قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
21 سورة الأنبياء - 34 - 47
وَ مَا جَعَلْنَا لِبَشرٍ مِّن قَبْلِك الْخُلْدَ أَ فَإِين مِّت فَهُمُ
الخَْلِدُونَ (34) كلّ نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُم بِالشرِّ وَ
الخَْيرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَ إِذَا رَءَاك الّذِينَ
كفَرُوا إِن يَتّخِذُونَك إِلا هُزُواً أَ هَذَا الّذِى يَذْكرُ ءَالِهَتَكُمْ
وَ هُم بِذِكرِ الرّحْمَنِ هُمْ كفِرُونَ (36) خُلِقَ الانسنُ مِنْ عَجَلٍ
سأُورِيكُمْ ءَايَتى فَلا تَستَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هَذَا
الْوَعْدُ إِن كنتُمْ صدِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا
يَكُفّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النّارَ وَ لا عَن ظهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنصرُونَ
(39) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتهُمْ فَلا يَستَطِيعُونَ رَدّهَا وَ لا
هُمْ يُنظرُونَ (40) وَ لَقَدِ استهْزِئَ بِرُسلٍ مِّن قَبْلِك فَحَاقَ
بِالّذِينَ سخِرُوا مِنهُم مّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (41) قُلْ مَن
يَكلَؤُكم بِالّيْلِ وَ النّهَارِ مِنَ الرّحمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكرِ رَبِّهِم
مّعْرِضونَ (42) أَمْ لهَُمْ ءَالِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لا
يَستَطِيعُونَ نَصرَ أَنفُسِهِمْ وَ لا هُم مِّنّا يُصحَبُونَ (43) بَلْ
مَتّعْنَا هَؤُلاءِ وَ ءَابَاءَهُمْ حَتى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا
يَرَوْنَ أَنّا نَأْتى الأَرْض نَنقُصهَا مِنْ أَطرَافِهَا أَ فَهُمُ
الْغَلِبُونَ (44) قُلْ إِنّمَا أُنذِرُكم بِالْوَحْىِ وَ لا يَسمَعُ الصمّ
الدّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ (45) وَ لَئن مّستْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ
رَبِّك لَيَقُولُنّ يَوَيْلَنَا إِنّا كنّا ظلِمِينَ (46) وَ نَضعُ
الْمَوَزِينَ الْقِسط لِيَوْمِ الْقِيَمَةِ فَلا تُظلَمُ نَفْسٌ شيْئاً وَ إِن
كانَ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَ كَفَى بِنَا
حَسِبِينَ (47)
بيان
من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) كقولهم: سيموت فنتخلص منه و نستريح و قولهم استهزاء به: أ هذا
الذي يذكر آلهتكم، و قولهم استهزاء بالبعث و القيامة التي أنذروا بها: متى هذا
الوعد إن كنتم صادقين و فيها جواب أقاويلهم و إنذار و تهديد لهم و تسلية للنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: "و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أ فإن مت فهم الخالدون" يلوح من
الآية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سيموت
فيتخلصون من دعوته و تنجو آلهتهم من طعنه كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم:
"نتربص به ريب المنون:" الطور: 30، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد
حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت و إنهم ميتون، و لا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم
يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، و لا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو
من الفتنة و الامتحان الإلهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، و لا أنهم
خارجون بالآخرة من سلطاننا بل إلينا يرجعون فنحاسبهم و نجزيهم بما عملوا.
و قوله: "أ فإن مت فهم الخالدون" و لم يقل: فهم خالدون و الاستفهام للإنكار
يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه
خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود و قبض عليه و عاش عيشة خالدة طيبة
ناعمة و ليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، و الحياة الدنيا مبنية على الفتنة و
الامتحان، و لا معنى للفتنة الدائمة و الامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى
ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم و ميزهم.
قوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت و نبلوكم بالشر و الخير فتنة و إلينا ترجعون"
لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما
أضيف إليه فنفس الشيء معناه الشيء و نفس الإنسان معناه هو الإنسان و نفس الحجر
معناه هو الحجر فلو قطع عن الإضافة لم يكن له معنى محصل، و على هذا المعنى
يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لإفادة معناه كقولنا: جاءني
نفس زيد.
و بهذا المعنى يطلق على كل شيء حتى عليه تعالى كما قال: "كتب على نفسه
"الرحمة:" الأنعام: 12، و قال: "و يحذركم الله نفسه:" آل عمران: 28، و قال:
"تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في نفسك:" المائدة: 116.
ثم شاع استعمال لفظها في شخص الإنسان خاصة و هو الموجود المركب من روح و بدن
فصار ذا معنى في نفسه و إن قطع عن الإضافة قال تعالى: "هو الذي خلقكم من نفس
واحدة و جعل منها زوجها" أي من شخص إنساني واحد، و قال: "من قتل نفسا بغير نفس
أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس
جميعا:" المائدة: 32، أي من قتل إنسانا و من أحيا إنسانا، و قد اجتمع المعنيان
في قوله: "كل نفس تجادل عن نفسها" فالنفس الأولى بالمعنى الثاني و الثانية
بالمعنى الأول.
ثم استعملوها في الروح الإنساني لما أن الحياة و العلم و القدرة التي بها قوام
الإنسان قائمة بها و منه قوله تعالى: "أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون:"
الأنعام: 93.
و لم يطرد هذان الإطلاقان أعني الثاني و الثالث في غير الإنسان كالنبات و سائر
الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات و الحيوان عرفا
نفس و لا للمبدإ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لأن للحياة توقفا
عليها و منه النفس السائلة.
و كذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الإطلاقين الثاني و الثالث على الملك و الجن
و إن كان معتقدهم أن لهما حياة، و لم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا و
إن نطقت الآيات بأن للجن تكليفا كالإنسان و موتا و حشرا قال: "و ما خلقت الجن و
الإنس إلا ليعبدون:" الذاريات: 56، و قال في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و
الإنس": الأحقاف: 18، و قال: "و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من
الإنس": الأنعام: 128، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة.
و أما الموت فهو فقد الحياة و آثارها من الشعور و الإرادة عما من شأنه أن يتصف
بها قال تعالى: "و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم:" البقرة: 28، و قال في
الأصنام: "أموات غير أحياء:" النحل: 21، و أما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع
تعلقها التدبيري كما يعرفه الأبحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما
في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال
و من المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الإنسان المركب من الروح
و البدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه و أما الروح فلم
يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، و أما
قوله: "كل شيء هالك إلا وجهه:" القصص: 88، و قوله: "و نفخ في الصور فصعق من في
السماوات و من في الأرض:" الزمر: 68 فسيجيء إن شاء الله أن الهلاك و الصعق غير
الموت و إن انطبقا عليه أحيانا.
فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: "كل نفس ذائقة الموت"
الإنسان - و هو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الإنساني
إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه.
و ثانيا: أن الآية إنما تعم الإنسان لا غير كالملك و الجن و سائر الحيوان و إن
كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن و الحيوان، و من القرينة على اختصاص الآية
بالإنسان قوله قبله: "و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" و قوله بعده: "و نبلوكم
بالشر و الخير فتنة" على ما سنوضحه.
و قد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الآية الروح، و قد عرفت خلافه و أصر
كثير منهم على عموم الآية لكل ذي حياة من الإنسان و الملك و الجن و سائر
الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة و قد عرفت ما فيه.
و من أعجب ما قيل في تقرير عموم الآية ما ذكره الإمام الرازي في التفسير
الكبير، بعد ما قرر أن الآية عامة لكل ذي نفس: أن الآية مخصصة فإن له تعالى
نفسا كما قال حكاية عن عيسى (عليه السلام): "تعلم ما في نفسي و لا أعلم ما في
نفسك" مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، و كذا الجمادات لها نفوس و هي لا تموت.
ثم قال: و العام المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه،
و ذلك يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و العقول المفارقة و النفوس
الفلكية أنها لا تموت.
انتهي.
و فيه أولا: أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى و على كل شيء هي النفس
بالاستعمال الأول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما
في الآية التي استشهد بها و التي في الآية مقطوعة عن الإضافة فهي غير مرادة
بهذا المعنى في الآية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الآخرين و قد عرفت أن
المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني.
و ثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: "كنتم أمواتا فأحياكم" و
قوله: "أموات غير أحياء" و غير ذلك.
و ثالثا: أن قوله: إن عموم الآية يبطل قول الفلاسفة في الأرواح البشرية و
العقول المفارقة و النفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها
من طريق البرهان، و البرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها
عليها كلها أو بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الآية في مقابلها ظهور و
الظهور حجة ظنية و كيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، و إن لم تكن براهين
لم تثبت المسائل و لا حاجة معه إلى ظن بالخلاف.
ثم إن قوله: "كل نفس ذائقة الموت" كما هو تقرير و تثبيت لمضمون قوله قبلا: "و
ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" إلخ، كذلك توطئة و تمهيد لقوله بعد "و نبلوكم
بالشر و الخير فتنة" - أي و نمتحنكم بما تكرهونه من مرض و فقر و نحوه و ما
تريدونه من صحة و غنى و نحوهما امتحانا - كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة
مؤجلة و نمتحنكم فيها بالشر و الخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضي عليكم و
لكم.
و فيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، و هي أن حياة كل نفس حياة
امتحانية ابتلائية، و من المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي و من الضروري أن
المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد و من الضروري أن وراء كل مقدمة ذا
مقدمة و بعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها
رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء.
قوله تعالى: و إذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أ هذا الذي يذكر آلهتكم
و هم بذكر الرحمن هم كافرون" إن نافية و المراد بقوله: "إن يتخذونك إلا هزوا"
قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزأ به.
و قوله: "أ هذا الذي يذكر آلهتكم" - و التقدير يقولون أو قائلين: أ هذا الذي
إلخ - حكاية كلمة استهزائهم، و الاستهزاء في الإشارة إليه بالوصف، و مرادهم
ذكره آلهتهم بسوء و لم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم و هو نظير قوله: "قالوا سمعنا
فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" الآية: - 60 من السورة.
و قوله: "و هم بذكر الرحمن هم كافرون" في موضع الحال من ضمير "إن يتخذونك" أو
من فاعل يقولون المقدر و هو أقرب و محصله أنهم يأنفون لآلهتهم عليك إذ تقول
فيها أنها لا تنفع و لا تضر - و هو كلمة حق - فلا يواجهونك إلا بالهزء و
الإهانة و لا يأنفون لله إذ يكفر بذكره و الكافرون هم أنفسهم.
و المراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة و منعم كل نعمة و لازمه
كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، و قيل: المراد بالذكر القرآن.
و المعنى: و إذا رآك الذين كفروا و هم المشركون ما يتخذونك و لا يعاملون معك
إلا بالهزء و السخرية قائلين بعضهم لبعض أ هذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء
فيأنفون لآلهتهم حيث تذكرها و الحال أنهم بذكر الرحمن كافرون و لا يعدونه جرما
و لا يأنفون له.
قوله تعالى: "خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون" كان المشركون على
كفرهم بالدعوة النبوية يستهزءون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما رأوه، و
هو زيادة في الكفر و العتو، و الاستهزاء بشيء إنما يكون بالبناء على كونه هزلا
غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان
الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الإلهي بعد تعرض و هو الاستعجال بالعذاب
فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الآيات و هم في عافية و يطلبون آيات تجازيهم بما
صنعوا، و لذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الآيات و هي
الآيات الملازمة للعذاب و أخبرهم أنه سيريهم إياها.
فقوله: "خلق الإنسان من عجل" كناية عن بلوغ الإنسان في العجل كأنه خلق من عجل و
لا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله و خلق من خير أو من شر و هو
أبلغ من قولنا، ما أعجله و ما أشد استعجاله، و الكلام وارد مورد التعجيب.
و فيه استهانة بأمرهم و أنه لا يعجل بعذابهم لأنهم لا يفوتونه.
و قوله: "سأريكم آياتي فلا تستعجلون" الآية الآتية تشهد بأن المراد بإراءة
الآيات تعذيبهم بنار جهنم و هي قوله لو يعلم الذين كفروا حين" إلخ.
قوله تعالى: "و يقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين" القائلون هم الذين كفروا
و المخاطبون هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون و كان مقتضى الظاهر
أن يقولوا؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به و
إغراؤهم عليه و الوعد هو ما اشتملت عليه الآية السابقة و تفسره الآية اللاحقة.
قوله تعالى: "لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم
و لا هم ينصرون" "لو" للتمني و "حين" مفعول يعلم على ما قيل و قوله "لا يكفون
عن وجوههم النار و لا عن ظهورهم" أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم و من
خلفهم و فيه إشارة إلى إحاطتها بهم.
و قوله: "و لا هم ينصرون" معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد
بالمقابلة و المعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم و لا بنصر من ينصرهم
على دفعه.
و الآية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، و المعنى ليت الذين كفروا يعلمون
الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم و لا عن ظهورهم لا باستقلال من أنفسهم و
لا هم ينصرون في دفعها.
قوله تعالى: "بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها و لا هم ينظرون" الذي
يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه
بعضهم، و الجملة إضراب عن قوله في الآية السابقة: "لا يكفون" إلخ.
لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الآيات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، و لا
عن قوله: "لو يعلم الذين كفروا" بدعوى أنه في معنى النفي و التقدير لا يعلمون
ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق.
و معنى إتيان النار بغتة أنها تفاجئهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم و تحيط بهم
فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: "نار الله الموقدة التي تطلع على
الأفئدة:" الهمزة: 7، و قوله: "النار التي وقودها الناس:" البقرة: 24، و قوله:
"إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم" الآية: 98 من السورة، و النار التي
هذا شأنها تأخذ باطن الإنسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من
جهة إلى جهة و تأخذ الظاهر قبل الباطن و الخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع
مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء
حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا
اختلاف جهة و لا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها و بينهم فلا تسمح لهم في نزولها
عليهم إلا البهت و الحيرة.
فمعنى الآية - و الله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم و ظهورهم بل تأتيهم من
حيث لا يشعرون بها و لا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها و لا يمهلون
في إتيانها.
قوله تعالى: "و لقد استهزىء برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به
يستهزءون" قال في المجمع،: الفرق بين السخرية و الهزء أن في السخرية معنى طلب
الذلة لأن التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضي طلب صغر القدر بما يظهر في القول.
انتهى و الحيق الحلول، و المراد بما كانوا به يستهزءون، العذاب و في الآية
تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تخويف و تهديد للذين كفروا.
قوله تعالى: "قل من يكلؤكم بالليل و النهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم
معرضون" الكلاءة الحفظ و المعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمن إن أراد أن
يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة و الإنذار فيهم فقال: "بل هم عن ذكر ربهم" أي
القرآن "معرضون" فلا يعتنون به و لا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم و
قيل المراد بالذكر مطلق المواعظ و الحجج.
قوله تعالى: "أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم و لا هم منا
يصحبون" أم منقطعة و الاستفهام للإنكار، و كل من "تمنعهم" و "من دوننا" صفة
آلهة، و المعنى بل أسألهم أ لهم آلهة من دوننا تمنعهم منا.
و قوله: "لا يستطيعون نصر أنفسهم" إلخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام
الإنكاري و لذا جيء بالفصل و التقدير ليس لهم آلهة كذلك لأنهم لا يستطيعون نصر
أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا و لا هم منا يجأرون و يحفظون فكيف ينصرون عبادهم من
المشركين أو يجيرونهم، و ذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين و السياق
يأباه.
قوله تعالى: "بل متعنا هؤلاء و آباءهم حتى طال عليهم العمر" إلى آخر الآية هو
إضراب عن مضمون الآية السابقة كما كان قوله: "بل هم عن ذكر ربهم معرضون" إضرابا
عما تقدمه و المضامين - كما ترى - متقاربة.
و قوله: "حتى طال عليهم العمر" غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة
و التقدير بل متعنا هؤلاء المشركين و آباءهم و دام لهم التمتع حتى طال عليهم
العمر فاغتروا بذلك و نسوا ذكر الله و أعرضوا عن عبادته، و كذلك كان مجتمع قريش
فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي
تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة و أخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين
أبيهم إبراهيم و عبدوا الأصنام.
و قوله: "أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" الأنسب للسياق أن يكون
المراد من نقص الأرض من أطرافها هو انقراض بعض الأمم التي تسكنها فإن لكل أمة
أجلا ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون - و قد تقدمت الإشارة إلى أن المراد
بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم.
و المعنى: أ فلا يرون أن الأرض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فما
ذا يمنعه أن يهلكهم أ فهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك و
انقراض.
و قد مر بعض الكلام في الآية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع.
و اعلم أن في هذه الآيات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها.
قوله تعالى: "قل إنما أنذركم بالوحي و لا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون" أي
إن الذي أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه و إنما لا يؤثر فيكم أثره و هو الهداية
لأن فيكم صمما لا تسمعون الإنذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه.
قوله تعالى: "و لئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين"
النفحة الوقعة من العذاب، و المراد أن الإنذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء
يحتاجون إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا و يعترفوا بظلمهم.
قوله تعالى: "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا" القسط
العدل و هو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف و التقدير الموازين
ذوات القسط، و قد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير
سورة الأعراف.
و قوله: "و إن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها" الضمير في "و إن كان" للعمل
الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي و إن كان العمل الموزون مقدار حبة من
خردل في ثقله أتينا بها و كفى بنا حاسبين و حبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها
و صغرها و حقارتها، و فيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لما نعى جبريل للنبي نفسه
قال: يا رب فمن لأمتي؟ فنزلت: "و ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد" الآية.
أقول: سياق الآيات و هو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر.
على أن هذا السؤال لا يلائم موقع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، على أن
النعي كان في آخر حياة النبي و السورة من أقدم السور المكية.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
على أبي سفيان و أبي جهل و هما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك و قال لأبي سفيان:
هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبني عبد مناف نبي؟
فسمعها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع إلى أبي جهل فوقع به و خوفه و
قال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك، و قال لأبي سفيان: أما إنك لم تقل
ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الآية "و إذا رآك الذين كفروا أن يتخذونك إلا هزوا"
الآية.
أقول: هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الآية ذاك الانطباق.
و في المجمع، روي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن أمير المؤمنين (عليه
السلام) مرض فعاده إخوانه فقالوا: كيف نجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشر. قالوا:
ما هذا كلام مثلك قال: إن الله تعالى يقول: "و نبلوكم بالشر و الخير فتنة"
فالخير الصحة و الغنى و الشر المرض و الفقر.
و فيه،: في قوله: "أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها" و قيل: بموت
العلماء و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نقصانها ذهاب عالمها.
أقول؟ و تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى الحديث.
و في التوحيد، عن علي (عليه السلام): في حديث و قد سأله رجل عما اشتبه عليه من
الآيات و أما قوله تبارك و تعالى "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة - فلا
تظلم نفس شيئا" فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك و
تعالى الخلق بعضهم ببعض بالموازين.
و في المعاني، بإسناده إلى هشام قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول
الله عز و جل؟ "و نضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا" قال؟ هم
الأنبياء و الأوصياء: أقول: و رواه في الكافي، بسند فيه رفع عنه (عليه السلام)
و قد أوردنا روايات أخر في هذه المعاني في تفسير سورة الأعراف و تكلمنا فيها
بما تيسر.
21 سورة الأنبياء - 48 - 77
وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسى وَ هَرُونَ الْفُرْقَانَ وَ ضِيَاءً وَ ذِكْراً
لِّلْمُتّقِينَ (48) الّذِينَ يخْشوْنَ رَبّهُم بِالْغَيْبِ وَ هُم مِّنَ
الساعَةِ مُشفِقُونَ (49) وَ هَذَا ذِكْرٌ مّبَارَكٌ أَنزَلْنَهُ أَ فَأَنتُمْ
لَهُ مُنكِرُونَ (50) وَ لَقَدْ ءَاتَيْنَا إِبْرَهِيمَ رُشدَهُ مِن قَبْلُ وَ
كُنّا بِهِ عَلِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ مَا هَذِهِ
التّمَاثِيلُ الّتى أَنتُمْ لهََا عَكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا
ءَابَاءَنَا لهََا عَبِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَ ءَابَاؤُكمْ
فى ضلَلٍ مّبِينٍ (54) قَالُوا أَ جِئْتَنَا بِالحَْقِّ أَمْ أَنت مِنَ
اللّعِبِينَ (55) قَالَ بَل رّبّكمْ رَب السمَوَتِ وَ الأَرْضِ الّذِى
فَطرَهُنّ وَ أَنَا عَلى ذَلِكم مِّنَ الشهِدِينَ (56) وَ تَاللّهِ لأَكيدَنّ
أَصنَمَكم بَعْدَ أَن تُوَلّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَذاً إِلا
كبِيراً لهُّمْ لَعَلّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا
بِئَالِهَتِنَا إِنّهُ لَمِنَ الظلِمِينَ (59) قَالُوا سمِعْنَا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى
أَعْينِ النّاسِ لَعَلّهُمْ يَشهَدُونَ (61) قَالُوا ءَ أَنت فَعَلْت هَذَا
بِئَالهَِتِنَا يَإِبْرَهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كبِيرُهُمْ هَذَا
فَسئَلُوهُمْ إِن كانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنفُسِهِمْ
فَقَالُوا إِنّكُمْ أَنتُمُ الظلِمُونَ (64) ثمّ نُكِسوا عَلى رُءُوسِهِمْ
لَقَدْ عَلِمْت مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ
اللّهِ مَا لا يَنفَعُكمْ شيْئاً وَ لا يَضرّكُمْ (66) أُفٍ لّكمْ وَ لِمَا
تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ
انصرُوا ءَالِهَتَكُمْ إِن كنتُمْ فَعِلِينَ (68) قُلْنَا يَنَارُ كُونى
بَرْداً وَ سلَماً عَلى إِبْرَهِيمَ (69) وَ أَرَادُوا بِهِ كَيْداً
فَجَعَلْنَهُمُ الأَخْسرِينَ (70) وَ نجّيْنَهُ وَ لُوطاً إِلى الأَرْضِ الّتى
بَرَكْنَا فِيهَا لِلْعَلَمِينَ (71) وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسحَقَ وَ يَعْقُوب
نَافِلَةً وَ ُكلاً جَعَلْنَا صلِحِينَ (72) وَ جَعَلْنَهُمْ أَئمّةً يَهْدُونَ
بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيرَتِ وَ إِقَامَ الصلَوةِ
وَ إِيتَاءَ الزّكوةِ وَ كانُوا لَنَا عَبِدِينَ (73) وَ لُوطاً ءَاتَيْنَهُ
حُكْماً وَ عِلْماً وَ نجّيْنَهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الّتى كانَت تّعْمَلُ
الخَْبَئث إِنّهُمْ كانُوا قَوْمَ سوْءٍ فَسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْنَهُ فى
رَحْمَتِنَا إِنّهُ مِنَ الصلِحِينَ (75) وَ نُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ
فَاستَجَبْنَا لَهُ فَنَجّيْنَهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ
نَصرْنَهُ مِنَ الْقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِئَايَتِنَا إِنهُمْ كانُوا
قَوْمَ سوْءٍ فَأَغْرَقْنَهُمْ أَجمَعِينَ (77)
بيان
لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالإشارة إلى قصص جماعة
من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس و أيدهم بالحكمة و الشريعة و أنجاهم
من أيدي ظالمي أممهم و في ذلك تأييد لما مر في الآيات من حجة التشريع و إنذار و
تخويف للمشركين و بشرى للمؤمنين.
و قد عد فيها من الأنبياء موسى و هارون و إبراهيم و لوطا و إسحاق و يعقوب و
نوحا و داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل و ذا النون و زكريا
و يحيى و عيسى سبعة عشر نبيا، و قد ذكر في الآيات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا
موسى و هارون و عقبهما بإبراهيم و إسحاق و يعقوب و لوط و هم قبلهما ثم عقبهم
بنوح و هو قبلهم.
قوله تعالى: "و لقد آتينا موسى و هارون الفرقان و ضياء و ذكرا للمتقين" رجوع
بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم"
الآية بذكر ما أوتي النبيون من المعارف و الشرائع و أيدوا بإهلاك أعدائهم
بالقضاء بالقسط.
و الآية التالية تشهد أن المراد بالفرقان و الضياء و الذكر التوراة آتاها الله
موسى و أخاه هارون شريكه في النبوة.
و الفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، و ذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا
مصدر و تسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق و
الباطل في الاعتقاد و العمل، و الآية نظيرة قوله: "و لقد آتينا موسى الكتاب و
الفرقان لعلكم تهتدون:" البقرة: 53 و تسميتها ضياء لكونها مضيئة لمسيرهم إلى
السعادة و الفلاح في الدنيا و الآخرة، و تسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به
الله من الحكم و المواعظ و العبر.
و لعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لإتيانه باللام بخلاف ضياء و
ذكر، و بوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء و ذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها
غيرهم و لذا جيء بالضياء و الذكر منكرين ليتقيدا بقوله: "للمتقين" بخلاف
الفرقان و قد سميت التوراة نورا و ذكرا في قوله تعالى: "فيها هدى و نور:"
المائدة: 44 و قوله: "فاسألوا أهل الذكر" الآية: 7 من السورة.
قوله تعالى: "و هذا ذكر مبارك أنزلناه أ فأنتم له منكرون" الإشارة بهذا إلى
القرآن و إنما سمي ذكرا مباركا لأنه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به
و الكافر في المجتمع البشري و تتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه
أو جحدته.
يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد و الصلاح في المجتمع العام
البشري و الرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك
الذي يسترشد بمعناه و إن جهل الجاهلون لفظه، و أنكر الجاحدون حقه و كفروا بعظيم
نعمته، و أعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، و قال الرسول يا رب إن
قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا.
قوله تعالى: "و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنا به عالمين" انعطاف إلى ما
قبل موسى و هارون و نزول التوراة كما يفيده قوله: "من قبل" و المراد أن إيتاء
التوراة لموسى و هارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم
رشده.
و الرشد خلاف الغي و هو إصابة الواقع، و هو في إبراهيم (عليه السلام) اهتداؤه
الفطري التام إلى التوحيد و سائر المعارف الحقة و إضافة الرشد إلى الضمير
الراجع إلى إبراهيم تفيد الاختصاص و تعطي معنى اللياقة و يؤيد ذلك قوله بعده:
"و كنا به عالمين" و هو كناية عن العلم بخصوصية حاله و مبلغ استعداده.
و المعنى: و أقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له و يليق به من الرشد و إصابة
الواقع و كنا عالمين بمبلغ استعداده و لياقته، و الذي آتاه الله سبحانه - كما
تقدم - هو ما أدركه بصفاء فطرته و نور بصيرته من حقيقة التوحيد و سائر المعارف
الحقة من غير تعليم معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقن.
قوله تعالى: "إذ قال لأبيه و قومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون"
التمثال الشيء المصور و الجمع تماثيل، و العكوف الإقبال على الشيء و ملازمته
على سبيل التعظيم له كذا ذكره الراغب فيهما.
يريد (عليه السلام) بهذه التماثيل الأصنام التي كانوا نصبوها للعبادة و تقريب
القرابين و كان سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها و قد كان أول وروده في المجتمع
و قد ورد في مجتمع ديني يعبدون التماثيل و الأصنام و السؤال مع ذلك مجموع
سؤالين اثنين و سؤاله أباه عن الأصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في
سورة الأنعام و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: "قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين" هو جواب القوم و لما كان سؤاله
(عليه السلام) عن حقيقة الأصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم إياها
تمسكوا في التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدوهم
يعبدونها.
قوله تعالى: "قال لقد كنتم أنتم و آباؤكم في ضلال مبين" و وجه كونهم في ضلال
مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الأصنام من قوله: "أ فتعبدون من دون
الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم".
قوله تعالى: "قالوا أ جئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين" سؤال تعجب و استبعاد و
هو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكارا لما هو فيه استبعد و لم يكد
يذعن بأنه مما يمكن أن ينكره منكر و لذا سألوه أ جئتنا بالحق أم أنت من
اللاعبين و المراد بالحق - على ما يعطيه السياق - الجد أي أ تقول ما تقوله جدا
أم تلعب به؟.
قوله تعالى: "قال بل ربكم رب السماوات و الأرض الذي فطرهن و أنا على ذلكم من
الشاهدين" هو (عليه السلام) - كما ترى - يحكم بأن ربهم هو رب السماوات و أن هذا
الرب هو الذي فطر السماوات و الأرض و هو الله سبحانه، و في ذلك مقابلة تامة
لمذهبهم في الربوبية و الألوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما
للسماوات و الأرض من الإله أو الآلهة، و هم جميعا غير الله سبحانه و لا يرونه
تعالى إلها لهم و لا لشيء من السماوات و الأرض بل يعتقدون أنه إله الآلهة و رب
الأرباب و فاطر الكل.
فقوله: "بل ربكم رب السماوات و الأرض الذي فطرهن" رد لمذهبهم في الألوهية بجميع
جهاته و إثبات أن لا إله إلا الله و هو التوحيد.
ثم كشف (عليه السلام) بقوله: "و أنا على ذلكم من الشاهدين" عن أنه معترف مقر
بما قاله ملتزم بلوازمه و آثاره شاهد عليه شهادة إقرار و التزام فإن العلم
بالشيء غير الالتزام به و ربما تفارقا كما قال تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها
أنفسهم:" النمل: 14.
و بهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أ هو مجد فيما يقول أم لاعب؟ و الجواب لا
بل أعلم بذلك و أتدين به.
هذا ما يعطيه السياق في معنى الآية، و لهم في تفسيرها أقاويل أخر و كذا في
معاني آيات القصة السابقة و اللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض
لها فلا سياق الآيات يساعد عليها و لا مذاهب الوثنية توافقها.
قوله تعالى: "و تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين" معطوف على قوله: "بل
ربكم" إلخ أي قال لأكيدن أصنامكم "إلخ" و الكيد التدبير الخفي على الشيء بما
يسوؤه، و في قوله: "بعد أن تولوا مدبرين" دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد
أو من بيت الأصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا.
و سياق القصة و طبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: "و تالله لأكيدن أصنامكم
بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول
يقال: لأفعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته.
و من البعيد أن يكون مخاطبا به القوم و هم أمة وثنية كبيرة ذات قوة و شوكة و
حمية و عصبية و لم يكن فيهم يومئذ - و هو أول دعوة إبراهيم - موحد غيره فلم يكن
من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء و خاصة بالتصريح على أن ذلك منه
بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الأصنام من الناس كمن يفشي سرا لمن يريد أن
يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول و أما
إعلان السر لعامتهم فلا قطعا.
قوله تعالى: "فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون" قال الراغب الجذ
كسر الشيء و تفتيته و يقال لحجارة الذهب المكسورة و لفتات الذهب جذاذا و منه
قوله تعالى: "فجعلهم جذاذا" انتهى فالمعنى فجعل الأصنام قطعا مكسورة إلا صنما
كبيرا من بينهم.
و قوله: "لعلهم إليه يرجعون" ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله
فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك أن
يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ و يجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه
و يتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما و يترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم.
و على هذا فالضمير في قوله: "إليه" راجع إلى "كبيرا لهم" و يؤيد هذا المعنى
أيضا قول إبراهيم الآتي: "بل فعله كبيرهم هذا" في جواب قولهم: "أ أنت فعلت هذا
بالهتنا".
و الجمهور من المفسرين على أن ضمير "إليه" لإبراهيم (عليه السلام) و المعنى
فكسر الأصنام و أبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم و يبكتهم و
يبين بطلان ألوهية أصنامهم، و ذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه و المعنى
فكسرهم و أبقاه لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الأصنام و
تنبهوا من كسرها أنها ليست بآلهة كما كانوا يزعمون.
و غير خفي أن لازم القولين كون قوله: "إلا كبيرا لهم" مستدركا و إن تكلف بعضهم
في دفع ذلك بما لا يغني عن شيء، و كان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى "كبيرا"
عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله
(عليه السلام) لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم (عليه
السلام).
قوله تعالى: "قالوا من فعل هذا بالهتنا إنه لمن الظالمين" استفهام بداعي التأسف
و تحقيق الأمر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم و يؤيد ذلك قوله تلوا: "قالوا
سمعنا فتى يذكرهم" إلخ فقول بعضهم: إن "من موصولة" ليس بسديد.
و قوله: "إنه لمن الظالمين" قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه إذ قد
ظلم الآلهة بالتعدي إلى حقهم و هو التعظيم و ظلم الناس بالتعدي إلى حقهم و هو
احترام آلهتهم و تقديس مقدساتهم و ظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق و ارتكاب
ما لم يكن له أن يرتكبه.
قوله تعالى: "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" المراد بالذكر - على ما
يستفاد من المقام - الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الآلهة بالسوء فإن يكن فهو
الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرى لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجري.
و قوله: "يقال له إبراهيم" برفع إبراهيم و هو خبر لمبتدإ محذوف و التقدير هو
إبراهيم كذا ذكره الزمخشري.
قوله تعالى: "قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون" المراد بإتيانه على
أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس و مرآهم و هو حيث كسرت الأصنام كما يظهر من
قول إبراهيم (عليه السلام): "بل فعله كبيرهم هذا" بالإشارة إلى كبير الأصنام.
و كأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة
إلى أخذ الإقرار منه بالجذ و الكسر، و أما ما قيل: إن المراد شهادتهم عقاب
إبراهيم على ما فعل فبعيد.
قوله تعالى: "قالوا ء أنت فعلت هذا بالهتنا يا إبراهيم" الاستفهام - كما قيل -
للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع و في قولهم "بالهتنا"
تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الأصنام.
قوله تعالى: "قال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون" ما أخبر (عليه
السلام) به بقوله: "بل فعله كبيرهم هذا" دعوى بداعي إلزام الخصم و فرض و تقدير
قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله "أ فتعبدون من دون الله ما لا
ينفعكم شيئا و لا يضركم" إلخ.
و ليس بخبر جدي البتة، و هذا كثير الورود في المخاصمات و المناظرات فالمعنى
قال: بل شاهد الحال و هو صيرورة الجميع جذاذا و بقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد
فعله كبيرهم هذا و هو تمهيد لقوله: "فاسألوهم" إلخ.
و قوله: "فاسألوهم إن كانوا ينطقون" أمر بأن يسألوا الأصنام عن حقيقة الحال و
أن الذي فعل بهم هذا من هو؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: "إن كانوا
ينطقون" شرط جزاؤه محذوف يدل عليه قوله فاسألوهم".
فتحصل أن الآية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم و تأخير أو محذور تعقيد،
و أن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم و توطئة و تمهيد
لذيلها و هو أمرهم بسؤال الأصنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا
ينطقون.
و ربما قيل: إن قوله: "إن كانوا ينطقون" قيد لقوله: "بل فعله كبيرهم" و
التقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، و إذ كان نطقهم محالا فالفعل منه
كذلك و قوله: "فاسألوا" جملة معترضة.
و ربما قيل: إن فاعل قوله: "فعله" محذوف و التقدير بل فعله من فعله ثم ابتدأ
فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم إلخ و ربما قيل: غير ذلك و هي وجوه غير خالية من
التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى.
قوله تعالى: "فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون" تفريع على قوله:
"فاسألوهم إن كانوا ينطقون" فإنهم لما سمعوا منه ذلك و هم يرون أن الأصنام
جمادات لا شعور لها و لا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه
أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: "فرجعوا إلى أنفسهم" استعارة بالكناية عن
تنبههم و تفكرهم في أنفسهم، و قوله: "فقالوا إنكم أنتم الظالمون" أي قال كل
لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق.
و قيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض و قال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون و أنت
خبير بأن ذلك لا يناسب المقام و هو مقام تمام الحجة على الجميع و اشتراكهم في
الظلم و لو بني على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الأنسب أن يقال: إنا
نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى: "فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا
ويلنا إنا كنا طاغين:" القلم: 31، و قال: "فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن
محرومون:" الواقعة: 67.
قوله تعالى: "ثم نكسوا على رءوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون" قال الراغب: النكس
قلب الشيء على رأسه و منه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى: "ثم
نكسوا على رءوسهم".
انتهى فقوله: "ثم نكسوا على رءوسهم" كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل
على مكان الحق الذي ظهر لهم و الحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم
الباطل فنكسوا على رءوسهم فرفعوا الباطل و هو كون إبراهيم ظالما على الحق و هو
كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم "لقد علمت ما هؤلاء ينطقون".
و معنى قولهم: "لقد علمت" إلخ.
أن دفاعك عن نفسك برمي كبير الأصنام بالفعل و هو الجذ و تعليق ذلك باستنطاق
الآلهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية
عن ثبوت الجرم و قضاء على إبراهيم.
قوله تعالى: "قال أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم - إلى
قوله - أ فلا تعقلون" لما تفوهوا بقولهم: "ما هؤلاء ينطقون" و سمعه إبراهيم لم
يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة
فخصمهم بلازم قولهم و أتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقة للعبادة أي
غير آلهة.
فما حصل تفريع قوله: "أ فتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا و لا يضركم" أن
لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا و لا يقدروا على شيء، و لازم ذلك أن لا
ينفعوكم شيئا و لا يضروكم، و لازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما
لرجاء خير أو لخوف شر و ليس عندهم شيء من ذلك فليسوا بآلهة.
و قوله: "أف لكم و لما تعبدون من دون الله" تزجر و تبر منهم و من آلهتهم بعد
إبطال ألوهيتها، و هذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما
مر: "و أنا على ذلكم من الشاهدين"، و قوله: "أ فلا تعقلون" توبيخ لهم.
قوله تعالى: "قالوا حرقوه و انصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين" هو (عليه السلام) و
إن أبطل بكلامه السابق ألوهية الأصنام و كان لازمه الضمني أن لا يكون كسرهم
ظلما و جرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الأصنام بالفعل و أمرهم أن
يسألوا الآلهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لإبطال ألوهية
الآلهة و بهذا المقدار من السكوت و عدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم و أن جزاءه
أن يحرق بالنار.
و لذلك قالوا: حرقوه و انصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم و مجازاة من أهان بهم و
قولهم: "إن كنتم فاعلين" تهييج و إغراء.
قوله تعالى: "قلنا يا نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم" خطاب تكويني للنار
تبدلت به خاصة حرارتها و إحراقها و إفنائها بردا و سلاما بالنسبة إلى إبراهيم
(عليه السلام) على طريق خرق العادة، و بذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على
حقيقة الأمر فيه تفصيلا إذ الأبحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما
لنا علم بروابط العلية و المعلولية فيه من العاديات المتكررة، و أما الخوارق
التي نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها.
نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها و قد تكلمنا في ذلك في مباحث الإعجاز
في الجزء الأول من الكتاب.
و الفصل في قوله: "قلنا" إلخ.
لكونه في معنى جواب سؤال مقدر و تقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من
قولنا: فأضرموا نارا و ألقوه فيها فكأنه قيل: فما ذا كان بعده فقيل: قلنا يا
نار كوني بردا و سلاما على إبراهيم، و على هذا النحو الفصل في كل "قال" و
"قالوا" في الآيات السابقة من القصة.
قوله تعالى: "و أرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين" أي احتالوا عليه ليطفئوا
نوره و يبطلوا حجته فجعلناهم الأخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم و عدم تأثيره و
زادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ و الإنجاء.
قوله تعالى: "و نجيناه و لوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين" الأرض
المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، و لوط أول من آمن به و هاجر
معه كما قال تعالى: "فآمن له لوط و قال إني مهاجر إلى ربي:" العنكبوت: 26.
قوله تعالى: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة" النافلة العطية و قد تكرر البحث
عن مضمون الآيتين.
قوله تعالى: "و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا" إلى آخر الآية، الظاهر - كما يشير
إليه ما يدل من الآيات على جعل الإمامة في عقب إبراهيم (عليه السلام) - رجوع
الضمير في "جعلناهم" إلى إبراهيم و إسحاق و يعقوب.
و ظاهر قوله: "أئمة يهدون بأمرنا" أن الهداية بالأمر يجري مجرى المفسر لمعنى
الإمامة، و قد تقدم الكلام في معنى هداية الإمام بأمر الله في الكلام على قوله
تعالى: "إني جاعلك للناس إماما:" البقرة: 124 في الجزء الأول من الكتاب.
و الذي يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شئون الإمامة ليست هي بمعنى
إراءة الطريق لأن الله سبحانه جعل إبراهيم (عليه السلام) إماما بعد ما جعله
نبيا - كما أوضحناه في تفسير قوله: "إني جاعلك للناس إماما" فيما تقدم - و لا
تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للإمامة إلا الهداية بمعنى
الإيصال إلى المطلوب و هي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال و
نقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر.
و إذ كانت تصرفا تكوينيا و عملا باطنيا فالمراد بالأمر الذي تكون به الهداية
ليس هو الأمر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: "إنما أمره إذا أراد
شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء:" يس: 83 فهو الفيوضات
المعنوية و المقامات الباطنية التي يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة و
يتلبسون بها رحمة من ربهم.
و إذ كان الإمام يهدي بالأمر - و الباء للسببية أو الآلة فهو متلبس به أولا و
منه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالإمام هو الرابط بين الناس و بين
ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية و أخذها كما أن النبي رابط بين الناس و بين
ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية و هي الشرائع الإلهية تنزل بالوحي على النبي و
تنتشر منه و بتوسطه إلى الناس و فيهم، و الإمام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها
كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة و الأعمال الصالحة، و ربما
تجتمع النبوة و الإمامة كما في إبراهيم و ابنيه.
و قوله: "و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة" إضافة
المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك
جيء بالقطع عن الإضافة أو بأن و أن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك
الجرجاني في دلائل الإعجاز فقولنا: يعجبني إحسانك و فعلك الخير و قوله تعالى:
"ما كان الله ليضيع إيمانكم:" البقرة: 43" أ يدل على الوقوع قبلا، و قولنا:
يعجبني أن تحسن و أن تفعل الخير و قوله تعالى: "أن تصوموا خير لكم:" البقرة:
184 لا يدل على تحقق قبلي، و لذا كان المألوف في آيات الدعوة و آيات التشريع
الإتيان بأن و الفعل دون المصدر المضاف كقوله: "أمرت أن أعبد الله:" الرعد:
36"، و "ألا تعبدوا إلا إياه:" يوسف: 40 "و أن أقيموا الصلاة:" الأنعام: 72.
و على هذا فقوله: "و أوحينا إليهم فعل الخيرات" إلخ.
يدل على تحقق الفعل أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر
عنهم بوحي مقارن له و دلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل
أولا و يترتب عليه إتيان الفعل على ما شرع.
و يؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: "و كانوا لنا عابدين" فإنه يدل بظاهره على أنهم
كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحي و عبادتهم لله إنما كانت بأعمال
شرعها لهم الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس
وحي تشريع.
فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس و الطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم إلى
فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة و هي الإنفاق المالي الخاص بشريعتهم.
و القوم حملوا الوحي في الآية على وحي التشريع فأشكل عليهم الأمر أولا من جهة
أن فعل الخيرات بالمعنى المصدري ليس متعلقا للوحي بل متعلقه حاصل الفعل، و
ثانيا أن التشريع عام للأنبياء و أممهم و قد خص في الآية بهم، و لذا ذكر
الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات و ما يتلوه من إقام الصلاة و إيتاء الزكاة
المصدر المبني للمفعول، و المعنى و أوحينا إليهم أن يفعل الخيرات - بالبناء
للمجهول - و هكذا، و به يندفع الإشكالان إذ المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل
كالمترادفين فيندفع الإشكال الأول، و الفاعل فيه مجهول ينطبق على الأنبياء و
أممهم جميعا فيندفع الإشكال الثاني و قد كثر البحث حول ما ذكره.
و فيه: أولا منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول و حاصل الفعل.
و ثانيا: ما قدمناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق الفعل و لا يتعلق
الوحي التشريعي به.
و قد تقدمت قصة إبراهيم (عليه السلام) في تفسير سورة الأنعام و قصة يعقوب (عليه
السلام) في تفسير سورة يوسف من الكتاب، و ستجيء قصة إسحاق في تفسير سورة
الصافات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "و لوطا آتيناه حكما و علما" إلى آخر الآيتين.
الحكم بمعنى فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة و القرية التي كانت تعمل الخبائث
سدوم التي نزل بها لوط في مهاجرته مع إبراهيم (عليه السلام)، و المراد بالخبائث
الأعمال الخبيثة، و المراد بالرحمة الولاية أو النبوة و لكل وجه، و قد تقدمت
قصة لوط (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.
قوله تعالى: "و نوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له" إلى آخر الآيتين، أي و اذكر
نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم و من ذكر معه فاستجبنا له، و نداؤه ما حكاه
سبحانه من قوله: "رب إني مغلوب فانتصر" و المراد بأهله خاصته إلا امرأته و ابنه
الغريق، و الكرب الغم الشديد، و قوله: "و نصرناه من القوم" كأن النصر مضمن معنى
الإنجاء و نحوه و لذا عدي بمن و الباقي ظاهر.
و قد تقدمت قصة نوح (عليه السلام) في تفسير سورة هود من الكتاب.
بحث روائي
في روضة الكافي،: علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان
بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خالف إبراهيم (عليه
السلام) قومه و عاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل
إبراهيم (عليه السلام) إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم و وضع القدوم في
عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا و الله ما اجترى
عليها و لا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها و يبرأ منها فلم يجدوا له قتلة
أعظم من النار. فجمع له الحطب و استجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز
له نمرود و جنوده و قد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار؟ و وضع إبراهيم
في منجنيق، و قالت الأرض: يا رب ليس على ظهري أحد يعبدك غيره يحرق بالنار؟ قال
الرب إن دعاني كفيته. فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر (عليه
السلام): أن دعاء إبراهيم (عليه السلام) يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا
صمد يا من لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال
الرب تبارك و تعالى: كفيت فقال للنار: كوني بردا! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم
من البرد حتى قال الله عز و جل و سلاما على إبراهيم و انحط جبرئيل فإذا هو جالس
مع إبراهيم يحدثه في النار. قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم.
قال: فقال عظيم من عظمائهم: إني عزمت على النار أن لا تحرقه فأخذ عنق من النار
نحوه حتى أحرقه قال: فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو و سارة و لوط.
و فيه، أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه و عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا
عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه
السلام) يقول: إن إبراهيم (عليه السلام) لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود
فأوثق و عمل له حيرا و جمع له فيه الحطب و ألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في
النار لتحرقه ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم
سليما مطلقا من وثاقه. فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده و أن
يمنعوه من الخروج بماشيته و ماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي
و مالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، و اختصموا إلى قاضي
نمرود و قضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، و قضى على
أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود
فأمرهم أن يخلوا سبيله و سبيل ماشيته و ماله و أن يخرجوه، و قال: إنه إن بقي في
بلادكم أفسد دينكم و أضر بالهتكم.
الحديث.
و في العلل، بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال قال أبو عبد الله (عليه السلام):
لما ألقي إبراهيم (عليه السلام) في النار تلقاه جبرئيل في الهواء و هو يهوي
فقال: يا إبراهيم أ لك حاجة فقال: أما إليك فلا.
أقول: و قد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة و الخاصة و
كذا قول جبريل له: أ لك حاجة؟ و قوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن أبي شيبة و ابن جرير عن علي بن أبي
طالب: في قوله: "قلنا يا نار كوني بردا" قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى
قيل: و سلاما قال: لا تؤذيه.
و في الكافي، و العيون، عن الرضا (عليه السلام) في حديث في الإمامة قال: ثم
أكرمه الله عز و جل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الإمامة في ذريته و أهل الصفوة
و الطهارة فقال عز و جل: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة - و كلا جعلنا صالحين
و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا - و أوحينا إليهم فعل الخيرات - و إقام الصلاة و
إيتاء الزكاة و كانوا لنا عابدين" فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا
حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال الله جل جلاله: إن أولى الناس
بإبراهيم للذين اتبعوه - و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين" فكانت
خاصة. فقلدها علي (عليه السلام) بأمر الله عز و جل على رسم ما فرض الله تعالى
فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم و الإيمان بقوله تعالى: "قال
الذين أوتوا العلم و الإيمان - لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث" فهي في
ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد
(صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المعاني، بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول
الله عز و جل: "و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة" قال: ولد الولد نافلة.
و في تفسير القمي،: في قوله: "و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث" قال:
كانوا ينكحون الرجال.
أقول: و الروايات في قصص إبراهيم (عليه السلام) كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا
شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، و قد اكتفينا منها بما
قدمناه و قد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة
الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
21 سورة الأنبياء - 78 - 91
وَ دَاوُدَ وَ سلَيْمَنَ إِذْ يحْكمَانِ فى الحَْرْثِ إِذْ نَفَشت فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَ كنّا لحُِكْمِهِمْ شهِدِينَ (78) فَفَهّمْنَهَا سلَيْمَنَ وَ كلاّ
ءَاتَيْنَا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سخّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسبِّحْنَ
وَ الطيرَ وَ كنّا فَعِلِينَ (79) وَ عَلّمْنَهُ صنْعَةَ لَبُوسٍ لّكمْ
لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شكِرُونَ (80) وَ لِسلَيْمَنَ
الرِّيحَ عَاصِفَةً تجْرِى بِأَمْرِهِ إِلى الأَرْضِ الّتى بَرَكْنَا فِيهَا وَ
كنّا بِكلِّ شىْءٍ عَلِمِينَ (81) وَ مِنَ الشيَطِينِ مَن يَغُوصونَ لَهُ وَ
يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِك وَ كُنّا لَهُمْ حَفِظِينَ (82) وَ أَيّوب
إِذْ نَادَى رَبّهُ أَنى مَسنىَ الضرّ وَ أَنت أَرْحَمُ الرّحمِينَ (83)
فَاستَجَبْنَا لَهُ فَكَشفْنَا مَا بِهِ مِن ضرٍّ وَ ءَاتَيْنَهُ أَهْلَهُ وَ
مِثْلَهُم مّعَهُمْ رَحمَةً مِّنْ عِندِنَا وَ ذِكرَى لِلْعَبِدِينَ (84) وَ
إِسمَعِيلَ وَ إِدْرِيس وَ ذَا الْكِفْلِ كلّ مِّنَ الصبرِينَ (85) وَ
أَدْخَلْنَهُمْ فى رَحْمَتِنَا إِنّهُم مِّنَ الصلِحِينَ (86) وَ ذَا النّونِ
إِذ ذّهَب مُغَضِباً فَظنّ أَن لّن نّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فى الظلُمَتِ
أَن لا إِلَهَ إِلا أَنت سبْحَنَك إِنى كنت مِنَ الظلِمِينَ (87) فَاستَجَبْنَا
لَهُ وَ نجّيْنَهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذَلِك نُجِى الْمُؤْمِنِينَ (88) وَ
زَكرِيّا إِذْ نَادَى رَبّهُ رَب لا تَذَرْنى فَرْداً وَ أَنت خَيرُ
الْوَرِثِينَ (89) فَاستَجَبْنَا لَهُ وَ وَهَبْنَا لَهُ يَحْيى وَ أَصلَحْنَا
لَهُ زَوْجَهُ إِنّهُمْ كانُوا يُسرِعُونَ فى الْخَيرَتِ وَ يَدْعُونَنَا
رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنَا خَشِعِينَ (90) وَ الّتى أَحْصنَت
فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رّوحِنَا وَ جَعَلْنَهَا وَ ابْنَهَا ءَايَةً
لِّلْعَلَمِينَ (91)
بيان
تذكر الآيات جماعة آخرين من الأنبياء و هم داود و سليمان و أيوب و إسماعيل و
إدريس و ذو الكفل و ذو النون و زكريا و يحيى و عيسى (عليهما السلام)، و لم يراع
في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان و لا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في
الآيات السابقة، و قد أشار سبحانه إلى شيء من نعمه العظام على بعضهم و اكتفى في
بعضهم بمجرد ذكر الاسم.
قوله تعالى: "و داود و سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم - إلى
قوله - حكما و علما" الحرث الزرع و الحرث أيضا الكرم، و النفش رعي الماشية
بالليل، و في المجمع،: النفش بفتح الفاء و سكونها أن تنتشر الإبل و الغنم
بالليل فترعى بلا راع.
انتهي.
و قوله: "و داود و سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه" السياق يعطي أنها
واقعة واحدة بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بني إسرائيل و
قد جعله الله خليفة في الأرض كما قال: "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض
فاحكم بين الناس بالحق:" ص: 26 فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن
منه و لحكمة ما و لعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود.
و من المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحدة شخصية مع استقلال كل واحد
منهما في الحكم و نفوذه، و من هنا يظهر أن المراد بقوله: "إذ يحكمان" إذ
يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، و يؤيده كمال التأييد
التعبير بقوله: "إذ يحكمان" على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم
أخذا تدريجيا لم يتم بعد و لن يتم إلا حكما واحدا نافذا و كان الظاهر أن يقال:
إذ حكما.
و يؤيده أيضا قوله: "و كنا لحكمهم شاهدين" فإن الظاهر أن ضمير "لحكمهم"
للأنبياء و قد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير
لداود و سليمان و المحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم
أصلا فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الأنبياء و الظاهر أنه ضمان صاحب الغنم
للمال الذي أتلفته غنمه.
فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل
الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا
لله ناسخا أحدهما - و هو حكم سليمان - الآخر و هو حكم داود لقوله تعالى:
"ففهمناها سليمان" و إما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني
مع الجهل بالحكم الواقعي و قد صدق تعالى اجتهاد سليمان فكان هو حكمه.
أما الأول و هو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر
جمل الآية لا يساعد عليه إذ الناسخ و المنسوخ متباينان و لو كان حكماهما من
قبيل النسخ و متباينين لقيل: و كنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد و
التباين و لم يقل: "و كنا لحكمهم شاهدين" المشعر بوحدة الحكم و كونه تعالى
شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطإ، و لو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ
لكان على الخطإ، و لا يناسبه أيضا قوله: "و كلا آتينا حكما و علما" و هو مشعر
بالتأييد ظاهر في المدح.
و أما الثاني و هو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو
أبعد من سابقه لأنه تعالى يقول: "ففهمناها سليمان" و هو العلم بحكم الله
الواقعي و كيف ينطبق على الرأي الظني بما أنه رأي ظني.
ثم يقول: و كلا آتينا حكما و علما فيصدق بذلك أن الذي حكم به داود أيضا كان
حكما علميا لا ظنيا و لو لم يشمل قوله: "و كلا آتينا حكما و علما" حكم داود في
الواقعة لم يكن وجه لإيراد الجملة في المورد.
على أنك سمعت أن قوله: "و كنا لحكمهم شاهدين" لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن
الحكم كان واحدا و مصونا عن الخطإ.
فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الإجراء و كان
حكم سليمان أوفق و أرفق.
و قد وردت في روايات الشيعة و أهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث
برقاب الغنم و سليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع و صوف و نتاج.
و لعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها و كان ذلك مساويا
لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، و حكم سليمان بما هو
أرفق منه و هو أن يستوفي ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة و المنافع
المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة.
فقوله: "و داود و سليمان" أي و اذكر داود و سليمان "إذ" حين "يحكمان في الحرث
"إذ" حين "نفشت فيه غنم القوم" أي تفرقت فيه ليلا و أفسدته "و كنا لحكمهم" أي
لحكم الأنبياء، و قيل: الضمير راجع إلى داود و سليمان و المحكوم له، و قد عرفت
ما فيه، و قيل: الضمير لداود و سليمان لأن الاثنين جمع و هو كما ترى "شاهدين"
حاضرين نرى و نسمع و نوقفهم على وجه الصواب فيه "ففهمناها" أي الحكومة و القضية
"سليمان و كلا" من داود و سليمان "آتينا حكما و علما" و ربما قيل: إن تقدير صدر
الآية "و آتينا داود و سليمان حكما و علما" إذ يحكمان إلخ.
قوله تعالى: "و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير و كنا فاعلين" التسخير هو
تذليل الشيء بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر - بكسر الخاء
- و هذا غير الإجبار و الإكراه و القسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره
أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر - بفتح الخاء - فإنه جار على مقتضى طبعه و اختياره
كما أن إحراق الإنسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار و ليست بمقسورة و كذا
فعل الأجير لمؤجره فعل تسخيري من الأجير و ليس بمجبر و لا مكره.
و من هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال و الطير مع داود يسبحن معه أن لهما تسبيحا
في نفسهما و تسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: "يسبحن" بيان
لقوله: "و سخرنا مع داود" و قوله: "و الطير" معطوف على الجبال.
و قوله: "و كنا فاعلين أي كانت أمثال هذه المواهب و العنايات من سنتنا و ليس ما
أنعمنا به عليهما ببدع منا.
قوله تعالى: "و علمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون" قال في
المجمع،: اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب - إلى أن قال - و قيل: هو الدرع
انتهى.
و في المفردات،: و قوله تعالى: "صنعة لبوس لكم" يعني به الدرع.
و البأس شدة القتال و كأن المراد به في الآية شدة وقع السلاح و ضمير "و علمناه"
لداود كما قال في موضع آخر: "و ألنا له الحديد" و المعنى و علمنا داود صنعة
درعكم - أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم و تمنعكم شدة وقع السلاح و قوله:
"فهل أنتم شاكرون" تقرير على الشكر.
قوله تعالى: "و لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره" إلخ.
عطف على قوله "مع داود" أي و سخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري
الريح بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و هي أرض الشام التي كان يأوي إليها
سليمان و كنا عالمين بكل شيء.
و ذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها و رخائها
كما قال: "رخاء حيث أصاب:" (صلى الله عليه وآله وسلم) - 36 أن تسخير الريح
عاصفة أعجب و أدل على القدرة.
قيل: و لشيوع كونه (عليه السلام) ساكنا في تلك الأرض لم يذكر جريانها بأمره
منها و اقتصر على ذكر جريانها إليها و هو أظهر في الامتنان انتهي.
و يمكن أن
يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها
لترده إليها و تنزله فيها بعد ما حملته، و على هذا يشمل الكلام الخروج منها و
الرجوع إليها جميعا.
قوله تعالى: "و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم
حافظين" كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي و غيرها، و المراد بالعمل
الذي دون ذلك ما ذكره بقوله: "يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان
كالجواب و قدور راسيات:" سبأ: 13، و المراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته و
منعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الأمر، و المعنى ظاهر و ستجيء
قصتا داود و سليمان (عليهما السلام) في سورة سبإ إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "و أيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر و أنت أرحم الراحمين" الضر
بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض و الهزال و نحوهما و بالفتح أعم.
و قد شملته (عليه السلام) البلية فذهب ماله و مات أولاده و ابتلي في بدنه بمرض
شديد مدة مديدة ثم دعا الله و شكى إليه حاله فاستجاب الله له و نجاه من مرضه و
أعاد عليه ماله و ولده و مثلهم معهم و هو قوله في الآية التالية: "فاستجبنا له
فكشفنا ما به من ضر" أي نجيناه من مرضه و شفيناه "و آتيناه أهله" أي من مات من
أولاده "و مثلهم معهم رحمة من عندنا و ذكرى للعابدين" ليتذكروا و يعلموا أن
الله يبتلي أولياءه امتحانا منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم و لا يضيع أجر المحسنين.
و ستجيء قصة أيوب (عليه السلام) في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "و إسماعيل و إدريس و ذا الكفل" إلخ.
أما إدريس (عليه السلام) فقد تقدمت قصته في سورة مريم، و أما إسماعيل فستجيء
قصته في سورة الصافات، و تأتي قصة ذي الكفل في سورة ص إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه" إلخ.
النون الحوت و ذو النون هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل
نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا و
آمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى
في بطنه فكشف عنه و أرسله ثانيا إلى قومه.
و قوله: "و ذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه" أي و اذكر ذا النون إذ
ذهب مغاضبا أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه من
قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.
و يمكن أن يكون قوله: "إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه" واردا مورد التمثيل
أي كان ذهابه هذا و مفارقة قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه و هو يظن أن مولاه
لن يقدر عليه و هو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته و أما كونه (عليه
السلام) مغاضبا لربه حقيقة و ظنه أن الله لا يقدر عليه جدا فمما يجل ساحة
الأنبياء الكرام عن ذلك قطعا و هم معصومون بعصمة الله.
و قوله: "فنادى في الظلمات" إلخ.
فيه إيجاز بالحذف و الكلام متفرع عليه و التقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه
فنادى في بطنه ربه، و الظاهر أن المراد بالظلمات كما قيل - ظلمة البحر و ظلمة
بطن الحوت و ظلمة الليل.
و قوله: "أن لا إله إلا أنت سبحانك" تبر منه (عليه السلام) مما كان يمثله ذهابه
لوجهه و مفارقته قومه من غير أن يؤمر فإن ذهابه ذلك كان يمثل - و إن لم يكن
قاصدا ذلك متعمدا فيه - أن هناك مرجعا يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرأ من ذلك
بقوله لا إله إلا أنت، و كان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه و
أن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرأ من ذلك بتنزيهه
بقوله: سبحانك.
و قوله: "إني كنت من الظالمين" اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل كان يمثل
الظلم و إن لم يكن ظلما في نفسه و لا هو (عليه السلام) قصد به الظلم و المعصية
غير أن ذلك كان تأديبا منه تعالى و تربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في
مشيتها من تمثيل الظلم فضلا عن نفس الظلم.
قوله تعالى: "فاستجبنا له و نجيناه من الغم و كذلك ننجي المؤمنين" هو (عليه
السلام) و إن لم يصرح بشيء من الطلب و الدعاء، و إنما أتى بالتوحيد و التنزيه و
اعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله و أبدى موقفه من ربه و فيه سؤال النجاة و
العافية فاستجاب الله له.
و نجاه من الغم و هو الكرب الذي نزل به.
و قوله: "و كذلك ننجي المؤمنين" وعد بالإنجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغم ثم
نادى ربه بمثل ما نادى به يونس (عليه السلام) و ستجيء قصته (عليه السلام) في
سورة الصافات إن شاء الله.
قوله تعالى: و زكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين" معطوف
على ما عطف عليه ما قبله أي و اذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا و قوله: "رب
لا تذرني فردا" بيان لندائه، و المراد بتركه فردا أن يترك و لا ولد له يرثه.
و قوله: "و أنت خير الوارثين" ثناء و تحميد له تعالى بحسب لفظه و نوع تنزيه له
بحسب المقام إذ لما قال: "لا تذرني فردا" و هو كناية عن طلب الوارث و الله
سبحانه هو الذي يرث كل شيء نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة و
رفعه عن مساواة غيره فقال: "و أنت خير الوارثين".
قوله تعالى: "فاستجبنا له و وهبنا له يحيى و أصلحنا له زوجه" إلخ.
ظاهر الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعد ما
كانت عاقرا كما يصرح به في دعائه "و كانت امرأتي عاقرا:" مريم: 8.
و قوله: "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات و يدعوننا رغبا و رهبا و كانوا لنا
خاشعين" ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، و كأنه تعليل لمقدر معلوم من
سابق الكلام و التقدير نحو من قولنا: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في
الخيرات.
و الرغب و الرهب مصدران كالرغبة و الرهبة بمعنى الطمع و الخوف و هما تمييزان إن
كانا باقيين على معناهما المصدري و حالان إن كانا بمعنى الفاعل و الخشوع هو
تأثر القلب من مشاهدة العظمة و الكبرياء.
و المعنى: أنعمنا عليهم لأنهم كانوا يسارعون في الخيرات من الأعمال و يدعوننا
رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين و
كانوا لنا خاشعين بقلوبهم.
و قد تقدمت قصة زكريا و يحيى (عليهما السلام) في أوائل سورة مريم.
قوله تعالى: "و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية
للعالمين" المراد بالتي أحصنت فرجها مريم ابنة عمران و فيه مدح لها بالعفة و
الصيانة و رد لما اتهمها به اليهود.
و قوله: "فنفخنا فيها من روحنا" الضمير لمريم و النفخ فيها من الروح كناية عن
عدم استناد ولادة عيسى (عليه السلام) إلى العادة الجارية في كينونة الولد من
تصور النطفة أولا ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا
نفخ الروح فيها و هي الكلمة الإلهية كما قال: "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم
خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون:" آل عمران: 59 أي مثلهما واحد في استغناء
خلقهما عن النطفة.
و قوله: "و جعلناها و ابنها آية للعالمين" أفرد الآية فعدهما أعني مريم و عيسى
(عليهما السلام) معا آية واحدة للعالمين لأن الآية هي الولادة كذلك و هي قائمة
بهما معا و مريم أسبق قدما في إقامة هذه الآية و لذا قال تعالى: "و جعلناها و
ابنها آية" و لم يقل: و جعلنا ابنها و إياها آية.
و كفى لها فخرا أن يدخل ذكرها في ذكر الأنبياء (عليهم السلام) في كلامه تعالى و
ليست منهم.
بحث روائي
في الفقيه، روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله
عز و جل: "و داود و سليمان إذ يحكمان في الحرث - إذ نفشت فيه غنم القوم" قال:
لم يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان.
أقول: تقدم في بيان معنى الآية ما يتضح به معنى الحديث.
و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان عن
أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: "و داود و
سليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم" فقال: لا يكون النفش إلا
بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، و ليس على صاحب الماشية حفظها
بالنهار إنما رعاها بالنهار و أرزاقها فما أفسدت فليس عليها، و على صاحب
الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا و هو
النفش. و إن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، و حكم سليمان الرسل و الثلاثة
و هو اللبن و الصوف في ذلك العام.
أقول: و روى فيه، أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و في الحديث:
فحكم داود بما حكمت به الأنبياء (عليهم السلام) من قبله، و أوحى الله إلى
سليمان (عليه السلام): و أي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من
بطونها. و كذلك جرت السنة بعد سليمان و هو قول الله عز و جل: "و كلا آتينا حكما
و علما" فحكم كل واحد منهما بحكم الله عز و جل.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في حديث ذكر
فيه: أن الحرث كان كرما نفشت فيه الغنم و ذكر حكم سليمان ثم قال: و كان هذا حكم
داود و إنما أراد أن يعرف بني إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، و لم يختلفا في
الحكم و لو اختلف حكمهما لقال: و كنا لحكمهما شاهدين.
و في المجمع،: و اختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرما قد بدت
عناقيده فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله ارفق.
قال: و ما ذاك؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان و
تدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل
واحد منهما إلى صاحبه ماله:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه
السلام).
أقول: و روي: كون الحرث كرما من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود و هناك
روايات أخر عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قريبة المضامين مما أوردناه، و ما
مر في بيان معنى الآية يكفي في توضيح مضامين الروايات.
و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: "و لسليمان الريح عاصفة" قال: تجري من كل
جانب "إلى الأرض التي باركنا فيها" قال: إلى بيت المقدس و الشام.
و فيه، أيضا بإسناده عن عبد الله بن بكير و غيره عن أبي عبد الله (عليه
السلام): في قول الله عز و جل: "و آتيناه أهله و مثلهم معهم" قال: أحيا الله عز
و جل له أهله الذين كانوا قبل البلية و أحيا له الذين ماتوا و هو في البلية.
و فيه، أيضا و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "و ذا
النون إذ ذهب مغاضبا" يقول: من أعمال قومه "فظن أن لن نقدر عليه" يقول: ظن أن
لن يعاقب بما صنع.
و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا (عليه السلام) مع
المأمون في عصمة الأنبياء قال (عليه السلام): و أما قوله: "و ذا النون إذ ذهب
مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه" إنما "ظن" بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه أ لا
تسمع قول الله عز و جل: "و أما إذا ما ابتلاه - فقدر عليه رزقه" أي ضيق عليه
رزقه. و لو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر.
و في التهذيب، بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: أربع لأربع إلى أن قال و الرابعة للغم و الهم "لا إله إلا أنت سبحانك إني
كنت من الظالمين" قال الله سبحانه: "فاستجبنا له و نجيناه من الغم - و كذلك
ننجي المؤمنين".
أقول: و روى هذا المعنى في الخصال، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) يقول: اسم الله الذي إذا دعي به أجاب و إذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى
قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال: هي ليونس خاصة و
للمؤمنين إذا دعوا بها أ لم تسمع قول الله: "و كذلك ننجي المؤمنين" فهو شرط من
الله لمن دعاه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و أصلحنا له زوجه" قال: كانت لا تحيض
فحاضت.
و في المعاني، بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام)
قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء و تستقبل بهما وجهك، و الرهبة أن تلقي
كفيك و ترفعهما إلى الوجه.
أقول: و روى مثله في الكافي، بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله (عليه
السلام) و لفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء، و الرهبة أن تجعل
ظهر كفيك إلى السماء.
و في تفسير القمي،: "يدعوننا رغبا و رهبا" قال: راغبين راهبين، و قوله: "التي
أحصنت فرجها" قال: مريم لم ينظر إليها شيء، و قوله "فنفخنا فيها من روحنا" قال:
روح مخلوقة يعني من أمرنا.
21 سورة الأنبياء - 92 - 112
إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَحِدَةً وَ أَنَا رَبّكمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَ
تَقَطعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كلّ إِلَيْنَا رَجِعُونَ (93) فَمَن يَعْمَلْ
مِنَ الصلِحَتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كفْرَانَ لِسعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ
كتِبُونَ (94) وَ حَرَمٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَهَا أَنّهُمْ لا يَرْجِعُونَ
(95) حَتى إِذَا فُتِحَت يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُم مِّن كلِّ حَدَبٍ
يَنسِلُونَ (96) وَ اقْترَب الْوَعْدُ الْحَقّ فَإِذَا هِىَ شخِصةٌ أَبْصرُ
الّذِينَ كَفَرُوا يَوَيْلَنَا قَدْ كنّا فى غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كنّا
ظلِمِينَ (97) إِنّكمْ وَ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ حَصب جَهَنّمَ
أَنتُمْ لَهَا وَرِدُونَ (98) لَوْ كانَ هَؤُلاءِ ءَالِهَةً مّا وَرَدُوهَا وَ
كلّ فِيهَا خَلِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيهَا لا يَسمَعُونَ
(100) إِنّ الّذِينَ سبَقَت لَهُم مِّنّا الْحُسنى أُولَئك عَنهَا مُبْعَدُونَ
(101) لا يَسمَعُونَ حَسِيسهَا وَ هُمْ فى مَا اشتَهَت أَنفُسهُمْ خَلِدُونَ
(102) لا يحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكبرُ وَ تَتَلَقّاهُمُ الْمَلَئكةُ هَذَا
يَوْمُكُمُ الّذِى كنتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطوِى السمَاءَ كَطىِّ
السجِلِّ لِلْكتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوّلَ خَلْقٍ نّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا
إِنّا كُنّا فَعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كتَبْنَا فى الزّبُورِ مِن بَعْدِ
الذِّكْرِ أَنّ الأَرْض يَرِثُهَا عِبَادِى الصلِحُونَ (105) إِنّ فى هَذَا
لَبَلَغاً لِّقَوْمٍ عَبِدِينَ (106) وَ مَا أَرْسلْنَك إِلا رَحْمَةً
لِّلْعَلَمِينَ (107) قُلْ إِنّمَا يُوحَى إِلىّ أَنّمَا إِلَهُكمْ إِلَهٌ
وَحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مّسلِمُونَ (108) فَإِن تَوَلّوْا فَقُلْ ءَاذَنتُكمْ
عَلى سوَاءٍ وَ إِنْ أَدْرِى أَ قَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مّا تُوعَدُونَ (109)
إِنّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ مَا تَكتُمُونَ (110) وَ
إِنْ أَدْرِى لَعَلّهُ فِتْنَةٌ لّكمْ وَ مَتَعٌ إِلى حِينٍ (111) قَلَ رَب
احْكم بِالحَْقِّ وَ رَبّنَا الرّحْمَنُ الْمُستَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ
(112)
بيان
في الآيات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا و هو
الذي فطر السماوات و الأرض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة و إجابة دعوتها و
يستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، و لم تندب النبوة إلا إلى دين واحد و هو دين
التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل و من قبله إبراهيم و من قبله نوح و من جاء
بعد موسى و قبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم و نبذة مما أنعم به عليهم
كأيوب و إدريس و غيرهما.
فالبشر ليس إلا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه و دين واحد هو دين
التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الإلهية لكن الناس تقطعوا أمرهم
بينهم و تشتتوا في أديانهم و اختلقوا لهم آلهة دون الله و أديانا غير دين الله
فاختلف بذلك شأنهم و تباينت غاية مسيرهم في الدنيا و الآخرة.
أما في الآخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم و لا يشاهدون ما يسوؤهم و لن
يزالوا في نعمة و كرامة، و أما غيرهم فإلى العذاب و العقاب.
و أما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الأرض و يجعل لهم عاقبة
الدار و الطالحون إلى هلاك و دمار و خسران و سعي و بوار.
قوله تعالى: "إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاعبدون" - الأمة جماعة يجمعها
مقصد واحد، و الخطاب في الآية على ما يشهد به سياق الآيات - خطاب عام يشمل جميع
الأفراد المكلفين من الإنسان، و المراد بالأمة النوع الإنساني الذي هو نوع
واحد، و تأنيث الإشارة في قوله "هذه أمتكم" لتأنيث الخبر.
و المعنى: أن هذا النوع الإنساني أمتكم معشر البشر و هي أمة واحدة و أنا - الله
الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم و دبرت أمركم فاعبدوني لا غير.
و في قوله: "أمة واحدة" إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع
الإنساني لما كان نوعا واحدا و أمة واحدة ذات مقصد واحد و هو سعادة الحياة
الإنسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية و الألوهية ليست من المناصب
التشريفية الوضعية حتى يختار الإنسان منها لنفسه ما يشاء و كم يشاء و كيف يشاء
بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، و الإنسان حقيقة نوعية واحدة، و النظام
الجاري في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض، أجزائه ببعض و نظام التدبير
الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لأن يختلف الإنسان في أمر الربوبية
فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الآخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه
الآخرون فالإنسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية.
و هو الله عز اسمه.
و قيل: المراد بالأمة الدين، و الإشارة بهذه إلى دين الإسلام الذي كان دين
الأنبياء و المراد بكونه أمة واحدة اجتماع الأنبياء بل إجماعهم عليه، و المعنى
أن ملة الإسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها و هي ملة اتفقت الأنبياء
(عليهم السلام) عليها.
و هو بعيد فإن استعمال الأمة في الدين لو جاز لكان تجوز الإيصال إليه إلا
بقرينة صارفة و لا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته و استقامته و تأيده
بسائر كلامه تعالى كقوله: "و ما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا:" يونس: 19 و
هو - كما ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الآية و الآية التي تليها.
على أن التعبير في قوله: "و أنا ربكم" بالرب دون الإله يبقى على ما ذكروه بلا
وجه بخلاف أخذ الأمة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد و أنا المالك
المدبر لأمركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها.
و في الآية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها
من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: "و تقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون" - التقطع على ما قال في
مجمع البيان، بمعنى التقطيع و هو التفريق، و قيل: هو بمعناه المتبادر و هو
التفرق و الاختلاف و "أمرهم" منصوب بنزع الخافض، و التقدير فتقطعوا في أمرهم و
قيل "تقطعوا" مضمن معنى الجعل و لذا عدي إلى المفعول بنفسه.
و كيف كان فقوله: "و تقطعوا أمرهم بينهم" استعارة بالكناية و المراد به أنهم
جعلوا هذا الأمر الواحد و هو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة و هو أمر
وحداني قطعا متقطعة وزعوه فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه و ترك شيئا
كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين على اختلاف طوائفهم و هذا
نوع تقريع للناس و ذم لاختلافهم في الدين و تركهم الأمر الإلهي أن يعبدوه وحده.
و قوله: "كل إلينا راجعون" فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا
أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا و هم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح
إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: "فمن يعمل من الصالحات" إلخ.
و الفصل في جملة: "كل إلينا راجعون" لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه
قيل: فإلى م ينتهي اختلافهم في أمر الدين؟ و ما ذا ينتج؟ فقيل: كل إلينا راجعون
فنجازيهم كما علموا.
قوله تعالى: "فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون"
تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الأخروي و سيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في
الدنيا من قوله: "و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون".
فقوله: "فمن يعمل من الصالحات" أي من يعمل منهم شيئا من الأعمال الصالحات و قد
قيد عمل بعض الصالحات بالإيمان إذ قال: "و هو مؤمن" فلا أثر للعمل الصالح بغير
إيمان.
و المراد بالإيمان - على ما يظهر من السياق و خاصة قوله في الآية الماضية: "و
أنا ربكم فاعبدون" - الإيمان بالله قطعا غير أن الإيمان بالله لا يفارق الإيمان
بأنبيائه من دون استثناء لقوله: "إن الذين يكفرون بالله و رسله و يريدون أن
يفرقوا بين الله و رسله و يقولون نؤمن ببعض و نكفر ببعض - إلى قوله - أولئك هم
الكافرون حقا:" النساء: 151.
و قوله: "فلا كفران لسعيه" أي لا ستر على ما عمله من الصالحات و الكفران يقابل
الشكر و لذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: "و كان سعيكم مشكورا:"
الدهر: 22.
و قوله: "و إنا له كاتبون" أي مثبتون في صحائف الأعمال إثباتا لا ينسى معه
فالمراد بقوله: "فلا كفران لسعيه و إنا له كاتبون" إن عمله الصالح لا ينسى و لا
يكفر.
و الآية من الآيات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالإيمان كما تؤيده
آيات حبط الأعمال مع الكفر، و تدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من
أهل النجاة.
قوله تعالى: "و حرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون" الذي يستبق من الآية
إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها
لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة و يتداركوا ما
فوتوه من الصالحات و هو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الآخر قوله:
"فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن" إلخ.
فيكون الطرف الآخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس
له عمل مكتوب و سعي مشكور و إنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا و لا سبيل له
إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته.
غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: "و حرام على قرية أهلكناها" و لم
يقل: و حرام على من أهلكناه لأن فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع و ينتهي
إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: "و إن من قرية إلا نحن
مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا: إسراء: 58.
و يمكن - على بعد - أن يكون المراد بالإهلاك الإهلاك بالذنوب بمعنى بطلان
استعداد السعادة و الهدى كما في قوله: "و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون:"
الأنعام: 26 فتكون الآية في معنى قوله: "فإن الله لا يهدي من يضل:" النحل - 37،
و المعنى و حرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم و قضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى
التوبة و حال الاستقامة.
و معنى الآية و القرية التي لم تعمل من الصالحات و هي مؤمنة و أنجز أمرها إلى
الإهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور و العمل
المكتوب المقبول.
و أما قوله: "أنهم لا يرجعون" و كان الظاهر أن يقال: إنهم يرجعون فالحق أنه
مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشيء - أعني ما يئول إليه حال المتعلق بعد
تعلقه به - موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه
النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة و في هذا الصنع إفادة نفوذ الفعل
كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل.
و نظيره أيضا قوله: "ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك:" الأعراف: 12 حيث إن تعلق
المنع بالسجدة يئول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذي هو النتيجة موضع نفس
السجدة التي هي متعلق المنع.
و نظيره أيضا قوله: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا:"
الأنعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي
هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق و قد وجهنا هاتين الآيتين فيما مر
بتوجيه آخر أيضا.
و للقوم في توجيه الآية وجوه: منها: أن لا زائدة و الأصل أنهم يرجعون.
و منها: أن الحرام بمعنى الواجب أي واجب على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون و
استدل على إتيان الحرام بمعنى الواجب بقول الخنساء: و إن حراما لا أرى الدهر
باكيا.
على شجوة إلا بكيت على صخر.
و منها: أن متعلق الحرمة محذوف و التقدير حرام على قرية أهلكناها بالذنوب أي
وجدناها هالكة بها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون إلى التوبة.
و منها: أن المراد بعدم الرجوع عدم الرجوع إلى الله سبحانه بالبعث لا عدم
الرجوع إلى الدنيا و المعنى - على استقامة اللفظ - و ممتنع على قرية أهلكناها
بطغيان أهلها أن لا يرجعوا إلينا للمجازاة و أنت خبير بما في كل من هذه الوجوه
من الضعف.
قوله تعالى: "حتى إذا فتحت يأجوج و مأجوج و هم من كل حدب ينسلون" الحدب بفتحتين
الارتفاع من الأرض بين الانخفاض، و النسول الخروج بإسراع و منه نسلان الذئب، و
السياق يقتضي أن يكون قوله: "حتى إذا فتحت" إلخ.
غاية للتفصيل المذكور في قوله: "فمن يعمل من الصالحات" إلى آخر الآيتين، و أن
يكون ضمير الجمع راجعا إلى يأجوج و مأجوج.
و المعنى: لا يزال الأمر يجري هذا المجرى نكتب الأعمال الصالحة للمؤمنين و نشكر
سعيهم و نهلك القرى الظالمة و نحرم رجوعهم بعد الهلاك إلى الزمان الذي يفتح فيه
يأجوج و مأجوج أي سدهم أو طريقهم المسدود و هم أي يأجوج و مأجوج يخرجون إلى
سائر الناس من ارتفاعات الأرض مسرعين نحوهم و هو من أشراط الساعة و أمارات
القيامة كما يشير إليه بقوله: "فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء و كان وعد ربي حقا و
تركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض و نفخ في الصور فجمعناهم جمعا:" الكهف: 99 و قد
استوفينا الكلام في معنى يأجوج و مأجوج و السد المضروب دونهم في تفسير سورة
الكهف.
و قيل: ضمير الجمع للناس و المراد خروجهم من قبورهم إلى أرض المحشر.
و فيه أن سياق ما قبل الجملة "حتى إذا فتحت" إلخ.
و ما بعدها "و اقترب الوعد الحق" لا يناسب هذا المعنى، و كذا نفس الجملة من جهة
كونها حالا.
على أن النسول من كل حدب - و قد اشتملت عليه الجملة - لا يصدق على الخروج من
القبور و لذا قرأ صاحب هذا القول و هو مجاهد الجدث بالجيم و الثاء المثلثة و هو
القبر.
قوله تعالى: "و اقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا" إلخ.
المراد بالوعد الحق الساعة، و شخوص البصر نظره بحيث لا تطرف أجفانه، كذا ذكره
الراغب و هو لازم كمال اهتمام الناظر بما ينظر إليه بحيث لا يشتغل بغيره و يكون
غالبا في الشر الذي يظهر للإنسان بغتة.
و قوله: "يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا" حكاية قول الكفار إذا شاهدوا الساعة
بغتة فدعوا لأنفسهم بالويل مدعين أنهم غفلوا عما يشاهدونه كأنهم أغفلوا إغفالا
ثم أضربوا عن ذلك بالاعتراف بأن الغفلة لم تنشأ إلا عن ظلمهم بالاشتغال بما
ينسي الآخرة و يغفل عنها من أمور الدنيا فقالوا: "بل كنا ظالمين".
قوله تعالى: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون" الحصب
الوقود، و قيل: الحطب، و قيل: أصله ما يرمى في النار فيكون أعم.
و المراد بقوله: "و ما تعبدون من دون الله" و لم يقل: و من تعبدون - مع تعبيره
تعالى عن الأصنام في أغلب كلامه بألفاظ تختص بأولي العقل كما في قوله بعد: "ما
وردوها" - الأصنام و التماثيل التي كانوا يعبدونها دون المعبودين من الأنبياء و
الصلحاء و الملائكة كما قيل و يدل على ذلك قوله بعد: "إن الذين سبقت لهم منا
الحسنى" إلخ.
و الظاهر أن هذه الآيات من خطابات يوم القيامة للكفار و فيها القضاء بدخولهم في
النار و خلودهم فيها لا أنها إخبار في الدنيا بما سيجري عليهم في الآخرة و
استدلال على بطلان عبادة الأصنام و اتخاذهم آلهة من دون الله.
و قوله: "أنتم لها واردون" اللام لتأكيد التعدي أو بمعنى إلى، و ظاهر السياق أن
الخطاب شامل للكفار و الآلهة جميعا أي أنتم و آلهتكم تردون جهنم أو تردون
إليها.
قوله تعالى: "لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها و كل فيها خالدون" تفريع و إظهار
لحقيقة حال الآلهة التي كانوا يعبدونها لتكون لهم شفعاء، و قوله: "و كل فيها
خالدون" أي كل منكم و من الآلهة.
قوله تعالى: "لهم فيها زفير و هم فيها لا يسمعون" الزفير هو الصوت برد النفس
إلى داخل و لذا فسر بصوت الحمار، و كونهم لا يسمعون جزاء عدم سمعهم في الدنيا
كلمة الحق كما أنهم لا يبصرون جزاء لإعراضهم عن النظر في آيات الله في الدنيا.
و في الآية عدول عن خطاب الكفار إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
إعراضا عن خطابهم ليبين سوء حالهم لغيرهم، و عليه فضمائر الجمع للكفار خاصة لا
لهم و للآلهة معا.
قوله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" الحسنى مؤنث
أحسن و هي وصف قائم مقام موصوفه و التقدير العدة أو الموعدة الحسنى بالنجاة أو
بالجنة و الموعدة بكل منهما وارد في كلامه تعالى قال: "ثم ننجي الذين اتقوا و
نذر الظالمين فيها جثيا:" مريم: 72 و قال: "وعد الله المؤمنين و المؤمنات
جنات:" التوبة: 72.
قوله تعالى: "لا يسمعون حسيسها" - إلى قوله - توعدون" الحسيس الصوت الذي يحس
به، و الفزع الأكبر الخوف الأعظم و قد أخبر سبحانه عن وقوعه في نفخ الصور حيث
قال: "و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات و من في الأرض:" النمل: 87.
و قوله: "و تتلقاهم الملائكة" أي بالبشرى و هي قولهم: "هذا يومكم الذي كنتم
توعدون".
قوله تعالى: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده إلى آخر
الآية، قال في المفردات،: و السجل قيل: حجر كان يكتب فيه ثم سمي كل ما يكتب فيه
سجلا قال تعالى: "كطي السجل للكتب" أي كطيه لما كتب فيه حفظا له، انتهى.
و هذا أوضح معنى قيل في معنى هذه الكلمة و أبسطه.
و على هذا فقوله: "للكتب" مفعول طي كما أن السجل فاعله و المراد أن السجل و هو
الصحيفة المكتوب فيها الكتاب إذا طوي انطوى بطيه الكتاب و هو الألفاظ أو
المعاني التي لها نوع تحقق و ثبوت في السجل بتوسط الخطوط و النقوش فغاب الكتاب
بذلك و لم يظهر منه عين و لا أثر كذلك السماء تنطوي بالقدرة الإلهية كما قال:
"و السماوات مطويات بيمينه:" الزمر: 67 فتغيب عن غيره و لا يظهر منها عين و لا
أثر غير أنها لا تغيب عن عالم الغيب و إن غاب عن غيره كما لا يغيب الكتاب عن
السجل و إن غاب عن غيره.
فطي السماء على هذا رجوعها إلى خزائن الغيب بعد ما نزلت منها و قدرت كما قال
تعالى: "و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:" الحجر: 21 و
قال مطلقا: "و إلى الله المصير:" آل عمران: 28 و قال: "إن إلى ربك الرجعى:"
العلق: 8.
و لعله بالنظر إلى هذا المعنى قيل: إن قوله: "كما بدأنا أول خلق نعيده" ناظر
إلى رجوع كل شيء إلى حاله التي كان عليها حين ابتدأ خلقه و هي أنه لم يكن شيئا
مذكورا كما قال تعالى: "و قد خلقتك من قبل و لم تك شيئا:" مريم: 9، و قال "هل
أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا": الدهر: 1.
و هذا معنى ما نسب إلى ابن عباس أن معنى الآية يهلك كل شيء كما كان أول مرة و
هو و إن كان مناسبا للاتصال بقوله: "يوم نطوي السماء" إلخ.
ليقع في مقام التعليل له لكن الأغلب على سياق الآيات السابقة بيان الإعادة
بمعنى إرجاع الأشياء بعد فنائها لا الإعادة بمعنى إفناء الأشياء و إرجاعها إلى
حالها قبل ظهورها بالوجود.
فظاهر سياق الآيات أن المراد نبعث الخلق كما بدأناه فالكاف في قوله: "كما بدأنا
أول خلق نعيده" للتشبيه و "ما" مصدرية و "أول خلق" مفعول "بدأنا" و المراد أنا
نعيد الخلق كابتدائه في السهولة من غير أن يعز علينا.
و قوله: "وعدا علينا إنا كنا فاعلين" أي وعدناه وعدا ألزمنا ذلك و وجب علينا
الوفاء به و إنا كنا فاعلين لما وعدنا و سنتنا ذلك.
قوله تعالى: "و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون" الظاهر أن المراد بالزبور كتاب داود (عليه السلام) و قد سمي بهذا
الاسم في قوله: "و آتينا داود زبورا:" النساء: 163، إسراء: 55، و قيل: المراد
به القرآن، و قيل: مطلق الكتب المنزلة على الأنبياء أو على الأنبياء بعد موسى و
لا دليل على شيء من ذلك.
و المراد بالذكر قيل: هو التوراة و قد سماها الله به في موضعين من هذه السورة و
هما قوله: "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون:" الآية - 7 و قوله: "و ذكرا
للمتقين:" الآية - 48 منها، و قيل: هو القرآن و قد سماه الله ذكرا في مواضع من
كلامه و كون الزبور بعد الذكر على هذا القول بعدية رتبية لا زمانية و قيل: هو
اللوح المحفوظ و هو كما ترى.
و قوله: "إن الأرض يرثها عبادي الصالحون" الوراثة و الإرث على ما ذكره الراغب
انتقال قنية إليك من غير معاملة.
و المراد من وراثة الأرض انتقال التسلط على منافعها إليهم و استقرار بركات
الحياة بها فيهم، و هذه البركات إما دنيوية راجعة إلى الحياة الدنيا كالتمتع
الصالح بأمتعتها و زيناتها فيكون مؤدى الآية أن الأرض ستطهر من الشرك و المعصية
و يسكنها مجتمع بشري صالح يعبدون الله و لا يشركون به شيئا كما يشير إليه قوله
تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم و عملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض - إلى
قوله - يعبدونني لا يشركون بي شيئا:" النور: 55.
و إما أخروية و هي مقامات القرب التي اكتسبوها في حياتهم الدنيا فإنها من بركات
الحياة الأرضية و هي نعيم الآخرة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة:
"و قالوا الحمد لله الذي أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء:" الزمر: 74 و
قوله: "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس:" المؤمنون: 11.
و من هنا يظهر أن الآية مطلقة و لا موجب لتخصيصها بإحدى الوراثتين كما فعلوه
فهم بين من يخصها بالوراثة الأخروية تمسكا بما يناسبها من الآيات، و ربما
استدلوا لتعينه بأن الآية السابقة تذكر الإعادة و لا أرض بعد الإعادة حتى يرثها
الصالحون، و يرده أن كون الآية معطوفة على سابقتها غير متعين فمن الممكن أن
تكون معطوفة على قوله السابق: "فمن يعمل من الصالحات" كما سنشير إليه.
و بين من يخصها بالوراثة الدنيوية و يحملها على زمان ظهور الإسلام أو ظهور
المهدي (عليه السلام) الذي أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الأخبار
المتواترة المروية من طرق الفريقين، و يتمسك لذلك بالآيات المناسبة له التي
أومأنا إلى بعضها.
و بالجملة الآية مطلقة تعم الوراثتين جميعا غير أن الذي يقتضيه الاعتبار
بالسياق أن تكون معطوفة على قوله السابق: "فمن يعمل من الصالحات و هو مؤمن"
إلخ.
المشير إلى تفصيل حال المختلفين في أمر الدين من حيث الجزاء الأخروي و تكون هذه
الآية مشيرة إلى تفصيلها من حيث الجزاء الدنيوي، و يكون المحصل أنا أمرناهم
بدين واحد لكنهم تقطعوا و اختلفوا فاختلف مجازاتنا لهم أما في الآخرة فللمؤمنين
سعي مشكور و عمل مكتوب و للكافرين خلاف ذلك، و أما في الدنيا فللصالحين وراثة
الأرض بخلاف غيرهم.
قوله تعالى: "إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين" البلاغ هو الكفاية، و أيضا ما به
بلوغ البغية، و أيضا نفس البلوغ، و معنى الآية مستقيم على كل من المعاني
الثلاثة، و الإشارة بهذا إلى ما بين في السورة من المعارف.
و المعنى: أن فيما بيناه في السورة أن الرب واحد لا رب غيره يجب أن يعبد من
طريق النبوة و يستعد بذلك ليوم الحساب، و أن جزاء المؤمنين كذا و كذا و جزاء
الكافرين كيت و كيت - كفاية لقوم عابدين إن أخذوه و عملوا به كفاهم و بلغوا
بذلك بغيتهم.
قوله تعالى: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" أي أنك رحمة مرسلة إلى الجماعات
البشرية كلهم - و الدليل عليه الجمع المحلى باللام - و ذلك مقتضى عموم الرسالة.
و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من جهة إتيانه بدين في الأخذ
به سعادة أهل الدنيا في دنياهم و أخراهم.
و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) رحمة لأهل الدنيا من حيث الآثار الحسنة التي
سرت من قيامه بالدعوة الحقة في مجتمعاتهم مما يظهر ظهورا بالغا بقياس الحياة
العامة البشرية اليوم إلى ما قبل بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطبيق إحدى
الحياتين على الأخرى.
قوله تعالى: "قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون" أي إن
الذي يوحى إلي من الدين ليس إلا التوحيد و ما يتفرع عليه و ينحل إليه سواء كان
عقيدة أو حكما و الدليل على هذا الذي ذكرنا ورود الحصر على الحصر و ظهوره في
الحصر الحقيقي.
قوله تعالى: "فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء" الإيذان - كما قيل - إفعال من
الإذن و هو العلم بالإجازة في شيء و ترخيصه ثم تجوز به عن مطلق العلم و اشتق
منه الأفعال و كثيرا ما يتضمن معنى التحذير و الإنذار.
و قوله: "على سواء" الظاهر أنه حال من مفعول "آذنتكم" و المعنى فإن أعرضوا عن
دعوتك و تولوا عن الإسلام لله بالتوحيد فقل: أعلمتكم أنكم على خطرها لكونكم
مساوين في الإعلام أو في الخطر، و قيل: أعلمتكم بالحرب و هو بعيد في سورة مكية.
قوله تعالى: "و إن أدري أ قريب أم بعيد ما توعدون إنه يعلم الجهر من القول و
يعلم ما تكتمون" تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المأمور به.
و المراد بقوله: "ما توعدون" ما يشير إليه قوله: "آذنتكم على سواء" من العذاب
المهدد به أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا أن يعلمهم الخطر إن تولوا عن
الإسلام، و ثانيا أن ينفي عن نفسه العلم بقرب وقوعه و بعده و يعلله بقصر العلم
بالجهر من قولهم - و هو طعنهم في الإسلام و استهزاؤهم علنا - و ما يكتمون من
ذلك في الله سبحانه فهو العالم بحقيقة الأمر.
و منه يعلم أن منشأ توجه العذاب إليهم هو ما كانوا يطعنون به في الإسلام في
الظاهر و ما يبطنون من المكر كأنه قيل: إنهم يستحقون العذاب بإظهارهم القول في
هذه الدعوة الإلهية و إضمارهم المكر عليه فهددهم به لكن لما كنت لا تحيط بظاهر
قولهم و باطن مكرهم و لا تقف على مقدار اقتضاء جرمهم العذاب من جهة قرب الأجل و
بعده فأنف العلم بخصوصية قربه و بعده عن نفسك و أرجع العلم بذلك إلى الله
سبحانه وحده.
و قد علم بذلك أن المراد بالجهر من القول ما أظهره المشركون من القول في
الإسلام طعنا و استهزاء، و بما كانوا يكتمون ما أبطنوه عليه من المكر و الخدعة.
قوله تعالى: "و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين" من تتمة قول النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) المأمور به و ضمير "لعله" على ما قيل كناية عن غير مذكور
و لعله راجع إلى الإيذان المأمور به، و المعنى و ما أدري لعل هذا الإيذان الذي
أمرت به أي مراده تعالى من أمره لي بإعلام الخطر امتحان لكم ليظهر به ما في
باطنكم في أمر الدعوة فهو يريد به أن يمتحنكم و يمتعكم إلى حين و أجل استدراجا
و إمهالا.
قوله تعالى: "قال رب احكم بالحق و ربنا الرحمن المستعان على ما تصفون" الضمير
في "قال" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآية حكاية قول النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) عن دعوتهم إلى الحق و ردهم له و توليهم عنه فكأنه (صلى الله
عليه وآله وسلم) لما دعاهم و بلغ إليهم ما أمر بتبليغه فأنكروا و شددوا فيه
أعرض عنهم إلى ربه منيبا إليه و قال: "رب احكم بالحق" و تقييد الحكم بالحق
توضيحي لا احترازي فإن حكمه تعالى لا يكون إلا حقا فكأنه قيل: رب احكم بحكمك
الحق و المراد ظهور الحق لمن كان و على من كان.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم و قال: "و ربنا الرحمن المستعان على
ما تصفون" و كأنه يشير به إلى سبب إعراضه عنهم و رجوعه إلى الله سبحانه و سؤاله
أن يحكم بالحق فهو سبحانه ربه و ربهم جميعا فله أن يحكم بين مربوبيه، و هو كثير
الرحمة لا يخيب سائله المنيب إليه، و هو الذي يحكم لا معقب لحكمه و هو الذي يحق
الحق و يبطل الباطل بكلماته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلمته: "رب احكم
بالحق" راجع الذي هو ربه و ربهم و سأله برحمته أن يحكم بالحق و استعان به على
ما يصفونه من الباطل و هو نعتهم دينهم بما ليس فيه و طعنهم في الدين الحق بما
هو بريء من ذلك.
و قد ظهر بما تقدم بعض ما في مفردات الآية الكريمة من النكات كالالتفات من
الخطاب إلى الغيبة في "قال" و التعبير عنه تعالى أولا بربي و ثانيا بربنا و
توصيفه بالرحمن و المستعان إلى غير ذلك.
بحث روائي
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و حرام على قرية أهلكناها" الآية: روى محمد بن
مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: كل قرية أهلكها الله بعذاب فإنهم لا
يرجعون.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما
نزلت هذه الآية يعني قوله: "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم" وجد منها
أهل مكة وجدا شديدا فدخل عليهم عبد الله بن الزبعري و كفار قريش يخوضون في هذه
الآية، فقال ابن الزبعري: أ محمد تكلم بهذه الآية؟ فقالوا: نعم قال ابن
الزبعري: لئن اعترف بها لأخصمنه فجمع بينهما. فقال: يا محمد أ رأيت الآية التي
قرأت آنفا فينا و في آلهتنا خاصة أم الأمم و آلهتهم؟ فقال: بل فيكم و في آلهتكم
و في الأمم و في آلهتهم إلا من استثنى الله فقال ابن الزبعري: خصمتك و الله أ
لست تثني على عيسى خيرا؟ و قد عرفت أن النصارى يعبدون عيسى و أمه و أن طائفة من
الناس يعبدون الملائكة أ فليس هؤلاء مع الآلهة في النار: فقال رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم): لا فضجت قريش و ضحكوا قالت قريش: خصمك ابن الزبعري. فقال
رسول الله: قلتم الباطل أ ما قلت: إلا من استثنى الله و هو قوله تعالى: "إن
الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها - و هم فيما
اشتهت أنفسهم خالدون".
أقول: و قد روي الحديث أيضا من طرق أهل السنة لكن المتن في هذا الطريق أمتن مما
ورد من طريقهم و أسلم و هو ما عن ابن عباس قال: لما نزلت: إنكم و ما تعبدون من
دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون" شق ذلك على أهل مكة و قالوا شتم الآلهة
فقال ابن الزبعري: أنا أخصم لكم محمدا ادعوه لي فدعي فقال: يا محمد هذا شيء
لآلهتنا خاصة أم لكل من عبد من دون الله؟ قال: بل لكل من عبد من دون الله فقال
ابن الزبعري: خصمت و رب هذه البنية يعني الكعبة. أ لست تزعم يا محمد أن عيسى
عبد صالح و أن عزير عبد صالح و أن الملائكة صالحون؟ قال: بلى قال: فهذه النصارى
تعبد عيسى و هذه اليهود تعبد عزيرا و هذه بنو مليح تعبد الملائكة فضج أهل مكة و
فرحوا. فنزلت: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى" عزير و عيسى و الملائكة أولئك
عنها مبعدون" و نزلت "و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون".
و في هذا المتن أولا: ذكر اسم عزير و الواقعة في أوائل البعثة بمكة و لم يذكر
اسمه في شيء من السور المكية و إنما ذكر في سورة التوبة و هي من أواخر ما نزلت
بالمدينة.
و ثانيا: قوله: "و هذه اليهود تعبد عزيرا و اليهود لا تعبد عزيرا و إنما قالوا
عزير ابن الله تشريفا كما قالوا نحن أبناء الله و أحباؤه.
و ثالثا: ما اشتمل عليه من نزول قوله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك
عنها مبعدون" بعد اعتراف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعموم قوله: "إنكم و
ما تعبدون" لكل معبود من دون الله، و نقض ابن الزبعري ذلك بعيسى و عزير و
الملائكة و هذا من ورود البيان بعد وقت الحاجة و أشد تأييدا لوقوع التهمة.
و رابعا: اشتماله على نزول قوله: "و لما ضرب ابن مريم مثلا" الآية في الواقعة و
لا ارتباط لمضمونها بها أصلا.
و نظيره ما شاع بينهم أن ابن الزبعري اعترض بذلك على النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) فقال له: يا غلام ما أجهلك بلغة قومك لأني قلت: و ما تعبدون، و ما لم
يعقل، و لم أقل: و من تعبدون.
و فيه من الخلل ما نسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: إني قلت
كذا و لم أقل كذا و من الواجب أن يجل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن
يتلفظ في آية قرآنية بمثل "قلت كذا و لم أقل كذا" و نقل عن الحافظ ابن حجر أن
الحديث لا أصل له و لم يوجد في شيء من كتب الحديث لا مسند و لا غير مسند.
و نظيره في الضعف ما ورد في حديث آخر يقص هذه القصة أن ابن الزبعري قال: أ أنت
قلت ذلك؟ قال: نعم قال: قد خصمتك و رب الكعبة أ ليس اليهود عبدوا عزيرا و
النصارى عبدوا المسيح و بنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال (صلى الله عليه وآله
وسلم): بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله: "إن الذين سبقت لهم
منا الحسنى" الحديث و ذلك أن الحجة المنسوبة إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في
الحديث تنفع ابن الزبعري أكثر مما تضره فإن الحجة كما تخرج عزيرا و عيسى و
الملائكة عن شمول الآية كذلك تخرج الآلهة التي هي أصنام فإنها تشارك المذكورين
في أنها لا خبر لها عن عبادة عابديها و لا رضى منها بذلك إذ لا شعور لها فتختص
الآية بالشياطين و لا تشمل الأصنام و هو خلاف ما نسب إليه (صلى الله عليه وآله
وسلم) من دعوى شمول الآية لآلهتهم و تصديقه.
و نظيره في الضعف ما في الدر المنثور، عن البزار عن ابن عباس قال: نزلت هذه
الآية "إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم - أنتم لها واردون" ثم نسخها
قوله: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون".
و وجه الضعف ظاهر و لو كان هناك شيء فهو التخصيص.
و في أمالي الصدوق، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: يا علي أنت و
شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الآمنون يوم الفزع
الأكبر في ظل العرش، يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن الناس و لا تحزنون فيكم
نزلت هذه الآية "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون" و فيكم
نزلت "لا يحزنهم الفزع الأكبر - و تتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم
توعدون".
أقول: معنى نزولها فيهم جريها فيهم أو دخولهم فيمن نزلت فيه و قد وردت روايات
كثيرة في جماعة من المؤمنين عدوا ممن تجري فيه الآيتان و خاصة الثانية كمن قرأ
القرآن محتسبا، و أم به قوما محتسبا، و رجل أذن محتسبا و مملوك أدى حق الله و
حق مواليه رواه في المجمع، عن أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم):، و المتحابين في الله و المدلجين في الظلم و المهاجرين روى في الدر
المنثور، الأول عن أبي الدرداء، و الثاني عن أبي أمامة، و الثالث عن الخدري
جميعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد عد في أحاديث أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) ممن تجري فيه الآية خلق كثير.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن علي: في قوله: "كطي السجل" قال: ملك:.
أقول: و رواه أيضا عن ابن أبي حاتم و ابن عساكر عن الباقر (عليه السلام) في
حديث.
و في تفسير القمي،:: و أما قوله: "يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب" قال: السجل
اسم الملك الذي يطوي الكتب، و معنى يطويها يفنيها فتتحول دخانا و الأرض نيرانا.
و في نهج البلاغة، في وصف الأموات: استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا، و
بالأهل غربة، و بالنور ظلمة، فجاءوها كما فارقوها حفاة عراة قد ظعنوا عنها
بأعمالهم إلى الحياة الدائمة و الدار الباقية كما قال سبحانه: "كما بدأنا أول
خلق نعيده - وعدا علينا إنا كنا فاعلين".
أقول: استشهاده (عليه السلام) بالآية يقبل الانطباق على كل من معنيي الإعادة
أعني إعادة الخلق إلى ما بدءوا منه و إعادة الخلق بمعنى إحيائهم بعد موتهم كما
كانوا قبل موتهم، و قد تقدم المعنيان في بيان الآية.
و في المجمع، و يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: تحشرون يوم
القيامة حفاة عراة عزلا "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين":
أقول: و روى مثله في نور الثقلين عن كتاب الدوريستي بإسناده عن ابن عباس عنه
(صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير القمي،:: و قوله: "و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" قال الكتب
كلها ذكر "إن الأرض يرثها عبادي الصالحون" قال: القائم و أصحابه قال: و الزبور
فيه ملاحم و التحميد و التمجيد و الدعاء.
أقول: و الروايات في المهدي (عليه السلام) و ظهوره و ملئه الأرض قسطا و عدلا
بعد ما ملئت ظلما و جورا من طرق العامة و الخاصة عن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بالغة حد التواتر، من أراد الوقوف عليها
فليراجع مظانها من كتب العامة و الخاصة.
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): إنما أنا رحمة مهداة.
22 سورة الحج - 1 - 2
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ يَأَيّهَا النّاس اتّقُوا رَبّكمْ إِنّ
زَلْزَلَةَ الساعَةِ شىْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كلّ
مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضعَت وَ تَضعُ كلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَ تَرَى
النّاس سكَرَى وَ مَا هُم بِسكَرَى وَ لَكِنّ عَذَاب اللّهِ شدِيدٌ (2)
بيان
السورة تخاطب المشركين بأصول الدين إنذارا و تخويفا كما كانوا يخاطبون في السور
النازلة قبل الهجرة في سياق يشهد بأن لهم بعد شوكة و قوة، و تخاطب المؤمنين
بمثل الصلاة و مسائل الحج و عمل الخير و الإذن في القتال و الجهاد في سياق يشهد
بأن لهم مجتمعا حديث العهد بالانعقاد قائما على ساق لا يخلو من عدة و عدة و
شوكة.
و يتعين بذلك أن السورة مدنية نزلت بالمدينة ما بين هجرة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و غزوة بدر و غرضها بيان أصول الدين بيانا تفصيليا ينتفع بها المشرك
و الموحد و فروعها بيانا إجماليا ينتفع بها الموحدون من المؤمنين إذ لم يكن
تفاصيل الأحكام الفرعية مشرعة يومئذ إلا مثل الصلاة و الحج كما في السورة.
و لكون دعوة المشركين إلى الأصول من طريق الإنذار و كذا ندب المؤمنين إلى إجمال
الفروع بلسان الأمر بالتقوى بسط الكلام في وصف يوم القيامة و افتتح السورة
بالزلزلة التي هي من أشراطها و بها خراب الأرض و اندكاك الجبال.
قوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم" الزلزلة و
الزلزال شدة الحركة على الحال الهائلة و كأنه مأخوذ بالاشتقاق الكبير من زل
بمعنى زلق فكرر للمبالغة و الإشارة إلى تكرر الزلة، و هو شائع في نظائره مثل ذب
و ذبذب و دم و دمدم و كب و كبكب و دك و دكدك و رف و رفرف و غيرها.
الخطاب يشمل الناس جميعا من مؤمن و كافر و ذكر و أنثى و حاضر و غائب و موجود
بالفعل و من سيوجد منهم، و ذلك بجعل بعضهم من الحاضرين وصلة إلى خطاب الكل
لاتحاد الجميع بالنوع.
و هو أمر الناس أن يتقوا ربهم فيتقيه الكافر بالإيمان و المؤمن بالتجنب عن
مخالفة أوامره و نواهيه في الفروع، و قد علل الأمر بعظم زلزلة الساعة فهو دعوة
من طريق الإنذار.
و إضافة الزلزلة إلى الساعة لكونها من أشراطها و أماراتها، و قيل: المراد
بزلزلة الساعة شدتها و هولها، و لا يخلو من بعد من جهة اللفظ.
قوله تعالى: "يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت" الذهول الذهاب عن الشيء مع
دهشة، و الحمل بالفتح الثقل المحمول في الباطن كالولد في البطن و بالكسر الثقل
المحمول في الظاهر كحمل بعير قاله الراغب.
و قال في مجمع البيان،: الحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، و
الحمل بكسر الحاء ما كان على ظهر أو على رأس.
قال في الكشاف،: إن قيل: لم قيل: "مرضعة" دون مرضع؟ قلت: المرضعة التي هي في
حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، و المرضع التي شأنها أن ترضع و إن لم تباشر
الإرضاع في حال وصفها به فقيل: مرضعة ليدل على أن ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و
قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة.
و قال: فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ثم قيل: ترى على الإفراد؟ قلت: لأن الرؤية
أولا علقت بالزلزلة فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلقة أخيرا بكون الناس
على حال السكر فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم انتهى.
و قوله: "و ترى الناس سكارى و ما هم بسكارى" نفى السكر بعد إثباته للدلالة على
أن سكرهم و هو ذهاب العقول و سقوطها في مهبط الدهشة و البهت ليس معلولا للخمر
بل شدة عذاب الله هي التي أوقعتها فيما وقعت و قد قال تعالى: "إن أخذه أليم
شديد:" هود: 102.
و ظاهر الآية أن هذه الزلزلة قبل النفخة الأولى التي يخبر تعالى عنها بقوله: "و
نفخ في الصور فصعق من في السماوات و الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى
فإذا هم قيام ينظرون:" الزمر: 68 و ذلك لأن الآية تفرض الناس في حال عادية
تفاجئهم فيها زلزلة الساعة فتنقلب حالهم من مشاهدتها إلى ما وصف، و هذا قبل
النفخة التي تموت بها الأحياء قطعا.
و قيل: إنها تمثيل شدة العذاب أي لو كان هناك راء يراها لكانت الحال هي الحال،
و وقوع الآية في مقام الإنذار و التخويف لا يناسبه تلك المناسبة إذ الإنذار
بعذاب لا يعلم به لا وجه له.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و صححه و
النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه من
طرق عن الحسن و غيره عن عمران بن حصين قال: لما نزلت "يا أيها الناس اتقوا ربكم
- إن زلزلة الساعة شيء عظيم إلى قوله: "و لكن عذاب الله شديد" أنزلت عليه هذه و
هو في سفر فقال: أ تدرون أي يوم ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم قال: ذلك يوم
يقول الله لآدم: ابعث بعث النار. قال: يا رب و ما بعث النار؟ قال: من كل ألف
تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار و واحدا إلى الجنة. فأنشأ المسلمون يبكون
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قاربوا و سددوا فإنها لم تكن نبوة
قط إلا كان بين يديها جاهلية فتؤخذ العدة من الجاهلية فإن تمت و إلا أكملت من
المنافقين، و ما مثلكم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب
البعير. ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة فكبروا ثم قال: إني لأرجو
أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبروا، ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة
فكبروا. قال: فلا أدري قال: الثلثين، أم لا؟.
أقول: و هي مروية بطرق أخرى كثيرا عن عمران و ابن عباس و أبي سعيد الخدري و أبي
موسى و أنس مع اختلاف في المتون و أعدلها ما أوردناه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و ترى الناس سكارى" قال: يعني ذاهبة عقولهم
من الحزن و الفزع متحيرين.
22 سورة الحج - 3 - 16
وَ مِنَ النّاسِ مَن يجَدِلُ فى اللّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَ يَتّبِعُ كلّ شيْطنٍ
مّرِيدٍ (3) كُتِب عَلَيْهِ أَنّهُ مَن تَوَلاهُ فَأَنّهُ يُضِلّهُ وَ يهْدِيهِ
إِلى عَذَابِ السعِيرِ (4) يَأَيّهَا النّاس إِن كُنتُمْ فى رَيْبٍ مِّنَ
الْبَعْثِ فَإِنّا خَلَقْنَكم مِّن تُرَابٍ ثُمّ مِن نّطفَةٍ ثُمّ مِنْ
عَلَقَةٍ ثُمّ مِن مّضغَةٍ مخَلّقَةٍ وَ غَيرِ مخَلّقَةٍ لِّنُبَينَ لَكُمْ وَ
نُقِرّ فى الأَرْحَامِ مَا نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مّسمّى ثمّ نخْرِجُكُمْ طِفْلاً
ثُمّ لِتَبْلُغُوا أَشدّكمْ وَ مِنكم مّن يُتَوَفى وَ مِنكم مّن يُرَدّ إِلى
أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شيْئاً وَ تَرَى
الأَرْض هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتزّت وَ رَبَت وَ
أَنبَتَت مِن كلِّ زَوْج بَهِيجٍ (5) ذَلِك بِأَنّ اللّهَ هُوَ الحَْقّ وَ
أَنّهُ يحْىِ الْمَوْتى وَ أَنّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنّ
الساعَةَ ءَاتِيَةٌ لا رَيْب فِيهَا وَ أَنّ اللّهَ يَبْعَث مَن فى الْقُبُورِ
(7) وَ مِنَ النّاسِ مَن يجَدِلُ فى اللّهِ بِغَيرِ عِلْمٍ وَ لا هُدًى وَ لا
كِتَبٍ مّنِيرٍ (8) ثَانىَ عِطفِهِ لِيُضِلّ عَن سبِيلِ اللّهِ لَهُ فى
الدّنْيَا خِزْىٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ عَذَاب الحَْرِيقِ (9) ذَلِك
بِمَا قَدّمَت يَدَاك وَ أَنّ اللّهَ لَيْس بِظلّمٍ لِّلْعَبِيدِ (10) وَ مِنَ
النّاسِ مَن يَعْبُدُ اللّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيرٌ اطمَأَنّ بِهِ
وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَب عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَ
الاَخِرَةَ ذَلِك هُوَ الخُْسرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِن دُونِ اللّهِ
مَا لا يَضرّهُ وَ مَا لا يَنفَعُهُ ذَلِك هُوَ الضلَلُ الْبَعِيدُ (12)
يَدْعُوا لَمَن ضرّهُ أَقْرَب مِن نّفْعِهِ لَبِئْس الْمَوْلى وَ لَبِئْس
الْعَشِيرُ (13) إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا
الصلِحَتِ جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنْهَرُ إِنّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ (14) مَن كانَ يَظنّ أَن لّن يَنصرَهُ اللّهُ فى الدّنْيَا وَ
الاَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسبَبٍ إِلى السمَاءِ ثُمّ لْيَقْطعْ فَلْيَنظرْ هَلْ
يُذْهِبنّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظ (15) وَ كذَلِك أَنزَلْنَهُ ءَايَتِ بَيِّنَتٍ
وَ أَنّ اللّهَ يهْدِى مَن يُرِيدُ (16)
بيان
تذكر الآيات أصنافا من الناس من مصر على الباطل مجادل في الحق أو متزلزل فيه و
تصف حالهم و تبين ضلالهم و سوء مآلهم و تذكر المؤمنين و أنهم مهتدون في الدنيا
منعمون في الآخرة.
قوله تعالى: "و من الناس من يجادل في الله بغير علم و يتبع كل شيطان مريد"
المريد الخبيث و قيل: المتجرد للفساد و المعري من الخير و المجادلة في الله
بغير علم التكلم فيما يرجع إليه تعالى من صفاته و أفعاله بكلام مبني على الجهل
بالإصرار عليه.
و قوله: "و يتبع كل شيطان مريد" بيان لمسلكه في الاعتقاد و العمل بعد بيان
مسلكه في القول كأنه قيل: إنه يقول في الله بغير علم و يصر على جهله و يعتقد
بكل باطل و يعمل به و إذ كان الشيطان هو الذي يهدي الإنسان إلى الباطل و
الإنسان إنما يميل إليه بإغوائه فهو يتبع في كل ما يعتقده و يعمل به الشيطان
فقد وضع اتباع الشيطان في الآية موضع الاعتقاد و العمل للدلالة على الكيفية و
ليبين في الآية التالية أنه ضال عن طريق الجنة سالك إلى عذاب السعير.
و قد قال تعالى: "و يتبع كل شيطان" و لم يقل: و يتبع الشيطان المريد و هو إبليس
للدلالة على تلبسه بفنون الضلال و أنواعه فإن أبواب الباطل مختلفة و على كل باب
شيطانا من قبيل إبليس و ذريته و هناك شياطين من الإنس يدعون إلى الضلال فيقلدهم
أولياؤهم الغاوون و يتبعونهم و إن كان كل تسويل و وسوسة منتهيا إلى إبليس لعنه
الله.
و الكلمة أعني قوله: "و يتبع كل شيطان" مع ذلك كناية عن عدم انتهائه في اتباع
الباطل إلى حد يقف عليه لبطلان استعداده للحق و كون قلبه مطبوعا عليه فهو في
معنى قوله: "و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه
سبيلا:" الأعراف: 146.
قوله تعالى: "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله و يهديه إلى عذاب السعير" التولي
أخذه وليا متبعا، و قوله: "فإنه يضله" إلخ.
مبتدأ محذوف الخبر، و المعنى و يتبع كل شيطان مريد من صفته أنه كتب عليه أن من
اتخذه وليا و اتبعه فإضلاله له و هدايته إياه إلى عذاب السعير ثابت لازم.
و المراد بكتابته عليه القضاء الإلهي في حقه بإضلاله متبعيه أولا و إدخاله
إياهم النار ثانيا، و هذان القضاءان هما اللذان إشارة إليهما في قوله: "إن
عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين:"
الحجر: 43 و قد تقدم الكلام في توضيح ذلك في الجزء الثاني عشر من الكتاب.
و بما تقدم يظهر ضعف ما قيل: إن المعنى من تولى الشيطان فإن الله يضله إذ لا
شاهد من كلامه تعالى على هذه الكتابة المدعاة و إنما المذكور في كلامه تعالى
القضاء بتسليط إبليس على من تولاه و اتبعه كما تقدم.
على أن لازمه اختلاف الضمائر و رجوع ضمير "فإنه" إلى ما لم يتقدم ذكره من غير
موجب.
و أضعف منه قول من قال: إن المعنى كتب على هذا الذي يجادل في الله بغير علم أنه
من تولاه فإنه يضله - بإرجاع الضمائر إلى الموصول في "من يجادل" - و هو كما
ترى.
و يظهر من الآية أن القضاء على إبليس قضاء على قبيله و ذريته و أعوانه، و أن
إضلالهم و هدايتهم إلى عذاب السعير و بالجملة فعلهم فعله، و لا يخفى ما في
الجمع بين يضله و يهديه في الآية من اللطف.
قوله تعالى: "يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب -
إلى قوله - شيئا" المراد بالبعث إحياء الموتى و الرجوع إلى الله سبحانه و هو
ظاهر، و العلقة القطعة من الدم الجامد، و المضغة القطعة من اللحم الممضوغة و
المخلقة على ما قيل - تامة الخلقة و غير المخلقة غير تامتها و ينطبق على تصوير
الجنين الملازم لنفخ الروح فيه، و عليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق
التصوير.
و قوله: "لنبين لكم" ظاهر السياق أن المراد لنبين لكم أن البعث ممكن و نزيل
الريب عنكم فإن مشاهدة الانتقال من التراب الميت إلى النطفة ثم إلى العلقة ثم
إلى المضغة ثم إلى الإنسان الحي لا تدع ريبا في إمكان تلبس الميت بالحياة و
لذلك وضع قوله: "لنبين لكم" في هذا الموضع و لم يؤخر إلى آخر الآية.
و قوله: "و نقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى" و أي و نقر فيها ما نشاء من
الأجنة و لا نسقطه إلى تمام مدة الحمل ثم نخرجكم طفلا، قال في المجمع،: أي
نخرجكم من بطون أمهاتكم و أنتم أطفال، و الطفل الصغير من الناس، و إنما وحد و
المراد به الجمع لأنه مصدر كقولهم: رجل عدل و رجال عدل، و قيل: أراد ثم نخرج كل
واحد منكم طفلا.
انتهي.
و المراد ببلوغ الأشد حال اشتداد الأعضاء و القوى.
و قوله: "و منكم من يتوفى و منكم من يرد إلى أرذل العمر" المقابلة بين الجملتين
تدل على تقيد الأولى بما يميزها من الثانية و التقدير و منكم من يتوفى من قبل
أن يرد إلى أرذل العمر، و المراد بأرذل العمر أحقره و أهونه و ينطبق على حال
الهرم فإنه أرذل الحياة إذا قيس إلى ما قبله.
و قوله: لكيلا يعلم من بعد علم شيئا" أي شيئا يعتد به أرباب الحياة و يبنون
عليه حياتهم، و اللام للغاية أي ينتهي أمره إلى ضعف القوى و المشاعر بحيث لا
يبقى له من العلم الذي هو أنفس محصول للحياة شيء يعتد به لها.
قوله تعالى: "و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت
من كل زوج بهيج" قال الراغب: يقال: همدت النار طفئت، و منه أرض هامدة لا نبات
فيها، و نبات هامد يابس، قال تعالى: "و ترى الأرض هامدة" انتهى و يقرب منه
تفسيرها بالأرض الهالكة.
و قال أيضا: الهز التحريك الشديد يقال: هززت الرمح فاهتز و اهتز النبات إذا
تحرك لنضارته، و قال أيضا: ربا إذا زاد و علا قال تعالى: "فإذا أنزلنا عليها
الماء اهتزت و ربت" أي زادت زيادة المتربى.
انتهى بتلخيص ما.
و قوله: "و أنبتت من كل زوج بهيج" أي و أنبتت الأرض من كل صنف من النبات متصف
بالبهجة و هي حسن اللون و ظهور السرور فيه، أو المراد بالزوج ما يقابل الفرد
فإن كلامه يثبت للنبات ازدواجا كما يثبت له حياة، و قد وافقته العلوم التجريبية
اليوم.
و المحصل أن للأرض في إنباتها النبات و إنمائها له شأنا يماثل شأن الرحم في
إنباته الحيوي للتراب الصائر نطفة ثم علقة ثم مضغة إلى أن يصير إنسانا حيا.
قوله تعالى: "ذلك بأن الله هو الحق و أنه يحيي الموتى و أنه على كل شيء قدير"
ذلك إشارة إلى ما ذكر في الآية السابقة من خلق الإنسان و النبات و تدبير أمرهما
حدوثا و بقاء خلقا و تدبيرا واقعيين لا ريب فيهما.
و الذي يعطيه السياق أن المراد بالحق نفس الحق - أعني أنه ليس وصفا قائما مقام
موصوف محذوف هو الخبر - فهو تعالى نفس الحق الذي يحقق كل شيء حق و يجري في
الأشياء النظام الحق فكونه تعالى حقا يتحقق به كل شيء حق هو السبب لهذه
الموجودات الحقة و النظامات الحقة الجارية فيها، و هي جميعا تكشف عن كونه تعالى
هو الحق.
و قوله: "و أنه يحيي الموتى" معطوف على ما قبله أي المذكور في الآية السابقة من
صيرورة التراب الميت بالانتقال من حال إلى حال إنسانا حيا و كذا صيرورة الأرض
الميتة بنزول الماء نباتا حيا و استمرار هذا الأمر بسبب أن الله يحيي الموتى و
يستمر منه ذلك.
و قوله: "و أنه على كل شيء قدير" معطوف على سابقه كسابقه و المراد أن ما ذكرناه
بسبب أن الله على كل شيء قدير و ذلك أن إيجاد الإنسان و النبات و تدبير أمرهما
في الحدوث و البقاء مرتبط بما في الكون من وجود أو نظام جار في الوجود و كما أن
إيجادهما و تدبير أمرهما لا يتم إلا مع القدرة عليهما كذلك القدرة عليهما لا
تتم إلا مع القدرة على كل شيء فخلقهما و تدبير أمرهما بسبب عموم القدرة و إن
شئت فقل: ذلك يكشف عن عموم القدرة.
قوله تعالى: "و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في القبور"
الجملتان معطوفتان على "أن" في قوله: "ذلك بأن الله".
و أما الوجه في اختصاص هذه النتائج الخمس المذكورة في الآيتين بالذكر مع أن
بيان السابقة ينتج نتائج أخرى مهمة في أبواب التوحيد كربوبيته تعالى و نفي
شركاء العبادة و كونه تعالى عليما و منعما و جوادا و غير ذلك.
فالذي يعطيه السياق - و المقام مقام إثبات البعث - و عرض هذه الآيات على سائر
الآيات المثبتة للبعث أن الآية تؤم إثبات البعث من طريق إثبات كونه تعالى حقا
على الإطلاق فإن الحق المحض لا يصدر عنه إلا الفعل الحق دون الباطل، و لو لم
يكن هناك نشاة أخرى يعيش فيها الإنسان بما له من سعادة أو شقاء و اقتصر في
الخلقة على الإيجاد ثم الإعدام ثم الإيجاد ثم الإعدام و هكذا كان لعبا باطلا
فكونه تعالى حقا لا يفعل إلا الحق يستلزم نشاة البعث استلزاما بينا فإن هذه
الحياة الدنيا تنقطع بالموت فبعدها حياة أخرى باقية لا محالة.
فالآية أعني قوله: "فإنا خلقناكم من تراب" إلى قوله - ذلك بأن الله هو الحق" في
مجرى قوله: "و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا
بالحق:" الدخان: 39 و قوله: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك
ظن الذين كفروا:" ص: 27 و غيرهما من الآيات المتعرضة لإثبات المعاد، و إنما
الفرق أنها تثبته من طريق حقية فعله تعالى و الآية المبحوث عنها تثبته من طريق
حقيته تعالى في نفسه المستلزمة لحقية فعله.
ثم لما كان من الممكن أن يتوهم استحالة إحياء الموتى فلا ينفع البرهان حينئذ
دفعه بقوله: "و أنه يحيي الموتى" فإحياؤه تعالى الموتى بجعل التراب الميت
إنسانا حيا و جعل الأرض الميتة نباتا حيا واقع مستمر مشهود فلا ريب في إمكانه و
هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: "قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها
الذي أنشأها أول مرة:" يس: 79 و سائر الآيات المثبتة لإمكان البعث و الإحياء
ثانيا من طريق ثبوت مثله أولا.
ثم لما أمكن أن يتوهم أن جواز الإحياء الثاني لا يستلزم الوقوع بتعلق القدرة به
استبعادا له و استصعابا دفعه بقوله: "و أنه على كل شيء قدير" فإن القدرة لما
كانت غير متناهية كانت نسبتها إلى الإحياء الأول و الثاني و ما كان سهلا في
نفسه أو صعبا على حد سواء فلا يخالطها عجز و لا يطرأ عليها عي و تعب.
و هذه الجملة أيضا في مجرى قوله تعالى: "أ فعيينا بالخلق الأول:" ق: 15 و قوله:
"إن الذي أحياها لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير:" حم السجدة - 39 و سائر
الآيات المثبتة للبعث بعموم القدرة و عدم تناهيها.
فهذه أعني ما في قوله تعالى: "ذلك بأن الله" إلى آخر الآية نتائج ثلاث مستخرجة
من الآية السابقة عليها مسوقة جميعا لغرض واحد و هو ذكر ما يثبت به البعث و هو
الذي تتضمنه الآية الأخيرة "و أن الساعة آتية لا ريب فيها و أن الله يبعث من في
القبور".
و لم تتضمن الآية إلا بعث الأموات و الظرف الذي يبعثون فيه فأما الظرف و هو
الساعة فذكره في قوله: "و أن الساعة آتية لا ريب فيها" و لم ينسب إتيانها إلى
نفسه بأن يقال مثلا: و أن الله يأتي بالساعة أو ما في معناه و لعل الوجه في ذلك
اعتبار كونها لا تأتي إلا بغتة لا يتعلق به علم قط كما قال: "لا تأتيكم إلا
بغتة".
و قال: "قل إنما علمها عند الله:" الأعراف: 187 و قال: "إن الساعة آتية أكاد
أخفيها:" طه: 15 فكان عدم نسبتها إلى فاعل كعدم ذكر وقتها و كتمان مرساها
مبالغة في إخفائها و تأييدا لكونها مباغتة مفاجئة، و قد كثر ذكرها في كلامه و
لم يذكر في شيء منه لها فاعل بل كان التعبير مثل آتية "تأتيهم" "قائمة" "تقوم"
و نحو ذلك.
و أما المظروف و هو إحياء الموتى من الإنسان فهو المذكور في قوله: "و أن الله
يبعث من في القبور".
فإن قلت: الحجة المذكورة تنتج البعث لجميع الأشياء لا للإنسان فحسب لأن الفعل
بلا غاية لغو باطل سواء كان هو الإنسان أو غيره لكن الآية تكتفي بالإنسان فقط.
قلت: قصر الآية النتيجة في الإنسان فقط لا ينافي ثبوت نظير الحكم في غيره لكن
الذي تمسه الحاجة في المقام بعث الإنسان على أنه يمكن أن يقال: إن نفي المعاد
عن الأشياء غير الإنسان لا يستلزم كون فعلها باطلا منه تعالى لأنها مخلوقة لأجل
الإنسان فهو الغاية لخلقها و البعث غاية لخلق الإنسان.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات الثلاث و عرضها على سائر الآيات المتعرضة
لإثبات المعاد على تفننها، و به يظهر وجه الاكتفاء من النتائج المترتبة عليها
بهذه النتائج المعدودة بحسب المترائي من اللفظ خمسا و هي في الحقيقة ثلاث
موضوعة في الآية الثانية مستخرجة من الأولى، و واحدة موضوعة في الآية الثالثة
مستخرجة من الثلاث الموضوعة في الثانية.
و به يندفع أيضا شبهة التكرار المتوهم من قوله: و "أنه يحيي الموتى" "و أن
الساعة آتية" "و أن الله يبعث من في القبور" إلى غير ذلك.
و للقوم في تفسير الآيات الثلاث و تقرير حجتها وجوه كثيرة مختلفة لا ترجع إلى
جدوى و قد أضافوا في جميعها إلى حجة الآية مقدمات أجنبية تختل بها سلاسة النظم
و استقامة الحجة، و قد طوينا ذكرها فمن أراد الوقوف عليها فليراجع مطولات
التفاسير.
قوله تعالى: "و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى و لا كتاب منير"
صنف آخر من الناس المعرضين عن الحق، قال في كشف الكشاف، على ما نقل: إن الأظهر
في النظم و الأوفق للمقام أن هذه الآية في المقلدين بفتح اللام و الآية السابقة
"و من الناس من يجادل إلى قوله: مريد" في المقلدين بكسر اللام انتهى محصلا.
و هو كذلك بدليل قوله هنا ذيلا: "ليضل عن سبيل الله" و قوله هناك: "و يتبع كل
شيطان مريد" و الإضلال من شأن المقلد بفتح اللام و الاتباع من شأن المقلد بكسر
اللام.
و الترديد في الآية بين العلم و الهدى و الكتاب مع كون كل من العلم و الهدى يعم
الآخرين دليل على أن المراد بالعلم علم خاص و بالهدى هدى خاص فقيل: إن المراد
بالعلم العلم الضروري و بالهدى الاستدلال و النظر الصحيح الهادي إلى المعرفة و
بالكتاب المنير الوحي السماوي المظهر للحق.
و فيه أن تقييد العلم بالضروري و هو البديهي لا دليل عليه.
على أن الجدال سواء كان المراد به مطلق الإصرار في البحث أو الجدل المصطلح و هو
القياس المؤلف من المشهورات و المسلمات من طرق الاستدلال و لا استدلال على
ضروري البتة.
و يمكن أن يكون المراد بالعلم ما تفيده الحجة العقلية، و بالهدى ما تفيضه
الهداية الإلهية لمن أخلص لله في عبادته و عبوديته فاستنار قلبه بنور معرفته أو
بالعكس بوجه و بالكتاب المنير الوحي الإلهي من طريق النبوة، و تلك طرق ثلاث إلى
مطلق العلم: العقل و البصر و السمع و قد أشار تعالى إليها في قوله: "و لا تقف
ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:" إسراء:
36 و الله أعلم.
قوله تعالى: "ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله" إلى آخر الآية، الثني الكسر و العطف
بكسر العين الجانب، و ثني العطف كناية عن الإعراض كأن المعرض يكسر أحد جانبيه
على الآخر.
و قوله: "ليضل عن سبيل الله" متعلق بقوله: "يجادل" و اللام للتعليل أي يجادل في
الله بجهل منه مظهر للإعراض و الاستكبار ليتوصل بذلك إلى إضلال الناس و هؤلاء
هم الرؤساء المتبوعون من المشركين.
و قوله: "له في الدنيا خزي و نذيقه يوم القيامة عذاب الحريق" تهديد بالخزي - و
هو الهوان و الذلة و الفضيحة - في الدنيا، و إلى ذلك آل أمر صناديد قريش و
أكابر مشركي مكة، و إيعاد بالعذاب في الآخرة.
قوله تعالى: "ذلك بما قدمت يداك و أن الله ليس بظلام للعبيد" إشارة إلى ما تقدم
في الآية السابقة من الإيعاد بالخزي و العذاب، و الباء في "بما قدمت" للمقابلة
كقولنا: بعت هذا بهذا أو للسببية أي إن الذي تشاهده من الخزي و العذاب جزاء ما
قدمت يداك أو بسبب ما قدمت يداك من المجادلة في الله بغير علم و لا هدى و لا
كتاب معرضا مستكبرا لإضلال الناس و في الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب
لتسجيل اللوم و العتاب.
و قوله: "و أن الله ليس بظلام للعبيد" معطوف على "ما قدمت" أي ذلك لأن الله لا
يظلم عباده بل يعامل كلا منهم بما يستحقه بعمله و يعطيه ما يسأله بلسان حاله.
قوله تعالى: "و من الناس من يعبد الله على حرف" إلى آخر الآية الحرف و الطرف و
الجانب بمعنى، و الاطمئنان: الاستقرار و السكون، و الفتنة - كما قيل - المحنة و
الانقلاب الرجوع.
و هذا صنف آخر من الناس غير المؤمنين الصالحين و هو الذي يعبد الله سبحانه
بانيا عبادته على جانب واحد دون كل جانب و على تقدير الله على كل تقدير و هو
جانب الخير و لازمه استخدام الدين للدنيا فإن أصابه خير استقر بسبب ذلك الخير
على عبادة الله و اطمأن إليها، و إن أصابته فتنة و محنة انقلب و رجع على وجهه
من غير أن يلتفت يمينا و شمالا و ارتد عن دينه تشؤما من الدين أو رجاء أن ينجو
بذلك من المحنة و المهلكة و كان ذلك دأبهم في عبادتهم الأصنام فكانوا يعبدونها
لينالوا بذلك الخير أو ينجو من الشر بشفاعتهم في الدنيا و أما الآخرة فما كانوا
يقولون بها فهذا المذبذب المنقلب على وجهه خسر الدنيا بوقوعه في المحنة و
المهلكة، و خسر الآخرة بانقلابه عن الدين على وجهه و ارتداده و كفره ذلك هو
الخسران المبين.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية، و عليه فقوله: "يعبد الله على حرف" من قبيل
الاستعارة بالكناية، و قوله: "فإن أصابه خير" إلخ.
تفسير لقوله: "يعبد الله على حرف" و تفصيل له، و قوله: "خسر الدنيا" أي بإصابة
الفتنة، و قوله: "و الآخرة" أي بانقلابه على وجهه.
قوله تعالى: "يدعوا من دون الله ما لا يضره و ما لا ينفعه ذلك هو الضلال
البعيد" المدعو هو الصنم فإنه لفقده الشعور و الإرادة لا يتوجه منه إلى عابده
نفع أو ضرر و الذي يصيب عابده من ضرر و خسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة
التي هي فعل له منسوب إليه.
قوله تعالى: "يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى و لبئس العشير" المولى
الولي الناصر، و العشير الصاحب المعاشر.
ذكروا في تركيب جمل الآية أن "يدعوا" بمعنى يقول، و قوله: "لمن ضره أقرب من
نفعه" إلخ.
مقول القول، و "لمن" مبتدأ دخلت عليه لام الابتداء و هو موصول صلته "ضره أقرب
من نفعه".
و قوله: "لبئس المولى و لبئس العشير" جواب قسم محذوف و هو قائم مقام الخبر دال
عليه.
و المعنى: يقول هذا الذي يعبد الأصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى
و عشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء و عشير سوء أقسم لبئس المولى و
لبئس العشير.
و إنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من
العذاب الخالد و الهلاك المؤبد.
قوله تعالى: "إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها
الأنهار" إلخ.
لما ذكر الأصناف الثلاثة من الكفار و هم الأئمة المتبوعون المجادلون في الله
بغير علم و المقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم و المذبذبون
العابدون لله على حرف، و وصفهم بالضلال و الخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس و
هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات و وصفهم بكريم المثوى و حسن المنقلب و أن الله
يريد بهم ذلك.
و ذكر هؤلاء الأصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم و بيان حالهم تفصيلا.
قوله تعالى: "من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليمدد بسبب إلى
السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ" قال في المجمع،: السبب كل ما
يتوصل به إلى الشيء و منه قيل للحبل سبب و للطريق سبب و للباب سبب انتهى و
المراد بالسبب في الآية الحبل، و القطع معروف و من معانيه الاختناق يقال: قطع
أي اختنق و كأنه مأخوذ من قطع النفس.
قالوا: إن الضمير في "لن ينصره الله" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك أن
مشركي مكة كانوا يظنون أن الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من
الدين أحدوثة كاذبة لا تبتني على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، و لا ينتشر دينه، و
ليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة
فنصره الله سبحانه فبسط دينه و رفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم الله
سبحانه بهذه الآية و أشار بها إلى أن الله ناصره و لن يذهب غيظهم و لو خنقوا
أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا.
و المعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه
وآله وسلم) في الدنيا برفع الذكر و بسط الدين و في الآخرة بالمغفرة و الرحمة له
و للمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء
- كأن يربط طرف الحبل على جذع عال و نحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده
و حيلته هذا ما يغيظ أي غيظة.
و هذا معنى حسن يؤيده سياق الآيات السابقة و ما استفدناه سابقا من نزول السورة
بعد الهجرة بقليل و مشركوا مكة بعد على قدرتهم و شوكتهم.
و ذكر بعضهم: أن ضمير "لن ينصره" عائد إلى "من" و معنى القطع قطع المسافة و
المراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لإبطال حكم الله، و المعنى من كان يظن
أن لن ينصره الله في الدنيا و الآخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة
و لينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم.
و لعل هؤلاء يعنون أن المراد بالآية أن من الواجب على الإنسان أن يرجو ربه في
دنياه و آخرته و إن لم يرجه و ظن أن لن ينصره الله فيهما و غاظه ذلك فليكد ما
يكيد فإنه لا ينفعه.
و ذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، و المراد بالنصر الرزق كما
يقال: أرض منصورة أي ممطورة و المعنى كما في القول الأول.
و هذا أقرب إلى الاعتبار من سابقه و أحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم
انقطاع الآية عما قبلها من الآيات.
على أن الأنسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله
"إلخ".
لا أن يقال "من كان يظن" الظاهر في استمرار الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول
الأول.
قوله تعالى: "و كذلك أنزلناه آيات بينات و أن الله يهدي من يريد" قد تقدم مرارا
أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلالة على أن ما في الفرد من
الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد و عمرو و هما يتكلمان و يمشيان على
قدميهما و يقول كذلك يكون الإنسان أي حكم التكلم و المشي على القدمين جار في
جميع الأفراد فمعنى قوله: "و كذلك أنزلناه آيات بينات" أنزلنا القرآن و هو آيات
واضحة الدلالات كما في الآيات السابقة من هذه السورة.
و قوله: "و أن الله يهدي من يريد" خبر لمبتدإ محذوف أي و الأمر أن الله يهدي من
يريد و أما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الآيات بينات لا يكفي في
هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته.
و قيل: الجملة معطوفة على ضمير "أنزلناه" و التقدير و كذلك أنزلنا أن الله يهدي
من يريد، و الوجه الأول أوضح اتصالا بأول الآية و هو ظاهر.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و يتبع كل شيطان مريد" قال: المريد الخبيث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد: في قوله: "و من الناس من
يجادل في الله بغير علم" قال نزلت في النضر بن الحارث. أقول: و رواه أيضا عن
ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح و الظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في
غالب الروايات المتعرضة لأسباب النزول، و على ذلك فالقول بنزول الآية الآتية:
"و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا هدى" الآية فيه كما نقل عن مجاهد
أولى من القول بنزول هذه الآية فيه لأن الرجل من معاريف القوم و هذه الآية كما
تقدم في الاتباع و الآية الأخرى في المتبوعين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "مخلقة و غير مخلقة" قال: المخلقة إذا صارت
تاما و "غير مخلقة" قال: السقط.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي
و ابن ماجة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في شعب الإيمان، عن عبد الله
بن مسعود قال: حدثنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو الصادق المصدق
أن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون
مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح و يؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه
و أجله و عمله و شقي أو سعيد. فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل
الجنة حتى ما يكون بينه و بينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل
النار فيدخلها و إن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه و بينها إلا
ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها:. أقول: و الرواية مروية
بطرق أخرى عنه و عن ابن عباس و أنس و حذيفة بن أسيد.
و في متونها بعض الاختلاف، و في بعضها و هو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود:
يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها
فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث.
و قد ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ما يقرب من ذلك كما
في قرب الإسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه
السلام) و فيه: فإذا تمت الأربعة الأشهر بعث الله تبارك و تعالى إليها ملكين
خلاقين يصورانه و يكتبان رزقه و أجله و شقيا أو سعيدا.
الحديث.
و قد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران حديث الكافي عن الباقر (عليه السلام) في
تصوير الجنين و كتابة ما قدر له و فيه: أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن
لوح يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان،
الحديث و في معناه غيره.
و مقتضى هذا الحديث و ما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن
مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شيء و منها الإنسان
نصيبا في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير و التبدل إلى ما كتب فيه و نصيبا
من لوح المحو و الإثبات الذي يقبل التغير و التبدل فالقضاء قضاءان محتوم و غير
محتوم، قال تعالى: "يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب:" الرعد: 39.
و قد تقدم الكلام في معنى ال
|