قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
و من هنا يتضح أن قوله: "أ و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا" غير كاف في تمام الحجة عليهم لاحتمال أن يكون آباءهم الذين اتبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجري فيهم حكم الذم، و لا تتم عليهم الحجة فدفع ذلك بأن آباءهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون، و لا مسوغ لاتباع من هذا حاله.
و لما تحصل من الآية الأولى أعني قوله: "ما جعل الله من بحيرة، إلخ" أنهم بين من لا يعقل شيئا و هم الأكثرون، و من هو معاند مستكبر تحصل أنهم بمعزل من أهلية توجيه الخطاب و إلقاء الحجة و لذلك لم تلق إليهم الحجة في الآية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم و الصفح عن مواجهتهم فقيل: "أ و لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا و لا يهتدون".
و قد تقدم في الجزء الأول من أجزاء هذا الكتاب بحث علمي أخلاقي في معنى التقليد يمكنك أن تراجعه.
و يتبين من الآية أن الرجوع إلى كتاب الله و إلى رسوله - و هو الرجوع إلى السنة - ليس من التقليد المذموم في شيء.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: "ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة - و لا وصيلة و لا حام" قال: إن أهل الجاهلية كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلون ذبحها و لا أكلها، و إذا ولدت عشرا جعلوها سائبة، و لا يستحلون ظهرها و لا أكلها، و الحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلونه فأنزل الله: أنه لم يكن يحرم شيئا من ذلك.
قال: ثم قال ابن بابويه: و قد روي: أن البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن و إن كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال و النساء، و إن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوها و كانت حراما على النساء لحمها و لبنها فإذا ماتت حلت للنساء، و السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل أن سلمه الله من مرض أو بلغه منزله أن يفعل ذلك. و الوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكرا ذبح فأكل منه الرجال و النساء، و إن كان أنثى تركت في الغنم و إن كان ذكرا و أنثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح و كان لحمها حراما على النساء إلا أن تموت منها شيء فيحل أكلها للرجال و النساء. و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: و قد يروى: أن الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلاء و لا ماء.
أقول: و من طرق الشيعة و أهل السنة روايات أخر في معاني هذه الأسماء: البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، و قد مر شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسي في مجمع البيان، في البيان المتقدم.
و المتيقن من معانيها - كما عرفت - أن هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهلية محررة نوعا من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر و حرمة أكل اللحم و عدم المنع من الماء و الكلاء، و أن الوصيلة من الغنم و الثلاثة الباقية من الإبل.
و في المجمع،: روى ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكة، و كان أول من غير دين إسماعيل، و اتخذ الأصنام و نصب الأوثان، و بحر البحيرة، و سيب السائبة، و وصل الوصيلة، و حمى الحامي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، و يروى يجر قصبه في النار.
أقول: و روي في الدر المنثور، هذا المعنى بعدة طرق عن ابن عباس و غيره.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني لأعرف أول من سيب السوائب، و نصب النصب، و أول من غير دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه. و إني لأعرف من نحر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما و حرم ألبانهما و ظهورهما و قال: هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما و ركب ظهورهما. قال: فلقد رأيته في النار، و هما يقصمانه بأفواههما و يطئانه بأخفافهما.
و فيه،: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خلقان من الثياب فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال: من الإبل و الغنم و الخيل و الرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك. ثم قال: تنتج إبلك رافية آذانها؟ قلت: نعم و هل تنتج الإبل إلا كذلك؟ قال: فلعلك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، و تقول: هذه بحر، و تشق آذان طائفة منها و تقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إن كل ما آتاك الله لك حل، ثم قال: ما جعل الله من بحيرة و لا سائبة و لا وصيلة و لا حام.
5 سورة المائدة - 105
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسكُمْ لا يَضرّكُم مّن ضلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
بيان
الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، و يلازموا سبيل هدايتهم و لا يوحشهم ضلال من ضل من الناس فإن الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، و الكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" لفظة "عليكم" اسم فعل بمعنى ألزموا، و "أنفسكم" مفعوله.
و من المعلوم أن الضلال و الاهتداء - و هما معنيان متقابلان - إنما يتحققان في سلوك الطريق لا غير فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، و هو الغاية المطلوبة التي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه، أما إذا استهان بذلك و خرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدر للإنسان طريقا يسلكه و مقصدا يقصده غير أنه ربما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضل و ليس هناك مقصد يقصده القاصد إلا الحياة السعيدة، و العاقبة الحسنى بلا ريب لكنها مع ذلك تنطق بأن الله سبحانه هو المرجع الذي يرجع إليه الجميع: المهتدي و الضال.
فالثواب الذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنما هو عند الله سبحانه يناله المهتدون، و يحرم عنه الضلال، و لازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية و الطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، و عنده سبحانه الغاية المقصودة و إن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية و الفوز و الفلاح أو ضربه بالخيبة و الخسران، و كذلك في القرب و البعد كما قال تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": "الإنشقاق: 6" و قال تعالى: "ألا إن حزب الله هم المفلحون": "المجادلة: 22" و قال تعالى: "أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار": إبراهيم: 28" و قال تعالى: "فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون": "البقرة: 168" و قال تعالى: "و الذين لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد": "حم السجدة: 44".
بين تعالى في هذه الآيات أن الجميع سائرون إليه سبحانه سيرا لا مناص لهم عنه، غير أن طريق بعضهم قصير و فيه الرشد و الفلاح، و طريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، و لا يعود إلى سالكه إلا الهلاك و البوار.
و بالجملة فالآية تقدر للمؤمنين و غيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، و تأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم و ينصرفوا عن غيرهم و هم أهل الضلال من الناس و لا يقعوا فيهم و لا يخافوا ضلالهم فإنما حسابهم على ربهم لا على المؤمنين و ليسوا بمسئولين عنهم حتى يهمهم أمرهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: "قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون": "الجاثية: 14" و نظيرها قوله تعالى: "تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم و لا تسئلون عما كانوا يعملون": "البقرة: 143".
فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهم نفسه من سلوك سبيل الهدى، و لا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس و شيوع المعاصي بينهم و لا يشغله ذلك و لا يشتغل بهم فالحق حق و إن ترك و الباطل باطل و إن أخذ به كما قال تعالى: "قل لا يستوي الخبيث و الطيب و لو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون": "المائدة: 100" و قال تعالى: "و لا تستوي الحسنة و لا السيئة": "حم السجدة: 34".
فقوله تعالى: "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" بناء على ما مر مسوق سوق الكناية أريد به نهي المؤمنين عن التأثر من ضلال من ضل من الناس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إن الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين و لا تبيح التنحل بالمعنويات فإنما ذلك من السنن الساذجة و قد مضى زمنه و انقرض أهله، قال تعالى: "و قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا": "القصص: 57".
أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم و ينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بالجملة الأخذ بالأسباب العادية ثم إيكال أمر المسببات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كله، فأما أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، و لا يؤاخذ بعمل غيره، و ما هو عليه بوكيل، و على هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى: "فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا، إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا، و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا": "الكهف: 8"، و قوله تعالى: "و لو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا": "الرعد: 31" و نحو ذلك.
و قد تبين بهذا البيان أن الآية لا تنافي آيات الدعوة و آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإن الآية إنما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم و إهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم و إنجائه.
على أن الدعوة إلى الله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من شئون اشتغال المؤمن بنفسه و سلوكه سبيل ربه، و كيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو تنسخها؟ و قد عدهما الله سبحانه من مشخصات هذا الدين و أسسه التي بني عليها كما قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني": "يوسف: 180" و قال تعالى: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر": "آل عمران: 101".
فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة و أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهية و ليس عليه أن يجيش و يهلك نفسه حزنا أو يبالغ في الجد في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.
و إذا كانت الآية قدرت للمؤمنين طريقا فيه اهتداؤهم و لغيرهم طريقا من شأنه ضلال سالكيه، ثم أمر المؤمنين في قوله: "عليكم أنفسكم" بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أن نفس المؤمن هو الطريق الذي يؤمر بسلوكه و لزومه فإن الحث على الطريق إنما يلائم الحث على لزومه و التحذير من تركه لا على لزوم سالك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى: "و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله": "الأنعام: 135".
فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحث على التحفظ على طريق هدايتهم يفيد أن الطريق الذي يجب عليهم سلوكه و لزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الذي يسلكه إلى ربه و هو طريق هداه، و هو المنتهى به إلى سعادته.
فالآية تجلي الغرض الذي تؤمه إجمالا آيات أخرى كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، و لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون، لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون": "الحشر: 20".
فالآيات تأمر بأن تنظر النفس و تراقب صالح عملها الذي هو زادها غدا و خير الزاد التقوى فللنفس يوم و غد و هي في سير و حركة على مسافة، و الغاية هو الله سبحانه و عنده حسن الثواب و هو الجنة فعليها أن تدوم على ذكر ربها و لا تنساه فإنه سبحانه هو الغاية، و نسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربه نسي نفسه، و لم يعد لغده و مستقبل مسيره زادا يتزود به و يعيش باستعماله و هو الهلاك، و هذا معنى ما رواه الفريقان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من عرف نفسه فقد عرف ربه.
و هذا المعنى هو الذي يؤيده التدبر التام و الاعتبار الصحيح فإن الإنسان في مسير حياته إلى أي غاية امتدت لا هم له في الحقيقة إلا خير نفسه و سعادة حياته و إن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى: "إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها".
و ليس هناك إلا هذا الإنسان الذي يتطور طورا بعد طور، و يركب طبقا عن طبق من جنين و صبي و شاب و كهل و شيخ ثم الذي يديم الحياة في البرزخ ثم يوم القيامة ثم ما بعده من جنة أو نار، فهذه هي المسافة التي يقطعها الإنسان من موقفه في أول تكونه إلى أن ينتهي إلى ربه، قال تعالى: "و أن إلى ربك المنتهى": "النجم: 42".
و هو الإنسان لا يطأ موطأ في مسيره و لا يسير و لا يسري إلا بأعمال قلبية هي الاعتقادات و نحوها و أعمال جوارحية صالحة، أو طالحة و ما أنتجه عمله يوما كان هو زاده غدا فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربه، و الله سبحانه هو غايته في مسيره.
و هذا طريق اضطراري لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدل عليه قوله تعالى: "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه": "الإنشقاق: 6" فهذا طريق ضروري السلوك يشترك فيه المؤمن و الكافر و الملتفت المتنبه و الغافل العامة، و الآية لا تريد الحث على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممن لا يسلك.
و إنما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإن هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينية و إن كانت ثابتة غير متغيرة بالعلم و الجهل لكن التفات الإنسان إليها يؤثر في عمله تأثيرا بارزا، و الأعمال التي تربي النفس الإنسانية تربية مناسبة لسنخها و إذا كان العمل ملائما لواقع الأمر مناسبا لغاية الصنع و الإيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدها، غير خائبة في سعيها و لا خاسرة في صفقتها، و قد مر بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.
و توضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أن الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهية من دون أن يفوته تعالى شيء من أمره، و قد قال تعالى: "ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم": "هود: 56" و هذه تربية تكوينية على حد ما يربي الله سبحانه غيره من الأمور، في مسيرها جميعا إليه تعالى، و قد قال: "ألا إلى الله تصير الأمور": "الشورى: 53" و لا يتفاوت الأمر و لا يختلف الحال في هذه التربية بين شيء و شيء فإن الصراط مستقيم، و الأمر متشابه مطرد، و قد قال تعالى أيضا: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت": "الملك: 3".
و قد جعل سبحانه غاية الإنسان و ما ينتهي إليه أمره و يستقر عليه عاقبته من حيث السعادة و الشقاوة و الفلاح و الخيبة مبنية على أحوال و أخلاق نفسانية مبنية على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة و طالحة و تقوى و فجور كما قال تعالى: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها": "الشمس: 10" فالآيات - كما ترى - تضع النفس المسواة في جانب و هو مبدأ الحال، و الفلاح و الخيبة في جانب و هو الغاية و منتهى المسير، ثم تبني الغايتين أعني الفلاح و الخيبة على تزكية النفس و تدسيتها و ذلك مرحلة الأخلاق، ثم تبني الفضيلة و الرذيلة على التقوى و الفجور أعني الأعمال الصالحة و الطالحة التي تنطق الآيات بأن الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.
و الآيات في بيانها لا تتعدى طور النفس بمعنى أنها تعتبر النفس هي المخلوقة المسواة و هي التي أضيف إليها الفجور و التقوى، و هي التي تزكى و تدسى، و هي التي يفلح فيها الإنسان و يخيب، و هذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.
لكن هذه الحقيقة التكوينية أعني كون الإنسان في حياته سائرا في مسير نفسه لا يسعه التخطي عنها و لو بخطوة، و لا تركها و الخروج منها و لو لحظة، لا يتساوى حال من تنبه له و تذكر به تذكرا لازما لا يتطرق إليه نسيان، و حال من غفل عنه و نسي الواقع الذي لا مفر له منه، و قد قال تعالى: "هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب": "الزمر: 9".
و قال تعالى: "فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى، و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا، و نحشره يوم القيامة أعمى، قال ربي لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى": "طه: 162".
و ذلك أن المتنبه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربه و نسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره و قد كان يجدها على غير هذا النعت و مضروبا دونها الحجاب لا يمسها بالإحاطة و التأثير إلا ربها المدبر لأمرها الذي يدفعها من ورائها و يجذبها إلى قدامها بقدرته و هدايته، و وجدها خالية بربها ليس لها من دونه من وال، و عند ذلك يفقه معنى قوله تعالى: "إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون" بعد قوله: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" و معنى قوله تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها": "الأنعام: 122".
و عند ذلك يتبدل إدراك النفس و شعورها، و يهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبودية و مقام التوحيد و لا يزال يعوض شركا من توحيد و توهما من تحقق و بعدا من قرب و استكبارا شيطانيا من تواضع رحماني و استغناء وهميا من فقر عبودي إن أخذت بيدها العناية الإلهية و ساقها سائق التوفيق.
و نحن و إن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حق الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض و اشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق التي يكشف عنها الدين و يشير إليها الكتاب الإلهي بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية التي لا يعرفها الكلام الإلهي في بيانه إلا بأنها لعب و لهو كما قال تعالى: "و ما الحياة الدنيا إلا لعب و لهو": "الأنعام: 32" و قال تعالى: "ذلك مبلغهم من العلم": "النجم: 30".
إلا أن الاعتبار الصحيح و البحث البالغ و التدبر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلياتها إجمالا و إن قصرنا عن إحصاء التفاصيل و الله الهادي.
و لعلنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أول الكلام فنقول: و تسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعي بأن يكون المخاطب بقوله: "يا أيها الذين آمنوا" مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله: "عليكم أنفسكم" هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلامي باتخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهية بأن يحتفظوا على معارفهم الدينية و الأعمال الصالحة و الشعائر الإسلامية العامة كما قال تعالى: "و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا": "آل عمران: 130" و قد تقدم في تفسيره أن المراد بهذا الاعتصام الاجتماعي الأخذ بالكتاب و السنة.
و يكون قوله: "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" يراد به أنهم في أمن من إضرار المجتمعات الضالة غير الإسلامية فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجد في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدم.
أو أنه لا يجوز لهم أن ينسلوا مما بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالة من الانهماك في الشهوات و التمتع من مزايا العيش الباطلة فإن الجميع مرجعهم إلى الله فينبئهم بما كانوا يعملون، و تجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد، متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد": "آل عمران: 179"، و قوله: "و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا": طه: 113".
و هنا معنى آخر لقوله: "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" من جهة أن المنفي في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالين دون شيء معين من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، و يكون المعنى نفي أن يكون الكفار ضارين للمجتمع الإسلامي بتبديله مجتمعا غير إسلامي بقوة قهرية فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى: "اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم و اخشون": "المائدة: 3"، و قوله: "لن يضروكم إلا أذى و إن يقاتلوكم يولوكم الأدبار": "آل عمران: 111".
و قد ذكر جمع من مفسري السلف أن مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينية و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ذكروا أن الآية خاصة تختص بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو الأمن من الضرر و قد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائي الآتي.
و لازم هذا المعنى أن يكون قوله: "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك و إلا فتضرر المجتمع الديني من شيوع الضلال من كفر أو فسق مما لا يرتاب فيه ذو ريب.
لكن ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإن الآية لو أخذت مخصصة لعمومات وجوب الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، و إن أخذت ناسخة فآيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر آبية من النسخ، و للكلام تتمة ستوافيك.
بحث روائي
في الغرر و الدرر، للآمدي عن علي (عليه السلام) قال: من عرف نفسه عرف ربه:. أقول: و رواه الفريقان عن النبي أيضا، و هو حديث مشهور، و قد ذكر بعض العلماء: أنه من تعليق المحال، و مفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلمية بالله سبحانه و رد أولا بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رواية أخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه، و ثانيا بأن الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى: "و لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم".
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: الكيس من عرف نفسه و أخلص أعماله.
أقول: تقدم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص و تفرعه على الاشتغال بمعرفة النفس.
و فيه عنه (عليه السلام): قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.
أقول: الظاهر أن المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسية و المعرفة بالآيات الآفاقية، قال تعالى: "سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد": "حم السجدة: 53" و قال تعالى: "و في الأرض آيات للموقنين، و في أنفسكم أ فلا تبصرون": "الذاريات: 21".
و كون السير الأنفسي أنفع من السير الآفاقي لعله لكون المعرفة النفسانية لا تنفك عادة من إصلاح أوصافها و أعمالها بخلاف المعرفة الآفاقية، و ذلك أن كون معرفة الآيات نافعة إنما هو لأن معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله ككونه تعالى حيا لا يعرضه موت، و قادرا لا يشوبه عجز، و عالما لا يخالطه جهل، و أنه تعالى هو الخالق لكل شيء، و المالك لكل شيء، و الرب القائم على كل نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل لينعم عليهم بما استحقوه ثم يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى.
و هذه و أمثالها معارف حقة إذا تناولها الإنسان و أتقنها مثلت له حقيقة حياته، و أنها حياة مؤبدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، و ليست بتلك المتهوسة المنقطعة اللاهية اللاغية، و هذا موقف علمي يهدي الإنسان إلى تكاليف و وظائف بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة، و هي التي نسميها بالدين، فإن السنة التي يلتزمها الإنسان في حياته، و لا يخلو عنها حتى البدوي و الهمجي إنما يضعها و يلتزمها أو يأخذها و يلتزمها لنفسه من حيث إنه يقدر لنفسه نوعا من الحياة أي نوع كان، ثم يعمل بما استحسنه من السنة لإسعاد تلك الحياة، و هذا من الوضوح بمكان.
فالحياة التي يقدرها الإنسان لنفسه تمثل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال التي تضمن عادة رفع تلك الحوائج فيطبق الإنسان عمله عليها و هو السنة أو الدين.
فتخلص مما ذكرنا أن النظر في الآيات الأنفسية و الآفاقية و معرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسك بالدين الحق و الشريعة الإلهية من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانية المؤبدة له عند ذلك، و تعلقها بالتوحيد و المعاد و النبوة.
و هذه هداية إلى الإيمان و التقوى يشترك فيها الطريقان معا أعني طريقي النظر إلى الآفاق و الأنفس فهما نافعان جميعا غير أن النظر إلى آيات النفس أنفع فإنه لا يخلو من العثور على ذات النفس و قواها و أدواتها الروحية و البدنية و ما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و الأحوال الحسنة أو السيئة التي تقارنها.
و اشتغال الإنسان بمعرفة هذه الأمور و الإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر و سعادة أو شقاوة لا ينفك من أن يعرفه الداء و الدواء من موقف قريب فيشتغل بإصلاح الفاسد منها، و الالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقية فإنه و إن دعا إلى إصلاح النفس و تطهيرها من سفاسف الأخلاق و رذائلها، و تحليتها بالفضائل الروحية لكنه ينادي لذلك من مكان بعيد، و هو ظاهر.
و للرواية معنى آخر أدق مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقية في علم النفس و هو أن النظر في الآيات الآفاقية و المعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكري و علم حصولي بخلاف النظر في النفس و قواها و أطوار وجودها و المعرفة المتجلية منها فإنه نظر شهودي و علم حضوري، و التصديق الفكري يحتاج في تحققه إلى نظم الأقيسة و استعمال البرهان، و هو باق ما دام الإنسان متوجها إلى مقدماته غير ذاهل عنها و لا مشتغل بغيرها، و لذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله و تكثر فيه الشبهات و يثور فيه الاختلاف.
و هذا بخلاف العلم النفساني بالنفس و قواها و أطوار وجودها فإنه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، و شاهد فقرها إلى ربها، و حاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمرا عجيبا وجد نفسه متعلقة بالعظمة و الكبرياء متصلة في وجودها و حياتها و علمها و قدرتها و سمعها و بصرها و إرادتها و حبها و سائر صفاتها و أفعالها بما لا يتناهى بهاء و سناء و جمالا و جلالا و كمالا من الوجود و الحياة و العلم و القدرة، و غيرها من كل كمال.
و شاهد ما تقدم بيانه أن النفس الإنسانية لا شأن لها إلا في نفسها، و لا مخرج لها من نفسها، و لا شغل لها إلا السير الاضطراري في مسير نفسها، و أنها منقطعة عن كل شيء كانت تظن أنها مجتمعة معه مختلطة به إلا ربها المحيط بباطنها و ظاهرها و كل شيء دونها فوجدت أنها دائما في خلإ مع ربها و إن كانت في ملإ من الناس.
و عند ذلك تنصرف عن كل شيء و تتوجه إلى ربها و تنسى كل شيء و تذكر ربها فلا يحجبه عنها حجاب و لا تستتر عنه بستر و هو حق المعرفة الذي قدر لإنسان.
و هذه المعرفة الأحرى بها أن تسمى بمعرفة الله بالله، و أما المعرفة الفكرية التي يفيدها النظر في الآيات الآفاقية سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنما هي معرفة بصورة ذهنية عن صورة ذهنية، و جل الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، و لا يحيطون به علما.
و قد روي في الإرشاد، و الإحتجاج، على ما في البحار عن الشعبي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: إن الله أجل من أن يحتجب عن شيء أو يحتجب عنه شيء.
و في التوحيد، عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في كلام له: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب و استتر بغير ستر مستور لا إله إلا هو الكبير المتعال.
و في التوحيد، مسندا عن عبد الأعلى عن الصادق (عليه السلام) في حديث: و من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن الحجاب و الصورة و المثال غيره، و إنما هو واحد موحد فكيف يوحد من زعم أنه يوحده بغيره إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره، الحديث.
و الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في معنى ما قدمناه كثيرة جدا لعل الله يوفقنا لإيرادها و شرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.
فقد تحصل أن النظر في آيات الأنفس أنفس و أغلى قيمة و أنه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، و على هذا فعده (عليه السلام) إياها أنفع المعرفتين لا معرفة متعينة إنما هو لأن العامة من الناس قاصرون عن نيلها، و قد أطبق الكتاب و السنة و جرت السيرة الطاهرة النبوية و سيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقي و هو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعا لكن النفع في طريق النفس أتم و أغزر.
و في الدرر و الغرر، عن علي (عليه السلام) قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها و نزهها عن كل ما يبعدها.
أقول: أي أعتقها عن إسارة الهوى و رقية الشهوات.
و فيه، عنه (عليه السلام) قال: أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربه.
أقول: و ذلك لكونه أعلمهم بربه و أعرفهم به، و قد قال الله سبحانه: "إنما يخشى الله من عباده العلماء".
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، و من جهلها ضل.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: عجبت لمن ينشد ضالته، و قد أضل نفسه فلا يطلبها.
و فيه، عنه (عليه السلام) قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربه؟.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.
أقول: و قد تقدم وجه كونها غاية المعرفة فإنها المعرفة حقيقة.
و فيه، عنه (عليه السلام) قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، و كفى بالمرء جهلا أن يجهل نفسه.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه تجرد.
أقول: أي تجرد عن علائق الدنيا، أو تجرد عن الناس بالاعتزال عنهم أو تجرد عن كل شيء بالإخلاص لله.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه جاهدها و من جهل نفسه أهملها.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه جل أمره.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف و من جهل نفسه كان بغيره أجهل.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة و علم.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، و خبط في الضلال و الجهالات.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: معرفة النفس أنفع المعارف.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.
و فيه، عنه (عليه السلام): قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.
و في تحف العقول، عن الصادق (عليه السلام) في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، و من زعم أنه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لأن الاسم محدث، و من زعم أنه يعبد الاسم و المعنى فقد جعل مع الله شريكا، و من زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، و ما قدروا الله حق قدره. قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن و طلب المخرج موجود إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، و معرفة صفة الغائب قبل عينه. قيل: و كيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه و تعلم علمه، و تعرف نفسك به و لا تعرف نفسك من نفسك، و تعلم أن ما فيه له و به كما قالوا ليوسف: "إنك لأنت يوسف" قال: "أنا يوسف و هذا أخي" فعرفوه به و لم يعرفوه بغيره، و لا أثبتوه من أنفسهم بتوهم القلوب، الحديث.
أقول: قد أوضحنا في ذيل قوله (عليه السلام) المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين الرواية الثانية من الباب أن الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه و خلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء، و عقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط، و علما بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كل حجاب مضروب، و عند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة و الكبرياء عن نفسه، و أحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.
و انكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكا لا تستقل بشيء دونه، و هذا هو المراد بقوله (عليه السلام): "تعرف نفسك به، و لا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، و تعلم أن ما فيه له و به".
و في هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال في خطبة له: "فسبحانك ملأت كل شيء و باينت كل شيء فأنت لا يفقدك شيء و أنت الفعال لما تشاء تباركت يا من كل مدرك من خلقه، و كل محدود من صنعه. إلى أن قال سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك، و ترقى إلى نور ضياء قدرتك، و أي فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية، و هتكت عنها الحجب العمية، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك، و ولجوا بين أنوار بهائك، و نظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زوارا، و دعاهم أهل الجبروت عمارا".
و في البحار، عن إرشاد الديلمي، و ذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث و فيه: "فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين. فإذا أحبني أحببته، و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي، و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي، و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا و بصيرا، و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول و الشدة، و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره و أنزل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غم الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا ثم لا أجعل بيني و بينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين. يا أحمد اجعل همك هما واحدا، و اجعل لسانك لسانا واحدا، و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا، من يغفل عني لا أبالي بأي واد هلك".
و الروايات الثلاثة الأخيرة و إن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلا أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفى بالعلم الفكري حق استيفائها فإن الروايات تذكر أمورا من المواهب الإلهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة.
و هي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحتها الكتاب الإلهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم" الآية، قال: قال (عليه السلام): أصلحوا أنفسكم و لا تتبعوا عورات الناس و لا تذكروهم فإنه لا يضركم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.
أقول: و الرواية منطبقة على ما قدمناه في البيان السابق أن الآية متوجهة إلى النهي عن التعرض لإصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و في نهج البيان، عن: الصادق (عليه السلام) أنه قال: نزلت هذه الآية في التقية.
أقول: مفاد الرواية أن الآية خاصة بصورة التقية من أهل الضلال في الدعوة إلى الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعا بعدم التقية، و قد تقدم في البيان السابق أن ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.
و قد روي في الدر المنثور، عن مفسري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود و ابن عمر و أبي بن كعب و ابن عباس و مكحول، و ما روي في ذلك من الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير دالة على ذلك. و هي ما عن الترمذي و صححه و ابن ماجة و ابن جرير و البغوي في معجمه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و أبي الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له: كيف تصنع هذه الآية؟ قال: أية آية؟ قال: قوله: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: أما و الله لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا، و هوى متبعا، و دنيا مؤثرة، و إعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك و دع عنك أمر العوام فإن من ورائكم أيام الصبر، الصابر فيهن كالقابض على الجمر، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم.
أقول: و في هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الرواية إنما تدل على أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.
و في الدر المنثور،: أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي عامر الأشعري: أنه كان فيهم شيء فاحتبس على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أين ذهبتم؟ إنما هي: لا يضركم من ضل من الكفار إذا اهتديتم.
أقول: و الرواية كما ترى تخص الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفار إلى الحق و تصرفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الفروع مع أن آيات وجوب الدعوة و ما يتبعها من آيات الجهاد و نحوها لا تقصر في الإباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.
و فيه،: أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: ذكرت هذه الآية عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قول الله عز و جل: "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم - لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" فقال نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يجىء تأويلها، لا يجيء تأويلها حتى يهبط عيسى بن مريم (عليهما السلام).
أقول: و الكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدم.
و فيه،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن حذيفة: في قوله: "عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" قال: إذا أمرتم بالمعروف و نهيتم عن المنكر.
أقول: و هو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، و روي مثله عن سعيد بن المسيب.
بحث علمي
ملفق من إشارات تاريخية و أبحاث أخر نفسية و غير ذلك في فصول: 1 - لم يزل الإنسان فيما نعلم - حتى الإنسان الأولي - يقول في بعض قوله: "أنا" و "نفسي" يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونية و هو لا محالة يدري ما يقول و يعلم ما يريد غير أن انصراف همه إلى تعبئة أركان الحياة البدنية و اشتغاله بالأعمال الجسمية لرفع الحوائج المادية يصرفه عن التعمق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله: "أنا" و "نفسي" و ربما ألقى ذلك في وهمه أن ذلك هو البدن لا غير.
و ربما وجد الإنسان أن الفارق بين الحي و الميت بحسب ظهور الحس هو النفس الذي يتنفس به الإنسان ما دام حيا فإذا فقده أو سد عليه مجاريه عاد ميتا لا يشعر بشيء و بطل وجوده و انعدمت شخصيته و إنيته فأذعن أن النفس هو النفس محركة و هو الريح أو نوع خاص من الريح فسماه لذلك روحا، و قضى أن الإنسان هو المجموع من الروح و البدن.
أو رأى أن الحس و الحركة البدنيين كأنهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين و أوردة و أن الحياة التي ترتحل الإنسانية بارتحالها متعلقة بهذا المائع الأحمر وجودا و عدما فحكم بأن النفس هو الدم فسمى النفس دما بل الدم نفسا سائلة أو غير سائلة.
و ربما دعى الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أن المني حينما يلتقمه الرحم و يطرؤه التطور الكوني طورا بعد طور هو الذي يصير إنسانا، أن يذهب إلى أن النفس الإنسانية هي الأجزاء الأصلية المجتمعة في النطفة، و هي باقية في البنية البدنية مدى الحياة، و ربما ذهب الذاهب إلى أنها مصونة عن التغير و البطلان، و أن الإنسانية باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان و لا أنها تقبل البطلان و الانعدام مع أن النفس الإنسانية لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محله.
فهذه الأقاويل و أمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان و هو إنسان من حقيقة قوله: "أنا" و "نفسي" و لا يخطىء فيه البتة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونية إجمالا إدراكا غير خاطىء ثم نأخذ في البحث عن هويته و واقع أمره تفصيلا فنخطىء فيه عند ذاك فهناك موضوعات علمية كثيرة كالمحسوسات الظاهرية أو الباطنية نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيين و الشكاكين - ثم العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفا عن سلف.
|