قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
فالقسم الأول: داود و سليمان و أيوب و يوسف و موسى و هارون، و المعنى الجامع
بينهم أن الله تعالى آتاهم الملك و الإمارة و الحكم و السيادة مع النبوة و
الرسالة، و قد قدم ذكر داود و سليمان و كانا ملكين غنيين منعمين، و ذكر بعدهما
أيوب و يوسف، و كان أيوب أميرا غنيا عظيما محسنا، و كان يوسف وزيرا عظيما و
حاكما متصرفا، و قد ابتليا بالضراء فصبرا و بالسراء فشكرا، و بعد ذلك موسى و
هارون و كانا حاكمين في قومهما و لم يكونا ملكين.
فكل زوجين من هذه الأزواج الثلاثة ممتاز بمزية و الترتيب مع ذلك من حيث نعم
الدنيا فداود و سليمان كانا أكثر تمتعا من نعمها من أيوب و يوسف، و هما من موسى
و هارون، أو الترتيب من حيث الفضل الديني فالظاهر أن موسى و هارون أفضل من أيوب
و يوسف، و هما أفضل من داود و سليمان لجمعهما بين الصبر في الضراء و الشكر في
السراء.
و القسم الثاني: زكريا و يحيى و عيسى و إلياس، و هؤلاء قد امتازوا بشدة الزهد
في الدنيا، و الإعراض عن لذائذها، و الرغبة عن زينتها، و لذلك خصهم هنا بوصف
الصالحين لأن هذا الوصف أليق بهم عند مقابلتهم بغيرهم و إن كان كل نبي صالحا و
محسنا على الإطلاق.
و القسم الثالث: إسماعيل و اليسع و يونس و لوط، و أخر ذكرهم لعدم الخصوصية إذ
لم يكن لهم من ملك الدنيا و سلطانها ما كان للقسم الأول، و لا من المبالغة من
الإعراض عن الدنيا ما كان للقسم الثاني، انتهى ملخصا.
و في تفسير الرازي، ما يقرب منه و إن كان ما ذكره أوجه بالنسبة إلى ما ذكره
الرازي، و يرد على ما ذكراه جميعا أنهما جعلا القسم الثالث من لا خصوصية له
يمتاز به و هو غير مستقيم فإن إسماعيل (عليه السلام) قد ابتلاه الله بأمر الذبح
فصبر على ما امتحنه الله تعالى به قال تعالى: "فبشرناه بغلام حليم فلما بلغ معه
السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين - إلى أن قال - إن هذا لهو البلاء
المبين و فديناه بذبح عظيم و تركنا عليه في الآخرين": الصافات: 108 و هذا من
الخصائص الفاخرة التي اختص الله بها إسماعيل (عليه السلام)، و بلاء مبين امتاز
به حتى جعل الله تعالى التضحية في الحج طاعة عامة مذكرة لمحنته في جنب الله و
ترك عليه في الآخرين على أنه شارك أباه الكريم في بناء الكعبة و كفى به ميزا.
و كذلك يونس النبي (عليه السلام) امتحنه الله تعالى بما لم يمتحن به أحدا من
أنبيائه و هو ما التقمه الحوت فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين.
و أما لوط فمحنه في جنب الله مذكورة في القرآن الكريم فقد قاسى المحن في أول
أمره مع إبراهيم (عليه السلام) حتى هاجر قومه و أرضه في صحابته، ثم أرسله الله
إلى أهل سدوم و ما والاه مهد الفحشاء التي لم يسبقهم إليها أحد من العالمين حتى
إذا شملهم الهلاك لم يوجد فيهم غير بيت المسلمين و هو من بيت لوط خلا امرأته.
و أما اليسع فلم يذكر له في القرآن قصة، و إنما ورد في بعض الروايات أنه كان
وصي إلياس و قد أتى قومه بما أتى به عيسى بن مريم (عليهما السلام) من إحياء
الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص و قد ابتلى الله قومه بالسنة و القحط العظيم.
فالأحسن أن يتمم الوجه المذكور لترتيب الأسماء المعدودة في الآية بأن يقال: إن
الطائفة الأولى المذكورين - و هم ستة - اختصوا بالملك و الرئاسة مع الرسالة، و
الطائفة الثانية - و هم أربعة - امتازوا بالزهد في الدنيا و الإعراض عن
زخارفها، و الطائفة الثالثة - و هم أربعة - أولو خصائص مختلفة و محن إلهية
عظيمة يختص كل بشيء من المميزات و الله أعلم.
ثم إن الذي ذكره في أثناء كلامه من تفضيل موسى و هارون على أيوب و يوسف، و
تفضيلهما على داود و سليمان بما ذكره من الوجه، و كذا جعله الصلاح بمعنى الزهد
و الإحسان كل ذلك ممنوع لا دليل عليه.
قوله تعالى: "و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم" هذا التعبير يؤيد ما قدمناه أن
المراد بيان اتصال سلسلة الهداية حيث أضاف الباقين إلى المذكورين بأنهم متصلون
بهم بأبوة أو بنوة أو أخوة.
قوله تعالى: "و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم" قال الراغب في المفردات:،
يقال: جبيت الماء في الحوض جمعته و الحوض الجامع له جابية و جمعها "جواب" قال
الله تعالى: و جفان كالجواب، و منه استعير جبيت الخراج جباية و منه قوله تعالى:
يجبى إليه ثمرات كل شيء، و الاجتباء الجمع على طريق الاصطفاء قال عز و جل:
فاجتباه ربه.
قال: و اجتباء الله العبد تخصيصه إياه بفيض إلهي يتحصل له منه أنواع من النعم
بلا سعي من العبد، و ذلك للأنبياء و بعض من يقارنهم من الصديقين و الشهداء كما
قال تعالى: و كذلك يجتبيك ربك، فاجتباه ربه فجعله من الصالحين و اجتبيناهم و
هديناهم إلى صراط مستقيم و قوله تعالى: ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى، و قال
عز و جل: يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب، انتهى.
و الذي ذكره من معنى الاجتباء و إن كان كذلك على ما يفيده موارد وقوعه في كلامه
تعالى لكنه لازم المعنى الأصلي بحسب انطباقه على صنعه فيهم و الذي يعطيه سياق
الآيات أن العناية تعلقت بمعنى الكلمة الأصلي و هو الجمع من مواضع و أمكنة
مختلفة متشتتة فيكون تمهيدا لما يذكر بعده من الهداية إلى صراط مستقيم كأنه
يقول: و جمعناهم على تفرقهم حتى إذا اجتمعوا و انضم بعضهم إلى بعض هديناهم
جميعا إلى صراط كذا و كذا.
و ذلك لما عرفت أن المقصود بالسياق بيان اتصال سلسلة المهتدين بهذه الهداية
الفطرية الإلهية، و المناسب لذلك أن يتصور لهم اجتماع و توحد حتى تشمل جمعهم
الرحمة الإلهية، و يهتدوا مجتمعين بهداية واحدة توردهم صراطا واحدا مستقيما لا
اختلاف فيه أصلا فلا يختلف بحسب الأحوال، و لا بحسب الأزمان، و لا بحسب
الأجزاء، و لا بحسب الأشخاص السائرين فيه، و لا بحسب المقصد.
و ذلك أن صراطهم الذي هداهم الله إليه و إن كان يختلف بحسب ظاهر الشرائع سعة و
ضيقا إلا أن ذلك إنما هو بحسب الإجمال و التفصيل و قلة استعداد الأمم و كثرته،
و الجميع متفق في حقيقة واحدة و هو التوحيد الفطري و العبودية التي تهدي إليه
البنية الإنسانية بحسب نوع الخلقة التي أظهرها الله سبحانه على ذلك و من
المعلوم أن الخلقة الإنسانية بما أنها خلقة إنسانية لا تتغير و لا تتبدل تبدلا
يقضي بتبدل أصول الشعور و الإرادة الإنسانيين فحواس الإنسان الظاهرة و إحساساته
و عواطفه الباطنة و مبدأ القضاء و الحكم الذي فيه و هو العقل الفطري لا تزال
تجري بحسب الأصول على وتيرة واحدة و إن اختلفت الآراء و المقاصد بحسب الاستكمال
التدريجي الذي يتعلق بالنوع و التنبه بجهات حوائج الحياة.
فلا يزال الإنسان يشعر بحاجته في المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و المنكح،
و يشتهي ما يريح نفسه الشحيحة، و يكره ما يؤلمه و يضربه، و يأمل سعادة الحياة و
يخشى الشقاء و سوء العاقبة و إن اختلفت مظاهر حياته و صور أعماله عصرا بعد عصر
و جيلا بعد جيل.
قال تعال: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون": الروم: 30 فالدين
الحنيف الإلهي الذي هو قيم على المجتمع الإنساني هو الذي تهدي إليه الفطرة و
تميل إليه الخلقة البشرية بحسب ما تحس بحوائجها الوجودية، و تلهم بما يسعدها
فيها من الاعتقاد و العمل، و بتعبير آخر من المعارف و الأخلاق و الأعمال.
و هذا أمر لا يتغير و لا يتبدل لأنه مبني على الفطرة التكوينية التي لا سبيل
للتغير و التبدل إليها فلا يختلف بحسب الأحوال و الأزمان بأن يدعو إلى السعادة
الإنسانية في حال دون حال أو في زمان دون زمان، و لا بحسب الأجزاء بأن يزاحم
بعض أحكام الدين الحنيف بعضه الآخر بتناقض أو تضاد أو أي شيء آخر يؤدي إلى
إبطال بعضها بعضا فإن الجميع ترتضع من ثدي التوحيد الذي يعدلها أحسن تعديل كما
أن القوى البدنية إذا تنافت أو أراد بعضها أن يطغى على بعض فإن هناك حاكما
مدبرا يدبر كلا على حسب ما له من الوزن و التأثير في تقويم الحياة الإنسانية.
و لا بحسب الأشخاص فإن المهتدين بهذه الهداية القيمة الفطرية لا يختلف مسيرهم،
و لا يدعو آخرهم إلا إلى ما دعا إليه أولهم و إن اختلفت دعوتهم بالإجمال و
التفصيل بحسب اختلاف أعصار الإنسانية تكاملا و رقيا كما قال تعالى: "إن الدين
عند الله الإسلام": آل عمران: 19، و قال: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و
الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا
تتفرقوا فيه": الشورى: 13.
و لا بحسب المقصد و الغاية فإنه التوحيد الذي يئول إليه شتات المعارف الدينية و
الأخلاق الفاضلة و الأحكام الشرعية قال تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا
ربكم فاعبدون": الأنبياء: 92 و قال: "و ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي
إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون": الأنبياء: 25.
و قد ظهر بما تقدم معنى قوله تعالى: "و هديناهم إلى صراط مستقيم" و قد نكر
الصراط من غير أن يذكر على طريق العهد كما في قوله: "اهدنا الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم": الحمد: 7 لتتوجه عناية الذهن إلى اتصافه بالاستقامة -
و الاستقامة في الشيء كونه على وتيرة واحدة في صفته و خاصته - فالصراط الذي
هدوا إليه صراط لا اختلاف فيه في جهة من الجهات و لا حال من الأحوال لما أنه
صراط مبني على الفطرة كما أن الفطرة الإنسانية و هي نوع خلقته و كونه لا تختلف
من حيث إنها خلقة إنسانية في الهداية و الاهتداء إلى مقاصد الإنسان التكوينية.
فهؤلاء المهديون إلى مستقيم الصراط في أمن إلهي من خطرات السير و عثرات الطريق
إذ كان الصراط الذي يسلكونه و المسير الذي يضربون فيه لا اختلاف فيه بالهداية و
الإضلال و الحق و الباطل و السعادة و الشقاوة بل هو مؤتلف الأجزاء و متساوي
الأحوال يقوم على الحق و يؤدي إلى الحق لا يدع صاحبه في حيرة، و لا يورده إلى
ظلم و شقاء و معصية قال تعالى: "الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك
لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82.
قوله تعالى: "ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده" إلى آخر الآية.
يبين تعالى أن الذي ذكره من صفة الهداية التي هدى بها المذكورين من أنبيائه هو
المعرف لهداه الخاص به الذي يهدي به من يشاء من عباده.
فالهدى إنما يكون هدى - حق الهدى - إذا كان من الله سبحانه، و الهدى إنما يكون
هدى الله إذا أورد المتلبس به صراطا مستقيما اتفق على الورود فيه أصحاب الهدى و
هم الأنبياء المكرمون (عليهم السلام)، و اتفق أجزاء ذلك الصراط في الدعوة إلى
كلمة التوحيد و إقامة دعوة الحق و الاتسام بسمة العبودية و التقوى.
أما الطريق الذي يفرق فيه بين رسل الله فيؤمن فيه ببعض و يكفر ببعض أو يفرق فيه
بين أحكام الله و شرائعه فيؤخذ فيه ببعض و يترك بعض، و الطرق التي لا تضمن
سعادة حياة المجتمع الإنساني أو يسوق إلى بعض ما ليس فيه السعادة الإنسانية
فتلك هي الطرق التي لا مرضاة فيها لله سبحانه و قد انحرفت فيها عن شريعة الفطرة
إلى مهابط الضلال و مزالق الأهواء، و الاهتداء إليها ليس اهتداء بهدى الله
سبحانه.
قال تعالى: "إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن يفرقوا بين الله و رسله
و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض و يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم
الكافرون حقا": النساء: 151 و قال: "أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما
جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يردون إلى أشد
العذاب": البقرة: 85 و قال: "و من أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله
لا يهدي القوم الظالمين": القصص: 50 يريد أن الطريق الذي فيه اتباع الهوى إنما
هو ضلال لا يورد سالكه سعادة الحياة و ليس بهدى الله لأن فيه ظلما و الله
سبحانه لم يجعل الظلم و لن يجعله مما يتوسل به إلى سعادة و لا أن السعادة تنال
بظلم.
و بالجملة هدى الله سبحانه من خاصته أنه لا يشتمل على ضلال و لا يجامع ضلالا
بالتأدية إليه، و إنما هو الهدى محضا تتلوه السعادة محضة عطاء غير مجذوذ لكن لا
على حد العطايا المعمولة فيما بيننا التي ينقطع معها ملك المعطي بالكسر عن
عطيته و ينتقل إلى المعطى بالفتح فيحوزه على أي حال سواء شكر أو كفر.
بل هذه العطية الإلهية إنما تقوم على شريطة التوحيد و العبودية فلا كرامة لأحد
عليه تعالى و لا أمن له منه إلا بالعبودية محضا و لذلك ذيل الكلام بقوله: "و لو
أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون" و إنما ذكر الإشراك لأن محط البيان إنما هو
التوحيد.
قوله تعالى: "أولئك الذين آتيناهم الكتاب و الحكم و النبوة" الإشارة باللفظ
المفيد للبعد للدلالة على علو شأنهم و رفعة مقامهم، و المراد بإيتائهم الكتاب و
غيره إيتاء جمعهم ذلك بوصف المجموع و إن كان بعضهم لم يؤتوا بعض المذكورات كما
مر في تفسير قوله: "و اجتبيناهم و هديناهم" فإن الكتاب إنما أوتيه بعض الأنبياء
كنوح و إبراهيم و موسى و عيسى (عليهما السلام).
و الكتاب إذا نسب في كلامه تعالى إلى الأنبياء (عليهم السلام) نوعا من النسبة
يراد به الصحف التي تشتمل على الشرائع و يقضى بها بين الناس فيما اختلفوا فيه
كقوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل
معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": البقرة: 213 و قوله:
"إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون - إلى أن قال - و أنزلنا
إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه فاحكم بينهم بما
أنزل الله": المائدة: 48. إلى غير ذلك من الآيات.
و الحكم هو إلقاء النسبة التصديقية بين أجزاء الكلام كقولنا: فلان عالم، و إذا
كان ذلك في الأمور الاجتماعية و القضايا العملية التي تدور بين المجتمعين عد
نوع النسبة حكما كما تسمى نفس القضية حكما كما يقال يجب على الإنسان أن يفعل
كذا و يحرم عليه أن يفعل كذا أو يجوز له أن يفعل كذا أو أحب أو أكره أن تفعل
كذا فتسمى الوجوب و الحرمة و الجواز و الاستحباب و الكراهة أحكاما كما تسمى
القضايا المشتملة عليها أحكاما، و لأهل الاجتماع أحكام أخر ناشئة من نسب أخرى
كالملك و الرئاسة و النيابة و الكفاية و الولاية و غير ذلك.
و إذا قصد به المعنى المصدري أريد به إيجاد الحكم و جعله إما بحسب التشريع و
التقنين كما يجعل أهل التقنين أحكاما صالحة ليجري عليها الناس و يعملوا بها في
مسير حياتهم لحفظ نظام مجتمعهم، و إما بحسب التشخيص و النظر كتشخيص القضاة و
الحكام في المنازعات و الدعاوي أن المال لفلان و الحق مع فلان و كتشخيص أهل
الفتيا في فتاواهم و قد يراد به إنفاذ الحكم كحكم الوالي و الملك على الناس بما
يريدان في حوزة الولاية و الملك.
و الظاهر من الحكم في الآية بقرينة ذكر الكتاب معه أن يكون المراد به معنى
القضاء فيكون المراد من إيتاء الكتاب و الحكم إعطاء شرائع الدين و القضاء
بحسبها بين الناس كما هو ظاهر عدة من الآيات كقوله تعالى: "و أنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه": البقرة: 213 و قوله: إنا أنزلنا
التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا": المائدة: 44 و قوله:
"لتحكم بين الناس بما أراك الله": النساء: 105 و قوله: "و داود و سليمان إذ
يحكمان في الحرث": الأنبياء: 78 و قوله: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض
فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله": ص: 26 إلى غير ذلك
من الآيات و هي كثيرة، و إن كان مثل قوله تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه
السلام): "رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين": الشعراء: 83 لا يأبى بظاهره
الحمل على المعنى الأعم.
و أما النبوة فقد تقدم في تفسير قوله: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين"
الآية: البقرة: 213 أن المراد بها التحقق بأنباء الغيب بعناية خاصة إلهية و هي
الأنباء المتعلقة بما وراء الحس و المحسوس كوحدانيته تعالى و الملائكة و اليوم
الآخر.
و عد هذه الكرامات الثلاث التي أكرم الله سبحانه بها سلسلة الأنبياء (عليهم
السلام) أعني الكتاب و الحكم و النبوة في سياق الآيات الواصفة لهداه تعالى يدل
على أنها من آثار هداية الله و بها يتم العلم بالله تعالى و آياته فكأنه قيل:
تلك الهداية التي جمعنا عليها الأنبياء (عليهم السلام) و فضلناهم بها على
العالمين هي التي توردهم صراطا مستقيما و تعلمهم الكتاب المشتمل على شرائعه، و
تسددهم و تنصبهم للحكم بين الناس، و تنبئهم أنباء الغيب.
كلام في معنى الكتاب في القرآن
الكتاب بحسب ما يتبادر منه اليوم إلى أذهاننا هو الصحيفة أو الصحائف التي تضبط
فيها طائفة من المعاني على طريق التخطيط بقلم أو طابع أو غيرهما لكن لما كان
الاعتبار في استعمال الأسماء إنما هو بالأغراض التي وقعت التسمية لأجلها أباح
ذلك التوسع في إطلاق الأسماء على غير مسمياتها المعهودة في أوان الوضع، و الغرض
من الكتاب هو ضبط طائفة من المعاني بحيث يستحضرها الإنسان كلما راجعه، و هذا
المعنى لا يلازم ما خطته اليد بالقلم على القرطاس كما أن الكتاب في ذكر الإنسان
إذا حفظه كتاب و إذا أملاه عن حفظه كتاب و إن لم يكن هناك صحائف أو ألواح
مخطوطة بالقلم المعهود.
و على هذا التوسع جرى كلامه تعالى في إطلاق الكتاب على طائفة من الوحي الملقى
إلى النبي و خاصة إذا كان مشتملا على عزيمة و شريعة و كذا إطلاقه على ما يضبط
الحوادث و الوقائع نوعا من الضبط عند الله سبحانه، قال تعالى: "كتاب أنزلناه
إليك مبارك": ص: 29 و قال تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم
إلا في كتاب من قبل أن نبرأها": الحديد: 22 و قال تعالى: "و كل إنسان ألزمناه
طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك":
الإسراء: 14.
و في هذه الأقسام الثلاثة ينحصر ما ذكره الله سبحانه في كلامه من كتاب منسوب
إلى نفسه غير ما في ظاهر قوله في أمر التوراة: "و كتبنا له في الألواح من كل
شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء": الأعراف: 145 و قوله: "و ألقى الألواح و أخذ برأس
أخيه": الأعراف: 150 و قوله: "و لما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح و في نسختها
هدى و رحمة للذين هم لربهم يرهبون": الأعراف: 154.
القسم الأول: الكتب المنزلة على الأنبياء (عليهم السلام) و هي المشتملة على
شرائع الدين - كما تقدم آنفا - و قد ذكر الله سبحانه منها كتاب نوح (عليه
السلام) في قوله: "و أنزل معهم الكتاب بالحق": البقرة: 213 و كتاب إبراهيم و
موسى (عليهما السلام) قال: "صحف إبراهيم و موسى": الأعلى: 19 و كتاب عيسى و هو
الإنجيل قال: "و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور": المائدة: 46 و كتاب محمد (صلى
الله عليه وآله وسلم) قال؟ "تلك آيات الكتاب و قرآن مبين": الحجر: 1 و قال:
"رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة": البينة: 3 و قال: "في صحف
مكرمة، مرفوعة مطهرة، بأيدي سفرة، كرام بررة": عبس: 16 و قال: "نزل به الروح
الأمين، على قلبك لتكون من المنذرين، بلسان عربي مبين": الشعراء: 195.
القسم الثاني: الكتب التي تضبط أعمال العباد من حسنات أو سيئات فمنها: ما يختص
بكل نفس إنسانية كالذي يشير إليه قوله تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في
عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا": الإسراء: 13 و قوله: "يوم تجد كل نفس ما
عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء": آل عمران: 30 إلى غير ذلك من الآيات، و
منها: ما يضبط أعمال الأمة كالذي يدل عليه قوله: "و ترى كل أمة جاثية كل أمة
تدعى إلى كتابها": الجاثية: 28 و منها: ما يشترك فيه الناس جميعا كما في قوله:
"هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون": الجاثية: 29 لو
كان الخطاب فيه لجميع الناس.
لعل لهذا القسم من الكتاب تقسيما آخر بحسب انقسام الناس إلى طائفتي الأبرار و
الفجار و هو الذي يذكره في قوله: "كلا إن كتاب الفجار لفي سجين، و ما أدراك ما
سجين، كتاب مرقوم - إلى أن قال - كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين، و ما أدراك ما
عليون، كتاب مرقوم، يشهده المقربون": المطففين: 21.
القسم الثالث: الكتب التي تضبط تفاصيل نظام الوجود و الحوادث الكائنة فيه فمنها
الكتاب المصون عن التغير المكتوب فيه كل شيء كالذي يشير إليه قوله تعالى: "و ما
يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر
إلا في كتاب مبين": يونس: 61 و قوله: "و كل شيء أحصيناه في إمام مبين": يس: 12
و قوله: "و عندنا كتاب حفيظ": ق: 4 و قوله: "لكل أجل كتاب": الرعد: 38 و من
الآجال الأجل المسمى الذي لا سبيل للتغير إليه و قوله: "و ما كان نفس أن تموت
إلا بإذن الله كتابا مؤجلا": آل عمران: 146.
و لعل هذا النوع من الكتاب ينقسم إلى كتاب واحد عام حفيظ لجميع الحوادث و
الموجودات، و كتاب خاص بكل موجود موجود يحفظ به حاله في الوجود كما يشعر به
الآيتان الأخيرتان و سائر الآيات الكريمة التي تشاكلهما.
و منها: الكتب التي يتطرق إليها التغيير و يداخلها المحو و الإثبات كما يدل
عليه قوله تعالى: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب": الرعد: 39 و
استيفاء البحث عن كل قسم من أقسام هذه الكتب موكول إلى المحل الذي يناسبه من
الكتاب و الله المستعان.
كلام في معنى الحكم في القرآن
الأصل في مادة الحكم بحسب ما يتحصل من موارد استعمالاتها هو المنع، و بذلك سمي
الحكم المولوي حكما لما أن الأمر يمنع به المأمور عن الإطلاق في الإرادة و
العمل و يلجمه أن يقع على كل ما تهواه نفسه، و كذا الحكم بمعنى القضاء يمنع
مورد النزاع من أن يتزلزل بالمنازعة و المشاجرة أو يفسد بالتعدي و الجور، و كذا
الحكم بمعنى التصديق يمنع القضية من تطرق الشك إليه، و الأحكام و الاستحكام
يشعران عن حال في الشيء يمنعه من دخول ما يفسده بين أجزائه أو استيلاء الأمر
الأجنبي في داخله، و الأحكام يقابل بوجه التفصيل الذي هو جعل الشيء فصلا فصلا
يبطل بذلك التئام أجزائه و توحدها قال تعالى: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن
حكيم خبير": هود: 1 و إلى ذلك يعود معنى المحكم الذي يقابل المتشابه.
قال الراغب في المفردات:، حكم أصله منع منعا لإصلاح، و منه سميت اللجام حكمة
الدابة بفتحتين فقيل: حكمته، و حكمت الدابة منعتها بالحكمة، و أحكمتها جعلت لها
حكمة، و كذلك حكمت السفينة و أحكمتها قال الشاعر: "أ بني حنيفة أحكموا
سفهاءكم".
انتهى.
و الحكم إذا نسب إلى الله سبحانه فإن كان في تكوين أفاد معنى القضاء الوجودي و
هو الإيجاد الذي يساوق الوجود الحقيقي و الواقعية الخارجية بمراتبها قال تعالى:
"و الله يحكم لا معقب لحكمه": الرعد: 41.
و قال: "و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون": البقرة: 117 و منه يوجه قوله:
"قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد": المؤمن: 48.
و إن كان في تشريع أفاد معنى التقنين و الحكم المولوي قال تعالى: "و عندهم
التوراة فيها حكم الله": المائدة: 43 و قال: "و من أحسن من الله حكما":
المائدة: 50.
و إذا نسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) أفاد معنى القضاء و هو من المناصب
الإلهية التي أكرمهم بها قال تعالى: فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع
أهواءهم عما جاءك من الحق": المائدة: 48 و قال تعالى: "أولئك الذين آتيناهم
الكتاب و الحكم": الأنعام: 89.
و لعل في بعض الآيات إشعارا أو دلالة على إيتائهم الحكم بمعنى التشريع كما في
قوله حكاية عن إبراهيم (عليه السلام) في دعائه: "رب هب لي حكما و ألحقني
بالصالحين": الشعراء: 83.
و أما غير الأنبياء من الناس فنسب إليهم الحكم بمعنى القضاء كما في قوله: "و
ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه": المائدة: 47 و الحكم بمعنى التشريع و قد
ذمهم الله عليه كما في قوله: "و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا
فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا - إلى أن قال - ساء ما يحكمون": الأنعام:
136 و قوله "و إن وعدك الحق و أنت أحكم الحاكمين": هود: 45 و الآية بحسب موردها
يشمل الحكم بمعنى إنجاز الوعد و إنفاذ الحكم.
قوله تعالى: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين"
الضميران في قوله: "يكفر بها" و قوله: "وكلنا بها" راجعان إلى الهدى و يجوز فيه
التذكير و التأنيث من جهة أنه هداية، أو راجعان إلى الكتاب و الحكم و النبوة
التي هي من آثار الهداية الإلهية، و لا يخلو أول الوجهين عن بعد، و المشار إليه
بقوله: "هؤلاء" الكافرون بالدعوة من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
المتيقن منهم بحسب مورد الآية كفار مكة الذين أشار الله سبحانه إليهم بقوله:
"إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون": البقرة: 6.
و المعنى على الوجه الأول: فإن يكفر مشركو قومك بهدايتنا و هي طريقتنا فقد
وكلنا بها من عبادنا من ليس يكفر بها، و الكفر و الإيمان يتعلقان بالهداية و
خاصة إذا كانت بمعنى الطريقة كما ينسبان إلى الله سبحانه و آياته قال تعالى: "و
أنا لما سمعنا الهدى آمنا به": الجن: 13 و قال: "فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و
لا هم يحزنون": البقرة: 38.
و على الوجه الثاني: فإن يكفر بالكتاب و الحكم و النبوة - و هي التي تشتمل على
الطريقة الإلهية و الدعوة الدينية - مشركو مكة فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها
بكافرين.
و أما أن هؤلاء القوم من هم: - و في تنكير اللفظ دلالة على أن لهم خطرا عظيما -
فقد اختلف فيهم أقوال المفسرين: فمن قائل: إن المراد بهم الأنبياء المذكورون في
الآيات السابقة و هم ثمانية عشر نبيا أو مطلق الأنبياء المذكورين بأسمائهم أو
بنعوتهم في قوله: "و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم، و فيه أن سياق اللفظ لا
يلائمه إذ ظاهر قوله: "ليسوا بها بكافرين" نفي الحال أو الاستمرار في النفي و
المذكورون من الأنبياء (عليهم السلام) لم يكونوا موجودين حال الخطاب و لو كان
المراد ذلك لكان المتعين أن يقال: لم يكونوا بها بكافرين، و ليس رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) معدودا منهم بحسب هذه العناية و إن كان هو منهم و أفضلهم
فإن الله سبحانه يذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ذلك بقوله: "أولئك الذين
هدى الله فبهداهم اقتده".
و من قائل إن المراد بهم الملائكة و فيه كما قيل إن القوم و خاصة إذا أطلق من
غير تقييد لا يطلق على الملائكة و لا يسبق إلى الذهن على أن في الآية بحسب
السياق نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا معنى لتسليته في كفر
قومه بإيمان الملائكة.
و من قائل إن المراد بهم المؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزول
السورة في مكة أو مطلق المهاجرين.
و فيه: أن بعض هؤلاء قد ارتدوا بعد إيمانهم كالذي قال سأنزل مثل ما أنزل الله،
و قد تعرض سبحانه لأمره في هذه السورة بعد آيات، و قد كان فيهم المنافق فلا
ينطبق عليهم قوله: "ليسوا بها بكافرين".
و من قائل: إن المراد بهم الأنصار أو المهاجرون و الأنصار جميعا أو أصحاب النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين و الأنصار و هم الذين أقاموا هذه
الدعوة على ساقها و نصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم العسرة، و قد
مدحهم الله في كتابه أبلغ المدح.
و فيه: أن كرامة جماعتهم و رفعة منزلتهم بما هم جماعة مما لا يدانيه ريب لكن
كان بينهم من ارتد بعد إيمانه و المنافق الذي لم يظهر حاله بعد، و لا ينطبق على
من هذا نعته مثل قوله تعالى: "فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" و ظاهره
أنه لا سبيل للكفر إليهم و لم يقل: فقد وكلنا بها قوما يؤمنون بها أو آمنوا
بها.
و ربما يستفاد من كلمات بعضهم: أن المراد به قيام الإيمان بجماعتهم و إن أمكن
أن يتخلف عن إقامته آحاد منهم و بعبارة أخرى قوله: "ليسوا بها بكافرين" وصف
للمجتمع و لا ينافي خروج بعض الأبعاض اتصاف المجتمع بوصفه القائم بالمجموع من
حيث هو مجموع، و المؤمنون به (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأنصار أو منهم و
من المهاجرين أو الصحابة ثبت الإيمان فيهم ثبوتا من غير زوال و إن زال عن بعض
أفرادهم.
و هذا الوجه لو تم لدل على أن المراد بالقوم جميع الأمة المسلمة أو المؤمنون من
جميع الأمم، و لا دليل من تخصيصه بقوم دون قوم، و اختصاص بعضهم بمزايا و كرامات
دينية كتقدم المهاجرين في الإيمان بالله و الصبر على الأذى في جنب الله، أو
تبوء الأنصار الدار و الإيمان و إعلاؤهم كلمة التوحيد لا يوجب إلا فضل اتصافهم
بهذا النعت لا اختصاصه بهم و حرمان غيرهم منه مع مشاركته إياهم في معناه.
إلا أنه يرد على هذا الوجه: أن المألوف من كلامه في الأوصاف الاجتماعية التي لا
تستوعب جميع أفراد المجتمع أن يستثني المتخلفين عنها لو كان هناك متخلف أو يأتي
بما في معنى الاستثناء كقوله: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه
أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا": التين: 6.
و قوله: "محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى أن
قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما": الفتح:
29 و قوله: "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار - إلى أن قال - إلا الذين
تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله": النساء: 146 و قوله: "كيف
يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم - إلى أن قال - إلا الذين تابوا من بعد ذلك و
أصلحوا": آل عمران: 89 و هذا المعنى كثير دائر في القرآن الكريم فما بال قوله:
"قوما ليسوا بها بكافرين" لم يستثن منه المتخلف عن الوصف من القوم مع وجوده
فيهم.
و أغرب منه قول بعضهم: إن المراد بوصف القوم بأنهم ليسوا بها بكافرين - و القوم
على قوله هم الأنصار - الإشارة إلى أنهم و إن لم يؤمنوا بها بعد لكنهم لم
يكفروا بها كما كفر بها مشركو مكة.
و فيه مضافا إلى أنه لا يسلم مما تقدم من الإشكال على الوجوه السابقة أن أهل
المدينة من الأنصار كانوا حين نزول الآيات مشركين يعبدون الأصنام و لا معنى
لنفي الكفر عنهم اللهم إلا بمعنى الرد بعد الدعوة و هو الاستكبار و الاستنكاف و
لا دليل على كون الكفر في الآية بهذا المعنى مع كون الآيات مسوقة لوصف الهداية
الإلهية المقابلة للإشراك كما جرى على هذا المجرى في قوله: "و لو أشركوا لحبط
عنهم ما كانوا يعملون".
و فيه: أن التوكيل المذكور في الآية يفيد معنى الحفظ، و لا معنى لقولنا: إن
يكفر بها هؤلاء فقد حفظناها بقوم لم يؤمنوا بها و لم يردوها بعد.
و من قائل: إن المراد بهم العجم و لم يكونوا يؤمنوا بها يومئذ و كأنه مأخوذ من
قوله تعالى "إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين": النساء: 133 فقد ورد أن
المراد بالآخرين هم العجم لكن يرد عليه ما يرد على سابقه.
و من قائل: إن المراد بالقوم هم المؤمنون من أمة محمد (صلى الله عليه وآله
وسلم) أو المؤمنون من جميع الأمم.
و فيه: أنه يرد عليه ما أورد على ما قبله من الوجوه.
نعم يمكن أن يوجه بأن المراد بهم نفوس من هذه الأمة أو من جميع الأمم يؤمن
بالله إيمانا لا يعقبه كفر ما دامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون و ليسوا
بها بكافرين و إن لم يمتنع الكفر عليهم لكن دوامهم على الإيمان بدعوة التوحيد
من غير كفر أو نفاق يستدعي صدق قوله "قوما ليسوا بها بكافرين" عليهم و يتم به
معنى الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب قلبه
الشريف إذ كان يحزنه كفر المشركين من قومه و استكبارهم عن إجابة دعوة الحق و
الإيمان بالله و آياته، و في أنها دالة على اعتزازه تعالى بحفظ هدايته و طريقته
التي أكرم بها عباده المكرمين و أنبياءه المقربين.
لكن يتوجه إليه أن بناء هذا الوجه على قضية اتفاقية و هي إيمان المؤمنين بها
إيمانا يتفق أن يبقى سليما من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، و لا يلائمه قوله
تعالى: "وكلنا بها" فإن التوكيل يفيد معنى الاعتماد و يتضمن معنى الحفظ و
الكلاءة، و لا وجه للاعتزاز و المباهاة بأمر لا ضامن لثباته و لا حافظ
لاستقراره و بقائه.
على أن الله سبحانه يذم كثيرا من الإيمان إذ يقول: "و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا
و هم مشركون": يوسف: 106 و هذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض و الهداية
الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرك و الظلم التي أكرم الله بها خليله
إبراهيم و من قبله و بعده من الأنبياء المكرمين (عليهم السلام) كما يذكره
إبراهيم (عليه السلام) في قوله على ما يحكيه الله سبحانه عنه: "الذين آمنوا و
لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون": الأنعام: 82 و الهداية
التي هذا شأنها لا يعد كل متلبس بالإيمان حافظا لها موكلا بها من الله يحفظها
الله به من الضيعة و الفساد البتة و فيهم الطغاة و البغاة و الفراعنة و
المستكبرون و الجفاة الظلمة و أهل البدع و المتوغلون في الفجور و أنواع الفحشاء
و الفسق.
و الذي ينبغي أن يقال في معنى الآية أعني قوله: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا
بها قوما ليسوا بها بكافرين" إن الآيات لما كانت تصف التوحيد الفطري و الهداية
الإلهية الطاهرة من شوب الشرك بالله سبحانه، و تذكر أن الله سبحانه أكرم بهذه
الهداية سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه و اصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض و
اجتباهم و هداهم إلى صراط مستقيم لا ضلال فيه و آتاهم الكتاب و الحكم و النبوة.
ثم فرع على ذلك قوله: "فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها
بكافرين" و سياقه سياق اعتزاز منه تعالى و تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و تطييب لنفسه لئلا يوهنه الحزن و يفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما
يشاهده من كفر قومه و استكبارهم و عمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه
من كفرهم بهذه الهداية الإلهية و الطريقة التي تشتمل عليها الكتاب و الحكم و
النبوة التي آتيناها سلسلة المهديين من الأنبياء الكرام فإنا قد وكلنا بها قوما
ليسوا بها بكافرين فلا سبيل للضيعة و الزوال إلى هذه الهداية الإلهية لأنا
وكلناهم بها و اعتمدنا عليهم فيها و أولئك غير كافرين بها البتة.
فهؤلاء قوم لا يتصور في حقهم كفر و لا يدخل في قلوبهم شرك لأن الله وكلهم بها و
اعتمد عليهم فيها و حفظها بهم و لو جاز عليهم الشرك و أمكن فيهم التخلف كان
الاعتماد عليهم فيها خطاء و ضلالا و الله سبحانه لا يضل و لا ينسى.
فالآية تدل - و الله أعلم - على أن لله سبحانه في كل زمان عبدا أو عبادا موكلين
بالهداية الإلهية و الطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الكتاب
و الحكم و النبوة يحفظ الله بهم دينه عن الزوال و هدايته عن الانقراض، و لا
سبيل للشرك و الظلم إليهم لاعتصامهم بعصمة إلهية و هم أهل العصمة من الأنبياء
الكرام و أوصيائهم (عليهم السلام).
فالآية خاصة بأهل العصمة و قصارى ما يمكن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من
المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوى و الصلاح و محض الإيمان عن الشرك و الظلم، و
خرج بذلك عن ولاية الشيطان قال تعالى.
"إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون": النحل: 99 إن صدق
عليهم أن الله وكلهم بها و اعتمد عليهم فيها.
قوله تعالى: "أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده" إلى آخر الآية.
عاد ثانيا إلى تعريفهم بما فيه تعريف الهدى الإلهي فالهدى الإلهي لا يتخلف عن
شأنه و أثره و هو الإيصال إلى المطلوب قال تعالى: "فإن الله لا يهدي من يضل":
النحل: 37.
و قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: "فبهداهم اقتده بالاقتداء -
و هو الاتباع - بهداهم لا بهم لأن شريعته ناسخة لشرائعهم و كتابه مهيمن على
كتبهم، و لأن هذا الهدى المذكور في الآيات لا واسطة فيه بينه تعالى و بين من
يهديه، و أما نسبة الهدى إليهم في قوله: "فبهداهم" فمجرد نسبة تشريفية، و
الدليل عليه قوله: "ذلك هدى الله" إلخ.
و قد استدل بعضهم بالآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته كانوا
متعبدين بشرائع من قبلهم إلا ما قام الدليل على نسخه، و فيه: أن ذلك إنما يتم
لو كان قيل: فبهم اقتده، و أما قوله "فبهداهم اقتده" فهو بمعزل عن الدلالة على
ذلك، كما هو ظاهر.
و ختم سبحانه كلامه في وصف التوحيد الفطري و الهداية الإلهية إليه بقوله خطابا
لنبيه: "قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين" كأنه قيل: اهتد
بالهدى الإلهي الذي اهتدى به الأنبياء قبلك، و ذكر به العالمين من غير أن
تسألهم أجرا على ذلك، و قل لهم ذلك لتطيب به نفوسهم، و يكون أنجح للدعوة و أبعد
من التهمة، و قد حكى الله سبحانه هذه الكلمة عن نوح و من بعده من الأنبياء
(عليهم السلام) في دعواتهم.
و الذكرى أبلغ من الذكر كما ذكره الراغب، و في الآية دليل على عموم نبوته (صلى
الله عليه وآله وسلم) لجميع العالمين.
انتهى.
في قصص الأنبياء، للثعلبي: أن إلياس أتى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن
يسمى اليسع بن خطوب، و كان به ضر فآوته و أخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي
كان به، و اتبع اليسع إلياس فآمن به و صدقه و لزمه فكان يذهب حيثما يذهب، ثم
ذكر قصة رفع إلياس، و أن اليسع ناداه عند ذلك: يا إلياس ما تأمرني به؟ فقذف
إليه كساءه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة على استخلافه إياه على بني إسرائيل.
قال: و نبأ الله تعالى بفضله اليسع (عليه السلام) و بعثه نبيا و رسولا إلى بني
إسرائيل، و أوحى الله تعالى إليه و أيده بمثل ما أيد به عبده إلياس فآمنت به
بنو إسرائيل و كانوا يعظمونه و ينتهون إلى رأيه و أمره، و حكم الله تعالى فيهم
قائم إلى أن فارقهم اليسع.
و في البحار، عن الاحتجاج و التوحيد و العيون في خبر طويل رواه الحسن بن محمد
النوفلي عن الرضا (عليه السلام): فيما احتج به على جاثليق النصارى إلى أن قال
(عليه السلام): إن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى (عليه السلام) مشى على الماء و
أحيى الموتى و أبرأ الأكمه و الأبرص فلم يتخذه أمته ربا. الخبر.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام):
في قوله: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب كلا هدينا" لنجعلها في أهل بيته، "و نوحا
هدينا من قبل" لنجعلها في أهل بيته فأمر العقب من ذرية الأنبياء من كان قبل
إبراهيم و لإبراهيم.
أقول: و فيه تأييد ما قدمناه أن الآيات لبيان اتصال سلسلة الهداية.
و في الكافي، مسندا و في تفسير العياشي، مرسلا عن بشير الدهان عن أبي عبد الله
(عليه السلام) قال: و الله لقد نسب الله عيسى بن مريم في القرآن إلى إبراهيم من
قبل النساء ثم تلا: و من ذريته داود و سليمان إلى آخر الآية و ذكر عيسى.
و في تفسير العياشي، عن أبي حرب عن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن
معمر قال: بلغني أنك تزعم أن الحسن و الحسين من ذرية النبي تجدونه في كتاب
الله، و قد قرأت كتاب الله من أوله إلى آخره فلم أجده. قال: أ ليس تقرأ سورة
الأنعام؟ "و من ذريته داود و سليمان" حتى بلغ يحيى و عيسى قال: أ ليس عيسى من
ذرية إبراهيم؟ قال: نعم قرأت:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم
عن أبي الحرب بن أبي الأسود: مثله.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ و الحاكم و البيهقي عن عبد الملك بن عمير
قال: دخل يحيى بن معمر على الحجاج فذكر الحسين فقال الحجاج: لم يكن من ذرية
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال يحيى: كذبت فقال لتأتيني على ما قلت
ببينة فتلا: "و من ذريته داود و سليمان إلى قوله و عيسى و إلياس" فأخبر تعالى
أن عيسى من ذرية إبراهيم بأمه. قال: صدقت.
أقول: ذكر الآلوسي في روح المعاني، في قوله تعالى: "و عيسى"، و في ذكره (عليه
السلام) دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة
أمه.
و أورد عليه: أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره
عليه في كونه ذرية لجده من الأم و تعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز
الذرية.
و فيه منع ظاهر و المسألة خلافية، و الذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية
يستدلون بهذه الآية، و بها احتج موسى الكاظم رضي الله عنه على ما رواه البعض
عند الرشيد.
و في التفسير الكبير:، أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن
يوسف و بآية المباهلة حيث دعا (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسن و الحسين رضي
الله تعالى عنهما بعد ما نزل "تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم".
و ادعى بعضهم: أن هذا من خصائصه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد اختلف إفتاء
أصحابنا في هذه المسألة، و الذي أميل إليه القول بالدخول.
انتهى.
و قال في المنار:، و أقول: في الباب حديث أبي بكرة عند البخاري مرفوعا: "أن
ابني هذا سيد" يعني الحسن، و لفظ ابن لا يجري عند العرب على أولاد البنات، و
حديث عمر في كتاب معرفة الصحابة لأبي نعيم مرفوعا: "و كل ولد آدم فإن عصبتهم
لأبيهم خلا ولد فاطمة فإني أبوهم و عصبتهم" و قد جرى الناس على هذا فيقولون في
أولاد فاطمة (عليها السلام): أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أبناؤه و عترته و أهل بيته.
انتهى.
أقول: و في المسألة خلط، و قد اشتبه الأمر فيها على عدة من الأعلام فحسبوا أن
المسألة لفظية يتبع فيها اللغة حتى احتج فيها بعضهم بمثل قول الشاعر: بنونا بنو
أبنائنا و بناتنا.
بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
و قوله: و إنما أمهات الناس أوعية.
مستودعات و للأنساب آباء.
و قد أخطئوا في ذلك، و إنما هي مسألة حقوقية اجتماعية من شعب مسألة القرابة، و
الأمم و الأقوام مختلفة في تحديدها و تشخيصها و أن المرأة هل هي داخلة في
القرابة؟ و أن أولاد بنت الرجل هل هي أولاده؟ و أن القرابة هل تختص بما يحصل
بالولادة أو تعمه و ما حصل بالادعاء؟ و قد كانت عرب الجاهلية لا ترى للمرأة إلا
القرابة الطبيعية التي تؤثر أثرها في الازدواج و الإنفاق و نحو ذلك، و لا ترى
لها قرابة قانونية تسمح لها بالوراثة و نحوها، و أما أولاد البنات فلم تكن ترى
لها قرابة، و كانت ترى قرابة الأدعياء و تسمى الدعي ابنا لا لأن اللغة كانت
تجوز ذلك بل لأنهم اتبعوا في ذلك ما تجاورهم من الأمم الراقية ترى ذلك بحسب
قوانينها المدنية أو سننها القومية كالروم و إيران.
و أما الإسلام فقد ألغى قرابة الأدعياء من رأس قال تعالى: "و ما جعل أدعياءكم
أبناءكم": الأحزاب: 4 و أدخل المرأة في القرابة و رتب على ذلك آثارها و أدخل
أولاد البنات في الأولاد قال تعالى في آية الإرث: "يوصيكم الله في أولادكم
للذكر مثل حظ الأنثيين" الآية: النساء: 11 و قال: "للرجال نصيب مما ترك
الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون مما قل منه أو
كثر": النساء: 7. و قال في آية محرمات النكاح: "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم -
إلى أن قال - و أحل لكم ما وراء ذلكم": النساء: 24 فسمى بنت البنت بنتا و أولاد
البنات أولادا من غير شك في ذلك، و قال تعالى: "و يحيى و عيسى و إلياس" الآية
فعد عيسى من ذرية إبراهيم أو نوح (عليهما السلام) و هو غير متصل بهما إلا من
جهة الأم.
و قد استدل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بهذه الآية و آية التحريم و آية
المباهلة على كون ابن بنت الرجل ابنا له و الدليل عام و إن كان الاحتجاج على
أمر خاص و لأبي جعفر الباقر (عليه السلام) احتجاج آخر أصرح من الجميع رواه في
الكافي، بإسناده عن عبد الصمد بن بشير عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر (عليه
السلام): يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن و الحسين؟ قلت: ينكرون علينا
أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فأي شيء احتججتم عليهم؟
قلت: احتججنا عليهم بقول الله عز و جل في عيسى بن مريم: "و من ذريته داود و
سليمان - و أيوب و يوسف و موسى و هارون - و كذلك نجزي المحسنين و زكريا و يحيى
و عيسى" فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح. قال: فأي شيء قالوا لكم؟ قلت: قالوا:
قد يكون ولد الابنة من الولد و لا يكون من الصلب. قال: فأي شيء احتججتم عليهم؟
قلت: احتججنا عليهم بقوله تعالى لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): "قل
تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم - و أنفسنا و أنفسكم" ثم قال:
أي شيء قالوا: قلت قالوا: قد يكون في كلام العرب أبناء رجل و آخر يقول:
أبناؤنا. قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): لأعطينكما من كتاب الله عز و جل
أنهما من صلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يرده إلا كافر. قلت: و
أين ذلك جعلت فداك؟ قال: من حيث قال الله: "حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و
أخواتكم" الآية إلى أن انتهى إلى قوله تبارك و تعالى: "و حلائل أبنائكم الذين
من أصلابكم" يا أبا الجارود هل كان يحل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، كذبوا و فجروا، و إن قالوا: لا، فإنهما ابناه
لصلبه: و روى قريبا منه القمي في تفسيره،.
و بالجملة فالمسألة غير لفظية، و قد اعتبر الإسلام في المرأة القرابة الطبيعية
و التشريعية جميعا، و كذا في أولاد البنات أنهم من الأولاد و أن عمود النسب
يجري من جهة المرأة كما يجري من جهة الرجل كما ألغى الاتصال النسبي من جهة
الدعاء أو من غير نكاح شرعي، و قد روى الفريقان عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)
أنه قال: "الولد للفراش و للعاهر الحجر" غير أن مساهلة الناس في الحقائق
الدينية أنستهم هذه الحقيقة و لم يبق منها إلا بعض آثارها كالوراثة و الحرمة و
لم تخل السلطات الدولية في صدر الإسلام من تأثير في ذلك، و قد تقدم البحث في
ذيل آية التحريم من الجزء الثالث من الكتاب.
و في تفسير النعماني، بإسناده عن سليمان بن هارون العجلي قال سمعت أبا عبد الله
(عليه السلام) يقول: إن صاحب هذا الأمر محفوظة له لو ذهب الناس جميعا أتى الله
بأصحابه، و هم الذين قال الله عز و جل: "فإن يكفر بها هؤلاء - فقد وكلنا بها
قوما ليسوا بها بكافرين" و هم الذين قال الله فيهم: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
و يحبونه - أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين".
أقول: و هو من الجري.
و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام): قال الله عز و جل
في كتابه: "و نوحا هدينا من قبل إلى قوله بكافرين" فإنه وكل بالفضل من أهل بيته
و الإخوان و الذرية، و هو قول الله تبارك و تعالى: "فإن يكفر بها" أمتك فقد
وكلنا أهل بيتك بالإيمان الذي أرسلناك به فلا يكفرون به أبدا، و لا أضيع
الإيمان الذي أرسلتك به من أهل بيتك من بعدك علماء أمتك و ولاة أمري بعدك، و
أهل استنباط العلم الذي ليس فيه كذب و لا إثم و لا وزر و لا بطر و لا رياء:.
أقول: و رواه العياشي مرسلا و كذا الذي قبله و الحديث كسابقه من الجري.
و في المحاسن، بإسناده علي بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال:
أبو عبد الله (عليه السلام): و لقد دخلت على أبي العباس و قد أخذ القوم مجلسهم
فمد يده إلي و السفرة بين يديه موضوعة فذهبت لأخطو إليه فوقعت رجلي على طرف
السفرة فدخلني بذلك ما شاء الله أن يدخلني إن الله يقول: "فإن يكفر بها هؤلاء -
فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين" قوما و الله يقيمون الصلاة و يؤتون
الزكاة و يذكرون الله كثيرا.
أقول: محصله استحياؤه (عليه السلام) من الله سبحانه بوقوع قدمه على طرف السفرة
اضطرارا كأن في وطء السفرة كفرانا لنعمة الله ففيه تعميم للكفر في قوله: "ليسوا
بها بكافرين" لكفر النعمة.
و في النهج،: اقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى.
أقول: و استفادته من الآيات ظاهرة.
و في تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: و أحسن الهدى هدى
الأنبياء.
6 سورة الأنعام - 91 - 105
وَ مَا قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلى
بَشرٍ مِّن شىْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَب الّذِى جَاءَ بِهِ مُوسى نُوراً
وَ هُدًى لِّلنّاسِ تجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس تُبْدُونهَا وَ تخْفُونَ كَثِيراً
وَ عُلِّمْتُم مّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَ لا ءَابَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ
ثُمّ ذَرْهُمْ فى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَ هَذَا كِتَبٌ أَنزَلْنَهُ
مُبَارَكٌ مّصدِّقُ الّذِى بَينَ يَدَيْهِ وَ لِتُنذِرَ أُمّ الْقُرَى وَ مَنْ
حَوْلهََا وَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى
صلاتهِمْ يحَافِظونَ (92) وَ مَنْ أَظلَمُ مِمّنِ افْترَى عَلى اللّهِ كَذِباً
أَوْ قَالَ أُوحِىَ إِلىّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شىْءٌ وَ مَن قَالَ سأُنزِلُ
مِثْلَ مَا أَنزَلَ اللّهُ وَ لَوْ تَرَى إِذِ الظلِمُونَ فى غَمَرَتِ
المَْوْتِ وَ الْمَلَئكَةُ بَاسِطوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسكمُ
الْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَاب الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللّهِ
غَيرَ الحَْقِّ وَ كُنتُمْ عَنْ ءَايَتِهِ تَستَكْبرُونَ (93) وَ لَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَدَى كَمَا خَلَقْنَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ وَ تَرَكْتُم مّا
خَوّلْنَكُمْ وَرَاءَ ظهُورِكمْ وَ مَا نَرَى مَعَكُمْ شفَعَاءَكُمُ الّذِينَ
زَعَمْتُمْ أَنهُمْ فِيكُمْ شرَكَؤُا لَقَد تّقَطعَ بَيْنَكُمْ وَ ضلّ عَنكم
مّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنّ اللّهَ فَالِقُ الحَْب وَ النّوَى يخْرِجُ
الحَْىّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَىِّ ذَلِكُمُ اللّهُ
فَأَنى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الاصبَاح وَ جَعَلَ الّيْلَ سكَناً وَ الشمْس
وَ الْقَمَرَ حُسبَاناً ذَلِك تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَ هُوَ
الّذِى جَعَلَ لَكُمُ النّجُومَ لِتهْتَدُوا بهَا فى ظلُمَتِ الْبرِّ وَ
الْبَحْرِ قَدْ فَصلْنَا الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الّذِى
أَنشأَكُم مِّن نّفْسٍ وَحِدَةٍ فَمُستَقَرّ وَ مُستَوْدَعٌ قَدْ فَصلْنَا
الاَيَتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَ هُوَ الّذِى أَنزَلَ مِنَ السمَاءِ
مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَات كلِّ شىْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً
نخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّترَاكباً وَ مِنَ النّخْلِ مِن طلْعِهَا قِنْوَانٌ
دَانِيَةٌ وَ جَنّتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَ الزّيْتُونَ وَ الرّمّانَ مُشتَبِهاً
وَ غَيرَ مُتَشبِهٍ انظرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنّ فى
ذَلِكُمْ لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَ جَعَلُوا للّهِ شرَكاءَ
الجِْنّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَنَتِ بِغَيرِ عِلْمٍ
سبْحَنَهُ وَ تَعَلى عَمّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السمَوَتِ وَ الأَرْضِ أَنى
يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُن لّهُ صحِبَةٌ وَ خَلَقَ كلّ شىْءٍ وَ هُوَ
بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكمُ اللّهُ رَبّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
خَلِقُ كلِّ شىْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ وَكيلٌ (102) لا
تُدْرِكهُ الأَبْصرُ وَ هُوَ يُدْرِك الأَبْصرَ وَ هُوَ اللّطِيف الخَْبِيرُ
(103) قَدْ جَاءَكُم بَصائرُ مِن رّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصرَ فَلِنَفْسِهِ وَ
مَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَ مَا أَنَا عَلَيْكُم بحَفِيظٍ (104) وَ كَذَلِك
نُصرِّف الاَيَتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَست وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(105)
بيان
الآيات لا تخلو عن ارتباط بما قبلها فإنها تفتتح بالمحاجة في خصوص إنزال الكتاب
على أهل الكتاب إذ ردوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: "ما أنزل
الله على بشر من شيء"، و الآيات السابقة تعد إيتاء الكتاب من لوازم الهداية
الإلهية التي أكرم بها أنبياءه.
فقد بدأت الكلام بمحاجة أهل الكتاب ثم تذكر أن أظلم الظلم أن يشرك بالله افتراء
عليه أو يظلم في باب النبوة بإنكار ما هو حق منها أو دعوى ما ليس بحق منها
كالذي قال: سأنزل مثل ما أنزل الله.
ثم تذكر الآيات ما يئول إليه أمر هؤلاء الظالمين عند مساءلة الموت إذا غشيتهم
غمراته و الملائكة باسطوا أيديهم، ثم تتخلص إلى ذكر آيات توحيده تعالى و ذكر
أشياء من أسمائه الحسنى و صفاته العليا.
قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء"
قدر الشيء و قدره بالتحريك كميته من عظم أو صغر و نحوهما يقال: قدرت الشيء قدرا
و قدرته بالتشديد تقديرا إذا بينت كمية الشيء و هندسته المحسوسة ثم توسع فيه
فاستعمل في المعاني غير المحسوسة فقيل: قدر فلان عند الناس و في المجتمع أي
عظمته في أعين الناس و وزنه في مجتمعهم و قيمته الاجتماعية.
و إذ كان تقدير الشيء و تحديده بحدود لا ينفك غالبا عن وصفه بأوصافه المبينة
لحاله المستتبعة لعرفانه أطلق القدر و التقدير على الوصف و على المعرفة بحال
الشيء - على نحو الاستعارة - فيقال قدر الشيء و قدره أي وصفه، و يقال: قدر
الشيء و قدره أي عرفه، فاللغة تبيح هذه الاستعمالات جميعا.
و لما كان الله سبحانه لا يحيط بذاته المتعالية حس و لا وهم و لا عقل و إنما
يعرف معرفة ما بما يليق بساحة قدسه من الأوصاف و ينال من عظمته ما دلت عليه
آياته و أفعاله صح استعمال القدر فيه تعالى بكل من المعاني السابقة فيقال: ما
قدروا الله حق قدره أي ما عظموه بما يليق بساحته من العظمة أو ما وصفوه حق وصفه
أو ما عرفوه حق معرفته.
فالآية بحسب نفسها تحتمل كلا من المعاني الثلاثة أو جميعها بطريق الالتزام لكن
الأنسب بالنظر إلى الآيات السابقة الواصفة لهدايته تعالى أنبياءه المستعقبة
لإيتائهم الكتاب و الحكم و النبوة، و عنايته الكاملة بحفظ كلمة الحق و نعمة
الهداية بين الناس زمانا بعد زمان و جيلا بعد جيل أن تحمل على المعنى الأول فإن
في إنكار إنزال الوحي حطا لقدره تعالى و إخراجا له من منزلة الربوبية المعتنية
بشئون عباده و هدايتهم إلى هدفهم من السعادة و الفلاح.
و يؤيد ذلك ما ورد من نظير اللفظ في قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره و
الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السماوات مطويات بيمينه سبحانه و تعالى عما
يشركون": الزمر: 67.
و قوله تعالى: "إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا و لو اجتمعوا له و
إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب و المطلوب، ما قدروا الله حق
قدره إن الله لقوي عزيز": الحج: 74 أي و قوته و عزته و ضعف غيره و ذلته تقتضيان
أن لا يحط قدره و لا يسوى هو و ما يدعون من دونه بتسمية الجميع آلهة و أربابا
فالأنسب بالآية هو المعنى الأول و إن لم يمتنع المعنيان الآخران، و أما تفسير
"ما قدروا الله حق قدره" بأن المراد: ما أعطوه من القدرة ما هو حقها كما فسره
بعضهم فأبعد المعاني المحتملة من مساق الآية.
و لما قيد قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره" بالظرف الذي في قوله: "إذ
قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" أفاد ذلك أن اجتراءهم على الله سبحانه و
عدم تقديرهم حق قدره إنما هو من حيث إنهم نفوا إنزال الوحي و الكتاب منه تعالى
على بشر فدل ذلك على أن من لوازم الألوهية و خصائص الربوبية أن ينزل الوحي و
الكتاب لغرض هداية الناس إلى مستقيم الصراط و الفوز بسعادة الدنيا و الآخرة فهي
الدعوى.
و قد أشار تعالى إلى إثبات هذه الدعوى و الحجاج له بقوله: "قل من أنزل الكتاب
الذي جاء به موسى" إلخ، و بقوله: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" و
الأول من القولين احتجاج بكتاب من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء (عليهم
السلام) الثابتة نبوتهم بالمعجزات الباهرة التي أتوا بها ففيه تمسك بوجود
الهداية الإلهية المتصلة المحفوظة بين الناس بالأنبياء (عليهم السلام) نوح و من
بعده، و هي التي وصفها الله تعالى في الآيات السابقة من قوله: "و إذ قال
إبراهيم لأبيه آزر - إلى قوله - إن هو إلا ذكرى للعالمين".
و الثاني من القولين احتجاج بوجود معارف و أحكام إلهية بين الناس ليس من شأنها
أن تترشح من الإنسان الاجتماعي من حيث مجتمعه بما له من العواطف و الأفكار التي
تهديه إلى ما يصلح حياته من الغذاء و المسكن و اللباس و النكاح و جلب المنافع و
دفع المضار و المكاره فهذه الأمور التي في مجرى التمتع بالماديات هي التي
يتوخاها الإنسان بحسب طبعه الحيواني، و أما المعارف الإلهية و الأخلاق الفاضلة
الطيبة و الشرائع الحافظة بالعمل بها لهما فليست من الأمور التي ينالها الإنسان
الاجتماعي بشعوره الاجتماعي و أنى للشعور الاجتماعي ذلك؟ و هو إنما يبعث
الإنسان إلى استخدام جميع الوسائل التي يمكنه أن يتوسل بها إلى مآربه في الحياة
الأرضية، و مقاصده في المأكل و المشرب و المنكح و الملبس و المسكن و ما يتعلق
بها ثم يدعوه إلى أن يكسر مقاومة كل ما يقاومه في طريق تمتعه إن قدر على ذلك أو
يصطلحه على التعاضد و الاشتراك في المنافع و رعاية العدل في توزيعها إن لم يقدر
عليه، و هو سر كون الإنسان اجتماعيا مدنيا كما تبين في أبحاث النبوة في البحث
عن قوله تعالى: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين" الآية: البقرة: 213 في
الجزء الثاني من الكتاب، و سنزيده وضوحا إن شاء الله.
و بالجملة فالآية أعني قوله تعالى: "و ما قدروا الله حق قدره" تدل بما لها من
الضمائم على أن من لوازم الألوهية أن تهدي الإنسان إلى مستقيم الصراط و منزل
السعادة بإنزال الكتاب و الوحي على بعض أفراده، و تستدل على ذلك بوجود بعض
الكتب المنزلة من الله في طريق الهداية أولا، و بوجود ما يدل على تعاليم إلهية
بينهم لا ينالها الإنسان بما عنده من العقل الاجتماعي ثانيا.
قوله تعالى: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس تجعلونه
قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا" القراءة الدائرة تجعلونه بصيغة الخطاب و
المخاطبون به اليهود لا محالة، و قرىء "يجعلونه" بصيغة الغيبة، و المخاطب
المسئول عنه بقوله: "من أنزل الكتاب إلخ"، حينئذ اليهود أو مشركو العرب على ما
قيل، و المراد يجعل الكتاب قراطيس و هي جمع قرطاس إما جعله في قراطيس بالكتابة
فيها، و إما جعله نفس القراطيس بما فيها من الكتابة فالصحائف و القراطيس تسمى
كتابا كما تسمى الألفاظ المدلول عليها بالكتابة كتابا.
و قوله: "قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" إلخ.
جواب عن قولهم المحكي بقوله تعالى: "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" و
الآية و إن لم تعين القائلين بهذا القول من هم؟ إلا أن الجواب بما فيه من
الخصوصية لا يدع ريبا في أن المخاطبين بهذا الجواب هم اليهود فالقائلون: "ما
أنزل الله على بشر من شيء" هم اليهود أيضا، و ذلك أن الآية تحتج على هؤلاء
القائلين بكتاب موسى (عليه السلام) و المشركون لا يعترفون به و لا يقولون
بنزوله من عند الله، و إنما القائلون به أهل الكتاب، و أيضا الآية تذمهم بأنهم
يجعلونه قراطيس يبدونها و يخفون كثيرا، و هذا أيضا من خصائص اليهود على ما نسبه
القرآن إليهم دون المشركين.
على أن قوله بعد ذلك: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" على ظاهر معناه
الساذج لا يصلح أن يخاطب به غير اليهود من المشركين أو المسلمين كما تقدم و
سيجيء إن شاء الله تعالى.
و أما أن اليهود كانوا مؤمنين بنبوة الأنبياء موسى و من قبله (عليه السلام) و
بنزول كتب سماوية كالتوراة و غيرها فلم يك يتأتى لهم أن يقولوا: ما أنزل الله
على بشر من شيء لمخالفته أصول معتقداتهم فيدفعه: أن يكون ذلك مخالفا للأصل الذي
عندهم لا يمنع أن يتفوه به بعضهم تعصبا على الإسلام أو تهييجا للمشركين على
المسلمين أو يقول ذلك عن مسألة سألها المشركون عن حال كتاب كان النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) يدعي نزوله عليه من جانب الله سبحانه، و قد قالوا في تأييد
وثنية مشركي العرب على أهل التوحيد من المسلمين: هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا، فرجحوا قذارة الشرك على طهارة التوحيد و أساس دينهم التوحيد حتى أنزل
الله: "أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت و
يقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا": النساء: 51.
و قولهم - و هو أبين سفها من سابقه - اغتياظا على النصارى: إن إبراهيم (عليه
السلام) كان يهوديا حتى نزل فيهم قوله تعالى: "يا أهل الكتاب لم تحاجون في
إبراهيم و ما أنزلت التوراة و الإنجيل إلا من بعده أ فلا تعقلون - إلى أن قال -
ما كان إبراهيم يهوديا و لا نصرانيا و لكن كان حنيفا مسلما و ما كان من
المشركين": آل عمران: 67 إلى غير ذلك من أقوالهم المناقضة لأصولهم الثابتة
المحكية في القرآن الكريم.
و من كان هذا شأنه لم يبعد أن ينفي نزول كتاب سماوي على بشر لداع من الدواعي
الفاسدة الباعثة له على إنكار ما يستضر بثبوته أو تلقين الغير باطلا يعلم
ببطلانه لينتفع به في بعض مقاصده الباطلة.
و أما قول من قال: إن القرآن لم يعتن بأمر أهل الكتاب في آياته النازلة بمكة و
إنما كانت الدعوة بمكة قبل الهجرة إلى المشركين للابتلاء بجماعتهم و الدار
دارهم، ففيه أن ذلك لا يوجب السكوت عنهم من رأس و الدين عام و دعوته شاملة
لجميع الناس و القرآن ذكر للعالمين و هم و المشركون جيران يمس بعضهم بعضا دائما
و قد جاء ذكر أهل الكتاب في بعض السور المكية من غير دليل ظاهر على كون الآية
مدنية كقوله تعالى: "و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين
ظلموا منهم": العنكبوت: 46 و قوله: "و على الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من
قبل و ما ظلمناهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون": النحل: 118 و قد ذكر في سورة
الأعراف كثير من مظالم بني إسرائيل مع كون السورة مكية.
و من المستبعد أن تدوم الدعوة الإسلامية سنين قبل الهجرة و في داخل الجزيرة
طوائف من اليهود و النصارى فلا يصل خبرها إليهم أو يصل إليهم فيسكتوا عنها و لا
يقولوا شيئا لها أو عليها و قد هاجر جماعة من المسلمين إلى الحبشة و قرءوا سورة
مريم المكية عليهم و فيها قصة عيسى و نبوته.
و أما قول من قال: إن السورة - يعني سورة الأنعام - إنما نزلت في الاحتجاج على
المشركين في توحيد الله سبحانه و عامة الخطابات الواردة فيها متوجهة إليهم فلا
مسوغ لإرجاع الضمير في قوله: "إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء" إلى
اليهود بل المتعين إرجاعه إلى مشركي العرب لأن الكلام في سياق الخبر عنهم، و لم
يجر لليهود ذكر في هذه السورة فلا يجوز أن تصرف الآية عما يقتضيه سياقها من
أولها إلى هذا الموضع بل إلى آخرها بغير حجة من خبر صحيح أو عقل فالأرجح قراءة
"يجعلونه" إلخ، بياء الغيبة على معنى أن اليهود يجعلونه فهو حكاية عنهم ذكرت في
خطاب مشركي العرب.
و أما مشكلة أن المشركين ما كانوا يذعنون بكون التوراة كتابا سماويا فكيف
يحاجون بها فقد أجاب عنه بعضهم: أن المشركين كانوا يعلمون أن اليهود أصحاب
التوراة المنزلة على موسى (عليه السلام) فمن الممكن أن يحاجوا من هذه الجهة.
ففيه: أن سياق السورة فيما تقدم من الآيات و إن كان لمحاجة المشركين لكن لا
لأنهم هم بأعيانهم فالبيان القرآني لا يعتني بشخص أو أشخاص لأنفسهم بل لأنهم
يستكبرون عن الخضوع للحق و ينكرون أصول الدعوة التي هي التوحيد و النبوة و
المعاد فالمنكرون لهذه الحقائق أو لبعضها هم المعنيون بالاحتجاجات الموردة فيها
فما المانع من أن يذكر فيها بعض هفوات اليهود لو استلزم إنكار النبوة و نزول
الكتاب لدخوله في غرض السورة، و وقوعه في صف هفوات المشركين في إنكار أصول
الدين الإلهي و إن كان القائل به من غير المشركين و عبدة الأصنام، و لعله مما
لقنوه بعض المشركين ابتغاء للفتنة فقد ورد في بعض الآثار أن المشركين ربما
سألوهم عن حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ربما بعثوا إليهم الوفود
لذلك.
على أن قوله: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" كما سيأتي لا يصح أن
يخاطب به غير اليهود كما لا يصح أن يخاطب غير اليهود بقوله تعالى: "قل من أنزل
الكتاب الذي جاء به موسى نورا و هدى للناس" و القول بأن مشركي العرب كانوا
يعلمون أن اليهود هم أصحاب توراة موسى غير مقنع قطعا فإن العلم بأن اليهود
أصحاب التوراة لا يصحح الاحتجاج بنزول التوراة من عند الله سبحانه و خاصة مع
وصفها بأنها نور و هدى للناس فالاعتقاد بالنزول من عند الله غير العلم بأن
اليهود تدعي ذلك و المصحح للخطاب هو الأول دون الثاني.
و أما قراءة "يجعلونه" إلخ، فالوجه أن تحمل على الالتفات مع إبقاء الخطاب في
قوله "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى"، و قوله: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و
لا آباؤكم" لليهود.
و قد حاول بعضهم دفع الإشكالات الواردة على جعل الخطاب في الآية للمشركين مع
تصحيح القراءتين جميعا فقال ما ملخصه: إن الآية نزلت في ضمن السورة بمكة كما
قرأها ابن كثير و أبو عمرو - يجعلونه قراطيس بصيغة الغيبة - محتجة على مشركي
مكة الذين أنكروا الوحي استبعادا لأن يخاطب الله البشر بشيء، و قد اعترفوا
بكتاب موسى و أرسلوا الوفد إلى أحبار اليهود مذعنين بأنهم أهل الكتاب الأول
العالمون بأخبار الأنبياء.
فهو تعالى يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): قل لهؤلاء الذين ما قدروا
الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء كقولهم: أ بعث الله بشرا
رسولا: "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا" انقشعت به ظلمات الكفر و الشرك
الذي ورثته بنو إسرائيل عن المصريين "و هدى للناس" أي الذين أنزل عليهم بما
علمهم من الأحكام و الشرائع الإلهية فكانوا على النور و الهدى إلى أن اختلفوا
فيه و نسوا حظا مما ذكروا به فصاروا باتباع الأهواء "يجعلونه قراطيس يبدونها"
فيما وافق "و يخفون كثيرا" مما لا يوافق أهواءهم.
قال: و الظاهر أن الآية كانت تقرأ هكذا بمكة و كذا بالمدينة إلى أن أخفى أحبار
اليهود حكم الرجم و كتموا بشارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى أن قال
بعضهم: ما أنزل الله على بشر من شيء كما قال المشركون من قبلهم - إن صحت
الروايات بذلك - فعند ذلك كان غير مستبعد و لا مخل بالسياق أن يلقن الله تعالى
رسوله أن يقرأ هذه الجمل بالمدينة على مسمع اليهود و غيرهم بالخطاب لليهود
فيقول: "تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا" مع عدم نسخ القراءة الأولى.
قال: و بهذا الاحتمال المؤيد بما ذكر من الوقائع يتجه تفسير القراءتين بغير
تكلف ما، و يزول كل إشكال عرض للمفسرين في تفسيرهما، انتهى كلامه ملخصا.
و أنت خبير بأن إشكال خطاب المشركين بما لا يعترفون به باق على حاله و كذا
إشكال خطاب غير اليهود بقوله: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" على ما
أشرنا إليه، و كذا تخصيصه قوله تعالى: "نورا و هدى للناس" باليهود فقط و كذا
قوله إن اليهود قالوا في المدينة: "ما أنزل الله على بشر من شيء" كر على ما فر
منه.
على أن قوله: إن الله لقن رسوله أن يقرأ الآية عليهم و يخاطبهم بقوله: "تجعلونه
قراطيس تبدونها و تخفون كثيرا" مما لا دليل عليه فإن أراد بهذا التلقين وحيا
جديدا بالخطاب كالوحي الأول بالغيبة كانت الآية نازلة مرتين مرة في ضمن السورة
و هي إحدى آياته و مرة في المدينة غير داخلة في آيات السورة و لا جزء منها، و
إن أراد بالتلقين غير الوحي بنزول جبرئيل بها لم تكن الآية آية و لا القراءة
قراءة، و إن أريد به أن الله فهم رسوله نوعا من التفهيم أن لفظ "تجعلونه
قراطيس" إلخ، النازل عليه في ضمن سورة الأنعام بمكة يسع الخطاب و الغيبة جميعا
و أن القراءتين جميعا صحيحتان مقصودتان كما ربما يقوله من ينهي القراءات
المختلفة إلى قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القراءة عليه و نحوهما
ففيه الالتزام بورود جميع الإشكال السابقة كما هو ظاهر.
و اعلم أن هذه الأبحاث إنما تتأتى على تقدير كون الآية نازلة بمكة، و أما على
ما وقع في بعض الروايات من أن الآية نزلت بالمدينة فلا محل لأكثرها.
قوله تعالى: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" المراد بهذا العلم الذي
علموه و لم يكونوا يعلمونه هم و لا آباؤهم ليس هو العلم العادي بالنافع و الضار
في الحياة مما جهز الإنسان بالوسائل المؤدية إليه من حس و خيال و عقل فإن
الكلام واقع في سياق الاحتجاج مربوط به و لا رابطة بين حصول العلوم العادية
للإنسان من الطرق المودعة فيه و بين المدعى و هو أن من لوازم الألوهية أن تهدي
الإنسان إلى سعادته و تنزل على بعض أفراده الوحي و الكتاب.
و ليس المراد بها أن الله أفاض عليكم العلم بأشياء ما كان لكم من أنفسكم أن
تعلموا كما يفيده قوله تعالى: "و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة": النحل:
78 و قوله: "الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم": العلق: 5، فإن السياق
كما عرفت ينافي ذلك.
فالمراد بالآية تعليم ما ليس في وسع الإنسان بحسب الطرق المألوفة عنده التي جهز
بها أن ينال علمه، و ليس إلا ما أوحاه الله سبحانه إلى أنبيائه و حملة وحيه
بكتاب أو بغير كتاب من المعارف الإلهية و الأحكام و الشرائع فإنها هي التي لا
تسع الوسائل العادية التي عند عامة الإنسان أن تنالها.
و من هنا يظهر أن المخاطبين بهذا الكلام أعني قوله: "و علمتم ما لم تعلموا"
إلخ، ليسوا هم المشركين إذا لم يكن عندهم من معارف النبوة و الشرائع الإلهية
شيء بين يعرفونه و يعترفون به و الذي كانوا ورثوه من بقايا آثار النبوة من
أسلاف أجيالهم ما كانوا ليعترفوا به حتى يصح الاحتجاج به عليهم من غير بيان
كاف، و قد وصفهم الله بالجهل في أمثال قوله: "و قال الذين لا يعلمون لو لا
يكلمنا الله": البقرة: 118.
فالخطاب متوجه إلى غير المشركين، و ليس بموجه إلى المسلمين أما أولا: فلأن
السياق سياق الاحتجاج، و لو كان الخطاب متوجها إليهم لكان اعتراضا في سياق
الاحتجاج من غير نكتة ظاهرة.
و أما ثانيا: فلما فيه من تغيير مورد الخطاب، و العدول من خطاب المخاطبين
بقوله: "من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى" إلخ، إلى خطاب غيرهم بقوله: "و
علمتم" إلخ، من غير قرينة ظاهرة مع وقوع اللبس فالخطاب لغير المشركين و
المسلمين و هم اليهود المخاطبون بصدر الآية.
فقد احتج الله سبحانه على اليهود القائلين: "ما أنزل الله على بشر من شيء"
عنادا و ابتغاء للفتنة من طريقين: أحدهما: طريق المناقضة و هو أنهم مؤمنون
بالتوراة و أنها كتاب جاء به موسى (عليه السلام) نورا و هدى للناس و يناقضه
قولهم: "ما أنزل الله على بشر من شيء" ثم ذمهم على تقطيعها بقطعات يظهرون بعضها
و يخفون كثيرا.
و ثانيهما: أنكم علمتم ما لم يكن في وسعكم أن تعلموه أنتم من عند أنفسكم
بالاكتساب و لا في وسع آبائكم أن يعلموه فيورثوكم علمه و ذلك كالمعارف الإلهية
و الأخلاق الفاضلة و الشرائع و القوانين الناظمة للاجتماع و المعدلة له أحسن
نظم و تعديل الحاسمة لأعراق الاختلافات البشرية الاجتماعية فإنها و خاصة المواد
التشريعية من بينها ليست مما ينال بالاكتساب، و التي تنال منها من طريق
الاكتساب العقلي كالمعارف الكلية الإلهية من التوحيد و النبوة و المعاد و
الأخلاق الفاضلة في الجملة لا يكفي مجرد ذلك في استقرارها في المجتمع الإنساني،
فمجرد العلم بشيء غير دخوله في مرحلة العمل و استقراره في المستوى العام
الاجتماعي، فحب التمتع من لذائذ المادة و غريزة استخدام كل شيء في طريق التوصل
إلى الاستعلاء على مشتهيات النفس و التسلط التام على ما تدعو إليه أهواؤها لا
يدع مجالا للإنسان يبحث فيه عن كنوز المعارف و الحقائق المدفونة في فطرته ثم
يبني و يدوم عليها و في مسير حياته و خاصة إذا استولت هذه المادية على المجتمع
و استقرت في المستوى فإنها تكون لهم ظرفا يحصرهم في التمتعات المادية لا ينفذ
في شيء من أقطاره شيء من الفضائل الإنسانية، و لا يزال ينسى فيه ما بقي من
إثارة الفضائل المعنوية الموروثة واحدا بعد واحد حتى يعود مجتمعهم مجتمعا
حيوانيا ساذجا كما نشاهده في الظروف الراقية اليوم أنهم توغلوا في المادية و
استسلموا للتمتعات الحسية فشغلهم ذلك في أوقاتهم بثوانيها و صرفهم عن الآخرة
إلى الدنيا صرفا سلبهم الاشتغال بالمعنويات و منعهم أي تفكير في ما يسعدهم في
حياتهم الحقيقية الخالدة.
و لم يضبط التاريخ فيما ضبطه من أخبار الأمم و الملل رجلا من رجال السياسة و
الحكومة كان يدعو إلى فضائل الأخلاق الإنسانية و المعارف الطاهرة الإلهية، و
طريق التقوى و العبودية بل أقصى ما كانت تدعو إليه الحكومات الفردية
الاستبدادية - هو أن يتمهد الأمر لبقاء سلطتها و استقامة الأمر لها، و غاية ما
كانت تدعو إليه الحكومات الاجتماعية - الديمقراطية و ما يشابهها - أن ينظم أمر
المجتمع على حسب ما يقترحه هوى أكثرية الأفراد أيا ما اقترحه فضيلة أو رذيلة
وافق السعادة الحقيقية العقلية أو خالفها غير أنهم إذا خالفوا شيئا من الفضائل
المعنوية و الكمالات و المقاصد العالية الإنسانية التي بقيت أسماؤها عندهم و
ألجأتهم الفطرة إلى إعظامها و الاحترام لها كالعدل و العفة و الصدق و حب الخير
و نصح النوع الإنساني و الرأفة بالضعيف و غير ذلك فسروها بما يوافق جاري عملهم
و الدائر من سنتهم كما هو نصب أعيننا اليوم.
و بالجملة فالعقل الاجتماعي و الشعور المادي الحاكم في المجتمعات ليس مما يوصل
الإنسان إلى هذه المعارف الإلهية و الفضائل المعنوية التي لا تزال المجتمعات
الإنسانية على تنوعها و تطورها تتضمن أسماء كثيرة منها و احترام معانيها و أين
الإخلاد إلى الأرض من الترفع عن المادة و الماديات؟.
فليست إلا آثارا و بقايا من الدعوة الدينية المنتهية إلى نهضات الأنبياء و
مجاهداتهم في نشر كلمة الحق و بث دين التوحيد و هداية النوع الإنساني إلى
سعادته الحقيقية في حياته الدنيوية و الأخروية جميعا فهي منتهية إلى تعليم إلهي
من طريق الوحي و إنزال الكتب السماوية.
فقوله تعالى: "و علمتم ما لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم" احتجاج على اليهود في رد
قول القائل منهم: "ما أنزل الله على بشر من شيء" بأن عندكم من العلم النافع ما
لم تنالوه من أنفسكم و لا ناله و لا ورثه آباؤكم بل إنما علمتم به من غير هذا
الطريق و هو طريق إنزال الكتاب و الوحي من قبل الله على بعض البشر فقد أنزل
الله على بعض البشر ما علمه و هو المعارف الحقة و شرائع الدين، و قد كان عند
اليهود من هذا القبيل شيء كثير ورثوه من أنبيائهم و بثه فيهم كتاب موسى.
و قد ظهر مما تقدم أن المراد بقوله: "و علمتم ما لم تعلموا" مطلق ما ينتهي من
المعارف و الشرائع إلى الوحي و الكتاب لا خصوص ما جاء منه في كتاب موسى (عليه
السلام) و إن كان الذي منه عند اليهود هو معارف التوراة و شرائعه خلافا لبعض
المفسرين.
و ذلك أن لفظ الآية لا يلائم التخصيص فقد قيل: "و علمتم ما لم تعلموا إلخ، و لم
يقل و علمتم به أو و علمكم الله به.
و قد قيل: "و علمتم" إلخ، من غير فاعل التعليم لأن ذلك هو الأنسب بسياق
الاستدلال لأن ذكر الفاعل في هذا السياق أشبه بالمصادرة بالمطلوب فكأنه قيل: إن
فيما عندكم علوما لا ينتهي إلى اكتسابكم أو اكتساب آبائكم فمن الذي علمكم ذلك؟
ثم أجيب عن مجموع السؤالين بقوله: الله عز اسمه.
قوله تعالى: "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" لما كان الجواب واضحا بينا لا
يداخله ريب، و الجواب الذي هذا شأنه يسوغ للمستدل السائل أن يتكلفه و لا ينتظر
المسئول المحتج عليه، أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى هو
للجواب فقال: "قل الله" أي الذي أنزل الكتاب الذي جاء به موسى و الذي علمكم ما
لم تعلموا أنتم و لا آباؤكم هو الله.
و لما كان القول بأن الله لم ينزل على بشر شيئا من لغو القول و هزله الذي لا
يتفوه به إلا خائض لاعب بالحقائق و خاصة إذا كان القائل به من اليهود المعترفين
بتوراة موسى و المباهين بالعلم و الكتاب أمره بأن يدعهم و شأنهم فقال: "ثم ذرهم
في خوضهم يلعبون".
قوله تعالى: "و هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه و لتنذر أم القرى و
من حولها" لما نبه على أن من لوازم الألوهية أن ينزل الوحي على جماعة من البشر
هم الأنبياء (عليهم السلام)، و أن هناك كتابا حقا كالتوراة التي جاء بها موسى،
و أمورا أخرى علمها البشر لا تنتهي إلا إلى وحي إلهي و تعليم غيبي، ذكر أن هذا
القرآن أيضا كتاب إلهي منزل من عنده على حد ما نزل سائر الكتب السماوية، و من
الدليل على ذلك اشتماله على ما هو شأن كتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه.
و من هنا يظهر أولا: أن الغرض في المقام متعلق بكون القرآن كتابا نازلا من عند
الله تعالى دون من نزل عليه، و لذا قال: كتاب أنزلناه و لم يقل أنزلناه إليك
على خلاف موارد أخر كقوله تعالى: "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته": ص:
29 و غيره و ثانيا: أن الأوصاف المذكورة للكتاب بقوله: مبارك مصدق إلخ، بمنزلة
الأدلة على كونه نازلا من الله و ليست بأدلة فمن أمارات أنه منزل من عند الله
أنه مبارك أودع الله فيه البركة و الخير الكثير يهدي الناس للتي هي أقوم، يهدي
به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ينتفع به الناس في دنياهم باجتماع شملهم، و
قوة جمعهم، و وحدة كلمتهم، و زوال الشح من نفوسهم، و الضغائن من قلوبهم، و فشوا
الأمن و السلام، و رغد عيشهم، و طيب حياتهم و انجلاء الجهل و كل رذيلة عن
ساحتهم، و استظلالهم بمظلة سعادتهم، و ينتفعون به في أخراهم بالأجر العظيم و
النعيم المقيم.
و لو لم يكن من عند الله سواء كان مختلفا من عند بشر كشبكة يغر بها الناس
فيصطادون أو كان تزويقا نفسانيا أو إلقاء شيطانيا يخيل إلى الذي جاء به أنه وحي
سماوي من عند الله و ليس من عنده لم تستقر فيه و لا ترتب عليه هذه البركات
الإلهية و الخير الكثير فإن سبيل الشر لا يهدي سالكه إلا إلى الشر و لن ينتج
فساد صلاحا، و قد قال تعالى: "فإن الله لا يهدي من يضل": النحل: 37 و قال: "و
الله لا يهدي القوم الفاسقين": الصف: 5 و قال: "و البلد الطيب يخرج نباته بإذن
ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا": الأعراف: 58.
و من أمارات أنه حق أنه مصدق لما بين يديه من الكتب السماوية الحقة النازلة من
عند الله.
و من أمارات ذلك أنه يفي بالغرض الإلهي من خلقه و هو أن يهديهم إلى سعادة
حياتهم في الدنيا و الآخرة بالإنذار بوسيلة الوحي المنزل من عنده، و هذا هو
الذي يدل عليه قوله: "و لتنذر أم القرى و من حولها" فأم القرى هي مكة المشرفة،
و المراد أهلها بدليل قوله: "و من حولها" و المراد بما حولها سائر بلاد الأرض
التي يحيط بها أو التي تجاورها كما قيل، و الكلام يدل على عناية إلهية بأم
القرى و هي الحرم الإلهي منه بدىء بالدعوة و انتشرت الكلمة.
و من هذا البيان يظهر: أن الأنسب بالسياق أن يكون قوله: "و لتنذر أم القرى" و
خاصة على قراءة "لينذر" بصيغة الغيبة معطوفا على قوله: "مصدق" بما يشتمل عليه
من معنى الغاية، و التقدير: ليصدق ما بين يديه و لتنذر أم القرى على ما ذكره
الزمخشري، و قيل: إنه معطوف على قوله: "مبارك" و التقدير: أنزلناه لتنذر أم
القرى و من حولها.
قوله تعالى: "و الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون" إلخ، كأنه تفريع لما عده الله
سبحانه من أوصاف هذا الكتاب الذي أنزله أي لما كان هذا الكتاب الذي أنزلناه
مباركا و مصدقا لما بين يديه نازلا لغاية إنذار أهل الأرض فالمؤمنون بالآخرة
يؤمنون به لأنه يدعو إلى أمن أخروي دائم و يحذرهم من عذاب خالد.
ثم عرف تعالى هؤلاء المؤمنين بالآخرة بما هو من أخص صفات المؤمنين و هو أنهم
على صلاتهم و هي عبادتهم التي يذكرون فيها ربهم يحافظون، و هذه هي الصفة التي
ختم الله به صفات المؤمنين التي وصفهم بها في أول سورة المؤمنين إذ قال: "الذين
هم على صلواتهم يحافظون": المؤمنون: 9، كما بدأ بمعناها في أولها فقال "الذين
هم في صلاتهم خاشعون": المؤمنون: 2.
و هذا هو الذي يؤيد أن المراد بالمحافظة في هذه الآية هو الخشوع في الصلاة و هو
نحو تذلل و تأثر باطني عن العظمة الإلهية عند الانتصاب في مقام العبودية لكن
المعروف من تفسيره أن المراد بالمحافظة على الصلاة المحافظة على وقتها.
كلام في معنى البركة في القرآن
ذكر الراغب في المفردات،: أن أصل البرك - بفتح الباء - صدر البعير و إن استعمل
في غيره و يقال له بركة - بكسر الباء - و برك البعير ألقى ركبه، و اعتبر منه
معنى الملزوم فقيل: ابتركوا في الحرب أي ثبتوا و لازموا موضع الحرب، و براكاء
الحرب و بروكاؤها للمكان الذي يلزمه الأبطال، و ابتركت الدابة وقفت وقوفا
كالبروك، و سمي محبس الماء بركة، و البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، قال
تعالى: لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض، و سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت
الماء في البركة، و المبارك ما فيه ذلك الخير، على ذلك: هذا ذكر مبارك أنزلناه.
قال: و لما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس و على وجه لا يحصى و لا يحصر
قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة: هو مبارك و فيه بركة، و إلى هذه
الزيادة أشير بما روي: أنه لا ينقص مال من صدقة، لا إلى النقصان المحسوس حسب ما
قال بعض الخاسرين حيث قيل له ذلك فقال: بيني و بينك الميزان.
ثم ذكر: أن المراد بتباركه تعالى اختصاصه بالخيرات، انتهى.
فالبركة بالحقيقة هي الخير المستقر في الشيء اللازم له كالبركة في النسل و هي
كثرة الأعقاب أو بقاء الذكر بهم خالدا، و البركة في الطعام أن يشبع به خلق كثير
مثلا، و البركة في الوقت أن يسع من العمل ما ليس في سعة مثله أن يسعه.
غير أن المقاصد و المآرب الدينية لما كانت مقصورة في السعادات المعنوية أو
الحسية التي تنتهي إليها بالأخرة كان المراد بالبركة الواقعة في الظواهر التي
فيها هو الخير المعنوي أو ينتهي إليه كما أن مباركته تعالى الواقعة في قول
الملائكة النازلين على إبراهيم (عليه السلام): "رحمة الله و بركاته عليكم أهل
البيت": هود: 73 خيرات متنوعة معنوية كالدين و القرب و غيرهما و حسية كالمال و
كثرة النسل و بقاء الذكر و غيرها و جميعها مربوطة بخيرات معنوية.
و على هذا فالبركة أعني كون الشيء مشتملا على الخير المطلوب كالأمر النسبي
يختلف باختلاف الأغراض لأن خيرية الشيء إنما هي بحسب الغرض المتعلق به فالغرض
من الطعام ربما كان إشباعه الجائع أو أن لا يضر آكله أو أن يؤدي إلى شفاء و
استقامة مزاج أو يكون نورا في الباطن يتقوى به الإنسان على عبادة الله و نحو
ذلك كانت البركة فيه استقرار شيء من هذه الخيرات فيه بتوفيق الله تعالى بين
الأسباب و العوامل المتعلقة به و رفعه الموانع.
و من هنا يظهر أن نزول البركة الإلهية على شيء و استقرار الخير فيه لا ينافي
عمل سائر العوامل فيه و اجتماع الأسباب عليه فليس معنى إرادة الله صفة أو حالة
في شيء أن يبطل سائر الأسباب و العلل المقتضية له - و قد مر كرارا في أبحاثنا
السابقة - فإنما الإرادة الإلهية سبب في طول الأسباب الأخر لا في عرضها.
فإنزاله تعالى بركته على طعام مثلا هو أن يوفق بين الأسباب المختلفة الموجودة
في أن لا تقتضي في الإنسان كيفية مزاجية يضره معها هذا الطعام، و أن لا تقتضي
فساده أو ضيعته أو سرقته أو نهبه أو نحو ذلك، و ليس معناه أن يبطل الله سائر
الأسباب و يتكفل هو تعالى إيجاد الخير فيها من غير توسيطها فافهم ذلك.
و البركة كثيرة الدور في لسان الدين فقد ورد في الكتاب العزيز ذكرها في آيات
كثيرة بألفاظ مختلفة و كذا ورودها في السنة، و قد تكرر ذكر البركة أيضا في
العهدين في موارد كثيرة يذكر فيها إعطاء الله سبحانه البركة للنبي الفلاني أو
إعطاء الكهنة البركة لغيرهم و قد كان أخذ البركة في العهد القديم كالسنة
الجارية.
و قد ظهر مما تقدم بطلان زعم المنكرين لوجود البركة كما نقلناه عن الراغب فيما
تقدم من عبارته فقد زعموا أن عمل الأسباب الطبيعية في الأشياء لا يدع مجالا
لسبب آخر يعمل فيه أو يبطل أثرها و قد ذهب عنهم أن تأثيره تعالى في الأشياء في
طول سائر الأسباب لا في عرضها حتى يئول الأمر إلى تزاحم أو إبطال و نحوهما.
قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا إلى قوله - ما أنزل الله" عد
الله سبحانه موارد ثلاثة من الظلم هي من أشد مراتبه التي لا يرتاب العقل العادي
في شناعتها و فظاعتها، و لذا أوردها في سياق السؤال.
و الغرض من ذلك الدعوة إلى النزول على حكم العقل السليم و الأخذ بالنصفة و خفض
الجناح لصريح الحق فكأنه يقول: قل لهم: يجب علي و عليكم أن لا نستكبر عن الحق و
لا نستعلي على الله تعالى بارتكاب ما هو من أشد الظلم و أشنعه و هو الظلم في
جنب الله فكيف يصح لكم أن تفتروا على الله كذبا و تدعوا له شركاء تتخذونها
شفعاء؟ و كيف يسوغ لي أن أدعي النبوة و أقول: أوحي إلي إن كنت لست بنبي يوحى
إليه؟ و كيف يجوز لقائل أن يقول: سأنزل مثل ما أنزل الله، فيسخر بحكم الله و
يستهزىء بآياته؟.
و نتيجة هذه الدعوة أن ينقادوا لحكم النبوة فإنهم إذا اجتنبوا الافتراء على
الله بالشرك، و كف القائل "سأنزل مثل ما أنزل الله" عن مقاله و النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) يصر على الوحي بقيت نبوته بلا معارض.
و افتراء الكذب على الله سبحانه و هو أول المظالم المعدودة و إن كان أعم
بالنسبة إلى دعوى الوحي إذا لم يوح إليه و هو ثاني المظالم المعدودة، و لذا
قيل: إن ذكر الثاني بعد الأول من باب ذكر الخاص بعد العام اعتناء بشأن الوحي و
إعظاما لأمره، لكن التأمل في سياق الكلام و وجهه إلى المشركين يعطي أن المراد
بالافتراء المذكور هو اتخاذ الشريك لله سبحانه، و إنما لم يصرح بذلك ليرتفع به
غائلة ذكر الخاص بعد العام لأن الغرض في المقام - كما تقدم - هو الدعوة إلى
الأخذ بالنصفة و التجافي عن عصبية الجاهلية فلم يصرح بالمقصود و إنما أبهم
إبهاما لئلا يتحرك بذلك عرق العصبية و لا يتنبه داعي النخوة.
فقوله: "ممن افترى على الله كذبا" و قوله: "أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه"
متباينان من حيث المراد و إن كانا بحسب ظاهر ما يتراءى منهما أعم و أخص.
و يدل على ما ذكرنا ما في ذيل الآية من حديث التهديد بالعذاب و السؤال عن
الشركاء و الشفعاء.
و أما ما قيل: إن قوله: "أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء" نزل في مسيلمة حيث
ادعى النبوة فسياق الآيات كما عرفت لا يلائمه بل ظاهره أن المراد به نفسه و إن
كان الكلام مع الغض عن ذلك أعم.
على أن سورة الأنعام مكية و دعواه النبوة من الحوادث التي وقعت بعد الهجرة إلا
أن هؤلاء يرون أن الآية مدنية غير مكية و سيأتي الكلام في ذلك في البحث الروائي
التالي إن شاء الله.
و أما قوله: "و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله" فظاهره أنه حكاية قول واقع، و
أن هناك من قال: سأنزل مثل ما أنزل الله، و أنه إنما قاله استهزاء بالقرآن
الكريم حيث نسبه إلى الله سبحانه بالنزول ثم وعد الناس مثله بالإنزال، و لم
يقل: سأقول مثل ما قاله محمد أو سآتيكم بمثل ما أتاكم به.
و لذا ذكر بعض المفسرين أنه إشارة إلى قول من قال من المشركين: "لو نشاء لقلنا
مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين".
و قال آخرون: إن الآية إشارة إلى قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح: إني أنزل مثل
ما أنزل الله و الآية مدنية، و منهم من قال غير ذلك كما سيجيء إن شاء الله في
البحث الروائي، و الآية ليست ظاهرة الانطباق على شيء من ذلك فإنها تتضمن الوعد
بأمر مستقبل، و قولهم: لو نشاء لقلنا "إلخ" كلام مشروط و كذا قول عبد الله - إن
صحت الرواية - إخبار عن أمر حالي جار واقع.
و كيف كان فقوله: "و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله" يحكي قولا قاله بعض
المشركين من العرب استكبارا على آيات الله، و إنما كرر فيه الموصول أعني قوله:
"من" و لم يتكرر في قوله: "أو قال أوحي إلي" "إلخ" لأن المظالم المعدودة و إن
كانت ثلاثة لكنها من نظرة أخرى قسمان فالأول و الثاني من الظلم في جنب الله في
صورة الخضوع لجانبه و الانقياد لأمره، و الثالث من الظلم في صورة الاستعلاء
عليه و الاستكبار عن آياته.
قوله تعالى: "و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت" إلى آخر الآية، الغمر أصله
ستر الشيء و إزالة أثره و لذا يطلق الغمرة على الماء الكثير الساتر لما تحته، و
على الجهل المطبق، و على الشدة التي تحيط بصاحبها و الغمرات الشدائد، و منه
قوله تعالى: "في غمرات الموت"، و الهون و الهوان الذلة.
و بسط اليد معناه واضح غير أن المراد به معنى كنائي، و يختلف باختلاف الموارد
فبسط الغني يده جوده بماله و إحسانه لمن يستحقه، و بسط الملك يده إدارته أمور
مملكته من غير أن يزاحمه مزاحم و بسط المأمور الغليظ الشديد يده على المجرم
المأخوذ به هو نكاله و إيذاؤه بضرب و زجر و نحوه.
فبسط الملائكة أيديهم هو شروعهم بتعذيب الظالمين، و ظاهر السياق أن الذي تفعله
الملائكة بهؤلاء الظالمين هو الذي يترجم عنه قوله: "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون
عذاب الهون" إلخ، فهذه الجمل محكية عن الملائكة لا من قول الله سبحانه، و
التقدير: يقول الملائكة لهم أخرجوا أنفسكم "إلخ" فهم يعذبونهم بقبض أرواحهم
قبضا يذوقون به أليم العذاب و هذا عذابهم حين الموت و لما ينتقلوا من الدنيا
إلى ما وراءها و لهم عذاب بعد ذلك و لما تقم عليهم القيامة كما يشير إليه قوله
تعالى: "و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون": المؤمنون: 100.
و بذلك يظهر أن المراد باليوم في قوله: "اليوم تجزون" هو يوم الموت الذي يجزون
فيه العذاب و هو البرزخ كما ظهر أن المراد بالظالمين هم المرتكبون لبعض المظالم
الثلاثة التي عدها الله سبحانه من أشد الظلم أعني افتراء الكذب على الله، و
دعوى النبوة كذبا و الاستهزاء بآيات الله.
و يؤيد ذلك ما ذكره الله من أسباب عذابهم من الذنوب و هو قولهم على الله غير
الحق كما هو شأن المفتري الكذب على الله بنسبة الشريك إليه أو بنسبة حكم تشريعي
أو وحي كاذب إليه، و استكبارهم عن آيات الله كما هو شأن من كان يقول: "سأنزل
مثل ما أنزل الله".
و كذلك قوله: "أخرجوا أنفسكم" أمر تكويني لأن الموت و الوفاة ليس في قدرة
الإنسان كالحياة حتى يؤمر بذلك قال تعالى: "و أنه هو أمات و أحيا": النجم: 44
فالأمر تكويني و الملائكة من أسبابه، و الكلمة مصوغة صوغ الاستعارة بالكناية و
الاستعارة التخييلية كأن النفس الإنسانية أمر داخل في البدن و به حياته و
بخروجه عن البدن طرو الموت و ذلك أن كلامه تعالى ظاهر في أن النفس ليست من جنس
البدن و لا من سنخ الأمور المادية الجسمانية و إنما لها سنخ آخر من الوجود يتحد
مع البدن و يتعلق به نوعا من الاتحاد و التعلق غير مادي كما تقدم بيانه في بحث
علمي في الجزء الأول من الكتاب و سيأتي في مواضع تناسبه إن شاء الله.
فالمراد بقوله: "أخرجوا أنفسكم" قطع علقة أنفسهم من أبدانهم و هو الموت، و
القول قول الملائكة على ما يعطيه السياق.
و المعنى: و ليتك ترى حين يقع هؤلاء الظالمون المذكورون في شدائد الموت و
سكراته و الملائكة آخذون في تعذيبهم بالقبض الشديد العنيف لأرواحهم و إنبائهم
بأنهم واقعون في عالم الموت معذبون فيه بعذاب الهون و الذلة جزاء لقولهم على
الله غير الحق و لاستكبارهم عن آياته.
قوله تعالى: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" إلى آخر الآية الفرادى
جمع فرد و هو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعا من الاختلاط و يقابله الزوج و هو
الذي يختلط بغيره بنحو و يقرب منهما بحسب المعنى الوتر و الشفع فالوتر ما لم
ينضم إلى غيره و الشفع ما انضم إلى غيره، و التخويل إعطاء الخول أي المال و
نحوه الذي يقوم الإنسان به بالتدبير و التصرف.
و المراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله
فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه، و الآية تنبىء عن حقيقة الحياة
الإنسانية التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه و
أنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، و أن
المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب و الاعتضاد و الانتصار
بالأموال و الأولاد و الأزواج و العشائر و الجموع، و كذا الاستشفاع بالأرباب من
دون الله المؤدي إلى الإشراك كل ذلك مزاعم و أفكار باطلة لا أثر لها في ساحة
التكوين أصلا.
فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي
غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، و لا حكومة لشيء من الأشياء في
التدبير و التسيير الإلهي إلا أنها أسباب و علل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من
غير أن تستقل بشيء من التأثير.
غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة و أوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة و
الأسباب و الشفعاء الظاهرة و جذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها و دعته ذلك إلى
التمسك بذيل الأسباب و الخضوع لها، و ألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب
و فاطرها و الذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية لا هم له إلا أن
ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا
بهذه المزاعم و الأوهام التي أوقعته فيها نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية،
و استوعب حياته اللعب بالباطل و التلهي به عن الحق كما قال تعالى: "و ما هذه
الحياة الدنيا إلا لهو و لعب": العنكبوت: 64.
فهذا هو الذي يسوق إليه تعليم القرآن حيث يذكر أن الإنسان إذا خرج عن زي
العبودية نسي ربه فأداه ذلك إلى نسيان نفسه قال تعالى: "نسوا الله فأنساهم
أنفسهم أولئك هم الفاسقون": الحشر: 19.
لكن الإنسان إذا فارقت نفسه البدن بحلول الموت بطل ارتباطه بجميع الأسباب و
العلل و المعدات المادية التي كانت ترتبط بها من جهة البدن و تتصل بها في هذه
النشأة الدنيوية و شاهد عند ذلك بطلان استقلالها و اندكاك عظمتها و تأثيرها
فوقعت عين بصيرته على أن أمره أولا و آخرا إلى ربه لا غير و أن لا رب له سواه و
لا مؤثر في شأنه دونه.
فقوله تعالى: "و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة" إشارة إلى حقيقة
الأمر، و قوله: "و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم" إلخ، بيان لبطلان الأسباب
الملهية له عن ربه المتخللة بين أول خلقه و بين يوم يقبض فيه إلى ربه، و قوله:
"لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون" بيان لسبب انقطاعه من الأسباب و
سقوطها عن الاستقلال و التأثير، و أن السبب في ذلك انكشاف بطلان المزاعم التي
كان الإنسان يلعب بها طول حياته الدنيا.
فيتبين بذلك أن ليس لهذه الأسباب و الضمائم في الإنسان من النصيب إلا أوهام و
مزاعم يتلهى و يلعب بها الإنسان.
قوله تعالى: "إن الله فالق الحب و النوى" إلى آخر الآية.
الفلق هو الشق.
لما انتهى الكلام في الآية السابقة إلى نفي استقلال الأسباب في تأثيرها، و
بطلان كون أربابهم شفعاء من دون الله المؤدي إلى كونهم شركاء لله صرف الكلام
إلى بيان أن هذه التي يشتغل بها الإنسان عن ربه ليست إلا مخلوقات لله مدبرة
بتدبيره، و لا تؤثر أثرا و لا تعمل عملا في إصلاح حياة الإنسان و سوقه إلى
غايات خلقته إلا بتقدير من الله و تدبير يدبره هو لا غير فهو تعالى الرب دون
غيره.
فالله سبحانه هو يشق الحب و النوى فينبت منهما النبات و الشجر اللذين يرتزق
الناس من حبه و ثمره، و هو يخرج الحي من الميت و الميت من الحي - و قد مر تفسير
ذلك في الكلام على الآية 27 من سورة آل عمران - ذلكم الله لا غير فأنى تؤفكون و
إلى متى تصرفون من الحق إلى الباطل.
قوله تعالى: "فالق الإصباح و جعل الليل سكنا" إلى آخر الآية.
الإصباح بكسر الهمزة هو الصبح و هو في الأصل مصدر، و السكن ما يسكن إليه، و
الحسبان جمع حساب، و قيل: هو مصدر حسب حسابا و حسبانا.
و قوله: "و جعل الليل سكنا" عطف على قوله: "فالق الإصباح" و لا ضير في عطف
الجملة الفعلية على الاسمية إذا اشتملت على معنى الفعل و قرىء: "و جاعل".
و في فلق الصبح و جعل الليل سكنا يسكن فيه المتحركات عن حركاتها لتجديد القوى و
دفع ما عرض لها من التعب و العي و الكلال من جهة حركاتها طول النهار، و جعل
الشمس و القمر بما يظهر من الليل و النهار و الشهور و السنين من حركاتهما في
ظاهر الحس حسبانا تقدير عجيب للحركات في هذه النشأة المتغيرة المتحولة ينتظم
بذلك نظام المعاش الإنساني و يستقيم به أمر حياته، و لذلك ذيلها بقوله: "ذلك
تقدير العزيز العليم" فهو العزيز الذي لا يقهره قاهر فيفسد عليه شيئا من
تدبيره، و العليم الذي لا يجهل بشيء من مصالح مملكته حتى ينظمه نظما ربما يفسد
من نفسه و لا يدوم بطبعه.
قوله تعالى: "و هو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها" إلى آخر الآية.
المعنى واضح و المراد بتفصيل الآيات إما تفصيلها بحسب الجعل التكويني أو
تفصيلها بحسب البيان اللفظي.
و لا تنافي بين إرادة مصالح الإنسان في حياته و عيشته في هذه النشأة مما يتراءى
لظاهر الحس من حركات هذه الأجرام العظيمة العلوية و الكرات المتجاذبة السماوية،
و بين كون كل من هذه الأجرام مرادا بإرادة إلهية مستقلة و مخلوقة بمشية تتعلق
بنفسه و تخص شخصه فإن الجهات مختلفة، و تحقق بعض هذه الجهات لا يدفع تحقق بعض
آخر و الارتباط و الاتصال حاكم على جميع أجزاء العالم.
قوله تعالى: "و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر و مستودع" إلى آخر الآية،
قرىء "مستقر" بفتح القاف و كسرها و هو على القراءة الأولى اسم مكان بمعنى محل
الاستقرار فيكون "مستودع" أيضا اسم مكان بمعنى محل الاستيداع و هو المكان الذي
توضع فيه الوديعة.
و قد وقع ذكر المستقر و المستودع في قوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض إلا
على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها كل في كتاب مبين": "هود: 6" و في
الكلام حذف و إيجاز، و التقدير: فمنكم من هو في مستقر و منكم من هو في مستودع،
و على القراءة الثانية و هي الرجحى "مستقر" اسم فاعل و يكون المستودع اسم مفعول
لا محالة، و التقدير فمنكم مستقر و منكم مستودع لم يستقر بعد.
و الظاهر أن المراد بقوله: "و هو الذي أنشأكم من نفس واحدة" انتهاء الذرية
الإنسانية على كثرتها و انتشارها إلى آدم الذي يعده القرآن الكريم مبدأ للنسل
الإنساني الموجود، و أن المراد بالمستقر هو البعض الذي تلبس بالولادة من أفراد
الإنسان فاستقر في الأرض التي هي المستقر لهذا النوع كما قال تعالى: "و لكم في
الأرض مستقر": البقرة: 36، و المراد بالمستودع من استودع في الأصلاب و الأرحام
و لم يولد بعد و سيولد بعد حين فهذا هو المناسب لمقام بيان الآية بإنشاء جميع
الأفراد النوعية من فرد واحد و من الممكن أن يؤخذ مستقر و مستودع مصدرين
ميميين.
و قد عبر بلفظ الإنشاء دون الخلق و نحوه و هو ظاهر في الدفعة و ما في حكمه دون
التدريج، و يؤيد هذا المعنى أيضا ما تقدم من قوله تعالى: "و ما من دابة في
الأرض إلا على الله رزقها و يعلم مستقرها و مستودعها" كما لا يخفى أي يعلم ما
استقر منها في الأرض بفعلية التكون "و ما هو في طريق التكون مما لم يتكون
بالفعل و لم يستقر في الأرض.
فالمعنى: و هو الذي أوجدكم معشر الأناسي من نفس واحدة و عمر بكم الأرض إلى حين
فهي مشغولة بكم ما لم تنقرضوا فلا يزال بعضكم مستقرا فيها و بعضكم مستودع في
الأصلاب و الأرحام أو في الأصلاب فقط في طريق الاستقرار فيها.
و قد أورد المفسرون في الآية معاني أخر كقول بعضهم: إن المراد من إنشائهم من
نفس واحدة خلقهم من نوع واحد من النفس و هو النفس الإنسانية "أو إن المراد هو
الإنشاء من نوع واحد من التركيب النفسي و البدني، و هو الحقيقة الإنسانية
المؤلفة من نفس و بدن إنسانيين.
و كقول بعضهم: إن المراد بالمستقر الأرحام و بالمستودع الأصلاب و قول بعض آخر:
إن المستقر الأرض و المستودع القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الرحم و
المستودع الأرض أو القبر، و قول بعض آخر: إن المستقر هو الروح و المستودع هو
البدن، إلى غير ذلك من أقاويلهم التي لا كثير جدوى في التعرض لها.
قوله تعالى: "هو الذي أنزل من السماء ماء" إلى آخر الآية.
السماء هي جهة العلو فكلما علاك و أظلك فهو سماء، و المراد بقوله: "فأخرجنا به
نبات كل شيء" على ما قيل، فأخرجنا بالماء الذي أنزلناه من السماء النبات و
النمو الذي في كل شيء نام له قوة النبات من الكمون إلى البروز، أي أنبتنا به كل
شيء نباتي كالنجم و الشجر و الإنسان و سائر الحيوان.
و الخضر هو الأخضر و كأنه مخفف الخاضر، و تراكب الحب انعقاد بعضه فوق بعض كما
في السنبلة، و الطلع أول ما يبدو من ثمر النخل، و القنوان جمع قنو و هو العذق
بالكسر و هو من التمر كالعنقود من العنب، و الدانية أي القريبة، و المشتبه و
غير المتشابه المشاكل و غير المشاكل في النوع و الشكل و غيرهما.
و ينع الثمر نضجه.
و قد ذكر الله سبحانه أمورا مما خلقه لينظر فيها من له نظر و بصيرة فيهتدي
بالنظر فيها إلى توحيده، و هي أمور أرضية كفلق الحبة و النواة و نحو ذلك، و
أمور سماوية كالليل و الصبح و الشمس و القمر و النجوم، و أمر راجع إلى الإنسان
نفسه و هو إنشاء نوعه من نفس واحدة فمستقر و مستودع، و أمور مؤلفة من الجميع
كإنزال المطر من السماء و تهيئة الغذاء من نبات و حب و ثمر و إنبات ما فيه قوة
النمو كالنبات و الحيوان و الإنسان من ذلك.
و قد عد النجوم آية خاصة بقوم يعلمون، و إنشاء النفوس الإنسانية آية خاصة بقوم
يفقهون، و تدبير نظام الإنبات آية لقوم يؤمنون و المناسبة ظاهرة فإن النظر في
أمر النظام أمر بسيط لا يفتقر إلى مئونة زائدة بل يناله الفهم العادي بشرط أن
يتنور بنصفة الإيمان و لا يتلطخ بقذارة العناد و اللجاج، و أما النظر في النجوم
و الأوضاع السماوية فمما لا يتخطى العلماء بهذا الشأن ممن يعرف النجوم و
مواقعها و سائر الأوضاع السماوية إلى حد ما و لا يناله الفهم العام العامي إلا
بمئونة: و أما آية الأنفس فإن الاطلاع عليها و على ما عندها من أسرار الخلقة
يحتاج مضافا إلى البحث النظري إلى مراقبة باطنية و تعمق شديد و تثبت بالغ و هو
الفقه.
قوله تعالى: "و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم" إلى آخر الآية.
الجن إما مفعول لجعلوا و مفعوله الآخر شركاء أو بدل من شركاء، و قوله: "و
خلقهم" كأنه حال و إن منعه بعض النحاة و حجتهم غير واضحة.
و كيف كان فالكلمة في مقام ردهم، و المعنى و جعلوا له شركاء الجن و هو خلقهم و
المخلوق لا يجوز أن يشارك خالقه في مقامه.
و المراد بالجن الشياطين كما ينسب إلى المجوس القول: بأهرمن و يزدان و نظيره ما
عليه اليزيدية الذين يقولون بألوهية إبليس الملك طاووس - شاه بريان أو الجن
المعروف بناء على ما نسب إلى قريش أنهم كانوا يقولون: إن الله قد صاهر الجن
فحدث بينهما الملائكة، و هذا أنسب بسياق قوله: "و جعلوا لله شركاء الجن و خلقهم
و خرقوا له بنين و بنات بغير علم" و على هذا فالبنون و البنات هم جميعا من
الملائكة خرقوهم أي اختلقوهم و نسبوهم إليه افتراء عليه سبحانه و تعالى عما
يشركون.
و لو كان المراد من هو أعم من الملائكة لم يبعد أن يكون المراد بهم ما يوجد في
سائر الملل غير الإسلام فالبرهمنية و البوذية يقولون بنظير ما قالته النصارى من
بنوة المسيح كما تقدم في الجزء الثالث من الكتاب، و سائر الوثنيين القدماء
كانوا يثبتون لله سبحانه بنين و بنات من الآلهة على ما يدل عليه الآثار
المكتشفة، و مشركو العرب كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله.
قوله تعالى: "بديع السماوات و الأرض" إلى آخر الآية.
جواب عن قولهم بالبنين و البنات، و محصله أن لا سبيل لتحقق حقيقة الولد إلا
اتخاذ الصاحبة و لم يكن له تعالى صاحبة فأنى يكون له ولد؟.
و أيضا هو تعالى الخالق لكل شيء و فاطره، و الولد هو الجزء من الشيء يربيه بنوع
من اللقاح و جزء الشيء و المماثل له لا يكون مخلوقا له البتة، و يجمع الجميع
أنه تعالى بديع السماوات و الأرض الذي لا يماثله شيء من أجزائها بوجه من الوجوه
فكيف يكون له صاحبة يتزوج بها أو بنون و بنات يماثلونه في النوع فهذا أمر يخبر
به الله الذي لا سبيل للجهل إليه فهو بكل شيء عليم، و قد تقدم في الكلام على
قوله تعالى: "و ما كان لبشر أن يؤتيه الله" إلخ،: آل عمران: 79 في الجزء الثالث
من الكتاب ما ينفع في المقام.
قوله تعالى: "ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء" إلى آخر الآيتين
الجملة الأولى أعني قوله: "ذلكم الله ربكم" نتيجة متخذة من البيان المورد في
الآيات السابقة، و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكر فالله الذي وصفناه هو ربكم
لا غير، و قوله: "لا إله إلا هو" كالتصريح بالتوحيد الضمني الذي تشتمل عليه
الجملة السابقة، و هو مع ذلك يفيد معنى التعليل أي هو الرب ليس دونه رب لأنه
الله الذي ليس دونه إله و كيف يكون غيره ربا و ليس بإله.
و قوله: "خالق كل شيء" تعليل لقوله: "لا إله إلا هو" أي إنما انحصرت الألوهية
فيه لأنه خالق كل شيء من غير استثناء فلا خالق غيره لشيء من الأشياء حتى يشاركه
في الألوهية، و كل شيء مخلوق له خاضع له بالعبودية فلا يعادله فيها.
و قوله: "فاعبدوه" متفرع كالنتيجة على قوله "ذلكم الله ربكم" أي إذا كان الله
سبحانه هو ربكم لا غير فاعبدوه، و قوله: "و هو على كل شيء وكيل" أي هو القائم
على كل شيء المدبر لأمره الناظم نظام وجوده و حياته و إذا كان كذلك كان من
الواجب أن يتقى فلا يتخذ له شريك بغير علم فالجملة كالتأكيد لقوله: "فاعبدوه"
أي لا تستنكفوا عن عبادته لأنه وكيل عليكم غير غافل عن نظام أعمالكم.
و أما قوله: "لا تدركه الأبصار" فهو لدفع الدخل الذي يوهمه قوله: "و هو على كل
شيء وكيل" بحسب ما تتلقاه أفهام المشركين الساذجة و الخطاب معهم، و هو أنه إذا
صار وكيلا عليهم كان أمرا جسمانيا كسائر الجسمانيات التي تتصدى الأعمال
الجسمانية فدفعه بأنه تعالى لا تدركه الأبصار لتعاليه عن الجسمية و لوازمها، و
قوله: "و هو يدرك الأبصار" دفع لما يسبق إلى أذهان هؤلاء المشركين الذين
اعتادوا بالتفكر المادي، و أخلدوا إلى الحس و المحسوس و هو أنه تعالى إذا ارتفع
عن تعلق الأبصار به خرج عن حيطة الحس و المحسوس و بطل نوع الاتصال الوجودي الذي
هو مناط الشعور و العلم، و انقطع عن مخلوقاته فلا يعلم بشيء كما لا يعلم به
شيء، و لا يبصر شيئا كما لا يبصره شيء فأجاب تعالى عنه بقوله: "و هو يدرك
الأبصار" ثم علل هذه الدعوى بقوله: "و هو اللطيف الخبير" و اللطيف هو الرقيق
النافذ في الشيء، و الخبير من له الخبرة، فإذا كان تعالى محيطا بكل شيء بحقيقة
معنى الإحاطة كان شاهدا على كل شيء لا يفقده ظاهر شيء من الأشياء و لا باطنه، و
هو مع ذلك ذو علم و خبرة كان عالما بظواهر الأشياء و بواطنها من غير أن يشغله
شيء عن شيء أو يحتجب عنه شيء بشيء فهو تعالى يدرك البصر و المبصر معا، و البصر
لا يدرك إلا المبصر.
و قد نسب إدراكه إلى نفس الأبصار دون أولي الأبصار لأن الإدراك الموجود فيه
تعالى ليس من قبيل إدراكاتنا الحسية حق يتعلق بظواهر الأشياء من أعراضها كالبصر
مثلا الذي يتعلق بالأضواء و الألوان و يدرك به القرب و البعد و العظم و الصغر و
الحركة و السكون بنحو بل الأغراض و موضوعاتها بظواهرها و بواطنها حاضرة عنده
مكشوفة له غير محجوبة عنه و لا غائبة فهو تعالى يجد الأبصار بحقائقها و ما
عندها و ليست تناله.
ففي الآيتين من سطوح البيان و سهولة الطريق و إيجاز القول ما يحير اللب و هما
مع ذلك تهديان المتدبر فيهما إلى أسرار دونها أستار.
كلام في عموم الخلقة و انبساطها على كل شيء
قوله تعالى:
"ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء" ظاهره و عموم الخلقة
لكل شيء و انبساط إيجاده تعالى على كل ما له نصيب من الوجود و التحقق، و قد
تكرر هذا اللفظ أعني قوله تعالى: "الله خالق كل شيء" منه تعالى في كلامه من غير
أن يوجد فيه ما يصلح لتخصيصه بوجه من الوجوه قال تعالى: "قل الله خالق كل شيء و
هو الواحد القهار": الرعد: 16 و قال تعالى: "الله خالق كل شيء و هو على كل شيء
وكيل": الزمر: 62، و.
قال تعالى "ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو": المؤمن: 62.
و قد نشبت بين الباحثين من أهل الملل في هذه المسألة مشاجرات عجيبة يتبعها
أقاويل مختلفة حتى من المتكلمين و الفلاسفة من النصارى و اليهود فضلا عن متكلمي
الإسلام و فلاسفته، و لا يهمنا المبادرة إلى إيراد أقوالهم و آرائهم و التكلم
معهم، و إنما بحثنا هذا قرآني تفسيري لا شغل لنا بغير ما يتحصل به الملخص من
نظر القرآن الكريم بالتدبر في أطراف آياته الشريفة.
نجد القرآن الكريم يسلم ما نتسلمه من أن الموضوعات الخارجية و الأشياء الواقعة
في دار الوجود كالسماء و كواكبها و نجومها و الأرض و جبالها و وهادها و سهلها و
بحرها و برها و عناصرها و معدنياتها و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و
المطر و البرد و النجم و الشجر و الحيوان و الإنسان لها آثار و خواص هي أفعالها
و هي تنسب إليها نسبة الفعل إلى فاعله و المعلول إلى علته.
و نجده يصدق أن للإنسان كسائر الأنواع الموجودة أفعالا تستند إليه و تقوم به
كالأكل و الشرب و المشي و القعود و كالصحة و المرض و النمو و الفهم و الشعور و
الفرح و السرور من غير أن يفرق بينه و بين غيره من الأنواع في شيء من ذلك فهو
يخبر عن أعماله و يأمره و ينهاه، و لو لا أن له فعلا لم يرجع شيء من ذلك إلى
معنى محصل.
فالقرآن يزن الواحد من الإنسان بعين ما نزنه نحن معشر الإنسان في مجتمعنا
فنعتقد أن له أفعالا و آثارا منسوبة إليه نؤاخذه في بعض أفعاله التي ترجع بنحو
إلى اختياره كالأكل و الشرب و المشي و نصفح عنه فيما لا يرجع إلى اختياره من
آثاره القائمة به كالصحة و المرض و الشباب و المشيب و غير ذلك.
فالقرآن ينظم النظام الموجود مثل ما ينتظم عند حواسنا و تؤيده عقولنا بما شفعت
به من التجارب، و هو أن أجزاء هذا النظام على اختلاف هوياتها و أنواعها فعالة
بأفعالها مؤثرة متأثرة في غيرها و من غيرها و بذلك تلتئم أجزاء النظام الموجود
الذي لكل جزء منها ارتباط تام بكل جزء، و هذا هو قانون العلية العام في
الأشياء، و هو أن كل ما يجوز له في نفسه أن يوجد و أن لا يوجد فهو إنما يوجد عن
غيره فالمعلول ممتنع الوجود مع عدم علته، و قد أمضى القرآن الكريم صحة هذا
القانون و عمومه، و لو لم يكن صحيحا أو تخلف في بعض الموارد لم يتم الاستدلال
به أصلا، و قد استدل القرآن به على وجود الصانع و وحدانيته و قدرته و علمه و
سائر صفاته.
و كما أن المعلول من الأشياء يمتنع وجوده مع عدم علته كذلك يجب وجوده مع وجود
علته قضاء لحق الرابطة الوجودية التي بينهما.
و قد أنفذه الله سبحانه في كلامه في موارد كثيرة استدل فيها من طريق ما له من
الصفات العليا على ثبوت آثارها و معاليلها كقوله: و هو الواحد القهار و قوله:
إن الله عزيز ذو انتقام، إن الله عزيز حكيم، إن الله غفور رحيم و غير ذلك، و
استدل أيضا على كثير من الحوادث و الأمور بثبوت أشياء أخرى يستعقب ثبوتها بعدها
كقوله: "فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل": يونس: 74 و غير ذلك مما ذكر
من أمر المؤمنين و الكافرين و المنافقين و لو جاز أن يتخلف أثر من مؤثره إذا
اجتمعت الشرائط اللازمة و ارتفعت الموانع المنافية لم يصح شيء من هذه الحجج و
الأدلة البتة.
فالقرآن يسلم حكومة قانون العلية العام في الوجود، و أن لكل شيء من الأشياء
الموجودة و عوارضها و لكل حادث من الحوادث الكائنة علة أو مجموع علل بها يجب
وجوده و بدونها يمتنع وجوده هذا مما لا ريب فيه في بادىء التدبر.
ثم إنا نجد أن الله سبحانه في كلامه يعمم خلقه على كل ما يصدق عليه شيء من
أجزاء الكون قال تعالى: "قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار": الرعد: 16
إلى غير ذلك من الآيات المنقولة آنفا، و هذا ببسط عليته و فاعليته تعالى لكل
شيء مع جريان العلية و المعلولية الكونية بينها جميعا كما تقدم بيانه.
و قال تعالى: "الذي له ملك السماوات و الأرض - إلى أن قال - و خلق كل شيء فقدره
تقديرا": الفرقان: 2 و قال: "الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى": طه: 50 و قال:
"الذي خلق فسوى، و الذي قدر فهدى": الأعلى: 3 إلى غير ذلك من الآيات.
و في هذه الآيات نوع آخر من البيان أخذت فيه الأشياء منسوبة إلى الخلقة و
أعمالها و أنواع آثارها و حركاتها و سكناتها منسوبة إلى التقدير و الهداية
الإلهية فإلى تقديره تعالى تنتهي خصوصيات أعمال الأشياء و آثارها كالإنسان يخطو
و يمشي في انتقاله المكاني و الحوت يسبح و الطير يطير بجناحيه قال تعالى:
"فمنهم من يمشي على بطنه و منهم من يمشي على رجلين و منهم من يمشي على أربع
يخلق الله ما يشاء": النور: 45 و الآيات في هذا المعنى كثيرة، فخصوصيات أعمال
الأشياء و حدودها و أقدارها تنتهي إليه تعالى، و كذلك الغايات التي تقصدها
الأشياء على اختلافها فيها و تشتتها و تفننها إنما تتعين لها و تروم نحوها
بالهداية الإلهية التي تصحبها منذ أول وجودها إلى آخره، و ينتهي ذلك إلى تقدير
العزيز العليم.
فالأشياء في جواهرها و ذواتها تستند إلى الخلقة الإلهية و حدود وجودها و
تحولاتها و غاياتها و أهدافها في مسير وجودها و حياتها كل ذلك ينتهي إلى
التقدير المنتهي إلى خصوصيات الخلقة الإلهية و هناك آيات أخرى كثيرة ناطقة بأن
أجزاء الكون متصل بعضه ببعض متلائم بعض منه مع بعض متوحدة في الوجود يحكم فيها
نظام واحد لا مدبر له إلا الله سبحانه، و هو الذي ربما سمي ببرهان اتصال
التدبير.
فهذا ما ينتجه التدبر في كلامه تعالى غير أن هناك جهات أخرى ينبغي للباحث
المتدبر أن لا يغفل عنها و هي ثلاث: إحداها: أن من الأشياء ما لا يرتاب في قبحه
و شناعته كأنواع الظلم و الفجور التي ينقبض العقل من نسبتها إلى ساحة القدس و
الكبرياء و القرآن الكريم أيضا ينزهه تعالى عن كل ظلم و سوء في آيات كثيرة
كقوله: "و ما ربك بظلام للعبيد": حم السجدة: 46 و قوله: "قل إن الله لا يأمر
بالفحشاء": الأعراف: 28 و غير ذلك، و هذا ينافي عموم الخلقة لكل شيء فمن الواجب
أن تخصص الآية بهذا المخصص العقلي و الشرعي.
و ينتج ذلك أن الأفعال الإنسانية مخلوقة للإنسان و ما وراءه من الأشياء ذواتها
و آثارها مخلوقة لله سبحانه.
على أن كون الأفعال الإنسانية مخلوقة له تعالى يبطل كونها عن اختيار الإنسان، و
يبطل بذلك نظام الأمر و النهي و الطاعة و المعصية و الثواب و العقاب و إرسال
الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع.
كذا ذكره جمع من الباحثين.
و قد ذهب على هؤلاء في بحثهم أن يفرقوا بين الأمور الحقيقية التي تنال الوجود و
التحقق حقيقة، و الأمور الاعتبارية و الجهات الوضعية التي لا ثبوت لها في
الواقع، و إنما اضطر الإنسان إلى تصورها أو التصديق بها حاجة الحياة، و ابتغاء
سعادة الوجود بالاجتماع و التمدن فخلطوا بين الجهات الوجودية و العدمية في
الأشياء، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على الجبر و التفويض في الجزء
الأول من الكتاب.
و الذي يناسب المقام من الكلام أن ظاهر قوله: "الله خالق كل شيء" يعمم الخلقة
لكل شيء ثم قوله تعالى: "الذي أحسن كل شيء خلقه": السجدة: 7 يثبت الحسن لكل ما
خلقه الله، و يتحصل من الآيتين أن كل ما يصدق عليه اسم شيء ما خلا الله فهو
مخلوق، و أن كل مخلوق فهو متصف بالحسن فالخلق و الحسن متلازمان في الوجود فكل
شيء فهو من جهة أنه مخلوق لله أي بتمام واقعيته الخارجية حسن فلو عرض لها عارض
السوء و القبح كان من جهة النسب و الإضافات و أمور أخرى غير جهة واقعيته و
وجوده الحقيقي الذي ينسب به إلى الله سبحانه و إلى فاعله المعروض له.
ثم إنا نحصل في كلامه تعالى على موارد كثيرة يذكر فيها السيئة و الظلم و الذنب
و غيرها ذكر تسليم فلنقض بضمها إلى ما تقدم بأن هذه معان و عناوين غير حقيقية
لا يلحق الشيء من جهة انتسابه إلى الله سبحانه و خلقه له، و إنما يلحق الموضوع
الذي يقوم الأثر و العمل به من جهة وضع أو نسبة أو إضافة فإن كل معصية و ظلم
فإن معه من سنخه ما ليس بمعصية و إنما يختلفان من جهة اشتمال أحدهما على مخالفة
أمر تشريعي أو عقلي أو اشتماله على فساد في المجتمع أو نقض لغاية دون الآخر
مثاله الزنا و النكاح و هما فعلان متماثلان لا يختلفان في حقيقتهما و وجودهما
النوعي مثلا و إنما يختلفان بالموافقة و المخالفة للشرع الإلهي أو السنة
الاجتماعية أو مصلحة المجتمع، و تلك أمور وضعية و جهات إضافية، و الخلقة و
الإيجاد إنما يتعلق بجهة التكوين و الخارج، و أما الجهات الإضافية و العناوين
الوضعية التي تلحق الأشياء بحسب انطباقها على المصالح و المفاسد الاجتماعية
المستعقبة للمدح و الذم أو الثواب و العقاب بحسب ما يشخصها و يحكم بها العقل
العملي و الشعور الاجتماعي فإنما هي أمور لا تتعدى طور الاجتماع و لا يدخل في
دار التكوين أصلا إلا آثارها التي هي أقسام الثواب و العقاب مثلا.
فالفعل الكذائي كالظلم بعنوانه الذي هو الظلم قبيح في ظرف الاجتماع و معصية
تستتبع الذم و العقاب عند المجتمعين، و أما بحسب التكوين فليس إلا أثرا أو
مجموع آثار من قبيل الحركات العارضة للإنسان و العلل الخارجية و خاصة السببية
الأولى الإلهية إنما تنتج هذه الجهة التي هي جهة التكوين، و أما عنوانه القبيح
و ما يلحق به فإنما هو مولود النظر التشريع أو العقلائي لا خبر عنه بنظر
التكوين كما أن زيدا الرئيس هو بعنوانه الذي هو الرئاسة موضوع اجتماعي عندنا له
آثار مترتبة عليه في المجتمع كالاحترام و التقدم و نفوذ الكلمة و إدارة الأمور،
و أما من حيث التكوين و الواقعية فإنما هو فرد من أفراد الإنسان لا فرق بينه و
بين الفرد المرءوس أصلا، و لا خبر في هذا النظر عن الرئاسة و الآثار المرتبة
عليها، و كذا الغني و الفقير و السيد و المسود و العزيز و الذليل و الشريف و
الخسيس و أمثال ذلك مما لا يحصى.
و بالجملة الخلقة في عين أنها تعم كل شيء إنما تتعلق بالموضوعات و الأفعال
الواقعة في ظرف الاجتماع المعنونة بمختلف عناوينها بجهة تكوينها و واقعيتها
الخارجية، و أما ما وراء ذلك من جهات القبح و الحسن و المعصية و الطاعة و سائر
الأوصاف و العناوين الاجتماعية الطارئة على الأفعال و الموضوعات فالخلق و
الإيجاد لا يتعلق بها، و ليس لها ثبوت إلا في ظرف التشريع أو القضاء الاجتماعي
و ساحة الاعتبار و الوضع.
و إذا تبين أن ظرف تحقق الأمر و النهي و انتشاء الحسن و القبح و الطاعة و
المعصية و تعلق الثواب و العقاب و ارتباطهما بالفعل و كذا سائر الأمور و
العناوين الاجتماعية كالمولوية و العبودية و الرئاسة و المرءوسية و العزة و
الذلة و نحو ذلك غير ظرف التكوين و ساحة الواقعية الخارجية التي يتعلق بها
الخلق و الإيجاد ظهر أن عموم الخلقة لكل شيء لا يستلزم شيئا من المفاسد التي
ذكروها كبطلان نظام الأمر و النهي و الثواب و العقاب و غير ذلك مما تقدم ذكره.
و كيف يسوغ لمن تدبر كلامه تعالى أن يفتي بمثل هذه الثنوية و كلامه مشحون بأنه
خالق كل شيء و أنه الله الواحد القهار و أن قضاءه و قدره و هدايته التكوينية و
ربوبيته و تدبيره شامل لكل شيء لا يشذ عنه شاذ، و أن ملكه و سلطانه و إحاطته و
كرسيه وسع كل شيء، و أن له ما في السماوات و الأرض و ما ظهر و ما بطن، و كيف
يستقيم شيء من هذه التعاليم الإلهية المنبئة عن توحيده في ربوبيته مع وجود ما
لا يحصى من مخلوقات غيره خلال مخلوقاته.
الثانية: أن القرآن الكريم إذ ينسب خلق كل شيء إليه تعالى و يحصر العلة الفاعلة
فيه كان لازمه إبطال رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء فلا مؤثر في الوجود
إلا الله، و إنما هي عادته تعالى جرت أن يخلق ما نسميه معلولا عقيب ما نسميه
علة من غير أن تكون بينهما رابطة توجب وجود المعلول منهما عقيب العلة فالنار
التي تستعقب الحرارة نسبتها إلى الحرارة و البرودة على السواء، و الحرارة
نسبتها إلى النار و الثلج على السواء غير أن عادة الله جرت أن يخلق الحرارة
عقيب النار و البرودة بعد الثلج من غير أن يكون هناك إيجاب و اقتضاء بوجه أصلا.
و هذا النظر يبطل قانون العلية و المعلولية العام الذي عليه المدار في القضاء
العقلي و ببطلانه ينسد باب إثبات الصانع و لا تصل النوبة مع ذلك إلى كتاب إلهي
يحتج به على بطلان رابطة العلية و المعلولية بين الأشياء، و كيف يسع أن يبطل
القرآن الشريف حكما صريحا عقليا و يعزل العقل عن قضائه؟ و إنما تثبت حقيته و
حجيته بالحكم العقلي و القضاء الوجداني، و هو إبطال النتيجة لدليلها الذي لا
يؤثر إلا إبطال النتيجة لنفسها.
و هؤلاء إنما وقعوا فيما وقعوا من جهة خلطهم بين العلل الطولية و العرضية و
إنما يستحيل توارد العلتين على شيء إذا كانتا في عرض واحد لا إذا كانت إحداهما
في طول الأخرى، مثال ذلك أن العلة التامة لوجود النار كما توجب وجود النار كذلك
توجب وجود الحرارة و لا يجتمع مع ذلك في الحرارة إيجابان و لا تعمل فيها علتان
تامتان مستقلتان بل علة معلولة لعلة.
و بتقريب آخر أدق: منشأ الخطإ هو عدم التمييز بين الفاعل بمعنى ما منه و الفاعل
بمعنى ما به و لاستقصاء القول في المسألة محل آخر.
الثالثة: و هي قريبة المأخذ من الثانية أنهم لما وجدوا أنه تعالى ينسب خلق كل
شيء إلى نفسه، و هو تعالى مع ذلك يسلم وجود رابطة العلية و المعلولية بين
الأشياء أنفسها حسبوا أن ما له علة ظاهرة معلومة من الأشياء فهي العلة له دونه
تعالى و إلا لزم اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد و لا يبقى لتأثيره تعالى
إلا حدوث الأشياء و بدء وجودها و لذا تراهم يرومون إثبات الصانع من جهة حدوث
الأشياء كحدوث الإنسان بعد ما لم يكن و حدوث الأرض بعد ما لم تكن و حدوث العالم
بعد ما لم يكن.
و يضيفون إلى ذلك وجود أمور أو حدوث حوادث مجهولة العلل للإنسان كالروح و
كالحياة في الإنسان و الحيوان و النبات فإن الإنسان لم يظفر بعلل وجودها بعد، و
البسطاء منهم يضيفون إلى ذلك أمثال السحب و الثلوج و الأمطار و ذوات الأذناب و
الزلازل و القحط و الغلاء و الأمراض العامة و نحو ذلك مما لا يظهر عللها
الطبيعية للأفهام العامية ثم كلما لاح لهم في شيء منها علته الطبيعية انهزموا
منه إلى غيره و بدلوا موقفا بآخر أو سلموا للخصم.
و هذا بحسب اللسان العلمي هو أن الوجود الممكن إنما يحتاج إلى الواجب في حدوثه
لا في بقائه، و هو الذي يصر عليه جم غفير من أهل الكلام حتى صرح بعضهم: أنه لو
جاز العدم على الواجب لم يضر عدمه وجود العالم تعالى الله و تقدس، و هذا - فيما
نحسب - رأي إسرائيلي تسرب في أذهان عدة من الباحثين من المسلمين و من فروع ذلك
قولهم باستحالة البداء و النسخ، و الرأي جار سار بين الناس مع ذلك.
و كيف كان هو من أردإ الأوهام و الاحتجاج القرآني يخالفه فإن الله سبحانه يستدل
على وجود الصانع و وحدته بالآيات المشهودة في العالم و هو النظام الجاري في كل
نوع من الخليقة و ما يجري عليه في مسير وجوده و أمد حياته من التغير و التحول و
الفعل و الانفعال و المنافع التي يستدرها من ذلك و يوصلها إلى غيره كالشمس و
القمر و النجوم و طلوعها و غروبها و ما يستجلبه الناس من منافعها و التحولات
الفصلية الطارئة على الأرض و البحار و الأنهار و الفلك التي تجري فيها و السحب
و الأمطار و ما ينتفع به الإنسان من الحيوان و النبات و ما يجري عليه من
الأحوال الطبيعية و التغيرات الكونية من نطفية و جنينية و صباوة و شباب و شيب و
هرم و غير ذلك.
و جميع ذلك من الجهات الراجعة إلى الأشياء من حيث بقائها و موضوعاتها علل
أعراضها و آثارها و كل مجموع منها في حين علة للمجموع الحاصل بعد ذلك الحين، و
حوادث اليوم علل حوادث الغد كما أنها معلولة حوادث الأمس.
و لو كانت الأمور من حيث بقائها مستغنية عن الله سبحانه و استقلت بما يكتنف بها
من الحوادث و يطرأ عليها من الآثار و الأعمال لم يستقم شيء من هذه الحجج
الباهرة و البراهين القاهرة و ذلك أن احتجاج القرآن بهذه الآيات البينات من
جهتين: إحداهما: من جهة الفاعل كما يشير إليه أمثال قوله تعالى: "أ في الله شك
فاطر السماوات و الأرض": إبراهيم: 10 فإن من الضروري أن شيئا من هذه الموجودات
لم يفطر ذاته و لم يوجد نفسه، و لا أوجده شيء آخر مثله فإنه يناظره في الحاجة
إلى إيجاد موجد، و لو لم ينته الأمر إلى أمر موجود بذاته لا يقبل طرو العدم
عليه لم يوجد في الخارج شيء من هذه الأشياء فهي موجودة بإيجاد الله الذي هو في
نفسه حق لا يقبل بطلانا و لا تغيرا بوجه عما هو عليه.
ثم إنها إذا وجدت لم تستغن عنه فليس إيجاد شيء شيئا من قبيل تسخين المسخن مثلا
حيث تنصب الحرارة بالانفصال من المسخن إلى المتسخن فيعود المتسخن واجدا للوصف
بقي المسخن بعد ذلك أو زال، إذ لو كانت إفاضة الوجود على هذه الوتيرة عاد
الوجود المفاض مستقلا بنفسه واجبا بذاته لا يقبل العدم لمكان المناقضة، و هذا
هو الذي يعبر عنه الفهم الساذج الفطري بأن الأشياء لو ملكت وجود نفسها و استقلت
بوجه عن ربها لم يقبل الهلاك و الفساد فإن من المحال أن يستدعي الشيء بطلان
نفسه أو شقاءها.
و هو الذي يستفاد من أمثال قوله: "كل شيء هالك إلا وجهه": القصص: 88 و قوله: "و
لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا":
الفرقان: 3 و يدل على ذلك أيضا الآيات الكثيرة الدالة على أن الله سبحانه هو
المالك لكل شيء لا مالك غيره، و أن كل شيء مملوك له لا شأن له إلا المملوكية.
فالأشياء كما تستفيض منه تعالى الوجود في أول كونها و حدوثها كذلك تستفيض منه
ذلك في حال بقائها و امتداد كونها و حياتها فلا يزال الشيء موجودا ما يفيض عليه
الوجود و إذا انقطع عنه الفيض انمحى رسمه عن لوح الوجود قال تعالى: "كلا نمد
هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء: 20 إلى غير ذلك
من الآيات الكثيرة.
و ثانيتهما: من جهة الغايات كما تشير إليه الآيات الواصفة للنظام الجاري في
الكون متلائمة أجزاؤه متوافقة أطرافه يضمن سير الواحد منها إيصال الآخر إلى
كماله و يتوجه ما وقع في طرف من السلسلة المترتبة إلى إسعاد ما في طرف آخر منها
ينتفع فيها الإنسان مثلا بالنظام الجاري في الحيوان و النبات، و النبات مثلا
بالنظام الجاري في الأرض و الجو المحيط بها، و تستمد الأرضيات بالسماويات و
السماويات بالأرضيات فيعود الجميع ذا نظام متصل واحد يسوق كل نوع من الأنواع
إلى ما يسعد به في كونه و يفوز به في وجوده و تأبى الفطرة السليمة و الشعور
الحي إلا أن يقضي أن ذلك كله من تقدير عزيز عليم و تدبير حكيم خبير.
و ليس هذا التقدير و التدبير إلا عن فطر ذواتها و إيجاد هوياتها و صوغ أعيانها
بضرب كل منها في قالب يقدر له أفعاله و يحصره في ما أريد منه في موطنه و ما
يئول إليه في منازل هيئت على امتداد مسيره، و الذي يقف عليه آخر ما يقف، و هي
في جميع هذه المراحل على مراكب الأسباب بين سائق القدر و قائد القضاء.
قال تعالى: "له الخلق و الأمر": الأعراف: 54، و قا: ل "ألا له الحكم": الأنعام:
62 و قال: "و لكل وجهة هو موليها": البقرة: 148 و قال: "و الله يحكم لا معقب
لحكمه": الرعد: 41 و قال: "هو قائم على كل نفس بما كسبت": الرعد: 33.
و كيف يسع لمتدبر في أمثال هذه الآيات أن يعطف واضح معانيها و صريح مضامينها
إلى أن الله سبحانه خلق ذوات الأشياء على ما لها من الخصوصيات و الشخصيات ثم
اعتزلها و ما كان يسعه إلا أن يعتزل و يرصد فشرع الأشياء في التفاعل و التناظم
بما فيها من روح العلية و المعلولية و استقلت في الفعل و الانفعال و خالقها
يتأملها في معزله و ينتظر يوم يفنى فيه الكل حتى يجدد لها خلقا جديدا يثيب فيه
من استمع لدعوته في حياته الأولى و يعاقب المستكبر المستنكف، و قد صبر على
خلافهم طول الزمان غير أنه ربما غضب على بعض ما يشاهده منهم فيعارضهم في
مشيتهم، و يمنع من تأثير بعض مكائدهم على نحو المعارضة و الممانعة.
أي أنه تعالى يخرج من مقام الاعتزال في بعض ما تؤدي الأسباب و العلل الكونية
المستقلة الجارية إلى خلاف ما يرتضيه، أو لا يؤدي إلى ما يوافق مرضاته فيداخل
الأسباب الكونية بإيجاد ما يريده من الحوادث، و ليس يداخل شيئا إلا بإبطال
قانون العلية الجاري في المورد إذ لو أوجد ما كان يريده من طريق الأسباب و
العلل كان التأثير على مزعمتهم للعلل الكونية دونه تعالى، و هذا هو السر في
إصرار هؤلاء على أن المعجزات و خوارق العادات و نحوهما إنما تتحقق بالإرادة
الإلهية وحدها و نقض قانون العلية العام، فلا محالة يتم الأمر بنقض السببية
الكونية و إبطال قانون العلية و يبطل بذلك أصل قولهم: إن الأشياء مفتقرة إليه
تعالى في حدوثها غنية عنه في بقائها.
فهؤلاء القوم لا يسعهم إلا أن يلتزموا أحد أمرين: إما القول بأن العالم على
سعته و نظامه الجاري فيه مستقل عن الله سبحانه غير مفتقر إليه أصلا و لا تأثير
له تعالى في شيء من أجزائه و لا التحولات الواقعة فيه إلا ما كان من حاجته إليه
في أول حدوثه و قد أحدثه فارتفعت الحاجة و انقطعت الخلة.
أو القول بأن الله هو الخالق لكل ما يقع عليه اسم شيء و المفيض له الوجود حال
الحدوث و في حال البقاء، و لا غنى عنه تعالى لذات و لا فعل طرفة عين.
و قد عرفت أن البحث القرآني يدفع أول القولين لتعاضد الآيات على بسط الخلقة و
السلطة الغيبية على ظاهر الأشياء و باطنها و أولها و آخرها و ذواتها و أفعالها
حال حدوثها و حال بقائها جميعا فالمتعين هو الثاني من القولين و البحث العقلي
الدقيق يؤيد بحسب النتيجة ما هو المتحصل من الآيات الكريمة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم: أن ما يظهر من قوله: "الله خالق كل شيء" على ظاهر
عمومه من غير أن يتخصص بمخصص عقلي أو شرعي.
قوله تعالى: "قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها" إلخ قال
في المجمع،: البصيرة البينة و الدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به و
البصائر جمعها انتهى.
و قيل: البصيرة للقلب كالبصر للعين، و الأصل في الباب على أي حال هو الإدراك
بحاسة البصر الذي يعد أقوى الإدراكات، و نيلا من خارج الشيء المشهود، و الإبصار
و العمى في الآية هو العلم و الجهل أو الإيمان و الكفر توسعا.
و كأنه تعالى يشير بقوله: "قد جاءكم بصائر من ربكم" إلى ما ذكره في الآيات
السابقة من الحجج الباهرة على وحدانيته و انتفاء الشريك عنه، و المعنى أن هذه
الحجج بصائر قد جاءتكم من جانب الله بالوحي إلي، و الخطاب من قبل النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ثم ذكر للمخاطبين و هم المشركون أنهم على خيرة من أمر
أنفسهم إن شاءوا أبصروا بها و إن شاءوا عموا عنها غير أن الإبصار لأنفسهم و
العمى عليها.
و من هنا يظهر أن المراد بالحفظ عليهم رجوع أمر نفوسهم و تدبير قلوبهم إليه فهو
إنما ينفي كونه حفيظا عليهم تكوينا و إنما هو ناصح لهم.
و الآية كالمعترضة بين الآيات السابقة و الآية اللاحقة، و هو خطاب منه تعالى عن
لسان نبيه كالرسول يأتي بالرسالة إلى قوم فيؤديها إليهم و في خلال ما يؤديه
يكلمهم من نفسه بما يهيجهم للسمع و الطاعة و يحثهم على الانقياد بإظهار النصح و
نفي الأغراض الفاسدة عن نفسه.
قوله تعالى: "و كذلك نصرف الآيات و ليقولوا درست" إلخ، و قرىء: دارست بالخطاب و
درست بالتأنيث و الغيبة، قيل: إن التصريف هو إجراء المعنى الدائر في المعاني
المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة، و قوله: "درست" من الدرس و هو التعلم و
التعليم من طريق التلاوة، و على هذا المعنى قراءة دارست غير أن زيادة المباني
تدل على زيادة المعاني و أما قراءة "درست" بالتأنيث و الغيبة فهو من الدروس
بمعنى تعفي الأثر أي اندرست هذه الأقوال كقولهم: أساطير الأولين.
و المعنى: على هذا المثال نصرف الآيات و نحولها بيانا لغايات كثيرة و منها أن
يستكمل هؤلاء الأشقياء شقوتهم فيتهموك يا محمد بأنك تعلمتها من بعض أهل الكتاب
أو يقولوا: اندرست هذه الأقاويل و انقرض عهدها و لا نفع فيها اليوم، و لنبينه
لقوم يعلمون بتطهير قلوبهم و شرح صدورهم به، و هذا كقوله: "و ننزل من القرآن ما
هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا": الإسراء: 82.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن الفضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: إن الله لا يوصف، و كيف يوصف و قال في كتابه: "و ما قدروا الله حق قدره"
فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و
ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "و ما قدروا الله حق قدره" قال: هم الكفار
الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر
الله حق قدره، و من لم يؤمن بذلك فلم يؤمن بالله حق قدره. "إذ قالوا ما أنزل
الله على بشر من شيء" يعني من بني إسرائيل قالت اليهود: يا محمد أ نزل الله
عليك كتابا؟ قال نعم، قالوا: و الله ما أنزل الله من السماء كتابا، فأنزل الله:
قل يا محمد من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى - نورا و هدى للناس إلى قوله و لا
آباؤكم قل الله أنزله.
أقول: و المعنى الذي في صدر الرواية تقدم في البيان السابق أنه خلاف ظاهر الآية
بل الظاهر أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء، هم الذين لم يقدروا
الله سبحانه حق قدره.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن السدي: في قوله: "إذ قالوا ما أنزل
الله على بشر من شيء" قال: قال فنحاص اليهودي: ما أنزل الله على محمد من شيء.
أقول: و اختلاف الحاكي و المحكي يفسد المعنى، و احتمال النقل بالمعنى مع هذا
الاختلاف الفاحش لا مسوغ له.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: جاء
رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف فخاصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال له النبي: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد في التوراة: أن الله
يبغض الحبر السمين؟ و كان حبرا سمينا فغضب و قال: و الله ما أنزل الله على بشر
من شيء، فقال له أصحابه: ويحك و لا على موسى؟ قال: ما أنزل الله على بشر من
شيء، فأنزل الله: "و ما قدروا الله حق قدره" الآية.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن بريدة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): أم القرى مكة.
و في تفسير العياشي، عن علي بن أسباط قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): لم سمي
النبي الأمي؟ قال: نسب إلى مكة و ذلك من قول الله: "لتنذر أم القرى و من حولها"
و أم القرى مكة، و من حولها الطائف.
أقول: و على ما في الرواية يصير قوله: "لتنذر أم القرى و من حولها" من قبيل
قوله: "و أنذر عشيرتك الأقربين": الشعراء: 214 و لا ينافي الأمر بإنذار طائفة
خاصة عموم الرسالة لجميع الناس كما يدل عليه أمثال قوله: "لأنذركم به و من
بلغ": الأنعام: 19 و قوله: "إن هو إلا ذكرى للعالمين": الأنعام: 90 و قوله: "قل
يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا": الأعراف: 158.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام)
عن قول الله: "قل من أنزل الكتاب إلى قوله تجعلونه قراطيس تبدونها و تخفون
كثيرا" قال: كانوا يكتمون ما شاءوا و يبدون ما شاءوا:. قال: و في رواية أخرى
عنه (عليه السلام) قال: كانوا يكتبونه في القراطيس ثم يبدون ما شاءوا و يخفون
ما شاءوا. قال: كل كتاب أنزل فهو عند أهل العلم.
أقول: أهل العلم كناية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و في الدر المنثور، في قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى" الآية أخرج الحاكم في
المستدرك عن شرحبيل بن سعد قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح: "و من أظلم ممن
افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء" الآية، فلما دخل
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة فر إلى عثمان أخيه من الرضاعة فغيبه
عنده حتى اطمأن أهل مكة ثم استأمن له.
و فيه، أخرج ابن جرير و أبو الشيخ عن عكرمة: في قوله: "و من أظلم ممن افترى على
الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء" قال: نزلت في مسيلمة فيما كان
يسجع و يتكهن به. "و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله" قال: نزلت في عبد الله بن
سعد بن أبي سرح كان يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان فيما يملي "عزيز
حكيم" فيكتب "غفور رحيم" فيغيره ثم يقرأ عليه كذا كذا لما حول فيقول: نعم سواء،
فرجع عن الإسلام و لحق بقريش.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى أيضا غير ما مر.
و في تفسير القمي، قال: حدثنا أبي عن صفوان عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي السرح كان أخا لعثمان
من الرضاعة قدم إلى المدينة و أسلم، و كان له خط حسن، و كان إذا نزل الوحي على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه ليكتب ما نزل عليه فكان إذا قال له
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله سميع بصير يكتب سميع عليم، و إذا
قال: و الله بما تعملون خبير يكتب بصير و كان يفرق بين التاء و الياء، و كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: هو واحد. فارتد كافرا و رجع مكة و
قال لقريش: و الله ما يدري محمد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك
فأنا أنزل مثل ما أنزل الله فأنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في
ذلك: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء
- و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله". فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) مكة أمر بقتله فجاء به عثمان و قد أخذ بيده و رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) ثم أعاد فقال: هو لك، فلما مر قال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): أ لم أقل: من رآه فليقتله؟ فقال رجل: كانت عيني إليك يا رسول الله
أن تشير إلي فأقتله، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الأنبياء لا
يقتلون بالإشارة، فكان من الطلقاء: أقول: و روى هذا المعنى في الكافي، و تفسير
العياشي، و مجمع البيان، بطرق أخرى عن الباقر و الصادق (عليهما السلام).
و ذكر بعض المفسرين بعد إيراد القصة عن روايتي عكرمة و السدي: أن هاتين
الروايتين باطلتان فإنه ليس في شيء من السور المكية "سميعا عليما" و لا "عليما
حكيما" و لا "عزيز حكيم" إلا في سورة لقمان المروي عن ابن عباس أنها نزلت بعد
سورة الأنعام و أن الآية التي ختمت بقوله تعالى "عزيز حكيم" منها و ثنتين بعدها
مدنيات كما في الإتقان.
قال: و ما قيل من احتمال نزول هذه الآية بالمدينة لا حاجة إليه و الرواية غير
صحيحة.
قال: و روي: أن عبد الله بن سعد لما ارتد كان يطعن في القرآن، و لعله قال شيئا
مما ذكر في الروايات عنه كذبا و افتراء فإن السور التي نزلت في عهد كتابته لم
يكن فيها شيء مما روي عنه أنه تصرف فيه كما علمت، و قد رجع إلى الإسلام قبل
الفتح و لو تصرف في القرآن تصرفا أقره عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فشك في الوحي لأجله لما رجع إلى الإسلام.
انتهى.
و قد عرفت أن الروايات المعتبرة المروية عن الصادقين (عليهما السلام) صريحة في
وقوع قصة ابن أبي سرح في المدينة بعد الهجرة لا في مكة، و الأخبار المروية من
طرق أهل السنة و الجماعة غير صريحة في وقوعها بمكة لو لم يكن ظهورها في الوقوع
بالمدينة، و أما ما استند إليه من رواية ابن عباس في ترتيب نزول السور القرآنية
فليس بأقوى اعتبارا مما طرحه.
و أما ما ذكره من إسلام ابن أبي سرح قبل الفتح طوعا فقد عرفت ورود الرواية من
الطريقين أنه لم يعد إلى الإسلام إلى يوم الفتح، و قد كان رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) أهدر دمه يوم الفتح حتى شفع له عثمان فعفا عنه، هذا.
لكن يبقى على ظاهر الروايات أن قوله تعالى: "و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله"
غير ظاهر الانطباق على قول ابن أبي سرح على ما يحكيه: "فأنا أنزل مثل ما أنزل
الله".
على أن كون قوله تعالى: "و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و
لم يوح إليه شيء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله" نازلا بالمدينة لا يلائم هذا
الاتصال الظاهر بينه و بين ما يتلوه إلى آخر الآية الثانية فلو كان نازلا
بالمدينة كان الأقرب أن تكون الآيتان جميعا مدنيتين.
و هناك رواية أخرى تعرب عن سبب للنزول آخر و هو ما رواه عبد بن حميد عن عكرمة
قال: لما نزلت: و المرسلات عرفا فالعاصفات عصفا، قال النضر و هو من بني عبد
الدار: و الطاحنات طحنا فالعاجنات عجنا و قولا كثيرا فأنزل الله: "و من أظلم
ممن افترى على الله كذبا - أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شيء" الآية.
و في تفسير العياشي، عن سلام عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "اليوم تجزون
عذاب الهون" قال: العطش يوم القيامة:. أقول: و رواه أيضا عن الفضيل عن أبي عبد
الله (عليه السلام) و فيه: قال: العطش.
و في الكافي، بإسناده عن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله
عز و جل لما أراد أن يخلق آدم بعث جبرئيل في أول ساعة من يوم الجمعة فقبض
بيمينه قبضة بلغت من السماء السابعة إلى السماء الدنيا، و أخذ من كل سماء تربة
و قبض قبضة أخرى من الأرض السابعة العليا إلى الأرض السابعة القصوى فأمر الله
عز و جل كلمته فأمسك القبضة الأولى بيمينه و القبضة الأخرى بشماله ففلق الطين
فلقتين فذرا من الأرض ذروا و من السماوات ذروا فقال للذي بيمينه: منك الرسل و
الأنبياء و الأوصياء و الصديقون و المؤمنون و الشهداء و من أريد كرامته، فوجب
لهم ما لهم ما قال كما قال، و قال للذي بشماله: منك الجبارون و المشركون و
المنافقون و الطواغيت و من أريد هوانه أو شقوته فوجب لهم ما قال كما قال. ثم إن
الطينتين خلطتا جميعا و ذلك قوله تعالى: "إن الله فالق الحب و النوى" فالحب
طينة المؤمنين التي ألقى الله عليها محبته، و النوى طينة الكافرين الذين نأوا
عن كل خير، و إنما سمي النوى من أجل أنه نأى عن الحق و تباعد منه. و قال الله
عز و جل: "يخرج الحي من الميت و مخرج الميت من الحي" فالحي المؤمن الذي يخرج من
طينة الكافر، و الميت الذي يخرج من الحي هو الكافر الذي يخرج من طينة المؤمن
فالحي المؤمن و الميت الكافر و ذلك قول الله عز و جل: "أ و من كان ميتا
فأحييناه" فكان موته اختلاط طينته مع طينة الكافر و كان حياته حين فرق الله عز
و جل بينهما بكلمته كذلك يخرج الله عز و جل المؤمن في الميلاد من الظلمة بعد
دخوله فيها إلى النور، و يخرج الكافر من النور إلى الظلمة بعد دخوله إلى النور
و ذلك قول الله عز و جل: "لينذر من كان حيا و يحق القول على الكافرين".
أقول: الرواية من أخبار الطينة و سيجيء البحث فيها فيما يناسبه من المحل إن شاء
الله.
و تفسير الحب و النوى بما فيها من المعنى من قبيل الباطن دون الظاهر، و قد وقع
هذا المعنى في روايات أخرى غير هذه الرواية.
و في تفسير العياشي، في قوله تعالى "و جعل الليل سكنا" عن الحسن بن علي بن بنت
إلياس قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: إن الله جعل الليل سكنا و
جعل النساء سكنا، و من السنة التزويج بالليل و إطعام الطعام. و فيه، عن علي بن
عقبة عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تزوجوا بالليل فإن الله جعله
سكنا و لا تطلبوا الحوائج بالليل.
و في الكافي، بإسناده عن يونس عن بعض أصحابنا عن أبي الحسن (عليه السلام) قال:
إن الله خلق النبيين على النبوة فلا يكونون إلا أنبياء، و خلق المؤمنين على
الإيمان فلا يكونون إلا مؤمنين و أعار قوما إيمانا فإن شاء تممه لهم و إن شاء
سلبهم إياه. قال: و فيهم جرت "فمستقر و مستودع" و قال: إن فلانا كان مستودعا
فلما كذب علينا سلبه الله إيمانه.
أقول: و في تفسير المستقر و المستودع بقسمي الإيمان روايات كثيرة مروية عنهم
(عليهم السلام) في تفسيري العياشي و القمي، و هذه الرواية توجهها بأنها من
الجري و الانطباق.
و في تفسير العياشي، عن سعد بن سعيد أبي الأصبغ قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام): في قوله: "فمستقر و مستودع" قال: مستقر في الرحم و مستودع في الصلب، و
قد يكون مستودع الإيمان ثم ينزع منه. الحديث.
و فيه، عن سدير قال: سمعت حمران يسأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله:
"بديع السماوات و الأرض" فقال له أبو جعفر (عليه السلام): ابتدع الأشياء كلها
بعلمه على غير مثال كان، و ابتدع السماوات و الأرضين و لم يكن قبلهن سماوات و
لا أرضون أ ما تسمع قوله: "و كان عرشه على الماء"؟. و في الكافي، بإسناده عن
عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: "لا تدركه الأبصار"
قال: إحاطة الوهم أ لا ترى إلى قوله: "قد جاءكم بصائر من ربكم، ليس يعني من
البصر بعينه "و من عمي فعليها" ليس يعني عمى العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما
يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان
بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين:. أقول: و رواه في التوحيد بطريق آخر
عنه (عليه السلام) و بإسناده عن أبي هاشم الجعفري عن الرضا (عليه السلام).
و فيه، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي
الحسن الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال
و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا: أن الله
قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال: أبو
الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس، لا
تدركه الأبصار، و لا يحيطون به علما، و ليس كمثله شيء؟ أ ليس محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم)؟ قال: بلى. قال: كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء
من عند الله، و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار، و لا
يحيطون به علما، و ليس كمثله شيء ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو
على صورة البشر، أ ما تستحون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من
عند الله بشيء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر. قال أبو قرة: فإنه يقول. "و لقد رآه
نزلة أخرى" فقال أبو الحسن (عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى
حيث قال: "ما كذب الفؤاد ما رأى" يقول: ما كذب فؤاد محمد ما رأته عيناه ثم أخبر
بما رأى فقال: "لقد رأى من آيات ربه الكبرى" فآيات الله غير الله و قد قال
الله: "و لا يحيطون به علما" فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت
المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات؟ فقال الرضا (عليه السلام): إذا كانت
الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما،
و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شيء.
أقول: و هذا المعنى وارد في أخبار أخر مروية عنهم (عليهم السلام)، و هناك
روايات أخر تثبت الرؤية بمعنى آخر أدق يليق بساحة قدسه تعالى سنوردها إن شاء
الله في تفسير سورة الأعراف، و إنما شدد النكير على الرؤية في هذه الرواية لما
أن المشهور من إثبات الرؤية في عصرهم كان هو إثبات الرؤية الجسمانية بالبصر
الجسماني التي ينفيها صريح العقل و نص الكتاب ففي تفسير الطبري، عن عكرمة عن
ابن عباس قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه فقال له رجل عند
ذلك: أ ليس قال الله: لا تدركه الأبصار؟ فقال له عكرمة: أ لست ترى السماء؟ قال
بلى، قال: فكلها ترى؟ إلى غير ذلك من الأخبار.
و الذي تثبته من الرؤية صريح الرؤية الجسمانية بالعضو الباصر، و قد نفاها العقل
و النقل، و قد فات عكرمة أن لو كان المراد بقوله "لا تدركه الأبصار" هو نفي
الإحاطة بجميع أقطار الشيء لم يكن وجه لاختصاصه به تعالى فإن شيئا من الأشياء
الجسمانية و لها سطوح مختلفة الجهات كالإنسان و الحيوان و سائر الأجسام الأرضية
و الأجرام السماوية لا يمس الحس الباصر منها إلا ما يواجه الشعاع الدائر بين
الباصر و المبصر على ما تعينه قوانين الإبصار المدونة في أبحاث المناظر و
المرايا.
فإنا إذا أبصرنا إنسانا مثلا فإنما نبصر منه بعض السطوح الكثيرة المحيطة ببدنه
من فوق و تحت و القدام و الخلف و اليمين و اليسار مثلا، و من المحال أن يقع
البصر على جميع ما يحيط به من مختلف السطوح فلو كان المراد من قوله: "لا تدركه
الأبصار" نفي هذا السنخ من الإدراك البصري المحال فيه و في غيره كان كلاما لا
محصل له.
و في التوحيد، بإسناده عن إسماعيل بن الفضل قال: سألت أبا عبد الله جعفر بن
محمد الصادق (عليه السلام) عن الله تبارك و تعالى هل يرى في المعاد؟ فقال:
سبحان الله و تعالى عن ذلك علوا كبيرا يا بن الفضل إن الأبصار لا تدرك إلا ما
له لون و كيفية، و الله خالق الألوان و الكيفيات.
6 سورة الأنعام - 106 - 113
اتّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْك مِن رّبِّك لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَ أَعْرِض عَنِ
الْمُشرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللّهُ مَا أَشرَكُوا وَ مَا جَعَلْنَك
عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ مَا أَنت عَلَيهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَ لا تَسبّوا
الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسبّوا اللّهَ عَدْوَا بِغَيرِ عِلْمٍ
كَذَلِك زَيّنّا لِكلِّ أُمّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمّ إِلى رَبهِم مّرْجِعُهُمْ
فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَ أَقْسمُوا بِاللّهِ جَهْدَ
أَيْمَنهِمْ لَئنْ جَاءَتهُمْ ءَايَةٌ لّيُؤْمِننّ بهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَت
عِندَ اللّهِ وَ مَا يُشعِرُكُمْ أَنّهَا إِذَا جَاءَت لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ
نُقَلِّب أَفْئِدَتهُمْ وَ أَبْصرَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّلَ
مَرّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فى طغْيَنِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَ لَوْ أَنّنَا
نَزّلْنَا إِلَيهِمُ الْمَلَئكةَ وَ كلّمَهُمُ المَْوْتى وَ حَشرْنَا عَلَيهِمْ
كلّ شىْءٍ قُبُلاً مّا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشاءَ اللّهُ وَ لَكِنّ
أَكثرَهُمْ يجْهَلُونَ (111) وَ كَذَلِك جَعَلْنَا لِكلِّ نَبىٍ عَدُوّا
شيَطِينَ الانسِ وَ الْجِنِّ يُوحِى بَعْضهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُف الْقَوْلِ
غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبّك مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ مَا يَفْترُونَ (112)
وَ لِتَصغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ وَ
لِيرْضوْهُ وَ لِيَقْترِفُوا مَا هُم مّقْترِفُونَ (113)
بيان
اتصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، و الكلام مسرود في التوحيد.
قوله تعالى: "اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين" أمر
باتباع ما أوحي إليه من ربه من أمر التوحيد و أصول شرائع الدين من غير أن يصده
ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق و الإعراض عن دعوة الدين.
و في قوله: "من ربك" المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة
الإلهية إلا أن قوله: "من ربك" لما كان ملحوقا بقوله: "و أعرض عن المشركين" و
كان ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحي و اعبد ربك، و أعرض عنهم يعبدوا
أربابهم، و لا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم و شركهم قدم على قوله: "و أعرض" إلخ،
قوله: "لا إله إلا هو" ليندفع به هذا الوهم، و يجلو معنى قوله: "و أعرض" إلخ، و
يأخذ موضعه.
فالمعنى: اتبع ما أوحي إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك و الرحمة
المشتملة عليك إذ خصك بوحيه و أيدك بروح الاتباع، و أعرض عن هؤلاء المشركين لا
بأن تدعهم و ما يعبدون و تسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما
الإله واحد و هو ربك الذي يوحي إليك لا إله إلا هو بل إن تعرض عنهم فلا تجهد
نفسك في حملهم على التوحيد و لا تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ و لست
عليهم بحفيظ و لا وكيل، و إنما الحفيظ الوكيل هو الله و لم يشأ لهم التوحيد و
لو شاء ما أشركوا لكنه تركهم و ضلالهم لأنهم أعرضوا عن الحق و استنكفوا عن
الخضوع له.
قوله تعالى: "و لو شاء الله ما أشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم
بوكيل" تطييب لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يجد لشركهم و لا يحزن
لخيبة المسعى في دعوتهم فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو
شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالإيمان عن طوع و رغبة كما تلبس من وفق للإيمان و ذلك
أنهم استكبروا في الأرض و استعلوا على الله و مكروا به و قد أهلكوا بذلك أنفسهم
فرد الله مكرهم إليهم و حرمهم التوفيق للإيمان و الاهتداء إذ كما أن السنة
الجارية في التكوين هي سنة الأسباب و قانون العلية و المعلولية العام، و المشية
الإلهية إنما تتعلق بالأشياء و تقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل و
الشرائط و ارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشية الإلهية و
إن كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن و إن شاء كان، كذلك
السنة في نظام التشريع و الهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه و من
أعرض عن رحمته حرمه، و الهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه
النفحة الإلهية و لم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق و الكفر و العناد شملته و
أحيته بأطيب الحياة، و من اتبع هواه و عاند الحق و استعلى على الله، و أخذ يمكر
بالله و يستهزىء بآياته حرمه الله السعادة و أنزل الله عليه الشقوة و أضله على
علم و طبع عليه بالكفر فلا ينجو أبدا.
و لو لا جريان المشية الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب و قانون العلية و
المعلولية و حلت الإرادة الجزافية محله و لغت المصالح و الحكم و الغايات، و أدى
فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأن التشريع ينتهي بالأخرة إلى التكوين
بوجه و دبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله.
و هذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الإيمان و خرج بذلك النوع
الإنساني عن منشعب طريقي الإيمان و الكفر، و سقط الاختيار الموهوب له و لازم
بحسب الخلقة الإيمان، و استقر في أول وجوده على أريكة الكمال، و تساوى الجميع
في القرب و الكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة و لغو التربية و التكميل، و
ارتفع الاختلاف بين الدرجات، و أدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات و الأعمال
و الأحوال و الملكات و انقلب بذلك النظام الإنساني و ما يحيط به و يعمل فيه من
نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.
و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: "و لو شاء الله ما أشركوا" على الإيمان
الاضطراري، و أن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرهم
إلى ذلك و ذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق المشية الإلهية على تركهم الشرك
اختيارا كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الأوفق بكمال القدرة، و الأنسب
بتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب قلبه.
فالمعنى: أعرض عنهم و لا يأخذك من جهة شركهم وجد و لا حزن فإن الله قادر أن
يشاء منهم الإيمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا.
على أنك لست بمسئول عن أمرهم لا تكوينا و لا غيره فلتطب نفسك.
و يظهر من ذلك أيضا أن قوله: "و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم بوكيل"
أيضا مسوق سوق التسلية و تطييب النفس، و كأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة
شئون وجودهم كالحياة و النشوء و الرزق و نحوها، و بالوكيل القائم على إدارة
الأعمال ليجلب بذلك المنافع و يدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها
فمحصل المراد بقوله: "و ما جعلناك" إلخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية و لا
أمر حياتهم الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك و عدم إجابتهم إلى طلبتك.
و ربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه و بالوكيل من يجلب
المنافع إلى من يتوكل عنه، و لا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه
يختص بالتكوين و الوكيل يعم التكوين و غيره، و لا كثير جدوى في حمل إحدى
الجملتين على جهة تكوينية، و الأخرى على ما يعمها و غيرها بل الوجه حمل الأولى
على إحدى الجهتين، و الأخرى على الأخرى.
قوله تعالى: "و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم"
السب معروف، قال الراغب في المفردات،: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة
يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له العدو، و
تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان و العدو قال: فيسبوا
الله عدوا بغير علم و تارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال مكان ذو عدواء
أي غير متلائم الأجزاء.
انتهى.
و الآية تذكر أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني و تتوقى ساحتها
أن يتلوث بدرن الإهانة و الإزراء بشنيع القول و السب و الشتم و السخرية و نحوها
فإن الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، و المقابلة في التعدي على من
يحسبه متعديا إلى نفسه، و ربما حمله الغضب على الهجر و السب لما له عنده أعلى
منزلة العزة و الكرامة فلو سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن
يعارضوا المؤمنين بسب ما له عندهم كرامة الألوهية و هو الله عز اسمه ففي سب
آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه و كبريائه.
و عموم التعليل المفهوم من قوله: "كذلك زينا لكل أمة عملهم" يفيد عموم النهي
لكل قول سيىء يؤدي إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى.
قوله تعالى: "كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا
يعملون" الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضما يجلب الرغبة إليه و يحببه عند
طالبه فيتحرك نحو الزينة و ينتهي إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته
الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر و البرد.
و قد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب و الفروع
و يديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه و
ما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف فيها بحواسه و قواه الباطنة ثم يتغذى بأكل
أشياء و شرب أشياء و يهيج إلى النكاح بأعمال خاصة و يلبس و يأوي و يجلب و يدفع
و هكذا.
و له في جميع هذه الأعمال و ما يتعلق بها لذائذ يقارنها و غايات حيوية ينتهي
إليها و آخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة
التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية.
و هو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام و
الشراب و النكاح و غير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء و لذة التقدم و الأنس
و المدح و الفخر و الذكر الخالد و الانتقام و الثروة و الأمن و غير ذلك مما لا
يحصى.
و هذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الأعمال و متعلقاتها، و قد سخر الله سبحانه
بها الإنسان فهو يوقع الأفعال و يتوخى الأعمال لأجلها، و بتحققها يتحقق الغايات
الإلهية و الأغراض التكوينية كبقاء الشخص، و دوام النسل، و لو لا ما في الأكل و
الشرب و النكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات
الشاقة المتعبة لجسمه و الثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، و فنى الشخص،
و انقطع النسل فانقرض النوع، و بطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.
و ما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي
في أنواع الأغذية و لذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه
واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، و لا سائق لها إليها إلا
الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
و ما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه و لا تضره في آخرته فهي
منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله
الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى: "حبب إليكم الإيمان و زينه في
قلوبكم": الحجرات: 7.
و ما كان منها لذة فكرية توافق الهوى و تشقي في الأخرى و الأولى بإبطال
العبودية و إفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن
الفطرة هي الخلقة الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة و الأحكام
الناشئة منها و الأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت
الفطرة و لم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية و
عثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في
الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى
الله سبحانه إلا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: "لأزينن لهم في الأرض و
لأغوينهم أجمعين": الحجر: 39 و قال تعالى: "فزين لهم الشيطان أعمالهم": النحل:
63.
أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام
التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها و هداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة
الإنسان الكونية السليمة عقائد و آراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده و تحفظه
عن الشقاء و خيبة المسعى، و جلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء و ينهى
عن المعروف و يبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن و القبيح معا و
ينهى الناس جميعا عن القبيح و الحسن معا فيختل بذلك نظام التكليف و التشريع ثم
الثواب و العقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر
الناس عليها، و الفطرة بريئة من هذا التناقض و أمثاله متأبية مستنكفة من أن
ينسب إليها ما تعده من السفه و العتاهية.
فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة و المعصية إليه تعالى بمعنى
أن النفوس التي تزينت بالتقوى و تجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة و
العمل الصالح، و النفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق و اكتست بخباثة الباطن يدعوها
الله سبحانه إلى الفجور و الفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير و
الشر و الباعث إلى الطاعة و المعصية جميعا هو الله سبحانه.
قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه و هذا هو النظر في الطاعة و
المعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما و بينه تعالى فلا شك أن الحالات
الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي،
و على تقديرها تنسب الطاعة و المعصية إليها بلا واسطة و إلى الله سبحانه بالإذن
فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
و أما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة و المعصية من حيث تشريع
الأحكام، و من حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة
الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: إن الله سبحانه يدعو إلى الإيمان و
الكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة و المعصية معا؟ و هو الذي يصف دينه بأنه الدين
القيم على المجتمع الإنساني المبني على الفطرة الإلهية و هذه الشرائع الإلهية
ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية و الدواعي النفسانية الموافقة
لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي
فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: "و إذا فعلوا فاحشة قالوا
وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على
الله ما لا تعلمون، قل أمر ربي بالقسط": الأعراف: 29.
و أما أنها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام و السلطنة الإلهية مطلقة و
حاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شيء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في
قلوب أوليائه من الشرك و الفسق و جميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله
سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان و الاختبار الذي لا يتم دونه
نظام التشريع و مسلك الدعوة و الهداية، قال تعالى: "ما من شفيع إلا من بعد
إذنه": يونس: 3 و قال: "و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين": آل عمران:
141.
فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة، و
عليه يجري قوله تعالى: "كذلك زينا لكل أمة عملهم": الآية: 108 و أوضح منه في
الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم
أيهم أحسن عملا": الكهف: 7.
و للمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية.
منها: أن المراد هو التزيين بالأمر و النهي و بيان الحسن و القبح فالمعنى: كما
زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء
إلى الله و ترك سب الأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن
قبول الحق.
و فيه أنه مخالف لظهور الآية في العموم، و لا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما
ظهر مما تقدم.
و منها: أن المعنى: و كذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد
عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق و يجتنبوا الباطل.
و فيه أنه كما لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر
إليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة و السيئة
على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية و ما يشابهها و بين
الدعوة التشريعية إلى القبائح و المساوي، و نسبة الأول إليه تعالى دون الثاني
ليس في محله.
و منها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله و لكن الله حبب إليكم
الإيمان و زينة في قلوبكم و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان": الحجرات: 7
أي حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله، و كره الكفر بذكر
عقابه و ذم فاعليه.
و فيه: أن فيه تقييدا للأعمال بالحسنة من غير مقيد.
على أنه معنى بعيد من السياق و من ظاهر لفظ التزيين.
على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين.
و منها: أن المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها و سيئاتها ابتداء من غير
واسطة و الدعوة منه تعالى إلى الطاعة و المعصية جميعا بناء على أن الإنسان مجبر
في الأفعال المنسوبة إليه.
و فيه: أن ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالإجبار فإن الشيء إنما تضم إليه
الزينة ليرغب فيه الإنسان و يحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به و ترك غيره، و لو
لم تكن نسبة فعله و تركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما
يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، و هو ينطبق في الطاعات و
حسنات الأعمال على ما يسمى في لسان الشرع هداية و توفيقا، و في المعاصي و سيئات
الأعمال على ما يعد إضلالا و مكرا إلهيا، و لا مانع من نسبة الإضلال و المكر
إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الإضلال و المكر الابتدائيين، و قد
تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب و تقدم البحث عن الجبر و ما
يقابله من التفويض و الأمر بين الأمرين في الجزء الأول من الكتاب.
و قوله تعالى: "ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون" يؤيد ما تقدم أن حكم
التزيين عام شامل لجميع الأعمال الباطنية كالإيمان و الكفر و الظاهرية كأعمال
الجوارح الحسنة و السيئة فإن ظاهر الآية أن الإنسان إنما يقصد هذه الأعمال و
يوقعها لأجل ما يرغب فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات
المضروب عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا
يعملونه، و عاينوا ما هم مصروفون عنه، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم
مما أخفي لهم من قرة أعين، و أما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا
يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات و
السيئات.
قوله تعالى: "و أقسموا بالله جهد أيمانهم - إلى قوله - عند الله" الجهد بفتح
الجيم الطاقة و الأيمان جمع يمين و هي القسم، و جهد الأيمان أي ما تبلغه قدرتها
و هو الطاقة، و المراد أنهم بالغوا في القسم و أكدوه ما استطاعوا، و المراد
بكون الآيات عند الله كونها في ملكه و تحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه.
فالمعنى: و أقسموا بالله و بالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية - و هذا اقتراح منهم
للآية كناية - قل إنما الآيات عند الله و هو الذي يملكها و يحيط بها و ليس إلي
من أمرها شيء حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي.
قوله تعالى: "و ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون" قرىء: لا يؤمنون بياء
الغيبة و تاء الخطاب جميعا، و الخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من
الالتفات، و على القراءة الثانية للمشركين و الكلام من تتمة قول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و هو ظاهر.
و الظاهر أن "ما" في قوله: "و ما يشعركم" للاستفهام، و المعنى: و ما هو الذي
يفيد لكم العلم بواقع الأمر و هو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في
معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم و
صدقتم بحلفهم و ليس لكم علم بأنهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأن الله لم
يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم.
و ربما قيل: إن "أن" في قوله: "أنها إذا جاءت" إلخ، بمعنى لعل و هذا معنى شاذ
لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.
قوله تعالى: "و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة" إلخ، ظاهر
السياق أن الجملة عطف على قوله: "لا يؤمنون" و هي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم،
و المراد بقوله: "أول مرة" الدعوة الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من
المرة الثانية التي هي الدعوة مع نزول الآيات.
و المعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، و ذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا
يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، و أبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن
يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه
الآيات المفروضة و نذرهم في طغيانهم يترددون و يتحيرون.
هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية.
و للمفسرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها و البحث عنها، من
شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها.
قوله تعالى: "و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى" إلى آخر الآية
بيان آخر لقوله: "إنما الآيات عند الله" و أن قولهم: "لئن جاءتهم آية ليؤمنن
بها" دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الآيات التي يظنون
أنها أسباب مستقلة في إيجاد الإيمان في قلوبهم و إقدارهم على التلبس به أن تودع
في نفوسهم الإيمان إلا بمشية الله.
فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفا و إيجازا، و المعنى: و لو أننا أجبناهم
في مسألتهم و آتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، و أحيينا
لهم الموتى فواجهوهم و كلموهم و أخبروهم بصدق ما يدعون إليه، و حشرنا و جمعنا
عليهم كل شيء قبيلا قبيلا و صنفا صنفا، أو حشرنا عليهم كل شيء قبلا و مواجهة
فشهدوا لهم بلسان الحال أو القال، ما كانوا ليؤمنوا و لم يؤثر شيء من ذلك في
استجابتهم للإيمان إلا أن يشاء الله إيمانهم.
فلا يتم لهم الإيمان بشيء من الأسباب و العلل إلا بمشية الله فإن النظام الكوني
على عرضه العريض و إن كان يجري على طبق حكم السببية و قانون العلية العام غير
أن العلل و الأسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شيء من
شئونها و مقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلا بمشية الله و لا يحيى لها رسم إلا
بإذنه.
غير أن المشركين أكثرهم - و لعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم
و يتعلقون بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو
أتاهم سبب الإيمان - و هو الآية المقترحة - آمنوا و اتبعوا الحق و قد اختلط
عليهم الأمر بجهلهم فأخذوا هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا
مستقلة تامة مستغنية عنه.
قوله تعالى: "و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن" إلى آخر الآية
الشياطين جمع شيطان و هو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذي يصفه
القرآن و ذريته، و الجن من الجن بالفتح و هو الاستتار، و هو في عرف القرآن نوع
من الموجودات ذوات الشعور و الإرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها و هم غير
الملائكة.
يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم.
و الوحي هو القول الخفي بإشارة و نحوها، و الزخرف الزينة المزوقة أو الشيء
المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذي يشبه الحق و ليس به، و غرورا
مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له.
و المعنى: و مثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدوا هم شياطين الإنس و الجن يشير
بعضهم إلى بعض - و كأن المراد وحي شياطين الجن بالوسوسة و النزغة إلى شياطين
الإنس و وحي بعض شياطين الإنس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر و التسويل -
بأقوال مزوقة و كلمات مموهة يغرونهم بذلك غرورا أو لغرورهم و إضلالهم بذلك.
و قوله: "و لو شاء ربك ما فعلوه" يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ
فكما أن الآيات لا تؤثر في إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين
الأنبياء و وحيهم زخرف القول غرورا كل ذلك بإذن الله و لو شاء الله ما فعلوه و
لم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوا للأنبياء، و بهذا المعنى يتصل هذه الآية بما
قبلها لاشتراكهما في بيان توقف الأمور على المشية.
و قوله: "فذرهم و ما يفترون" تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة و
الإفساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله و لم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة
الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالأمر و إفسادهم له بل اتركهم و ما
يفترونه على الله من دعوى الشريك و نحوها.
فقوله: "و لو شاء ربك ما فعلوه" إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات: "و
أعرض عن المشركين و لو شاء الله ما أشركوا".
و الكلام في قوله تعالى: "و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن" إلخ،
حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للأنبياء - و فيه التسبب إلى الشر و البعث إلى الشرك
و المعصية - إلى الله سبحانه و هو منزه من كل شر و سوء نظير الكلام في إسناده
تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله: "كذلك زينا لكل أمة عملهم" و قد تقدم
الكلام فيه، و كذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية: "و لتصغى
إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" إلخ، حيث جعل هذه المظالم و الآثام غايات
إلهية للدعوة الحقة.
و للمفسرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى
الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينة الأعمال إليه تعالى.
و قد عرفت أن الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو
مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى
من كل سوء و قبح تعطي أن الخيرات و الحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه
بلا واسطة أو معها، و الشرور و السيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان و النفس
بلا واسطة، و إنما تنتسب إليه تعالى بالإذن فهي مملوكة له تعالى واقعة بإذنه
ليستقيم أمر الامتحان الإلهي و يتم بذلك أمر الدعوة الإلهية بالأمر و النهي و
الثواب و العقاب و لو لا ذلك لبطلت و لغت السنة الإلهية في تسيير الإنسان كسائر
الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكوني الذي لا سبيل فيه إلى الكمال و
السعادة إلا بالسلوك التدريجي.
قوله تعالى: "و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة" إلى آخر الآية.
الاقتراف هو الاكتساب، و ضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة و اللازم
في قوله: "لتصغى" للغاية و الجملة معطوفة على مقدر، و التقدير: فعلنا ما فعلنا
و شئنا ما شئنا و لم نمنع عن وحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة و
لتصغى و تجيب إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليكتسبوا ما هم
مكتسبون لينالوا بذلك جميعا ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة، فإن
الله سبحانه يمد كلا من أهل السعادة و أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم
و يرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى: "كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من
عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا": الإسراء: 20.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت
قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي
أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان و
أبو جهل و النضر بن الحارث و أمية و أبي ابنا خلف و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن
العاصي و الأسود بن البختري، و بعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن
لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك
فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا و سيدنا، و إن محمدا قد
آذانا و آذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا و لندعه و إلهه، فدعاه
فجاءه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك و بنو
عمك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يريدون؟ قالوا: نريد أن
تدعنا و آلهتنا و لندعك و إلهك. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أ رأيتم
إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة أن تكلمتم بها ملكتم بها العرب و دانت لكم
بها العجم الخراج؟ قال أبو جهل: و أبيك لنعطينكها و عشرة أمثالها فما هي؟ قال:
قولوا لا إله إلا الله، فأبوا و اشمأزوا. قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد
فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في
يدي و لو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا و
قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك و نشتم من يأمرك، فأنزل الله: "و لا
تسبوا الذين يدعون من دون الله - فيسبوا الله عدوا بغير علم".
أقول: و الرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا
يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها و ترك التقرب إليها حتى إذا
يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم و كان مقتضى جر الكلام أن يهددوه
على دعوة إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك و يذكروا شتمه و يهددوه على ذلك و ليس في
الآية إشارة إلى صدر القصة و هو أصلها.
على أن وقار النبوة و عظيم الخلق الذي كان في عشرته (صلى الله عليه وآله وسلم)
كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، و الذي ورد من لعنه بعض
صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلانا و فلانا، و كذا ما ورد في كلامه تعالى من
قبيل قوله: "لعنهم الله بكفرهم": النساء: 46 و قوله: "فقتل كيف قدر": المدثر:
19 و قوله: "قتل الإنسان": عبس: 17 و قوله: "أف لكم و لما تعبدون من دون الله":
الأنبياء: 67 و نظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح
الشنيع للإهانة تخييلا، و الذي ورد من قبيل قوله تعالى: "مناع للخير معتد أثيم،
عتل بعد ذلك زنيم": القلم: 13 فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة.
فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما أداهم
المشاجرة و الجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة
الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: سئل عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إن الشرك أخفى من
دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء" فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد
المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين
عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من
حيث لا يعلمون فقال: و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله - فيسبوا الله عدوا
بغير علم.
و في تفسير العياشي، عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته عن قول الله: "و لا تسبوا" الآية. قال: فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب
الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا
يضرب بها الحجر، و أن عيسى كان يحيي الموتى و أن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من
الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي شيء تحبون أن
آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم و
الله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو
فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، و إن
شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال: بل يتوب تائبهم فأنزل الله: "و أقسموا بالله
جهد أيمانهم إلى قوله يجهلون".
أقول: القصة المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد
تقدم أن ظاهرها الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، و أنهم ليسوا
بمفارقي الشرك و إن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان و لم يشأ
ذلك، و إذا كان هذا هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول
جبرئيل: إن شئت صار ذهبا فإن لم يؤمنوا عذبوا، و إن شئت فاتركهم حتى يتوب
تائبهم، إلخ.
فالظاهر أن الآيات في معنى قوله: "إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون": البقرة: 6 فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى
القرآن و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه
الآيات و أخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و نقلب أفئدتهم و أبصارهم" الآية في رواية
أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية، يقول: و ننكس قلوبهم فيكون
أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى: و قال علي بن أبي طالب
(عليه السلام): إن ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم
فمن لم يعرف قلبه معروفا و لم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل
خيرا أبدا.
أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها و انعكاس أحكامها من جهة اتباع الهوى
و الإعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد
الله (عليه السلام): عن قول الله: "و نقلب أفئدتهم و أبصارهم" إلى آخر الآية
أما قوله: "كما لم يؤمنوا به أول مرة" فإنه حين أخذ عليهم الميثاق.
أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى: "و إذ أخذ ربك من
بني آدم من ظهورهم ذريتهم": الآية الأعراف: 172 لكن تقدم أن ظاهر السياق أن
المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة.
6 سورة الأنعام - 114 - 121
أَ فَغَيرَ اللّهِ أَبْتَغِى حَكَماً وَ هُوَ الّذِى أَنزَلَ إِلَيْكمُ
الْكِتَب مُفَصلاً وَ الّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَب يَعْلَمُونَ أَنّهُ
مُنزّلٌ مِّن رّبِّك بِالحَْقِّ فَلا تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْترِينَ (114) وَ
تَمّت كلِمَت رَبِّك صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكلِمَتِهِ وَ هُوَ
السمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَ إِن تُطِعْ أَكثرَ مَن فى الأَرْضِ يُضِلّوك عَن
سبِيلِ اللّهِ إِن يَتّبِعُونَ إِلا الظنّ وَ إِنْ هُمْ إِلا يخْرُصونَ (116)
إِنّ رَبّك هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلّ عَن سبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكلُوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم
بِئَايَتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ مَا لَكُمْ أَلا تَأْكلُوا مِمّا ذُكِرَ اسمُ
اللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصلَ لَكُم مّا حَرّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا
اضطرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنّ كَثِيراً لّيُضِلّونَ بِأَهْوَائهِم بِغَيرِ
عِلْمٍ إِنّ رَبّك هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظهِرَ
الاثْمِ وَ بَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ سيُجْزَوْنَ بِمَا
كانُوا يَقْترِفُونَ (120) وَ لا تَأْكلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسمُ اللّهِ
عَلَيْهِ وَ إِنّهُ لَفِسقٌ وَ إِنّ الشيَطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائهِمْ
لِيُجَدِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطعْتُمُوهُمْ إِنّكُمْ لمَُشرِكُونَ (121)
بيان
الآيات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله:
"أ فغير الله أبتغي حكما" إلخ.
لها فيما بينها أنفسها - و هي ثمان آيات - اتصال يرتبط به بعضها ببعض و يرجع
بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله و قد فصل أحكامه في كتابه،
و نهيا من اتباع الناس و إطاعتهم و أن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم
الظن و بنائهم على الخرص و التخمين، و في آخرها أن المشركين و هم أولياء
الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، و فيها الأمر بأكل ما ذكر اسم
الله عليه و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و أن ذلك هو الذي فصله في
كتابه و ارتضاه لعباده.
و هذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و المؤمنين في أمر الميتة قائلين: أ تأكلون مما قتلتم أنتم و لا
تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق و تثبيت الحكم.
قوله تعالى: "أ فغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا" قال
في المجمع:، الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق
أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق و قد يحكم الحاكم بغير حق.
قال: و معنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، و ينفي
أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى.
و في قوله: "أ فغير الله أبتغي حكما" تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت
من قبله تعالى، و قد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين
يديه من التوراة و الإنجيل، و المعنى: أ فغير الله من سائر من تدعون من الآلهة
أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه و هو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب و هو
القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، و لا يستحق
الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى: "و الله يقضي بالحق و الذين
يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير": المؤمن: 20.
و قوله: "أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى": يونس:
35.
قوله تعالى: "و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون" إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يتأكد به يقينه و يزيد في ثبوت قدمه فيما
ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق
ففي الكلام التفات، و هو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه و اطمئنان قلبه
و ليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره.
و قوله: "بالحق" متعلق بقوله: "منزل من ربك" و كون التنزيل بالحق هو أن لا يكون
بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: "هل أنبئكم على
من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم": الشعراء: 222 أو بتخليط الشياطين
بعض الباطل بالوحي الإلهي، و قد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: "عالم الغيب
فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه
رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم": الجن: 28. قوله تعالى: "و تمت كلمة ربك
صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم" الكلمة - و هي ما دل على معنى
تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل
من القضاء أو الوعد كما في قوله: "و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم": يونس:
19 يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط: "و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين":
البقرة: 36 و قوله تعالى: "حقت عليهم كلمة ربك": يونس: 96 يشير إلى قوله تعالى
لإبليس: "لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين": ص: 85 و قد فسرها في موضع
آخر بقوله: "و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين": هود: 119 و
كقوله تعالى: "و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا": الأعراف: 137
يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من فرعون و يورثهم الأرض كما يشير إليه قوله: "و
نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين":
القصص: 5.
و ربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى: "إن الله
يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم": آل عمران: 45 و العناية فيه أنه
(عليه السلام) خرق عادة التدريج و خلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: "إن مثل
عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون": آل عمران: 59.
فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله: "و تمت كلمة ربك
صدقا و عدلا" كلمة الدعوة الإسلامية و ما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه
وآله وسلم) و نزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل
على جوامع المعارف الإلهية و كليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من
دعاء إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة: "ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم
يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم": البقرة: 129.
و أشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: "الذين يتبعون الرسول النبي
الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل": الأعراف: 157 و بذلك
يشعر قوله في الآية السابقة: "و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك
بالحق" و قوله: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم": البقرة:
146 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
فالمراد بتمام الكلمة - و الله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة
الإسلامية بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول الكتاب المهيمن على
جميع الكتب، مرتبة الثبوت و استقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا
طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة و شريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة
دالة على أن الشريعة الإسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع و تزيد
عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي
أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى": الشورى: 13.
و بذلك يظهر معنى تمام الكلمة و أن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل
النقص إلى مرحلة الكمال، و مصداقه الدين المحمدي قال تعالى: "و الله متم نوره و
لو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و
لو كره المشركون": الصف: 9.
و تمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة
التي بين بها، و عدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض و
تزن الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف و ظلم، و
لذلك بين هذين القيدين أعني "صدقا و عدلا" بقوله "لا مبدل لكلماته" فإن الكلمة
الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما
قضى بتبدل إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره و
يقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال، و عدلا لا تنحرف عن حالها
التي كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله: "لا مبدل لكلماته"
بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: "صدقا و عدلا".
و من أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة و الكلمات القرآن، و قيل: إن
المراد بالكلمة القرآن، و بالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل
بالنسخ و الله سبحانه يقول: "لا مبدل لكلماته" و قيل: المراد بالكلمة الدين، و
قيل: المراد الحجة، و قيل: الصدق ما كان في القرآن من الأخبار و العدل ما فيه
من الأحكام، هذا.
و قوله تعالى: "و هو السميع العليم" أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان
حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة
الملائكة الرسل، و العليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم
بأفعالكم.
قوله تعالى: "و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله" إلى آخر الآية.
الخرص الكذب و التخمين، و المعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني
قوله: "و إن هم إلا يخرصون" و التي قبلها أعني قوله: "إن يتبعون إلا الظن"
واقعتان موقع التعليل لقوله: "و إن تطع أكثر من في الأرض" إلخ، و اتباع الظن و
القول بالخرص و التخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد
فيها إلا على العلم و اليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى و الشرائع المأخوذة
من قبله.
و سير الإنسان و سلوكه الحيوي في الدنيا و إن كان لا يتم دون الركون إلى الظن و
الاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية و العلل و
الأسباب التي تدعوه إلى صوغه لها و تقليبها في قالب الاعتبار، و ارتباطها
بشئونه الحيوية و أعماله و أحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى
العلم الخالص و اليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها
مما يضطر إلى الإذعان بها و الاعتماد عليها.
إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب و التخمين من جزئيات الأمور في الحياة، و أما
السعادة الإنسانية التي فيه فوز هذا النوع و فلاحه، و الشقاء الذي يرتبط به
الهلاك الأبدي و الخسران الدائم، و ما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في
العالم و صانعه و الغرض من إيجاده و ما ينتهي إليه الأمر من البعث و النشور و
ما يتعلق به من النبوة و الكتاب و الحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى
الظن و التخمين و الله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم و اليقين، و
الآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: "و لا تقف ما ليس لك به علم": الإسراء:
36.
و من أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض
لركونهم العام إلى الظن و التخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه و يأمرون به
في سبيل الله و طريق عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه
في أمر الربوبية و العبودية لملازمته الجهل بالواقع و عدم الاطمئنان إليه، و لا
عبودية مع الجهل بالرب و ما يريده من عبده.
فهذا هو الذي يقضي به العقل الصريح، و قد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في
الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة: "إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله
و هو أعلم بالمهتدين" حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، و قد جمع سبحانه
بين الطريقين جميعا في قوله: "و ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن
لا يغني من الحق شيئا و هذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد
إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو
أعلم بمن اهتدى": النجم: 30 و في ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه و حكمه.
قوله تعالى: "إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين" ذكروا أن
"أعلم" إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل و ربما استعمل بمعنى الصفة خالية
عن التفضيل، و الآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين و
المهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، و إن أريد مطلق
العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان
المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال و المهتدي قدر ما أفاضه
الله عليه من العلم.
و تعدي أعلم بالباء في قوله: "أعلم بالمهتدين" يدل على أن قوله: "من يضل" منصوب
بنزع الخافض و التقدير: "أعلم بمن يضل" و يؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة
النجم.
قوله تعالى: "فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين" لما تمهد ما
قدمه من البيان الذي هو حجة على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج
منه وجوب الأخذ بالحكم الذي شرعه و هو الذي يدل عليه هذه الآية، و وجوب رفض ما
يبيحه غيره بهواه من غير علم و يجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، و هو
الذي يدل عليه قوله: "و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية.
و من هنا يظهر أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في
الآية إلى تمام أربع آيات، و سائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه
المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه و لا تأكلوا مما لم
يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى و الميتة فكلوا من هذه و لا تأكلوا من
ذاك، و إن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق.
فقوله: "فكلوا مما ذكر اسم الله" تفريع للحكم على البيان السابق، و لذا أردفه
بقوله: "إن كنتم بآياته مؤمنين" و المراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة
المذكاة.
قوله تعالى: "و ما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه" إلى آخر الآية، بيان
تفصيلي لإجمال التفريع الذي في الآية السابقة، و المعنى: أن الله فصل لكم ما
حرم عليكم و استثنى صورة الاضطرار و ليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا
بأس بأكله و إن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين
المتجاوزين عن حدوده و هؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم
و ما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع.
و يظهر بما مر أن معنى قوله: "و ما لكم ألا تأكلوا" ما لكم من نفع في أن لا
تأكلوا، و ما للاستفهام التعجيبي، و قيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، و ما
للنفي.
و يظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام و قد وقعت في سورة
النحل من السور المكية فهي نازلة قبل الأنعام.
|