أن التقدير و التحديد الذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنما هو بالمسانخة النوعية كما أن المثقال الذي هو واحد الوزن مثلا توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلا، و الزمان الذي هو مقدار الحركة إنما تحد به الحركات، و الإنسان مثلا إنما يقدر بما له من الوزن الاجتماعي المتوسط مثلا من يماثله في الإنسانية، و بالجملة كل حد من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كل صفة إمكانية كائنة ما كانت مبنية على قدر و حد و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزلية أبدية غير متناهية؟.
فهذا هو مراده (عليه السلام)، و لذلك أردفه بقوله: "منعتها منذ القدمة" "إلخ"، أي صدق كلمة "منذ" و كلمة "قد" الدالتين على الحدوث الزماني، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة "لو لا" في الأشياء و هي تدل على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعدتها أن تكون كاملة من كل وجه.
و قوله: "بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون" الضميران للأشياء أي إن، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلي إلا إياه تعالى فهو بها تجلى للعقول و بها أيضا امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلا مثلها لا ربها المحيط بكل شيء.
و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنها آلات مركبة مبنية على الحدود لا تعمل إلا في المحدود، و جلت ساحة رب العزة عن الحد.
و قوله (عليه السلام): "لا يجري عليه السكون و الحركة" "إلخ"، بمنزلة العود إلى أول الكلام ببيان آخر يبين به أن هذه الأفعال و الحوادث التي هي تنتهي إلى الحركة و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنها آثاره التي تترتب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثر توجيهه أثره المتفرع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشيء في نفسه إلا بنوع من التجزي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلا يدبر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبه مرضه، فكل ذلك إنما يصح لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.
فالقوة الباصرة مثلا لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلا في غيرها إلا مع التركيب و التجزئة كما عرفت و هذا معنى قوله: "إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه" "إلخ".
و قوله (عليه السلام): "و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه" أي إذا لزمه النقص من تطرق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعية و أمارات الإمكان كان تعالى و تقدس مقارنا لما يدل على كونه مصنوعا و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلا على موجود آخر أزلي كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزه عن كل نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.
و اعلم أن ما يدل عليه قوله - من كون الدلالة هي من شئون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أنه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنه دال على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإن العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: بينا أمير المؤمنين (عليه السلام) يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له "ذعلب" ذرب اللسان، بليغ في الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربا لم أره!. فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شيء لا يقال شيء قبله، و بعد كل شيء لا يقال له بعد، شاء الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها، و بتأليفها على مؤلفها، و ذلك قوله عز و جل: "و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون"، ففرق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربا و لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم، و سميعا إذ لا مسموع. ثم أنشأ يقول: و لم يزل سيدي بالحمد معروفا. و لم يزل سيدي بالجود موصوفا. و كان إذ ليس نور يستضاء به. و لا ظلام على الآفاق معكوفا. فربنا بخلاف الخلق كلهم. و كل ما كان في الأوهام موصوفا. الأبيات. أقول: و كلامه (عليه السلام) كما ترى مسوق لبيان معنى أحدية الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل ذاته ذات و إلا لهدده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكل شيء، المهيمن على كل أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإن في ذلك بطلان أزليته و عدم محدوديته. و إن صفته تعالى الكمالية غير محدودة بحد يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أن العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوما و مصداقا، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كل صفة من صفاته العليا و الاسم عين كل اسم من أسمائه الحسنى. بل إن هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غورا من ذلك و هو أن هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجي و الكون الواقعي فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلا ما يقاربها في الحد، فإذا فرضنا أمرا غير محدود ثم قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلا المحدود و هو غيره، و كلما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعاليا و ابتعادا. فمفهوم العلم مثلا هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعده كمالا لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلا، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثم عدلنا محدوديته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنه يخلص من بعض التحديد لكنه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه و لكل مفهوم وراء يقصر عن شموله و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدي إلى بطلان خاصة المفهومية، و هو ظاهر. و هذا هو الذي يحير الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبه و عقله، و هو المستفاد من قوله (عليه السلام): "لا تحده الصفات" و من قوله فيما تقدم من خطبته المنقولة: "و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه" و قوله أيضا في تلك الخطبة: "الذي ليس لصفته حد محدود، و لا نعت موجود" و أنت ترى أنه (عليه السلام) يثبت الصفة في عين أنه ينفيها أو ينفي حدها، و من المعلوم أن إثباتها هي لا تنفك عن الحد فنفي الحد عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يئول إلى أن إثبات شيء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتحد الصفات بعضها مع بعض ثم تتحد مع الذات و لا حد، ثم لا ينفي ما وراءها مما لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلق به فافهم ذلك. و لو لا أن المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الذي تقدم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامة المبهمة كوصفه بأنه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإن هذا النحو من الوصف لا يدع شيئا إلا أحصاه و أحاط به إجمالا فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شيء؟ أو أن الممنوع هو الإحاطة به تفصيلا، و أما الإحاطة الإجمالية فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى: "و لا يحيطون به علما": "طه: 101"، و قال: "ألا أنه بكل شيء محيط": "حم السجدة: 54"، و الله سبحانه لا يحيط به شيء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدسة إجمالا و تفصيلا حتى يتبعض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك. و في الإحتجاج، عنه (عليه السلام) في خطبة: "دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنه رب خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصور فهو بخلافه ثم قال (عليه السلام): ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدال بالدليل عليه، و المؤدي بالمعرفة إليه".
أقول: التأمل فيما تقدم يوضح أن الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عددية لصراحته في أن معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عددية لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.
و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قوله (عليه السلام): "وجوده إثباته" يريد به أن البرهان عليه نفس وجوده الخارجي أي أنه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.
قوله: "ما تصور فهو بخلافه" ليس المراد به أنه غير الصورة الذهنية فإن جميع الأشياء الخارجية على هذا النعت، بل المراد أنه تعالى بخلاف ما يكشف عنه التصور الذهني أيا ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنية، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنه أنزه ساحة حتى من هذا التصور أعني تصور أنه بخلاف كل تصور.
و قوله: "ليس بإله من عرف بنفسه" مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلق به معرفة، و قهره كل فهم و إدراك فإن كل من يتعلق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثم يتعلق به معرفتنا، لكنه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتى يتعلق به تعلق منعزل بمنعزل.
و بين (عليه السلام) ذلك بقوله: "هو الدال بالدليل عليه و المؤدي بالمعرفة إليه" أي أنه تعالى هو الدليل يدل الدليل على أن يدل عليه، و يؤدي المعرفة إلى أن يتعلق به تعالى نوع تعلق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كل شيء، فكيف يمكن لشيء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟.
و في المعاني، بإسناده عن عمر بن علي عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكل مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود".
أقول: كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) مسوق لبيان وحدته تعالى غير العددية المبنية على كونه تعالى غير محدود بحد، فإن عدم المحدودية هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإن الظاهر و الباطن إنما يتفاوتان و ينعزل كل منهما عن الآخر بالحد فإذا ارتفع الحد اختلطا و اتحدا.
و كذلك الظاهر الموصوف إنما يحاط به، و الباطن الموجود إنما يخفى و يتحجب إذا تحددا فلم يتجاوز كل منهما حده المضروب له، و كذلك الحاضر إنما يكون محدودا مجموعا وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقودا لمكان المحدودية، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمن غاب عنه، و هو ظاهر.
|