قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
23 سورة المؤمنون - 55 - 77
أَ يحْسبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُم بِهِ مِن مّالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسارِعُ
لهَُمْ فى الخَْيرَتِ بَل لا يَشعُرُونَ (56) إِنّ الّذِينَ هُم مِّنْ خَشيَةِ
رَبهِم مّشفِقُونَ (57) وَ الّذِينَ هُم بِئَايَتِ رَبهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ
الّذِينَ هُم بِرَبهِمْ لا يُشرِكُونَ (59) وَ الّذِينَ يُؤْتُونَ مَا ءَاتَوا
وّ قُلُوبهُمْ وَجِلَةٌ أَنهُمْ إِلى رَبهِمْ رَجِعُونَ (60) أُولَئك
يُسرِعُونَ فى الخَْيرَتِ وَ هُمْ لهََا سبِقُونَ (61) وَ لا نُكلِّف نَفْساً
إِلا وُسعَهَا وَ لَدَيْنَا كِتَبٌ يَنطِقُ بِالحَْقِّ وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ
(62) بَلْ قُلُوبهُمْ فى غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا وَ لهَُمْ أَعْمَلٌ مِّن دُونِ
ذَلِك هُمْ لَهَا عَمِلُونَ (63) حَتى إِذَا أَخَذْنَا مُترَفِيهِم
بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يجْئَرُونَ (64) لا تجْئَرُوا الْيَوْمَ إِنّكم مِّنّا
لا تُنصرُونَ (65) قَدْ كانَت ءَايَتى تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلى
أَعْقَبِكمْ تَنكِصونَ (66) مُستَكْبرِينَ بِهِ سمِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ
فَلَمْ يَدّبّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مّا لَمْ يَأْتِ ءَابَاءَهُمُ
الأَوّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسولهَُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (69)
أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنّةُ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ وَ أَكثرُهُمْ لِلْحَقِّ
كَرِهُونَ (70) وَ لَوِ اتّبَعَ الْحَقّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسدَتِ السمَوَت وَ
الأَرْض وَ مَن فِيهِنّ بَلْ أَتَيْنَهُم بِذِكرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم
مّعْرِضونَ (71) أَمْ تَسئَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّك خَيرٌ وَ هُوَ
خَيرُ الرّزِقِينَ (72) وَ إِنّك لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِرَطٍ مّستَقِيمٍ (73) وَ
إِنّ الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ عَنِ الصرَطِ لَنَكِبُونَ (74) وَ
لَوْ رَحِمْنَهُمْ وَ كَشفْنَا مَا بِهِم مِّن ضرٍّ لّلَجّوا فى طغْيَنِهِمْ
يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْنَهُم بِالْعَذَابِ فَمَا استَكانُوا
لِرَبهِمْ وَ مَا يَتَضرّعُونَ (76) حَتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيهِم بَاباً ذَا
عَذَابٍ شدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسونَ (77)
بيان
الآيات متصلة بقوله السابق: "فذرهم في غمرتهم حتى حين" فإنه لما عقب قصص الرسل
باختلاف الناس في أمر الدين و تحزبهم أحزابا كل حزب بما لديهم فرحون أوعدهم
بعذاب مؤجل لا مناص لهم عنه و لا مخلص منه فليتيهوا في غمرتهم ما شاءوا
فسيغشاهم العذاب و لا محالة.
فنبههم في هذه الآيات أن توهمهم أن ما مدهم الله به من مال و بنين مسارعة لهم
في الخيرات خطأ منهم و جهل بحقيقة الحال، و لو كان ذلك من الخير لم يأخذ العذاب
مترفيهم بل المسارعة في الخيرات هو ما وفق الله المؤمنين له من الأعمال الصالحة
و ما يترتب عليها من جزيل الأجر و عظيم الثواب في الدنيا و الآخرة فهم يسارعون
إليها فيسارع لهم فيها.
فالعذاب مدركهم لا محالة و الحجة تامة عليهم و لا عذر لهم يعتذرون به كعدم تدبر
القول أو كون الدعوة بدعا لا سابقة له أو عدم معرفة الرسول أو كونه مجنونا مختل
القول أو سؤاله منهم خرجا بل هم أهل عناد و لجاج لا يؤمنون بالحق حتى يأتيهم
عذاب لا مرد له.
قوله تعالى: "أ يحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين نسارع لهم في الخيرات بل لا
يشعرون" "نمدهم" - بضم النون - من الإمداد و المد و الإمداد بمعنى واحد و هو
تتميم نقص الشيء و حفظه من أن ينقطع أو ينفد، قال الراغب: و أكثر ما يستعمل
الإمداد في المحبوب و المد في المكروه، فقوله "نمدهم" من الإمداد المستعمل في
المكروه و المسارعة لهم في الخيرات إفاضة الخيرات بسرعة لكرامتهم عليه فيكون
الخيرات على ظنهم هي المال و البنون سورع لهم فيها.
و المعنى: أ يظن هؤلاء أن ما نعطيهم في مدة المهلة من مال و بنين خيرات نسارع
لهم فيها لرضانا عنهم أو حبنا لأعمالهم أو كرامتهم علينا؟.
لا، بل لا يشعرون أي إن الأمر على خلاف ما يظنون و هم في جهل بحقيقة الأمر و هو
أن ذلك إملاء منا و استدراج و إنما نمدهم في طغيانهم يعمهون كما قال تعالى:
"سنستدرجهم من حيث لا يعلمون و أملي لهم إن كيدي متين": الأعراف: 183.
قوله تعالى "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون" إلى آخر الآيات الخمس، يبين
تعالى في هذه الآيات الخمس بمعونة ما تقدم أن الذي يظن هؤلاء الكفار أن المال و
البنين خيرات نسارع لهم فيها خطأ منهم فليست هي من الخيرات في شيء بل استدراج و
إملاء و إنما الخيرات التي يسارع فيها هي ما عند المؤمنين بالله و رسله و اليوم
الآخر الصالحين في أعمالهم.
فأفصح تعالى عن وصفهم فقال: "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون"، قال الراغب:
الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأن المشفق يحب المشفق عليه و يخاف ما يلحقه، قال
تعالى: "و هم من الساعة مشفقون" فإذا عدي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدي
بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال: "إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين" "مشفقون منها"
انتهى.
و الآية تصفهم بأنهم اتخذوا الله سبحانه ربا يملكهم و يدبر أمرهم، و لازم ذلك
أن يكون النجاة و الهلاك دائرين مدار رضاه و سخطه يخشونه في أمر يحبونه و هو
نجاتهم و سعادتهم فهم مشفقون من خشيته و هذا هو الذي يبعثهم إلى الإيمان بآياته
و عبادته، و قد ظهر بما مر من المعنى أن الجمع في الآية بين الخشية و الإشفاق
ليس تكرارا مستدركا.
ثم قال: "و الذين هم بآيات ربهم يؤمنون" و هي كل ما يدل عليه تعالى بوجه و من
ذلك رسله الحاملون لرسالته و ما أيدوا به من كتاب و غيره و ما جاءوا به من
شريعة لأن إشفاقهم من خشية الله يبعثهم إلى تحصيل رضاه و يحملهم على إجابته إلى
ما يدعوهم إليه و ائتمارهم لما يأمرهم به من طريق الوحي و الرسالة.
ثم قال: "و الذين هم بربهم لا يشركون" و الإيمان بآياته هو الذي دعاهم إلى نفي
الشركاء في العبادة فإن الإيمان بها إيمان بالشريعة التي شرعت عبادته تعالى و
الحجج التي دلت على توحده في ربوبيته و ألوهيته.
على أن جميع الرسل و الأنبياء (عليهم السلام) إنما جاءوا من قبله و إرسال الرسل
لهداية الناس إلى الحق الذي فيه سعادتهم من شئون الربوبية، و لو كان له شريك
لأرسل رسولا، و من لطيف كلام علي عليه أفضل السلام قوله: لو كان لربك شريك
لأتتك رسله.
ثم قال "و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" الوجل
الخوف، و قوله: "يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من المال بالإنفاق في سبيل
الله و قيل: المراد بإيتاء ما آتوا إتيانهم بكل عمل صالح، و قوله: "و قلوبهم
وجلة" حال من فاعل "يؤتون".
و المعنى و الذين ينفقون ما أنفقوا أو يأتون بالأعمال الصالحة و الحال أن
قلوبهم خائفة من أنهم سيرجعون إلى ربهم أي إن الباعث لهم على الإنفاق في سبيل
الله أو على صالح العمل ذكرهم رجوعهم المحتوم إلى ربهم على وجل منه.
و في الآية دلالة على إيمانهم باليوم الآخر و إتيانهم بصالح العمل و عند ذلك
تعينت صفاتهم أنهم الذين يؤمنون بالله وحده لا شريك له و برسله و باليوم الآخر
و يعملون الصالحات.
ثم قال: "أولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون" الظاهر أن اللام في "لها"
بمعنى "إلى" و "لها" متعلق بسابقون، و المعنى أولئك الذين وصفناهم هم يسارعون
في الخيرات من الأعمال و هم سابقون إليها أي يتسابقون فيها لأن ذلك لازم كون كل
منهم مريدا للسبق إليها.
فقد بين في الآيات أن الخيرات هي الأعمال الصالحة المبتنية على الاعتقاد الحق
الذي عند هؤلاء المؤمنين و هم يسارعون فيها و ليست الخيرات ما عند أولئك الكفار
و هم يعدونها بحسبانهم مسارعة من الله سبحانه لهم في الخيرات.
قال في التفسير الكبير: و فيه يعني قوله: "أولئك يسارعون في الخيرات" وجهان:
أحدهما: أن المراد يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها لئلا تفوت عن وقتها
و لكيلا تفوتهم دون الاحترام.
و الثاني: أنهم يتعجلون في الدنيا أنواع النفع و وجوه الإكرام كما قال: "فآتاهم
الله ثواب الدنيا و حسن ثواب الآخرة" "و آتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة
لمن الصالحين" لأنهم إذا سورع لهم بها فقد سارعوا في نيلها و تعجلوها و هذا
الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفي عن الكفار للمؤمنين.
انتهي.
أقول: إن الذي نفي عن الكفار في الآية المتقدمة هو مسارعة الله للكفار في
الخيرات و الذي أثبت للمؤمنين في هذه الآية هو مسارعة المؤمنين في الخيرات، و
الذي وجهه في هذا الوجه أن مسارعتهم في الخيرات مسارعة من الله سبحانه بوجه
فيبقى عليه أن يبين الوجه في وضع مسارعتهم في الآية موضع مسارعته تعالى و
تبديلها منها، و وجهه بعضهم بأن تغيير الأسلوب للإيماء إلى كمال استحقاقهم لنيل
الخيرات بمحاسن أعمالهم، و هو كما ترى.
و الظاهر أن هذا التبديل إنما هو في قوله في الآية المتقدمة: "نسارع لهم في
الخيرات" و المراد بيان أنهم يحسبون أن ما نمدهم به من مال و بنين خيرات
يتسارعون إليها لكرامتهم و هم كافرون لكن لما كان ذلك بإعطاء من الله تعالى لا
بقدرتهم عليها من أنفسهم نسبت المسارعة إليه تعالى ثم نفيت بالاستفهام
الإنكاري، و أثبت ما يقابله على الأصل للمؤمنين.
فمحصل هذا النفي و الإثبات أن المال و البنين ليست خيرات يتسارعون إليها و لا
هم مسارعون إلى الخيرات بل الأعمال الصالحة و آثارها الحسنة هي الخيرات و
المؤمنون هم المسارعون إلى الخيرات.
قوله تعالى: "و لا نكلف نفسا إلا وسعها و لدينا كتاب ينطق بالحق و هم لا
يظلمون" الذي يعطيه السياق أن في الآية ترغيبا و تحضيضا على ما ذكره من صفات
المؤمنين و دفعا لما ربما ينصرف الناس بتوهمه عن التلبس بكرامتها من وجهين
أحدهما أن التلبس بها أمر سهل في وسع النفوس و ليس بذاك الصعب الشاق الذي
يستوعره المترفون، و الثاني أن الله لا يضيع عملهم الصالح و لا ينسى أجرهم
الجزيل.
فقوله: "و لا نكلف نفسا إلا وسعها" نفي للتكليف الحرجي الخارج عن وسع النفوس
أما في الاعتقاد فإنه تعالى نصب حججا ظاهرة و آيات باهرة تدل على ما يريد
الإيمان به من حقائق المعارف و جهز الإنسان بما من شأنه أن يدركها و يصدق بها و
هو العقل ثم راعى حال العقول في اختلافها من جهة قوة الإدراك و ضعفه فأراد من
كل ما يناسب مقدار تحمله و طوقه فلم يرد من العامة ما يريده من الخاصة و لم
يسأل الأبرار عما سأل عنه المقربين و لا ساق المستضعفين بما ساق به المخلصين.
و أما في العمل فإنما ندب الإنسان منه إلى ما فيه خيره في حياته الفردية و
الاجتماعية الدنيوية و سعادته في حياته الأخروية، و من المعلوم أن خير كل نوع
من الأنواع و منها الإنسان إنما يكون فيما يتم به حياته و ينتفع به في عيشته و
هو مجهز بما يقوى على إتيانه و عمله، و ما هذا شأنه لا يكون حرجيا خارجا عن
الوسع و الطاقة.
فلا تكليف حرجيا في دين الله بمعنى الحكم الحرجي في تشريعه مبنيا على مصلحة
حرجية، و بذلك امتن الله سبحانه على عباده، و طيب نفوسهم و رغبهم إلى ما وصفه
من حال المؤمنين.
و الآية "و لا نكلف نفسا إلا وسعها" تدل على ذلك و زيادة فإنها تدل على نفي
التكليف المبني على الحرج في أصل تشريعه كتشريع الرهبانية و التقرب بذبح
الأولاد مثلا، و نفي التكليف الذي هو في نفسه غير حرجي لكن اتفق أن صار بعض
مصاديقه حرجيا لخصوصية في المورد كالقيام في الصلاة للمريض الذي لا يستطيعه
فالجميع منفي بالآية و إن كان الامتنان و الترغيب المذكوران يتمان بنفي القسم
الأول.
و الدليل عليه في الآية تعلق نفي التكليف بقوله: "نفسا" و هو نكرة في سياق
النفي يفيد العموم، و عليه فأي نفس مفروضة في أي حادثة لا تكلف إلا وسعها و لا
يتعلق بها حكم حرجي سواء كان حرجيا من أصله أو صار حرجيا في خصوص المورد.
و قد ظهر أن في الآية إمضاء لدرجات الاعتقاد بحسب مراتب العقول و رفعا للحرج
سواء كان في أصل الحكم أو طارئا عليه.
و قوله: "و عندنا كتاب ينطق بالحق و هم لا يظلمون" ترغيب لهم بتطييب نفوسهم بأن
عملهم لا يضيع و أجرهم لا يتخلف و المراد بنطق الكتاب إعرابه عما أثبت فيه
إعرابا لا لبس فيه و ذلك لأن أعمالهم مثبتة في كتاب لا ينطق إلا بما هو حق فهو
مصون عن الزيادة و النقيصة و التحريف، و الحساب مبني على ما أثبت فيه كما يشير
إليه قوله: "ينطق" و الجزاء مبني على ما يستنتج من الحساب كما يشير إليه قوله:
"و هم لا يظلمون" فهم في أمن من الظلم بنسيان أجرهم أو بترك إعطائه أو بنقصه أو
تغييره كما أنهم في أمن من أن لا يحفظ أعمالهم أو تنسى بعد الحفظ أو تتغير بوجه
من وجوه التغير.
قال الرازي في التفسير الكبير، فإن قيل: هؤلاء الذين يعرض عليهم ذلك الكتاب إما
أن يكونوا محيلين الكذب على الله تعالى أو مجوزين ذلك عليه فإن أحالوه عليه
فإنهم يصدقونه في كل ما يقول سواء وجد الكتاب أو لم يوجد، و إن جوزوه عليه لم
يثقوا بذلك الكتاب لتجويزهم أنه سبحانه كتب فيه خلاف ما حصل فعلى التقديرين لا
فائدة في ذلك الكتاب.
قلنا: يفعل الله ما يشاء، و على أنه لا يبعد أن يكون ذلك مصلحة للمكلفين من
الملائكة.
انتهي.
أقول: و الذي أجاب به مبني على مسلكه من نفي الغرض عن فعله تعالى و تجويز
الإرادة الجزافية تعالى عن ذلك، و الإشكال مطرد في سائر شئون يوم القيامة التي
أخبر الله سبحانه بها كالحشر و الجمع و إشهاد الشهود و نشر الكتب و الدواوين و
الصراط و الميزان و الحساب.
و الجواب عن ذلك كله: أنه تعالى مثل لنا ما يجري على الإنسان يوم القيامة في
صورة القضاء و الحكم الفصل، و لا غنى للقضاء بما أنه قضاء عن الاستناد إلى
الحجج و البينات كالكتب و الشهود و الأمارات و الجمع بين المتخاصمين و لا يتم
دون ذلك البتة.
نعم لو أغمضنا النظر عن ذلك كان ظهور أعمال الإنسان له في مراحل رجوعه إلى الله
سبحانه بإذنه، فافهمه.
قوله تعالى: "بل قلوبهم في غمرة من هذا و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون"
المناسب لسياق الآيات أن يكون "هذا" إشارة إلى ما وصفته الآيات السابقة من حال
المؤمنين و مسارعتهم في الخيرات، و يمكن أن يكون إشارة إلى القرآن كما يؤيده
قوله بعد: "قد كانت آياتي تتلى عليكم و الغمرة الغفلة الشديدة أو الجهل الشديد
الذي غمرهم، و قوله: "و لهم أعمال من دون ذلك" إلخ، أي من غير ما وصفناه من حال
المؤمنين و هو كناية عن أن لهم شاغلا يشغلهم عن هذه الخيرات و الأعمال الصالحة
و هو الأعمال الرديئة الخبيثة التي هم لها عاملون.
و المعنى: بل الكفار في غفلة شديدة أو جهل شديد عن هذا الذي وصفنا به المؤمنين
و لهم أعمال رديئة خبيثة من دون ذلك هم لها عاملون في شاغلتهم و مانعتهم.
قوله تعالى: "حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون الجؤار بضم الجيم -
صوت الوحش كالظباء و نحوها عند الفزع كني به عن رفعهم الصوت بالاستغاثة و
التضرع، و قيل: المراد به ضجتهم و جزعهم و الآيات التالية تؤيد المعنى الأول.
و إنما جعل مترفيهم متعلق العذاب لأن الكلام فيمن ذكره قبلا بقوله: "أ يحسبون
إنما نمدهم به من مال و بنين" و هم الرؤساء المتنعمون منهم و غيرهم تابعون لهم.
قوله تعالى: "لا تجأروا اليوم إنكم منا لا تنصرون" العدول عن سياق الغيبة إلى
الخطاب لتشديد التوبيخ و التقريع و لقطع طمعهم في النجاة بسبب الاستغاثة و أي
رجاء و أمل لهم فيها فإن أخبار الوسائط أنهم لا ينصرون لدعاء أو شفاعة لا يقطع
طمعهم في النصر كما يقطعه أخبار من إليه النصر نفسه.
قوله تعالى: "قد كانت آياتي تتلى عليكم" - إلى قوله - تهجرون" النكوص: الرجوع
القهقرى، و السامر من السمر و هو التحديث بالليل، قيل: السامر كالحاضر يطلق على
المفرد و الجمع، و قرىء "سمرا" - بضم السين و تشديد الميم جمع سامر و هو أرجح،
و قرىء أيضا "سمارا" - بالضم و التشديد -، و الهجر: الهذيان.
و الفصل في قوله: "قد كانت آياتي" إلخ، لكونه في مقام التعليل، و المعنى: إنكم
منا لا تنصرون لأنه قد كانت آياتي تتلى و تقرأ عليكم فكنتم تعرضون عنها و
ترجعون إلى أعقابكم القهقرى مستكبرين بنكوصكم تحدثون في أمره في الليل تهجرون و
تهذون، و قيل: ضمير "به" عائد إلى البيت أو الحرم و هو كما ترى.
قوله تعالى: "أ فلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين" شروع في
قطع أعذارهم في الإعراض عن القرآن النازل لهدايتهم و عدم استجابتهم للدعوة
الحقة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقوله: "أ فلم يدبروا القول" الاستفهام فيه للإنكار و اللام في "القول" للعهد و
المراد به القرآن المتلو عليهم، و الكلام متفرع على ما تقدمه من كونهم في غفلة
منه و شغل يشغلهم عنه، و المعنى: هل إذا كانوا على تلك الحال لم يدبروا هذا
القول المتلو عليهم حتى يعلموا أنه حق من عند الله فيؤمنوا به.
و قوله: "أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين" "أم" فيه و فيما بعده منقطعة في
معنى الإضراب، و المعنى: بل أ جاءهم شيء لم يأت آباءهم الأولين فيكون بدعا ينكر
و يحترز منه.
و كون الشيء بدعا محدثا لا يعرفه السابقون و إن لم يستلزم كونه باطلا غير حق
على نحو الكلية لكن الرسالة الإلهية لما كانت لغرض الهداية لو صحت وجبت في حق
الجميع فلو لم يأت الأولين كان ذلك حجة قاطعة على بطلانها.
قوله تعالى: "أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون" المراد بمعرفة الرسول معرفته
بنسبه و حسبه و بالجملة بسجاياه الروحية و ملكاته النفسية من اكتسابية و موروثة
حتى يتبين به أنه صادق فيما يقول مؤمن بما يدعو إليه مؤيد من عند الله و قد
عرفوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سوابق حاله قبل البعثة، و قد كان
يتيما فاقدا للأبوين لم يقرأ و لم يكتب و لم يأخذ أدبا من مؤدب و لا تربية من
مرب ثم لم يجدوا عنده ما يستقبحه عقل أو يستنكره طبع أو يستهجنه رأي و لا طمعا
في ملك أو حرصا على مال أو ولعا بجاه، و هو على ما هو سنين من عمره فإذا هو
ينادي للفلاح و السعادة و يندب إلى حقائق و معارف تبهر العقول و يدعو إلى شريعة
تحير الألباب و يتلو كتابا.
فهم قد عرفوا رسولهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بنعوته الخاصة المعجزة لغيره، و
لو لم يكونوا يعرفونه لكان لهم عذرا في إعراضهم عن دينه و استنكافهم عن الإيمان
به لأن معنى عدم معرفته كذلك وجدانه على غير بعض هذه النعوت أو عدم إحرازه فيه،
و من المعلوم أن إلقاء الزمام إلى من هذا شأنه مما لا يجوزه العقل.
قوله تعالى: "أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون" و هذا عذر
آخر لهم تشبثوا به إذ قالوا: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون": الحجر:
6 ذكره و رده بلازم قوله: "بل جاءهم بالحق".
فمدلول قوله: "بل جاءهم بالحق و أكثرهم للحق كارهون" إضراب عن جملة محذوفة و
التقدير إنهم كاذبون في قولهم.
"به جنة" و اعتذارهم عن عدم إيمانهم به بذلك بل إنما كرهوا الإيمان به لأنه جاء
بالحق و أكثرهم للحق كارهون.
و لازمه رد قولهم بحجة يلوح إليها هذا الإضراب، و هي أن قولهم: "به جنة" لو كان
حقا كان كلامه مختل النظم غير مستقيم المعنى مدخولا فيه كما هو مدخول في عقله،
غير رام إلى مرمى صحيح، لكن كلامه ليس كذلك فلا يدعو إلا إلى حق، و لا يأتي إلا
بحق، و أين ذلك من كلام مجنون لا يدري ما يريد و لا يشعر بما يقول.
و إنما نسب الكراهة إلى أكثرهم لأن فيهم مستضعفين لا يعبأ بهم أرادوا أو كرهوا.
قوله تعالى: "و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن بل
أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون" لما ذكر أن أكثرهم للحق كارهون و إنما
يكرهون الحق لمخالفته هواهم فهم يريدون من الحق أي الدعوة الحقة أن يتبع
أهواءهم و هذا مما لا يكون البتة.
إذ لو اتبع الحق أهواءهم فتركوا و ما يهوونه من الاعتقاد و العمل فعبدوا
الأصنام و اتخذوا الأرباب و نفوا الرسالة و المعاد و اقترفوا ما أرادوه من
الفحشاء و المنكر و الفساد جاز أن يتبعهم الحق في غير ذلك من الخليقة و النظام
الذي يجري فيها بالحق إذ ليس بين الحق و الحق فرق فأعطي كل منهم ما يشتهيه من
جريان النظام و فيه فساد السماوات و الأرض و من فيهن و اختلال النظام و انتقاض
القوانين الكلية الجارية في الكون فمن البين أن الهوى لا يقف على حد و لا يستقر
على قرار.
و بتقرير آخر أدق و أوفق لما يعطيه القرآن من حقيقة الدين القيم أن الإنسان
حقيقة كونية مرتبطة في وجودها بالكون العام و له في نوعيته غاية هي سعادته و قد
خط له طريق إلى سعادته و كماله ينالها بطي الطريق المنصوب إليها نظير غيره من
الأنواع الموجودة، و قد جهزه الكون العام و خلقته الخاصة به من القوى و الآلات
بما يناسب سعادته و الطريق المنصوب إليها و هي الاعتقاد و العمل اللذان ينتهيان
به إلى سعادته.
فالطريق التي تنتهي بالإنسان إلى سعادته أعني الاعتقادات و الأعمال الخاصة
المتوسطة بينه و بين سعادته و هي التي تسمى الدين و سنة الحياة متعينة حسب
اقتضاء النظام العام الكوني و النظام الخاص الإنساني الذي نسميه الفطرة و تابعة
لذلك.
و هذا هو الذي يشير تعالى إليه بقوله: "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي
فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم": سورة الروم: 30.
فسنة الحياة التي تنتهي بسالكها إلى السعادة الإنسانية طريقة متعينة يقتضيها
النظام بالحق و تكشف عنها تجهيزات وجوده بالحق، و هذا الحق هو القوانين الثابتة
غير المتغيرة التي تحكم في النظام الكوني الذي أحد أجزائه النظام الإنساني و
تدبره و تسوقه إلى غاياته و هو الذي قضى به الله سبحانه فكان حتما مقضيا.
فلو اتبع الحق أهواءهم فاقتضى لهم من الشرع ما تجازف به أهواؤهم لم يكن ذلك إلا
بتغير أجزاء الكون عما هي عليه و تبدل العلل و الأسباب غيرها و تغير الروابط
المنتظمة إلى روابط جزافية مختلة متدافعة توافق مقتضياتها مجازفات أهوائهم، و
في ذلك فساد السماوات و الأرض و من فيهن في أنفسها و التدبير الجاري فيها لأن
كينونتها و تدبيرها مختلطان غير متمايزين، و الخلق و الأمر متصلان غير منفصلين.
و هذا هو الذي يشير إليه قوله: "و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض
و من فيهن.
و قوله: "بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون" لا ريب أن المراد بالذكر هو
القرآن كما قال: "و هذا ذكر مبارك": الأنبياء: 50، و قال: "و إنه لذكر لك و
لقومك":، الزخرف: 44 إلى غير ذلك من الآيات، و لعل التعبير عنه بالذكر بعد
قوله: "أم يقولون به جنة" نوع مقابلة لقولهم: "يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك
لمجنون": الحجر: 6.
و كيف كان فقد سمي ذكرا لأنه يذكرهم بالله أو يذكر لهم دين الله من الاعتقاد
الحق و العمل الصالح، و الثاني أوفق لصدر الآية بما تقدم من معناه، و إنما أضيف
إليهم لأن الدين أعني الدعوة الحقة مختلفة بالنسبة إلى الناس بالإجمال و
التفصيل و الذي يذكره القرآن آخر مراحل التفصيل لكون شريعته آخر الشرائع.
و المعنى: لم يتبع الحق أهواءهم بل جئناهم بكتاب يذكرهم - أو يذكرون به - دينهم
الذي يختص بهم و يتفرع عليه أنهم عن دينهم الخاص بهم معرضون.
و قال كثير منهم إن إضافة الذكر إليهم للتشريف نظير قوله: "و إنه لذكر لك و
لقومك و سوف تسئلون": الزخرف: 44، و المعنى: بل أتيناهم بفخرهم و شرفهم الذي
كان يجب عليهم أن يقبلوا عليه أكمل إقبال فهم بما فعلوه من النكوص عن فخرهم و
شرفهم أنفسهم معرضون.
و فيه أنه لا ريب في أن القرآن الكريم شرف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ
أنزل عليه و لأهل بيته إذ نزل في بيتهم، و للعرب إذ نزل بلغتهم و للأمة إذ نزل
لهدايتهم غير أن الإضافة في الآية ليست لهذه العناية بل لعناية اختصاص هذا
الدين بهذه الأمة و هو الأوفق لصدر الآية بالمعنى الذي تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: "أم تسئلهم خرجا فخراج ربك خير و هو خير الرازقين"، قال في مجمع
البيان:، أصل الخراج و الخرج واحد و هو الغلة التي يخرج على سبيل الوظيفة
انتهى.
و هذا رابع الأعذار التي ذكرت في هذه الآيات و ردت و وبخوا عليها و قد ذكره
الله بقوله: "أم تسئلهم خرجا" أي مالا يدفعونه إليك على سبيل الرسم و الوظيفة
ثم ذكر غنى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: "فخراج ربك خير و هو خير
الرازقين" أي إن الله هو رازقك و لا حاجة لك إلى خرجهم، و قد تكرر الأمر
بإعلامهم ذلك في الآيات "قل لا أسئلكم عليه أجرا": الأنعام: 90 الشورى: 23.
و قد تمت بما ذكر في الآية أربعة من الأعذار المردودة إليهم و هي مختلفة فأولها
"أ فلم يدبروا القول" راجع إلى القرآن و الثاني "أم جاءهم ما لم يأت آباءهم
الأولين" إلى الدين الذي إليه الدعوة، و الثالث "أم يقولون به جنة" إلى نفس
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الرابع "أم تسئلهم خرجا" إلى سيرته.
قوله تعالى: "و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم و إن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن
الصراط لناكبون" النكب و النكوب العدول عن الطريق و الميل عن الشيء.
قد تقدم في تفسير سورة الفاتحة أن الصراط المستقيم هو الطريق الواضح الذي لا
يختلف و لا يتخلف في حكمه و هو إيصاله سالكيه إلى الغاية المقصودة، و هذه صفة
الحق فإن الحق واحد لا يختلف أجزاؤه بالتناقض و التدافع و لا يتخلف في مطلوبه
الذي يهدي إليه فالحق صراط مستقيم، و إذ ذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) يهدي إلى الحق كان لازمه هذا الذي ذكره أنه يهدي إلى صراط مستقيم.
ثم إن الذين كفروا لما كانوا كارهين للحق كما ذكره فهم عادلون عن الصراط أي
الصراط المستقيم مائلون إلى غيره.
و إنما أورد من أوصافهم عدم إيمانهم بالآخرة و اقتصر عليه لأن دين الحق مبني
على أساس أن للإنسان حياة خالدة لا تبطل بالموت و له فيها سعادة يجب أن تقتنى
بالاعتقاد الحق و العمل الصالح و شقاوة يجب أن تجتنب و هؤلاء لنفيهم الحياة
الآخرة يعدلون عن الحق و الصراط المستقيم.
و بتقرير آخر: دين الحق مجموع تكاليف اعتقادية و عملية و التكليف لا يتم إلا
بحساب و جزاء، و قد عين لذلك يوم القيامة، و إذ لا يؤمن هؤلاء بالآخرة لغا
الدين عندهم فلا يرون من الحياة إلا الحياة الدنيا المادية و لا يبقى من
السعادة عندهم إلا نيل اللذائذ المادية و هو التمتع بالبطن فما دونه، و لازم
ذلك أن يكون المتبع عندهم الهوى وافق الحق أو خالفه.
فمحصل الآيتين أنهم ليسوا بمؤمنين بك لأنك تدعو إلى صراط مستقيم و هم لا هم لهم
إلا العدول و الميل عنه.
قوله تعالى: "و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر" إلى قوله "و ما يتضرعون"
اللجاج التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه، و العمه التردد في الأمر
من التحير، ذكرهما الراغب، و في المجمع،: الاستكانة الخضوع و هو استفعل من
الكون، و المعنى ما طلبوا الكون على صفة الخضوع.
انتهي.
و قوله: "و لو رحمناهم" بيان و تأييد لنكوبهم عن الصراط بأنا لو رحمناهم و
كشفنا ما بهم من ضر لم يرجعوا بمقابلة ذلك الشكر بل أصروا على تمردهم عن الحق و
تمادوا يترددون في طغيانهم فلا ينفعهم رحمة بكشف الضر كما لا ينفعهم تخويف
بعذاب و نقمة فإنا قد أخذناهم بالعذاب فما خضعوا لربهم و ما يتضرعون إليه
فهؤلاء لا ينفعهم و لا يركبهم صراط الحق لا رحمة بكشف الضر و لا نقمة و تخويف
بالأخذ بالعذاب.
و المراد بالعذاب العذاب الخفيف الذي لا ينقطع به الإنسان عن عامة الأسباب
بقرينة ما في الآية التالية فلا يرد أن الرجوع إلى الله تعالى عند الاضطرار و
الانقطاع عن الأسباب من غريزيات الإنسان كما تكرر ذكره في القرآن الكريم فكيف
يمكن أن يأخذهم العذاب ثم لا يستكينوا و لا يتضرعوا؟.
و قوله في الآية الأولى: "ما بهم من ضر" و في الثانية: "و لقد أخذناهم بالعذاب"
يدل على أن الكلام ناظر إلى عذاب قد وقع و لما يرتفع حين نزول الآيات، و من
المحتمل أنه الجدب الذي ابتلي به أهل مكة و قد ورد ذكر منه في الروايات.
قوله تعالى: "حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون" أي هم
على حالهم هذه لا ينفع فيهم رحمة و لا عذاب حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب
شديد و هو الموت بما يستتبعه من عذاب الآخرة - على ما يعطيه سياق الآيات و خاصة
الآيات الآتية - فيفاجئوهم الإبلاس و اليأس من كل خير.
و قد ختم هذا الفصل من الكلام أعني قوله: "أ فلم يدبروا القول" إلخ بنظير ما
ختم به الفصل السابق أعني قوله: "أ يحسبون أنما نمدهم به من مال و بنين" إلى
آخر الآيات و هو ذكر عذاب الآخرة، و سيعود إليه ثانيا.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون" إلى قوله
يؤتون ما آتوا" قال من العبادة و الطاعة.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و ابن ماجة
و ابن أبي الدنيا في نعت الخائفين و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و
الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عائشة قالت: قلت: يا
رسول الله قول الله: "و الذين يؤتون ما آتوا و قلوبهم وجلة" أ هو الرجل يزني و
يسرق و يشرب الخمر و هو مع ذلك يخاف الله؟ قال: لا و لكن الرجل يصوم و يتصدق و
يصلي و هو مع ذلك يخاف الله أن لا يتقبل منه.
و في المجمع،: في قوله: "و قلوبهم وجلة" قال أبو عبد الله (عليه السلام): معناه
خائفة أن لا يقبل منهم، و في رواية أخرى: أتى و هو خائف راج.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن أبي حاتم عن قتادة:
"حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب" قال ذكر لنا أنها نزلت في الذين قتل الله يوم
بدر. أقول: و روي مثله عن النسائي عن ابن عباس و لفظه قال: هم أهل بدر، و سياق
الآيات لا ينطبق على مضمون الروايتين.
و فيه، أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه و
ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: جاء أبو سفيان إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد أنشدك الله و الرحم فقد أكلنا العلهز
يعني الوبر بالدم فأنزل الله: "و لقد أخذناهم بالعذاب - فما استكانوا لربهم و
ما يتضرعون".
أقول: و الروايات في هذا المعنى مختلفة و ما أوردناه أعدلها و هي تشير إلى جدب
وقع بمكة و حواليها بدعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ظاهر أكثرها أنه
كان بعد الهجرة، و لا يوافق ذلك الاعتبار.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و لو اتبع الحق أهواءهم" قال: الحق رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: هو من البطن بالمعنى الذي تقدم في بحث المحكم و المتشابه و نظيره ما
أورده: في قوله "و إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم" قال إلى ولاية أمير المؤمنين
(عليه السلام) و كذا ما أورده: في قوله: "عن الصراط لناكبون" قال: عن الإمام
لحادون.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: "أم تسئلهم
خرجا - فخراج ربك خير و هو خير الرازقين" يقول: أم تسألهم أجرا فأجر ربك خير.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول
الله عز و جل: "فما استكانوا لربهم و ما يتضرعون" فقال: الاستكانة هي الخضوع، و
التضرع رفع اليدين و التضرع بهما.
و في المجمع، و روي عن مقاتل بن حيان عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين
(عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع الأيدي من
الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال: أ ما تقرأ هذه الآية: "فما استكانوا
لربهم و ما يتضرعون"؟: أورده الثعلبي و الواحدي في تفسيريهما.
و فيه، قال أبو عبد الله (عليه السلام): الاستكانة الدعاء، و التضرع رفع اليدين
في الصلاة.
و في الدر المنثور، أخرج العسكري في المواعظ عن علي بن أبي طالب: في قوله: "فما
استكانوا لربهم و ما يتضرعون" أي لم يتواضعوا في الدعاء و لم يخضعوا و لو خضعوا
لله لاستجاب لهم.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد" قال أبو
جعفر (عليه السلام) هو في الرجعة.
23 سورة المؤمنون - 78 - 98
وَ هُوَ الّذِى أَنشأَ لَكمُ السمْعَ وَ الأَبْصرَ وَ الأَفْئِدَةَ قَلِيلاً
مّا تَشكُرُونَ (78) وَ هُوَ الّذِى ذَرَأَكمْ فى الأَرْضِ وَ إِلَيْهِ
تحْشرُونَ (79) وَ هُوَ الّذِى يحْىِ وَ يُمِيت وَ لَهُ اخْتِلَف الّيْلِ وَ
النّهَارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوّلُونَ
(81) قَالُوا أَ ءِذَا مِتْنَا وَ كنّا تُرَاباً وَ عِظماً أَ ءِنّا
لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نحْنُ وَ ءَابَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ
إِنْ هَذَا إِلا أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (83) قُل لِّمَنِ الأَرْض وَ مَن فِيهَا
إِن كنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سيَقُولُونَ للّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكّرُونَ (85)
قُلْ مَن رّب السمَوَتِ السبْع وَ رَب الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سيَقُولُونَ
للّهِ قُلْ أَ فَلا تَتّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوت كلِّ شىْءٍ وَ
هُوَ يجِيرُ وَ لا يجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سيَقُولُونَ
للّهِ قُلْ فَأَنى تُسحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنّهُمْ
لَكَذِبُونَ (90) مَا اتخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ
إِذاً لّذَهَب كلّ إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضهُمْ عَلى بَعْضٍ
سبْحَنَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ (91) عَلِمِ الْغَيْبِ وَ الشهَدَةِ فَتَعَلى
عَمّا يُشرِكونَ (92) قُل رّب إِمّا تُرِيَنى مَا يُوعَدُونَ (93) رَب فَلا
تجْعَلْنى فى الْقَوْمِ الظلِمِينَ (94) وَ إِنّا عَلى أَن نّرِيَك مَا
نَعِدُهُمْ لَقَدِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالّتى هِىَ أَحْسنُ السيِّئَةَ نحْنُ
أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَ قُل رّب أَعُوذُ بِك مِنْ هَمَزَتِ
الشيَطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِك رَب أَن يحْضرُونِ (98)
بيان
لما أوعدهم بعذاب شديد لا مرد له و لا مخلص منه، و رد عليهم كل عذر يمكنهم أن
يعتذروا به، و بين أن السبب الوحيد لكفرهم بالله و اليوم الآخر هو اتباع الهوى
و كراهة اتباع الحق، تمم البيان بإقامة الحجة على توحده في الربوبية و على رجوع
الخلق إليه بذكر آيات بينة لا سبيل للإنكار إليها.
و عقب ذلك بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ به من أن يشمله
العذاب الذي أوعدوا به، و أن يعوذ به من همزات الشيطان و أن يحضروه كما فعلوا
بهم.
قوله تعالى: و هو الذي أنشأ لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون"
افتتح سبحانه من نعمه التي أنعمها عليهم بذكر إنشاء السمع و البصر و هما نعمتان
خص بهما جنس الحيوان خلقتا فيه إنشاء و إبداعا لا عن مثال سابق إذ لا توجدان في
الأنواع البسيطة التي قبل الحيوان كالنبات و الجماد و العناصر.
و بحصول هذين الحسين يقف الوجود المجهز بهما موقفا جديدا و يتسع مجال فعاليته
بالنسبة إلى ما هو محروم منهما اتساعا لا يتقدر بقدر فيدرك خيره و شره و نافعه
و ضاره و يعطي معهما الحركة الإرادية إلى ما يريده و عما يكرهه، و يستقر في
عالم حديث طري فيه مجالي الجمال و اللذة و العزة و الغلبة و المحبة مما لا خبر
عنه فيما قبله.
و إنما اقتصر من الحواس بالسمع و البصر - قيل - لأن الاستدلال يتوقف عليهما و
يتم بهما.
ثم ذكر سبحانه الفؤاد و المراد به المبدأ الذي يعقل من الإنسان و هو نعمة خاصة
بالإنسان من بين سائر الحيوان و مرحلة حصول الفؤاد مرحلة وجودية جديدة هي أرفع
درجة و أعلى منزلة و أوسع مجالا من عالم الحيوان الذي هو عالم الحواس فيتسع به
أولا شعاع عمل الحواس مما كان عليه في عامة الحيوان بما لا يتقدر بقدر فإذا
الإنسان يدرك بهما ما غاب و ما حضر و ما مضى و ما غبر من أخبار الأشياء و
آثارها و أوصافها بعلاج و غير علاج.
ثم يرقى بفؤاده أي بتعقله إلى ما فوق المحسوسات و الجزئيات فيتعقل الكليات
فيحصل القوانين الكلية، و يغور متفكرا في العلوم النظرية و المعارف الحقيقية، و
ينفذ بسلطان التدبر في أقطار السماوات و الأرض.
ففي ذلك كله من عجيب التدبير الإلهي بإنشاء السمع و الأبصار و الأفئدة ما لا
يسع الإنسان أن يستوفي شكره.
و قوله: "قليلا ما تشكرون" فيه بعض العتاب و معناه تشكرون شكرا قليلا فقوله:
"قليلا" وصف للمفعول المطلق قائم مقامه.
قوله تعالى: "و هو الذي ذرأكم في الأرض و إليه تحشرون" قال الراغب: الذرأ إظهار
الله تعالى ما أبداه يقال: ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم.
و قال: الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.
انتهي.
فالمعنى: أنه لما جعلكم ذوي حس و عقل أظهر وجودكم في الأرض متعلقين بها ثم
يجمعكم و يرجعكم إلى لقائه.
قوله تعالى: "و هو الذي يحيي و يميت و له اختلاف الليل و النهار أ فلا تعقلون"
معنى الآية ظاهر، و قوله: "و هو الذي يحيي و يميت" مترتب بحسب المعنى على
الجملة التي قبله أي لما جعلكم ذوي علم و أظهر وجودكم في الأرض إلى حين حتى
تحشروا إليه لزمت ذلك سنة الإحياء و الإماتة إذ العلم متوقف على الحياة و الحشر
متوقف على الموت.
و قوله: "و له اختلاف الليل و النهار" مترتب على ما قبله فإن الحياة ثم الموت
لا تتم إلا بمرور الزمان و ورود الليل بعد النهار و النهار بعد الليل حتى ينقضي
العمر و يحل الأجل المكتوب، هذا لو أريد باختلاف الليل و النهار و ورود الواحد
منها بعد الواحد، و لو أريد به اختلافهما في الطول و القصر كانت فيه إشارة إلى
إيجاد فصول السنة الأربعة المتفرعة على طول الليل و النهار و قصرهما و بذلك يتم
أمر إرزاق الحيوان و تدبير معاشها كما قال: "و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام
سواء للسائلين": حم السجدة: 10.
فمضامين الآيات الثلاث مترتبة مستتبعة بعضها بعضا فإنشاء السمع و البصر و
الفؤاد و هو الحس و العقل للإنسان يستتبع حياة متعلقة بالمادة و سكونا في الأرض
إلى حين، ثم الرجوع إلى الله، و هو يستتبع حياة و موتا، و ذلك يستتبع عمرا
متقضيا بانقضاء الزمان و رزقا يرتزق به.
فالآيات الثلاث تتضمن إشارة إلى دور كامل من تدبير أمر الإنسان من حين يخلق إلى
أن يرجع إلى ربه، و الله سبحانه هو مالك خلقه فهو مالك تدبير أمره لأن هذا
التدبير تدبير تكويني لا يفارق الخلق و الإيجاد و لا ينحاز عنه، و هو نظام
الفعل و الانفعال الجاري بين الأشياء بما بينها من الروابط المختلفة المجعولة
بالتكوين فالله سبحانه هو ربهم المدبر لأمرهم و إليه يحشرون، و قوله: "أ فلا
تعقلون" توبيخ لهم و حث على التنبه فالإيمان.
قوله تعالى: "بل قالوا مثل ما قال الأولون" إضراب عن نفي سابق يدل عليه
الاستفهام المتقدم أي لم يعقلوا بل قالوا كذا و كذا.
و في تشبيه قولهم بقول الأولين إشارة إلى أن تقليد الآباء منعهم عن اتباع الحق
و أوقعهم فيما لا يبقى معه للدين جدوى و هو نفي المعاد، و الإخلاص إلى الأرض و
الانغمار في الماديات سنة جارية فيهم في آخراهم و أولاهم.
قوله تعالى: "قالوا أ ءذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ ءنا لمبعوثون" بيان
لقوله: "قالوا" في الآية السابقة و الكلام مبني على الاستبعاد.
قوله تعالى: "لقد وعدنا نحن و آباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين"
الأساطير الأباطيل و الأحاديث الخرافية و هي جمع أسطورة كأكاذيب جمع أكذوبة و
أعاجيب جمع أعجوبة و إطلاق الأساطير و هو جمع على البعث و هو مفرد بعناية أنه
مجموع عدات كل واحد منها أسطورة كالإحياء و الجمع و الحشر و الحساب و الجنة و
النار و غيرها، و الإشارة بهذا إلى حديث البعث و قوله: من قبل، متعلق بقوله:
"وعدنا" على ما يعطيه سياق الجملة.
و المعنى: أن وعد البعث وعد قديم ليس بحديث نقسم لقد وعدناه من قبل نحن و
آباؤنا ليس البعث الموعود إلا أحاديث خرافية وضعها و نظمها الأناسي الأولون في
صورة إحياء الأموات و حساب الأعمال و الجنة و النار و الثواب و العقاب.
و الدليل على كونها أساطير أن الأنبياء من قديم الدهر لا يزالون يعدوننا و
يخوفوننا بقيام الساعة و لو كان حقا غير خرافي لوقع.
و من هنا يظهر أولا أن قولهم: "من قبل" لتمهيد الحجة على قولهم بعده "إن هذا
إلا أساطير الأولين".
و ثانيا: أن الكلام مسوق للترقي فالآية السابقة: "أ ءذا متنا و كنا ترابا و
عظاما أ ءنا لمبعوثون" مبنية على الاستبعاد و هذه الآية متضمنة للإنكار مبنيا
على حجة واهية.
قوله تعالى: "قل لمن الأرض و من فيها إن كنتم تعلمون" لما ذكر استبعادهم للبعث
ثم إنكارهم له شرع في الاحتجاج على إمكانه من طريق الملك و الربوبية و السلطنة،
و وجه الكلام إلى الوثنيين المنكرين للبعث و هم معترفون به تعالى بمعنى أنه
الموجد للعالم و رب الأرباب و الآلهة المعبودون دونه من خلقه، و لذا أخذ وجوده
تعالى مسلما في ضمن الحجة.
فقوله: "قل لمن الأرض و من فيها" أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
يسألهم عن مالك الأرض و من فيها من أولي العقل من هو؟ و معلوم أن السؤال إنما
هو عن الملك الحقيقي الذي هو قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل الشيء المملوك
عن مالكه بأي وجه فرض دون الملك الاعتباري الذي وضعناه معاشر المجتمعين لمصلحة
الاجتماع و هو يقبل الصحة و الفساد و يقع موردا للبيع و الشرى، و ذلك لأن
الكلام مسوق لإثبات صحة جميع التصرفات التكوينية و ملاكها الملك التكويني
الحقيقي دون التشريعي الاعتباري.
قوله تعالى: "سيقولون لله قل أ فلا تذكرون" إخبار عن جوابهم و هو أن الأرض و من
فيها مملوكة لله، و لا مناص لهم عن الاعتراف بكونها لله سبحانه فإن هذا النوع
من الملك لا يقوم إلا بالعلة الموجدة لمعلولها حيث يقوم وجود المعلول بها قياما
لا يستقل عنها بوجه من الوجوه، و العلة الموجدة للأرض و من فيها هو الله سبحانه
وحده لا شريك له حتى باعتراف الوثنيين.
و قوله: "قل أ فلا تذكرون" أمر بعد تسجيل الجواب أن يوبخهم على عدم تذكرهم
بالحجة الدالة على إمكان البعث، و المعنى قل لهم فإذا كان الله سبحانه مالك
الأرض و من فيها لم لا تتذكرون أن له - لمكان مالكيته - أن يتصرف في أهلها
بالإحياء بعد الإماتة.
قوله تعالى: "قل من رب السماوات السبع و رب العرش العظيم" أمره ثانيا أن يسألهم
عن رب السماوات السبع و رب العرش العظيم من هو؟.
و المراد بالعرش هو المقام الذي يجتمع فيه أزمة الأمور و يصدر عنه كل تدبير، و
تكرار لفظ الرب في قوله: "و رب العرش العظيم" للإشارة إلى أهمية أمره و رفعة
محله كما وصفه الله بالعظمة، و قد تقدم البحث عنه في تفسير سورة الأعراف في
الجزء الثامن من الكتاب.
ذكروا أن قولنا: لمن السماوات السبع و قولنا: من رب السماوات السبع بمعنى واحد
كما يقال: لمن الدار و من رب الدار فقوله تعالى: "من رب السماوات السبع؟ سؤال
عن مالكها، و لذا حكى الجواب عنهم بقوله: "سيقولون لله" على المعنى و لو أنه
أجيب عنه فقيل: "الله" كما في القراءة الأخرى كان جوابا على اللفظ.
و فيه أن الذي ثبت في اللغة أن رب الشيء هو مالكه المدبر لأمره بالتصرف فيه
فيكون الربوبية أخص من الملك، و لو كان الرب مرادفا للمالك لم يستقم ترتب
الجواب على السؤال في الآيتين السابقتين "قل لمن الأرض و من فيها" - إلى قوله -
سيقولون لله" إذ كان معنى السؤال: من رب الأرض و من فيها، و من المعلوم أنهم
كانوا قائلين بربوبية آلهتهم من دون الله للأرض و من فيها فكان جوابهم إثبات
الربوبية لآلهتهم من غير أن يكونوا ملزمين بتصديق ذلك لله سبحانه و هذا بخلاف
السؤال عن مالك الأرض و من فيها فإن الجواب عنه تصديقه لله لأنهم كانوا يرون
الإيجاد لله و الملك لازم الإيجاد فكانوا ملزمين بالاعتراف به.
ثم على تقدير كون الرب أخص من المالك يمكن أن يتوهم توجه الإشكال إلى ترتب
الجواب على السؤال في الآية المبحوث عنها "قل من رب السماوات السبع - إلى قوله
- سيقولون لله" فإن جل الوثنيين من الصابئين و غيرهم يرون للسماوات و ما فيها
من الشمس و القمر و غيرهما آلهة دون الله فلو أجابوا عن السؤال عن رب السماوات
أجابوا بإثبات الربوبية لآلهتهم دون الله فلا يستقيم قوله: "سيقولون لله" إذ لا
ملزم يلزمهم على الاعتراف به.
و الذي يحسم أصل الإشكال أن البحث العميق عن معتقدات القوم يعطي أنهم لم يكونوا
يبنون آراءهم في أمر الآلهة على أصل أو أصول منظمة مسلمة عند الجميع فأمثال
الصابئين و البرهمائيين و البوذيين كانوا يقسمون أمور العالم إلى أنواع و أقسام
كأمر السماء و الأرض و أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر و غير ذلك و
يثبتون لكل منها إلها دون الله يعبدونه من دون الله و يعدونه شفيعا مقربا ثم
يتخذون له صنما يمثله.
و أما عامتهم من الهمجيين كأعراب الجاهلية و القاطنين في أطراف المعمورة فلم
يكن معتقداتهم في ذلك مبنية على قواعد مضبوطة و ربما كانوا يرون للمعمورة من
الأرض و سكانها آلهة دون الله لها أصنام و ربما رأوا نفس الأصنام المصنوعة
آلهة، و أما السماوات و السماويات و كذا البحار فكانوا يرونها مربوبة لله
سبحانه و الله ربها كما يلوح إليه قوله تعالى حكاية عن فرعون: "يا هامان ابن لي
صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى": المؤمن: 37، فإن
ظاهره أنه كان يرى أن الذي يدعو إليه موسى - و هو الله تعالى - إله السماء و
بالجملة السماوات و ما فيهن و من فيهن من الملائكة عندهم مربوبون لله سبحانه ثم
الملائكة أرباب لما دون السماوات.
و أما الصابئون و من يحذو حذوهم فإنهم - كما سمعت - يرون للسماوات و ما فيهن من
النجوم و الكواكب آلهة و أربابا من دون الله و هم الملائكة و الجن و هم يرون
الملائكة و الجن موجودات مجردة عن المادة طاهرة عن لوث الطبيعة، و حينما
يعدونهم ساكنين في السماوات فإنما يريدون باطن هذا العالم و هو العالم السماوي
العلوي الذي فيه تتقدر الأمور و منه ينزل القضاء و به تستمد الأسباب الطبيعية،
و هو بما فيه من الملائكة و غيرهم مربوب لله سبحانه و إن كان من فيه آلهة
للعالم الحسي و أربابا لمن فيه و الله رب الأرباب.
إذا تمهدت هذه المقدمة فنقول: إن كان وجه الكلام في الآية الكريمة إلى مشركي
العرب كما هو الظاهر، كان السؤال عن رب السماوات السبع و الجواب عنه باعترافهم
أنه الله في محله كما عرفت.
و إن كان وجه الكلام إلى غيرهم ممن يرى للسماء إلها دون الله كان المراد
بالسماء العالم السماوي بسكنته من الملائكة و الجن دون السماوات المادية، و
يؤيده مقارنته بالسؤال عن رب العرش العظيم فإن العرش مقام صدور الأحكام
المتعلقة بمطلق الخلق الذي منهم أربابهم و آلهتهم، و من المعلوم أن لا رب لمقام
هذا شأنه إلا الله إذ لا يفوقه شيء دونه.
و هذا العالم العلوي هو عندهم عالم الأرباب و الآلهة لا رب له إلا الله سبحانه
فالسؤال عن ربه و الجواب عنه باعترافهم أنه الله في محله كما أشير إليه.
فمعنى الآية - و الله أعلم - قل: من رب السماوات السبع التي منها تنزل أقدار
الأمور و أقضيتها و رب العرش العظيم الذي منه يصدر الأحكام لعامة ما في العالم
من الملائكة فمن دونهم؟ فإنهم و ما يملكونهم باعتقادكم مملوكة لله و هو الذي
ملكهم ما ملكوه.
قوله تعالى: "سيقولون لله قل أ فلا تتقون" حكاية لجوابهم بالاعتراف بأن
السماوات السبع و العرش العظيم لله سبحانه.
و المعنى: سيجيبونك بأنها لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإذا كان السماوات السبع
منها ينزل الأمر و العرش العظيم منه يصدر الأمر لله سبحانه فلم لا تتقون سخطه
إذ تنكرون البعث و تعدونه من أساطير الأولين و تسخرون من أنبيائه الذين وعدوكم
به؟ فإن له تعالى أن يصدر الأمر ببعث الأموات و إنشاء النشأة الآخرة للإنسان و
ينزل الأمر به من السماء.
و من لطيف تعبير الآية التعبير بقوله: "لله" فإن الحجة تتم بالملك و إن لم
يعترفوا بالربوبية.
قوله تعالى: "قل من بيده ملكوت كل شيء و هو يجير و لا يجار عليه إن كنتم تعلمون
الملكوت هو الملك بمعنى السلطنة و الحكم، و يفيد مبالغة في معناه و الفرق بين
الملك بالفتح و الكسر و بين المالك أن المالك هو الذي يملك المال و الملك يملك
المالك و ماله، فله ملك في طول ملك و له التصرف بالحكم في المال و مالكه.
و قد فسر تعالى ملكوته بقوله: "إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء": يس - 83، فملكوت كل شيء هو كونه عن أمره تعالى
بكلمة كن و بعبارة أخرى وجوده عن إيجاده تعالى.
فكون ملكوت كل شيء بيده كناية استعارية عن اختصاص إيجاد كل ما يصدق عليه الشيء
به تعالى كما قال: "الله خالق كل شيء": الزمر: 62، فملكه تعالى محيط بكل شيء و
نفوذ أمره و مضي حكمه ثابت على كل شيء.
و لما كان من الممكن أن يتوهم أن عموم الملك و نفوذ الأمر لا ينافي إخلال بعض
ما أوجده من الأسباب و العلل بأمره فيفعل ببعض خلقه ما لا يريده أو يمنعه عما
يريده تمم قوله: "بيده ملكوت كل شيء" بقوله: "و هو يجير و لا يجار عليه" و هو
في الحقيقة توضيح لاختصاص الملك بأنه بتمام معنى الكلمة فليس لشيء شيء من الملك
في عرض ملكه و لو بالمنع و الإخلال و الاعتراض فله الملك و له الحكم.
و قوله: "و هو يجير و لا يجار عليه" من الجوار، و هو في أصله قرب المسكن ثم
جعلوا للجوار حقا و هو حماية الجار لجاره عمن يقصده بسوء لكرامة الجار على
الجار بقرب الدار و اشتق منه الأفعال يقال: استجاره فأجاره أي سأله الحماية
فحماه أي منع عنه من يقصده بسوء.
و هذا جار في جميع أفعاله تعالى فما من شيء يخصه الله بعطية حدوثا أو بقاء إلا
و هو يحفظه على ما يريد و بمقدار ما يريد من غير أن يمنعه مانع إذ منع المانع -
لو فرض - إنما هو بإذن منه و مشية فليس منعا له تعالى بل منعا منه و تحديدا
لفعل منه بفعل آخر، و ما من سبب من الأسباب يفعل فعلا إلا و له تعالى أن يتصرف
فيه بما لا يريده لأنه تعالى هو الذي ملكه الفعل بمشيته فله أن يمنعه منه أو من
بعضه.
فالمراد بقوله: "و هو يجير و لا يجار عليه" أنه يمنع السوء عمن قصد به و لا
يمنعه شيء إذا أراد شيئا بسوء عما أراد.
و معنى الآية قل لهؤلاء المنكرين للبعث: من الذي يختص به إيجاد كل شيء بما له
من الخواص و الآثار و هو يحمي من استجار به و لا يحمى عنه شيء إذا أراد شيئا
بسوء؟ إن كنتم تعلمون.
قوله تعالى: "سيقولون لله قل فأنى تسحرون" قيل: إن المراد بالسحر أن يخيل الشيء
للإنسان على خلاف ما هو عليه فهو من الاستعارة أو الكناية.
و المعنى: سيجيبونك أن الملكوت لله قل لهم تبكيتا و توبيخا: فإلى متى يخيل لكم
الحق باطلا فإذا كان الملك المطلق لله سبحانه فله أن يوجد النشأة الآخرة و يعيد
الأموات للحساب و الجزاء بأمر يأمره و هو قوله: "كن".
و اعلم أن الاحتجاجات الثلاثة كما تثبت إمكان البعث كذلك تثبت توحده تعالى في
الربوبية فإن الملك الحقيقي لا يتخلف عن جواز التصرفات، و المالك المتصرف هو
الرب.
قوله تعالى: "بل أتيناهم بالحق و إنهم لكاذبون" إضراب عن النفي المفهوم من
الحجج التي أقيمت في الآيات السابقة، و المعنى فإذا كانت الحجج المبنية تدل على
البعث و هم معترفون بصحتها فليس ما وعدهم رسلنا باطلا بل جئناهم بلسان الرسل
بالحق و إنهم لكاذبون في دعواهم كذبهم و نفيهم للبعث.
قوله تعالى: "ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق
و لعلا بعضهم على بعض" إلخ، القول بالولد كان شائعا بين الوثنيين يعدون
الملائكة أو بعضهم و بعض الجن و بعض القديسين من البشر أولادا لله سبحانه و
تبعهم النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، و هذا النوع من الولادة و البنوة
مبني على اشتمال الابن على شيء من حقيقة اللاهوت و جوهره و انفصاله منه بنوع من
الاشتقاق فيكون المسمى بالابن إلها مولودا من إله.
و أما البنوة الادعائية بالتبني و هو أخذ ولد الغير ابنا لتشريف أو لغرض آخر
فلا يوجب اشتمال الابن على شيء من حقيقة الأب كقول اليهود نحن أبناء الله و
أحباؤه، و ليس الولد بهذا المعنى مرادا لأن الكلام مسوق لنفي تعدد الآلهة، و لا
يستلزم هذا النوع من البنوة ألوهية و إن كان التسمي و التسمية بها ممنوعا.
فالمراد باتخاذ الولد إيجاد شيء بنحو التبعض و الاشتقاق يكون مشتملا بنحو على
شيء من حقيقة الموجد لا تسمية شيء موجود ابنا و ولدا لغرض من الأغراض كما ذكره
بعضهم.
و الولد - كما عرفت - أخص مصداقا عندهم من الإله فإن بعض آلهتهم ليس بولد عندهم
فقوله: "ما اتخذ الله من ولد و ما كان معه من إله" ترق من نفي الأخص إلى نفي
الأعم و لفظة "من" في الجملتين زائدة للتأكيد.
و قوله: "إذا لذهب كل إله بما خلق" حجة على نفي التعدد ببيان محذوره إذ لا
يتصور تعدد الآلهة إلا ببينونتها بوجه من الوجوه بحيث لا تتحد في معنى ألوهيتها
و ربوبيتها، و معنى ربوبية الإله في شطر من الكون و نوع من أنواعه تفويض
التدبير فيه إليه بحيث يستقل في أمره من غير أن يحتاج فيه إلى شيء غير نفسه حتى
إلى من فوض إليه الأمر، و من البين أيضا أن المتباينين لا يترشح منهما إلا
أمران متباينان.
و لازم ذلك أن يستقل كل من الآلهة بما يرجع إليه من نوع التدبير و تنقطع رابطة
الاتحاد و الاتصال بين أنواع التدابير الجارية في العالم كالنظام الجاري في
العالم الإنساني عن الأنظمة الجارية في أنواع الحيوان و النبات و البر و البحر
و السهل و الجبل و الأرض و السماء و غيرها و كل منها عن كل منها، و فيه فساد
السماوات و الأرض و ما فيهن، و وحدة النظام الكوني و التئام أجزائه و اتصال
التدبير الجاري فيه يكذبه.
و هذا هو المراد بقوله: "إذا لذهب كل إله بما خلق" أي انفصل بعض الآلهة عن بعض
بما يترشح منه من التدبير.
و قوله: "و لعلا بعضهم على بعض" محذور آخر لازم لتعدد الآلهة تتألف منه حجة
أخرى على النفي، بيانه أن التدابير الجارية في الكون مختلفة منها التدابير
العرضية كالتدبيرين الجاريين في البر و البحر و التدبيرين الجاريين في الماء و
النار، و منها التدابير الطولية التي تنقسم إلى تدبير عام كلي حاكم و تدبير خاص
جزئي محكوم كتدبير العالم الأرضي و تدبير النبات الذي فيه، و كتدبير العالم
السماوي و تدبير كوكب من الكواكب التي في السماء، و كتدبير العالم المادي برمته
و تدبير نوع من الأنواع المادية.
فبعض التدبير و هو التدبير العام الكلي يعلو بعضا بمعنى أنه بحيث لو انقطع عنه
ما دونه بطل ما دونه لتقومه بما فوقه، كما أنه لو لم يكن هناك عالم أرضي أو
التدبير الذي يجري فيه بالعموم لم يكن عالم إنساني و لا التدبير الذي يجري فيه
بالخصوص.
و لازم ذلك أن يكون الإله الذي يرجع إليه نوع عال من التدبير عاليا بالنسبة إلى
الإله الذي فوض إليه من التدبير ما هو دونه و أخص منه و أخس و استعلاء الإله
على الإله محال.
لا لأن الاستعلاء المذكور يستلزم كون الإله مغلوبا لغيره أو ناقصا في قدرته
محتاجا في تمامه إلى غيره أو محدودا و المحدودية تفضي إلى التركيب، و كل ذلك من
لوازم الإمكان المنافي لوجوب وجود الإله فيلزم الخلف - كما قرره المفسرون - فإن
الوثنيين لا يرون لآلهتهم من دون الله وجوب الوجود بل هي عندهم موجودات ممكنة
عالية فوض إليهم تدبير أمر ما دونها، و هي مربوبة لله سبحانه و أرباب لما دونها
و الله سبحانه رب الأرباب و إله الآلهة و هو الواجب الوجود بالذات وحده.
بل استحالة الاستعلاء إنما هو لاستلزامه بطلان استقلال المستعلى عليه في تدبيره
و تأثيره إذ لا يجامع توقف التدبير على الغير و الحاجة إليه الاستقلال فيكون
السافل منها مستمدا في تأثيره محتاجا فيه إلى العالي فيكون سببا من الأسباب
التي يتوسل بها إلى تدبير ما دونه لا إلها مستقلا بالتأثير دونه فيكون ما فرض
إلها غير إله بل سببا يدبر به الأمر هذا خلف.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية، و للمفسرين في تقرير حجة الآية مسالك مختلفة
يبتني جميعها على استلزام تعدد الآلهة أمورا تستلزم إمكانها و تنافي كونها
واجبة الوجود فيلزم الخلف، و القوم لا يقولون في شيء من آلهتهم من دون الله
بوجوب الوجود، و قد أفرط بعضهم فقرر الآية بوجوه مؤلفة من مقدمات لا إشارة في
الآية إلى جلها و لا إيهام، و فرط آخرون فصرحوا بأن الملازمة المذكورة في الآية
عادية لا عقلية، و الدليل إقناعي لا قطعي.
ثم لا يشتبهن عليك أمر قوله: "لذهب كل إله بما خلق" حيث نسب الخلقة إليها و قد
تقدم أنهم قائلون بإله التدبير دون الإيجاد و ذلك لأن بعض الخلق من التدبير فإن
خلق جزئي من الجزئيات مما يتم بوجوده النظام الكلي من التدبير بالنسبة إلى
النظام الجاري فالخلق بمعنى الفعل و التدبير مختلطان و قد نسب الخلق إلى
أعمالنا كما في قوله: "و الله خلقكم و ما تعملون": الصافات: 96، و قوله: "و جعل
لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون": الزخرف: 12.
فالقوم يرون أن كلا من الآلهة خالق لما دونه أي فاعل له كما يفعل الواحد منا
أفعاله، و أما إعطاء الوجود للأشياء فمما يختص بالله سبحانه وحده لا يرتاب فيه
موحد و لا وثني إلا بعض من لم يفرق بين الفعل و الإيجاد من المتكلمين.
و قد ختم الآية بالتنزيه بقوله: "سبحان الله عما يصفون".
قوله تعالى: "عالم الغيب و الشهادة فتعالى عما يشركون" صفة لاسم الجلالة في
قوله: "سبحان الله عما يصفون" و تأخيرها للدلالة على علمه بتنزهه عن وصفهم إياه
بالشركة - على ما يعطيه السياق - فيكون في معنى قوله: "قل أ تنبئون الله بما لا
يعلم في السماوات و لا في الأرض سبحانه و تعالى عما يشركون": يونس: 18.
و يرجع في الحقيقة إلى الاحتجاج على نفي الشركاء بشهادته تعالى أنه لا يعلم
لنفسه شريكا كما أن قوله: "شهد الله أنه لا إله إلا هو": آل عمران: 18 احتجاج
بالشهادة على نفي أصل الوجود.
و قيل: إنه برهان آخر راجع إلى إثبات العلو أو لزوم الجهل الذي هو نقص و ضد
العلو لأن المتعددين لا سبيل لهما إلى أن يعلم كل واحد حقيقة الآخر كعلم ذلك
الآخر بنفسه بالضرورة و هو نوع جهل و قصور.
انتهي.
و فيه أن ذلك كسائر ما قرروه من البراهين ينفي تعدد الإله الواجب الوجود
بالذات، و الوثنيون لا يلتزمون في آلهتهم من دون الله بذلك.
على أن بعض مقدمات ما قرر من الدليل ممنوع.
و قوله: "فتعالى عما يشركون" تفريع على جميع ما تقدم من الحجج على نفي الشركاء.
قوله تعالى: "قل رب إما تريني ما يوعدون رب فلا تجعلني في القوم الظالمين" لما
فرغ من نقل ما تفوهوا به من الشرك بالله و إنكار البعث و الاستهزاء بالرسل و
أقام الحجج على إثبات حقيتها رجع إلى ما تقدم من تهديدهم بالعذاب فأمر نبيه
(صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأله أن ينجيه من العذاب الذي أوعدهم به إن أراه
ذلك العذاب.
فقوله: "قل رب إما تريني ما يوعدون" أمر بالدعاء و الاستغاثة، و تكرار "رب"
لتأكيد التضرع و ما في قوله: "إما تريني" زائدة و هي المصححة لدخول نون التأكيد
على الشرط و أصله: إن ترني.
و في قوله: "ما يوعدون" دلالة على أن بعض ما تقدم في السورة من الإيعاد بالعذاب
إيعاد بعذاب دنيوي.
و ما في قوله: "رب فلا تجعلني في القوم الظالمين" من الكون فيهم كناية عن شمول
عذابهم له.
قوله تعالى: "و إنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون" تطييب لنفس النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بقدرة ربه على أن يكشف عنه بإراءته ما يعدهم من العذاب، و لعل
المراد به ما عذبهم الله به يوم بدر و قد أراه الله ذلك و أراه المؤمنين و شفى
به غليل صدورهم.
قوله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون" أي ادفع السيئة
التي تتوجه إليك منهم بالحسنة و اختر للدفع من الحسنات أحسنها، و هو دفع السيئة
بالحسنة التي هي أحسن مثل أنه لو أساءوا إليك بالإيذاء أحسن إليهم بغاية ما
استطعت من الإحسان ثم ببعض الإحسان في الجملة و لو لم يسعك ذلك فبالصفح عنهم.
و قوله: "نحن أعلم بما يصفون" نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا
يسوءنه ما يلقاه و لا يحزنه ما يشاهد من تجريهم على ربهم فإنه أعلم بما يصفون.
قوله تعالى: "و قل رب أعوذ بك من همزات الشياطين و أعوذ بك رب أن يحضرون"، قال
في مجمع البيان،: الهمزة شدة الدفع، و منه الهمزة للحرف الذي يخرج من أقصى
الحلق باعتماد شديد و دفع، و همزة الشيطان دفعه بالإغواء إلى المعاصي انتهى.
و في تفسير القمي، عنه (عليه السلام): أنه ما يقع في قلبك من وسوسة الشياطين.
و في الآيتين أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعيذ بربه من إغواء الشياطين
و من أن يحضروه، و فيه إيهام إلى أن ما ابتلي به المشركون من الشرك و التكذيب
من همزات الشياطين و إحاطتهم بهم بالحضور.
23 سورة المؤمنون - 99 - 118
حَتى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْت قَالَ رَب ارْجِعُونِ (99) لَعَلى
أَعْمَلُ صلِحاً فِيمَا تَرَكْت َكلا إِنّهَا كلِمَةٌ هُوَ قَائلُهَا وَ مِن
وَرَائهِم بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فى الصورِ
فَلا أَنساب بَيْنَهُمْ يَوْمَئذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَت
مَوَزِينُهُ فَأُولَئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفّت مَوَزِينُهُ
فَأُولَئك الّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسهُمْ فى جَهَنّمَ خَلِدُونَ (103) تَلْفَحُ
وُجُوهَهُمُ النّارُ وَ هُمْ فِيهَا كَلِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ ءَايَتى
تُتْلى عَلَيْكمْ فَكُنتُم بهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبّنَا غَلَبَت
عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَ كنّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبّنَا أَخْرِجْنَا
مِنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظلِمُونَ (107) قَالَ اخْسئُوا فِيهَا وَ لا
تُكلِّمُونِ (108) إِنّهُ كانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِى يَقُولُونَ رَبّنَا
ءَامَنّا فَاغْفِرْ لَنَا وَ ارْحمْنَا وَ أَنت خَيرُ الرّحِمِينَ (109)
فَاتخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِياّ حَتى أَنسوْكُمْ ذِكْرِى وَ كُنتُم مِّنهُمْ
تَضحَكُونَ (110) إِنى جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صبرُوا أَنّهُمْ هُمُ
الْفَائزُونَ (111) قَلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فى الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112)
قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْض يَوْمٍ فَسئَلِ الْعَادِّينَ (113) قَلَ
إِن لّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لّوْ أَنّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ
فَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَكُمْ عَبَثاً وَ أَنّكُمْ إِلَيْنَا لا
تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَلى اللّهُ الْمَلِك الْحَقّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَب
الْعَرْشِ الْكرِيمِ (116) وَ مَن يَدْعُ مَعَ اللّهِ إِلَهاً ءَاخَرَ لا
بُرْهَنَ لَهُ بِهِ فَإِنّمَا حِسابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنّهُ لا يُفْلِحُ
الْكَفِرُونَ (117) وَ قُل رّب اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنت خَيرُ الرّحِمِينَ
(118)
بيان
الآيات تفصل القول في عذاب الآخرة التي أوعدهم الله بها في طي الآيات السابقة و
هو من يوم الموت إلى يوم البعث ثم إلى الأبد، و تذكر أن الحياة الدنيا التي
غرتهم و صرفتهم عن الآخرة قليلة لو كانوا يعلمون.
ثم تختم السورة بأمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تسأله ما حكاه عن عباده
المؤمنين الفائزين في الآخرة "رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين" و قد افتتحت
السورة بأنهم مفلحون وارثون للجنة.
قوله تعالى: "حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون" "حتى" متعلق بما تقدم من
وصفهم له تعالى بما هو منزه منه و شركهم به، و الآيات المتخللة اعتراض في
الكلام أي لا يزالون يشركون به و يصفونه بما هو منزه منه و هم مغترون بما نمدهم
به من مال و بنين حتى إذا جاء أحدهم الموت.
و قوله: "قال رب ارجعون" الظاهر أن الخطاب للملائكة المتصدين لقبض روحه و "رب"
استغاثة معترضة بحذف حرف النداء و المعنى قال - و هو يستغيث بربه - ارجعون.
و قيل: إن الخطاب للرب تعالى و الجمع للتعظيم كقول امرأة فرعون له على ما حكاه
الله: "قرة عين لي و لك لا تقتلوه".
و قيل: هو من جمع الفعل و يفيد تعدد الخطاب، و المعنى رب ارجعني ارجعني ارجعني
كما قيل في قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب و منزل.
بسقط اللوى بين الدخول فحومل.
أي قف قف نبك.
و في الوجهين أن الجمع للتعظيم إن صح ثبوته في اللغة العربية فهو شاذ لا يحمل
عليه كلامه تعالى، و أشذ منه جمع الفعل بالمعنى الذي ذكر.
قوله تعالى: "لعلي أعمل صالحا فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها" "لعل" للترجي
و هو رجاء تعلقوا به بمعاينة العذاب المشرف عليهم كما ربما ذكروا الرجوع بوعد
العمل الصالح كقولهم: "فارجعنا نعمل صالحا: السجدة: 12، و ربما ذكروه بلفظ
التمني كقولهم: "يا ليتنا نرد و لا نكذب بآيات ربنا": الأنعام: 27.
و قوله: "أعمل صالحا فيما تركت" أي أعمل عملا صالحا فيما تركت من المال بإنفاقه
في البر و الإحسان و كل ما فيه رضا الله سبحانه.
و قيل: المراد بما تركت الدنيا التي تركها بالموت و العمل الصالح أعم من
العبادات المالية و غيرها من صلاة و صوم و حج و نحوها، و هو حسن غير أن الأول
هو الأظهر.
و قوله: "كلا إنها كلمة هو قائلها" أي لا يرجع إلى الدنيا إن هذه الكلمة
"ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت" كلمة هو قائلها أي لا أثر لها إلا أنها
كلمة هو قائلها، فهو كناية عن عدم إجابة مسألته.
قوله تعالى: "و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" البرزخ هو الحاجز بين الشيئين
كما في قوله: "بينهما برزخ لا يبغيان": الرحمن: 20، و المراد بكونه وراءهم كونه
أمامهم محيطا بهم و سمي وراءهم بعناية أنه يطلبهم كما أن مستقبل الزمان أمام
الإنسان و يقال: وراءك يوم كذا بعناية أن الزمان يطلب الإنسان ليمر عليه و هذا
معنى قول بعضهم: إن في وراء "معنى الإحاطة، قال تعالى: "و كان وراءهم ملك يأخذ
كل سفينة غصبا": الكهف: 79.
و المراد بهذا البرزخ عالم القبر و هو عالم المثال الذي يعيش فيه الإنسان بعد
موته إلى قيام الساعة على ما يعطيه السياق و تدل عليه آيات أخر و تكاثرت فيه
الروايات من طرق الشيعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت
(عليهم السلام) و كذا من طرق أهل السنة، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الأول من
الكتاب.
و قيل: المراد بالآية أن بينهم و بين الدنيا حاجزا يمنعهم من الرجوع إليها إلى
يوم القيامة و معلوم أن لا رجوع بعد القيامة ففيه تأكيد لعدم رجوعهم و إياس لهم
من الرجوع إليها من أصله.
و فيه أن ظاهر السياق الدلالة على استقرار الحاجز بين الدنيا و بين يوم يبعثون
لا بينهم و بين الرجوع إلى الدنيا، و لو كان المراد أن الموت حاجز بينهم و بين
الرجوع إلى الدنيا لغا التقييد بقوله: "إلى يوم يبعثون" لا لدلالته من طريق
المفهوم على رجوعهم بعد البعث إلى الدنيا و لا رجوع بعد البعث بل للغوية أصل
التقييد و إن فرض أنهم كانوا يعلمون من الخارج أو من آيات سابقة أن لا رجوع بعد
القيامة.
على أن قولهم: إنه تأكيد لعدم الرجوع بإياسهم من الرجوع مطلقا مع قولهم بأن عدم
الرجوع بعد القيامة معلوم من خارج كالمتهافتين بل يرجع المعنى إلى تأكيد نفي
الرجوع مطلقا المفهوم من "كلا" بنفي الرجوع الموقت المحدود بقوله: "إلى يوم
يبعثون" فافهمه.
قوله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون المراد به
النفخة الثانية التي تحيا فيها الأموات دون النفخة الأولى التي تموت فيها
الأحياء كما قاله بعضهم لكون ما يترتب عليها من انتفاء الأنساب و التساؤل و ثقل
الميزان و خفته إلى غير ذلك من آثار النفخة الثانية.
و قوله: "فلا أنساب بينهم" نفي لآثار الأنساب بنفي أصلها فإن الذي يستوجب حفظ
الأنساب و اعتبارها هي الحوائج الدنيوية التي تدعو الإنسان إلى الحياة
الاجتماعية التي تبتني على تكون البيت، و المجتمع المنزلي يستعقب التعارف و
التعاطف و أقسام التعاون و التعاضد و سائر الأسباب التي تدوم بها العيشة
الدنيوية و يوم القيامة ظرف جزاء الأعمال و سقوط الأسباب التي منها الأعمال فلا
موطن فيه للأسباب الدنيوية التي منها الأنساب بلوازمها و خواصها و آثارها.
و قوله: "و لا يتساءلون" ذكر لأظهر آثار الأنساب، و هو التساؤل بين المنتسبين
بسؤال بعضهم عن حال بعض، للإعانة و الاستعانة في الحوائج لجلب المنافع و دفع
المضار.
و لا ينافي الآية ما وقع في مواضع أخر من قوله تعالى: "و أقبل بعضهم على بعض
يتساءلون": الصافات: 27، فإنه حكاية تساؤل أهل الجنة بعد دخولها و تساؤل أهل
النار بعد دخولها و هذه الآية تنفي التساؤل في ظرف الحساب و القضاء.
قوله تعالى: "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون" إلى آخر الآيتين.
الموازين جمع الميزان أو جمع الموزون و هو العمل الذي يوزن يومئذ، و قد تقدم
الكلام في معنى الميزان و ثقله و خفته في تفسير سورة الأعراف.
قوله تعالى: "تلفح وجوههم النار و هم فيها كالحون" قال في المجمع:، اللفح و
النفح بمعنى إلا أن اللفح أشد تأثيرا و أعظم من النفح، و هو ضرب من السموم
للوجه و النفح ضرب الريح الوجه، و الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو
الأسنان.
انتهي.
و المعنى: يصيب وجوههم لهب النار حتى تتقلص شفاههم و تنكشف عن أسنانهم كالرءوس
المشوية.
قوله تعالى: "أ لم تكن آياتي تتلى عليكم" إلخ أي يقال لهم: أ لم تكن آياتي تتلى
عليكم فكنتم بها تكذبون.
قوله تعالى: "قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا و كنا قوما ضالين" الشقوة و الشقاوة
و الشقاء خلاف السعادة و سعادة الشيء ما يختص به من الخير، و شقاوته فقد ذلك و
إن شئت فقل: ما يختص به من الشر.
و قوله: "غلبت علينا شقوتنا" أي قهرنا و استولت علينا شقوتنا، و في إضافة
الشقوة إلى أنفسهم تلويح إلى أن لهم صنعا في شقوتهم من جهة اكتسابهم ذلك بسوء
اختيارهم، و الدليل عليه قولهم بعد: "ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون"
إذ هو وعد منهم بالحسنات و لو لم يكن لها ارتباط باكتسابهم الاختياري لم يكن
للوعد معنى لكون حالهم بعد الخروج مساوية لما قبل الخروج.
و قد عدوا أنفسهم مغلوبة للشقوة فقد أخذوها ساذجة في ذواتها صالحة للحقوق
السعادة و الشقاوة غير أن الشقوة غلبت فأشغلت المحل و كانت الشقوة شقوة أنفسهم
أي شقوة لازمة لسوء اختيارهم و سيئات أعمالهم لأنهم فرضوا أنفسهم خالية عن
السعادة و الشقوة لذاتها فانتساب الشقوة إلى أنفسهم و ارتباطها بها إنما هي من
جهة سوء اختيارهم و سيئات أعمالهم.
و بالجملة هو اعتراف منهم بتمام الحجة و لحوق الشقوة على ما يشهد به وقوع الآية
بعد قوله: "أ لم تكن آياتي تتلى عليكم" إلخ.
ثم عقبوا قولهم: "غلبت علينا شقوتنا" بقولهم: "و كنا قوما ضالين" تأكيدا
لاعترافهم، و إنما اعترفوا بالذنب ليتوسلوا به إلى التخلص من العذاب و الرجوع
إلى الدنيا لكسب السعادة فقد شاهدوا في الدنيا أن اعتراف العاصي المتمرد بذنبه
و ظلمه توبة منه مطهرة له تنجيه من تبعة الذنب و هم يعلمون أن اليوم يوم جزاء
لا يوم عمل و التوبة و الاعتراف بالذنب من الأعمال لكن ذلك من قبيل ظهور
الملكات كما أنهم يكذبون يومئذ و ينكرون أشياء مع ظهور الحق و معاينته لاستقرار
ملكة الكذب و الإنكار في نفوسهم، قال تعالى: "يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له
كما يحلفون لكم": المجادلة: 18 و قال: "ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون
الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا": المؤمن: 74.
قوله تعالى: "ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون" سؤال منهم للرجوع إلى
الدنيا على ما تدل عليه آيات أخر فهو من قبيل طلب المسبب بطلب سببه، و مرادهم
أن يعملوا صالحا بعد ما تابوا بالاعتراف المذكور فيكونوا بذلك ممن تاب و عمل
صالحا.
قوله تعالى: "قالوا اخسئوا فيها و لا تكلمون" قال الراغب: خسأت الكلب فخسأ أي
زجرته مستهينا به فانزجر و ذلك إذا قلت له: اخسأ انتهى.
ففي الكلام استعارة بالكناية، و المراد زجرهم بالتباعد و قطع الكلام.
قوله تعالى: "إنه كان فريق من عبادي يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا و أنت
خير الراحمين" هؤلاء هم المؤمنون في الدنيا و كان إيمانهم توبة و رجوعا إلى
الله كما سماه الله في كلامه توبة، و كان سؤالهم شمول الرحمة - و هي الرحمة
الخاصة بالمؤمنين البتة - سؤالا منهم أن يوفقهم للسعادة فيعملوا صالحا فيدخلوا
الجنة، و قد توسلوا إليه باسمه خير الراحمين.
فكان ما قاله المؤمنون في الدنيا معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و ذلك عين
ما قاله هؤلاء مما معناه التوبة و سؤال الفوز بالسعادة و إنما الفرق بينهما من
حيث الموقف.
قوله تعالى: "فاتخذتموهم سخريا حتى أنسوكم ذكري و كنتم منهم تضحكون" ضمائر
الخطاب للكفار و ضمائر الغيبة للمؤمنين، و السياق يشهد أن المراد من "ذكري" قول
المؤمنين: "ربنا آمنا فاغفر لنا و ارحمنا" إلخ، و هو معنى قول الكفار في النار.
و قوله: "حتى أنسوكم ذكري" أي أنسى اشتغالكم بسخرية المؤمنين و الضحك منهم
ذكري، ففي نسبة الإنساء إلى المؤمنين دون سخريتهم إشارة إلى أنه لم يكن
للمؤمنين عندهم شأن من الشئون إلا أن يتخذوهم سخريا.
قوله تعالى: "إني جزيتهم اليوم بما صبروا إنهم هم الفائزون" المراد باليوم يوم
الجزاء، و متعلق الصبر معلوم من السياق محذوف للإيجاز أي صبروا على ذكري مع
سخريتكم منهم لأجله، و قوله: "إنهم هم الفائزون" مسوق للحصر أي هم الفائزون
دونكم.
و هذه الآيات الأربع "قال اخسئوا" - إلى قوله - "هم الفائزون" إياس قطعي للكفار
من الفوز بسبب ما تعلقوا به من الاعتراف بالذنب و سؤال الرجوع إلى الدنيا و
محصلها أن اقنطوا مما تطلبونه بهذا القول و هو الاعتراف و السؤال فإنه عمل إنما
كان ينفع في دار العمل و هي الدنيا، و قد كان المؤمنون من عبادي يتخذونه وسيلة
إلى الفوز و كنتم تسخرون و تضحكون منهم حتى تركتموه و بدلتموه من سخريتهم حتى
إذا كان اليوم و هو يوم جزاء لا يوم عمل فازوا بجزاء ما عملوا يوم العمل و
بقيتم صفر الأكف تريدون أن تتوسلوا بالعمل اليوم و هو يوم الجزاء دون العمل.
قوله تعالى: "قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين" مما يسأل الله الناس عنه يوم
القيامة مدة لبثهم في الأرض و قد ذكر في مواضع من كلامه و المراد به السؤال عن
مدة لبثهم في القبور كما يدل عليه قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يقسم
المجرمون ما لبثوا غير ساعة": الروم: 55، و قوله: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم
يلبثوا إلا ساعة من نهار": الأحقاف: 35، و غيرهما من الآيات، فلا محل لقول
بعضهم: إن المراد به المكث في الدنيا، و احتمال بعضهم أنه مجموع اللبث في
الدنيا و البرزخ.
قوله تعالى: "قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين" ظاهر السياق أن
المراد باليوم هو الواحد من أيام الدنيا و قد استقلوا اللبث في الأرض حينما
قايسوه بالبقاء الأبدي الذي يلوح لهم يوم القيامة و يعاينونه.
و يؤيده ما وقع في موضع آخر من تقديرهم ذلك بالساعة، و في موضع آخر بعشية أو
ضحاها.
و قوله: "فاسئل العادين" أي نحن لا نحسن إحصاءها فاسأل الذين يعدونه و فسر
بالملائكة العادين للأيام و ليس ببعيد.
قوله تعالى: قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون" القائل هو الله
سبحانه، و في الكلام تصديق لهم في استقلالهم المكث في القبور و فيه توطئة لما
يلحق به من قوله: "لو أنكم كنتم تعلمون" بما فيه من التمني.
و المعنى: قال الله: الأمر كما قلتم فما مكثتم إلا قليلا فليتكم كنتم تعلمون في
الدنيا أنكم لا تلبثون في قبوركم إلا قليلا ثم تبعثون حتى لا تنكروا البعث و لم
تبتلوا بهذا العذاب الخالد، و التمني في كلامه تعالى كالترجي راجع إلى المخاطب
أو المقام.
و جعل بعضهم "لو" في الآية شرطية و الجملة شرطا محذوف الجزاء و تكلف في تصحيح
الكلام بما لا يرتضيه الذوق السليم و هو بعيد عن السياق كما هو ظاهر و أبعد منه
جعل "لو" وصلية مع أن "لو" الوصلية لا تجيء بغير واو العطف.
قوله تعالى: "أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا - إلى قوله - رب العرش الكريم - بعد
ما بين ما سيستقبلهم من أحوال الموت ثم اللبث في البرزخ ثم البعث بما فيه من
الحساب و الجزاء وبخهم على حسبانهم أنهم لا يبعثون فإن فيه جرأة على الله بنسبة
العبث إليه ثم أشار إلى برهان العبث.
فقوله: "أ فحسبتم" إلخ، معناه فإذا كان الأمر على ما أخبرناكم من تحسركم عند
معاينة الموت ثم اللبث في القبور ثم البعث فالحساب و الجزاء فهل تظنون أنما
خلقناكم عبثا تحيون و تموتون من غير غاية باقية في خلقكم و أنكم إلينا لا
ترجعون؟.
و قوله: "فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم" إشارة إلى
برهان يثبت البعث و يدفع قولهم بالنفي، في صورة التنزيه، فإنه تعالى وصف نفسه
في كلمة التنزيه بالأوصاف الأربعة: أنه ملك و أنه حق و أنه لا إله إلا هو و أنه
رب العرش الكريم.
فله أن يحكم بما شاء من بدء و عود و حياة و موت و رزق نافذا حكمه ماضيا أمره
لملكه، و ما يصدر عنه من حكم فإنه لا يكون إلا حقا فإنه حق و لا يصدر عن الحق
بما هو حق إلا حق دون أن يكون عبثا باطلا ثم لما أمكن أن يتصور أن معه مصدر حكم
آخر يحكم بما يبطل به حكمه وصفه بأنه لا إله - أي لا معبود - إلا هو، و الإله
معبود لربوبيته فإذا لا إله غيره فهو رب العرش - الكريم عرش العالم - الذي هو
مجتمع أزمة الأمور و منه يصدر الأحكام و الأوامر الجارية فيه.
فتلخص أنه هو الذي يصدر عنه كل حكم و يوجد منه كل شيء و لا يحكم إلا بحق و لا
يفعل إلا حقا فللأشياء رجوع إليه و بقاء به و إلا لكانت عبثا باطلة و لا عبث في
الخلق و لا باطل في الصنع.
و الدليل على اتصافه بالأوصاف الأربعة كونه تعالى هو الله الموجود لذاته الموجد
لغيره.
قوله تعالى: "و من يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه
إنه لا يفلح الكافرون"، المراد من دعاء إله آخر مع الله دعاؤه مع وجوده تعالى
لا دعاؤه تعالى و دعاء إله آخر معا فإن المشركين جلهم أو كلهم لا يدعون الله
تعالى و إنما يدعون ما أثبتوه من الشركاء، و يمكن أن يكون المراد بالدعاء
الإثبات فإن إثبات إله آخر لا ينفك عن دعائه.
و قوله: "لا برهان له به" قيد توضيحي لإله آخر إذ لا إله آخر يكون به برهان بل
البرهان قائم على نفي الإله الآخر مطلقا.
و قوله: "فإنما حسابه عند ربه" كلمة تهديد و فيه قصر حسابه بكونه عند ربه لا
يداخله أحد فيما اقتضاه حسابه من جزاء - و هو النار كما صرحت به الآيات السابقة
- فإنه يصيبه لا محالة، و مرجعه إلى نفي الشفعاء و الإياس من أسباب النجاة و
تممه بقوله: "إنه لا يفلح الكافرون".
قوله تعالى: "و قل رب اغفر و ارحم و أنت خير الراحمين" خاتمة السورة و قد أمر
فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقول ما حكاه عن عباده المؤمنين أنهم
يقولونه في الدنيا و أن جزاء ذلك هو الفوز يوم القيامة: "إنه كان فريق من عبادي
يقولون" إلخ، الآيتان 109 و 111 من السورة.
و بذلك يختتم الكلام بما افتتح به في أول السورة: "قد أفلح المؤمنون" و قد تقدم
الكلام في معنى الآية.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): من منع قيراطا
من الزكاة فليس بمؤمن و لا مسلم، و هو قوله تعالى: "رب ارجعون لعلي أعمل صالحا
فيما تركت.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخر غيرها عنه (عليه السلام) و عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) و المراد به انطباق الآية على مانع الزكاة لا نزولها فيه.
و في تفسير القمي،: قوله عز و جل: "و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" قال:
البرزخ هو أمر بين أمرين و هو الثواب و العقاب بين الدنيا و الآخرة، و هو قول
الصادق (عليه السلام): و الله ما أخاف عليكم إلا البرزخ و أما إذا صار الأمر
إلينا فنحن أولى بكم:. أقول: و روي الذيل في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد
عنه (عليه السلام).
و فيه، قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن القبر إما روضة من رياض الجنة أو
حفرة من حفر النار.
و في الكافي، بإسناده عن أبي ولاد الحناط عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
قلت له: جعلت فداك يروون أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور خضر حول العرش. فقال:
لا. المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير لكن في أبدان كأبدانهم
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن أرواح المؤمنين
لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يقولون: ربنا أقم
الساعة لنا، و أنجز لنا ما وعدتنا و ألحق آخرنا بأولنا.
و فيه، بإسناده أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن
الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تتعارف و تتساءل فإذا قدمت الروح على
الأرواح تقول: دعوها فإنها قد أقبلت من هول عظيم ثم يسألونها ما فعل فلان؟ و ما
فعل فلان؟ فإن قالت لهم: تركته حيا ارتجوه، و إن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد
هوى قد هوى.
أقول: أخبار البرزخ و تفاصيل ما يجري على المؤمنين و غيرهم فيه كثيرة متواترة،
و قد مر شطر منها في أبحاث متفرقة مما تقدم.
في مجمع البيان، و قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كل حسب و نسب منقطع
يوم القيامة إلا حسبي و نسبي.
أقول: كأن الرواية من طريق الجماعة، و قد رواها في الدر المنثور، عن عدة من
أصحاب الجوامع عن المسور بن مخرمة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها:
أن الأنساب تنقطع يوم القيامة غير نسبي و سببي و صهري، و عن عدة منهم عن عمر بن
الخطاب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظها: كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة
إلا سببي و نسبي و عن ابن عساكر عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و
لفظها: كل نسب و صهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي و صهري.
و في المناقب، في حديث طاووس عن زين العابدين (عليه السلام): خلق الله الجنة
لمن أطاع و أحسن و لو كان عبدا حبشيا، و خلق النار لمن عصاه و لو كان ولدا
قرشيا أ ما سمعت قول الله تعالى: "فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم و لا
يتساءلون" و الله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.
أقول: سياق الآية كالآبي عن التخصيص و لعل من آثار نسبه (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يوفق ذريته من صالح العمل بما ينتفع به يوم القيامة.
و في تفسير القمي،: و قوله عز و جل: "تلفح وجوههم النار" قال: تلهب عليهم
فتحرقهم "و هم فيها كالحون" أي مفتوحي الفم متربدي الوجوه.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله
عز و جل: "ربنا غلبت علينا شقوتنا" قال: بأعمالهم شقوا. و في العلل، بإسناده عن
مسعدة بن زياد قال: قال رجل لجعفر بن محمد (عليهما السلام): يا أبا عبد الله
إنا خلقنا للعجب. قال: و ما ذلك لله أنت؟ قال: خلقنا للفناء. قال: مه يا ابن أخ
خلقنا للبقاء و كيف تفنى جنة لا تبيد و نار لا تخمد؟ و لكن إنما نتحول من دار
إلى دار. و في تفسير القمي،: قوله تعالى: "قال كم لبثتم إلى قوله فاسئل
العادين" قال: سل الملائكة الذين يعدون علينا الأيام، و يكتبون ساعاتنا و
أعمالنا التي اكتسبنا فيها. و في الدر المنثور،: أخرج ابن أبي حاتم عن أيفع بن
عبد الكلاعي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أدخل
أهل الجنة الجنة و أهل النار النار قال لأهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم. قال: لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم رحمتي و
رضواني و جنتي اسكنوا فيها خالدين مخلدين. ثم يقول: يا أهل النار كم لبثتم في
الأرض عدد سنين؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم فيقول: بئس ما اتجرتم في يوم أو
بعض يوم ناري و سخطي امكثوا فيها خالدين.
أقول: و في انطباق معنى الحديث على الآية بما لها من السياق و بما تشهد به
الآيات النظائر خفاء، و قد تقدم البحث عن مدلول الآية مستمدا من الشواهد.
24 سورة النور - 1 - 10
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سورَةٌ أَنزَلْنَهَا وَ فَرَضنَهَا وَ
أَنزَلْنَا فِيهَا ءَايَتِ بَيِّنَتٍ لّعَلّكمْ تَذَكّرُونَ (1) الزّانِيَةُ وَ
الزّانى فَاجْلِدُوا كلّ وَحِدٍ مِّنهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكم
بهِمَا رَأْفَةٌ فى دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ
الْيَوْمِ الاَخِرِ وَ لْيَشهَدْ عَذَابهُمَا طائفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
الزّانى لا يَنكِحُ إِلا زَانِيَةً أَوْ مُشرِكَةً وَ الزّانِيَةُ لا
يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشرِكٌ وَ حُرِّمَ ذَلِك عَلى الْمُؤْمِنِينَ (3)
وَ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصنَتِ ثمّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَنِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لهَُمْ شهَدَةً أَبَداً وَ
أُولَئك هُمُ الْفَسِقُونَ (4) إِلا الّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِك وَ
أَصلَحُوا فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (5) وَ الّذِينَ يَرْمُونَ
أَزْوَجَهُمْ وَ لَمْ يَكُن لهُّمْ شهَدَاءُ إِلا أَنفُسهُمْ فَشهَدَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهَدَتِ بِاللّهِ إِنّهُ لَمِنَ الصدِقِينَ (6) وَ
الخَْمِسةُ أَنّ لَعْنَت اللّهِ عَلَيْهِ إِن كانَ مِنَ الْكَذِبِينَ (7) وَ
يَدْرَؤُا عَنهَا الْعَذَاب أَن تَشهَدَ أَرْبَعَ شهَدَتِ بِاللّهِ إِنّهُ
لَمِنَ الْكَذِبِينَ (8) وَ الخَْمِسةَ أَنّ غَضب اللّهِ عَلَيهَا إِن كانَ
مِنَ الصدِقِينَ (9) وَ لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْكمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنّ
اللّهَ تَوّابٌ حَكيمٌ (10)
بيان
غرض السورة ما ينبىء عنه مفتتحها "سورة أنزلناها و فرضناها و أنزلنا فيها آيات
بينات لعلكم تذكرون" فهي تذكرة نبذة من الأحكام المفروضة المشرعة ثم جملة من
المعارف الإلهية تناسبها و يتذكر بها المؤمنون.
و هي سورة مدنية بلا خلاف و سياق آياتها يشهد بذلك و من غرر الآيات فيها آية
النور.
قوله تعالى: "سورة أنزلناها و فرضناها و أنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون"
السورة طائفة من الكلام يجمعها غرض واحد سيقت لأجله و لذا اعتبرت تارة نفس
الآيات بما لها من المعاني فقيل: "فرضناها"، و تارة ظرفا لبعض الآيات ظرفية
المجموع للبعض فقيل: "أنزلنا فيها آيات بينات" و هي مما وضعه القرآن و سمي به
طائفة خاصة من آياته و تكرر استعمالها في كلامه تعالى، و كأنه مأخوذ من سور
البلد و هو الحائط الذي يحيط به سميت به سورة القرآن لإحاطتها بما فيها من
الآيات أو بالغرض الذي سيقت له.
و قال الراغب: الفرض قطع الشيء الصلب و التأثير فيه كفرض الحديد و فرض الزند و
القوس.
قال: و الفرض كالإيجاب لكن الإيجاب يقال اعتبارا بوقوعه و ثباته، و الفرض بقطع
الحكم فيه، قال تعالى: "سورة أنزلناها و فرضناها" أي أوجبنا العمل بها عليك.
قال: و كل موضع ورد "فرض الله عليه" ففي الإيجاب الذي أدخله الله فيه، و ما ورد
"فرض الله له" فهو في أن لا يحظره على نفسه نحو "ما كان على النبي" من حرج فيما
فرض الله له".
انتهي.
فقوله: "سورة أنزلناها و فرضناها" أي هذه سورة أنزلناها و أوجبنا العمل بما
فيها من الأحكام فالعمل بالحكم الإيجابي هو الإتيان به و بالحكم التحريمي
الانتهاء عنه.
و قوله: "و أنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون" المراد بها - بشهادة السياق -
آية النور و ما يتلوها من الآيات المبينة لحقيقة الإيمان و الكفر و التوحيد و
الشرك المذكرة لهذه المعارف الإلهية.
قوله تعالى: "الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة" الآية، الزنا
المواقعة من غير عقد أو شبهة عقد أو ملك يمين، و الجلد هو الضرب بالسوط و
الرأفة التحنن و التعطف و قيل: هي رحمة في توجع، و الطائفة في الأصل هي الجماعة
كانوا يطوفون بالارتحال من مكان إلى مكان قيل: و ربما تطلق على الاثنين و على
الواحد.
و قوله: "الزانية و الزاني" إلخ، أي المرأة و الرجل اللذان تحقق منهما الزنا
فاضربوا كل واحد منهما مائة سوط، و هو حد الزنا بنص الآية غير أنها مخصصة بصور:
منها أن يكونا محصنين ذوي زوج أو يكون أحدهما محصنا فالرجم و منها أن يكونا غير
حرين أو أحدهما رقا فنصف الحد.
قيل: و قدمت الزانية في الذكر على الزاني لأن الزنا منهن أشنع و لكون الشهوة
فيهن أقوى و أكثر، و الخطاب في الأمر بالجلد متوجه إلى عامة المسلمين فيقوم بمن
قام بأمرهم من ذوي الولاية من النبي و الإمام و من ينوب منابه.
و قوله: "و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" إلخ، النهي عن الرأفة من قبيل
النهي عن المسبب بالنهي عن سببه إذ الرأفة بمن يستحق نوعا من العذاب توجب
التساهل في إذاقته ما يستحقه من العذاب بالتخفيف فيه و ربما أدى إلى تركه، و
لذا قيده بقوله: "في دين الله" أي حال كون الرأفة أي المساهلة من جهتها في دين
الله و شريعته.
و قيل: المراد بدين الله حكم الله كما في قوله تعالى: "ما كان ليأخذ أخاه في
دين الملك": يوسف: 76 أي في حكمه أي لا تأخذكم بهما رأفة في إنفاذ حكم الله و
إقامة حده.
و قوله: "إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر" أي إن كنتم كذا و كذا فلا تأخذكم
بهما رأفة و لا تساهلوا في أمرهما و فيه تأكيد للنهي.
و قوله: "و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" أي و ليحضر و لينظر إلى ذلك جماعة
منهم ليعتبروا بذلك فلا يقتربوا الفاحشة.
قوله تعالى: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة و الزانية لا ينكحها إلا زان
أو مشرك و حرم ذلك على المؤمنين" ظاهر الآية و خاصة بالنظر إلى سياق ذيلها
المرتبط بصدرها أن الذي تشمل عليه حكم تشريعي تحريمي و إن كان صدرها واردا في
صورة الخبر فإن المراد النهي تأكيدا للطلب و هو شائع.
و المحصل من معناها بتفسير من السنة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن
الزاني إذا اشتهر منه الزنا و أقيم عليه الحد و لم تتبين منه التوبة يحرم عليه
نكاح غير الزانية و المشركة، و الزانية إذا اشتهر منها الزنا و أقيم عليها الحد
و لم يتبين منها التوبة يحرم أن ينكحها إلا زان أو مشرك.
فالآية محكمة باقية على إحكامها من غير نسخ و لا تأويل، و تقييدها بإقامة الحد
و تبين التوبة مما يمكن أن يستفاد من السياق فإن وقوع الحكم بتحريم النكاح بعد
الأمر بإقامة الحد يلوح إلى أن المراد به الزاني و الزانية المجلودان، و كذا
إطلاق الزاني و الزانية على من ابتلي بذلك ثم تاب توبة نصوحا و تبين منه ذلك،
بعيد من دأب القرآن و أدبه.
و للمفسرين في معنى الآية تشاجرات طويلة و أقوال شتى: منها: أن الكلام مسوق
للإخبار عما من شأن مرتكبي هذه الفاحشة أن يقصدوه و ذلك أن من خبثت فطرته لا
يميل إلا إلى من يشابهه في الخباثة و يجانسه في الفساد و الزاني لا يميل إلا
إلى الزانية المشاركة لها في الفحشاء و من هو أفسد منها و هي المشركة، و
الزانية كذلك لا تميل إلا إلى مثلها و هو الزاني و من هو أفسد منه و هو المشرك
فالحكم وارد مورد الأعم الأغلب كما قيل في قوله تعالى: "الخبيثات للخبيثين و
الخبيثون للخبيثات": الآية: 26 من السورة.
و منها: أن المراد بالآية التقبيح، و المعنى: أن اللائق بحال الزاني أن لا ينكح
إلا زانية أو من هي دونها و هي المشركة و اللائق بحال الزانية أن لا ينكحها إلا
زان أو من هو دونه و هو المشرك، و المراد بالنكاح العقد، و قوله: "و حرم ذلك
على المؤمنين" معطوف على أول الآية، و المراد و حرم الزنا على المؤمنين.
و فيه و في سابقه مخالفتهما لسياق الآية و خاصة اتصال ذيلها بصدرها كما تقدمت
الإشارة إليه.
و منها: أن الآية منسوخة بقوله تعالى: "و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من
عبادكم و إمائكم".
و فيه أن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص و العام الوارد بعد الخاص لا
ينسخه خلافا لمن قال به نعم ربما أمكن أن يستفاد النسخ من قوله تعالى: "و لا
تنكحوا المشركات حتى يؤمن و لأمة مؤمنة خير من مشركة و لو أعجبتكم و لا تنكحوا
المشركين حتى يؤمنوا و لعبد مؤمن خير من مشرك و لو أعجبكم أولئك
يدعون إلى النار و الله يدعوا إلى الجنة و المغفرة بإذنه": البقرة: 221، بدعوى
أن الآية و إن كانت من العموم بعد الخصوص لكن لسانها آب عن التخصيص فتكون ناسخة
بالنسبة إلى جواز النكاح بين المؤمن و المؤمنة و المشرك و المشركة، و قد ادعى
بعضهم أن نكاح الكافر للمسلمة كان جائزا إلى سنة ست من الهجرة ثم نزل التحريم
فلعل الآية التي نحن فيها نزلت قبل ذلك، و نزلت آية التحريم بعدها و في الآية
أقوال أخر تركنا إيرادها لظهور فسادها.
قوله تعالى: "و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين
جلدة" إلخ الرمي معروف ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان كالزنا و
السرقة و هو القذف، و السياق يشهد أن المراد به نسبة الزنا إلى المرأة المحصنة
العفيفة، و المراد بالإتيان بأربعة شهداء و هم شهود الزنا إقامة الشهادة لإثبات
ما قذف به، و قد أمر الله تعالى بإقامة الحد عليهم إن لم يقيموا الشهادة، و حكم
بفسقهم و عدم قبول شهادتهم أبدا.
و المعنى: و الذين يقذفون المحصنات من النساء بالزنا ثم لم يقيموا أربعة من
الشهود على صدقهم في قذفهم فاجلدوهم ثمانين جلدة على قذفهم و هم فاسقون لا
تقبلوا شهادتهم على شيء أبدا.
و الآية كما ترى مطلقة تشمل من القاذف الذكر و الأنثى و الحر و العبد، و بذلك
تفسرها روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
قوله تعالى: "إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم"
الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة و هي قوله: "و أولئك هم الفاسقون" لكنها لما
كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله: "و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا" - على
ما يعطيه السياق - كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم
قبول الشهادة أبدا، و لازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معا.
و المعنى: إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا أعمالهم فإن الله غفور رحيم
يغفر ذنبهم و يرحمهم فيرتفع عنهم الحكم بالفسق و الحكم بعدم قبول شهادتهم أبدا.
و ذكر بعضهم: أن الاستثناء راجع إلى الجملة الأخيرة فحسب فلو تاب القاذف
و أصلح بعد إقامة الحد عليه غفر له ذنبه لكن لا تقبل شهادته أبدا خلافا لمن قال
برجوع الاستثناء إلى الجملتين معا.
و الظاهر أن خلافهم هذا مبني على المسألة الأصولية المعنونة بأن الاستثناء
الواقع بعد الجمل المتعددة هل يتعلق بالجميع أو بالجملة الأخيرة و الحق في
المسألة أن الاستثناء في نفسه صالح للأمرين جميعا و تعين أحدهما منوط بما
تقتضيه قرائن الكلام، و الذي يعطيه السياق في الآية التي نحن فيها تعلق
الاستثناء بالجملة الأخيرة غير أن إفادتها للتعليل تستلزم تقيد الجملة السابقة
أيضا بمعناه كالأخيرة على ما تقدم.
قوله تعالى: "و الذين يرمون أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم - إلى قوله
- من الكاذبين" أي لم يكن لهم شهداء يشهدون ما شهدوا فيتحملوا الشهادة ثم
يؤدوها إلا أنفسهم، و قوله: "فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله" أي شهادة أحدهم
يعني القاذف و هو واحد أربع شهادات متعلقة بالله إنه لمن الصادقين فيما يخبر به
من القذف.
و معنى الآيتين: و الذين يقذفون أزواجهم و لم يكن لهم أربعة من الشهداء يشهدون
ما شهدوا - و من طبع الأمر ذلك على تقدير صدقهم إذ لو ذهبوا يطلبون الشهداء
ليحضروهم على الواقعة فيشهدوهم عليها فات الغرض بتفرقهما - فالشهادة التي يجب
على أحدهم أن يقيمها هي أن يشهد أربع شهادات أي يقول مرة بعد مرة: "أشهد الله
على صدقي فيما أقذفه به" أربع مرات و خامستها أن يشهد و يقول: لعنة الله علي إن
كنت من الكاذبين.
قوله تعالى: "و يدرؤا عنها العذاب أن تشهد" إلى آخر الآيتين، الدرء الدفع و
المراد بالعذاب حد الزنا، و المعنى أن المرأة إن شهدت خمس شهادات بإزاء شهادات
الرجل دفع ذلك عنه حد الزنا، و شهاداتها أن تشهد أربع مرات تقول فيها: أشهد
بالله إنه لمن الكاذبين ثم تشهد خامسة فتقول: لعنة الله علي إن كان من
الصادقين، و هذا هو اللعان الذي ينفصل به الزوجان.
قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته و أن الله تواب حكيم" جواب لو لا
محذوف يدل عليه ما أخذ في شرطه من القيود إذ معناه لو لا فضل الله و رحمته و
توبته
و حكمته لحل بكم ما دفعته عنكم هذه الصفات و الأفعال فالتقدير على ما يعطيه ما
في الشرط من القيود لو لا ما أنعم الله عليكم من نعمة الدين و توبته لمذنبيكم و
تشريعه الشرائع لنظم أمور حياتكم لزمتكم الشقوة، و أهلكتكم المعصية و الخطيئة،
و اختل نظام حياتكم بالجهالة.
و الله أعلم.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: و
سورة النور أنزلت بعد سورة النساء، و تصديق ذلك أن الله عز و جل أنزل عليه في
سورة النساء "و اللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم - فاستشهدوا عليهن أربعة منكم -
فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت - حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا" و
السبيل الذي قال الله عز و جل "سورة أنزلناها و فرضناها - و أنزلنا فيها آيات
بينات لعلكم تذكرون الزانية و الزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة - و لا
تأخذكم بهما رأفة في دين الله - إن كنتم آمنتم بالله و اليوم الآخر - و ليشهد
عذابهما طائفة من المؤمنين". و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي
جعفر (عليه السلام): في قوله: "و ليشهد عذابهما" يقول: ضربهما "طائفة من
المؤمنين" يجمع لهما الناس إذا جلدوا.
و في التهذيب، بإسناده عن غياث بن إبراهيم عن جعفر عن أبيه عن أمير المؤمنين
(عليه السلام): في قول الله عز و جل: "و لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" قال:
في إقامة الحدود، و في قوله تعالى: "و ليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين" قال:
الطائفة واحد. و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام)
في حديث قال: و أنزل بالمدينة "الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة - و الزانية
لا ينكحها إلا زان أو مشرك - و حرم ذلك على المؤمنين" فلم يسم الله الزاني
مؤمنا و لا الزانية مؤمنة، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس
يمتري فيه أهل العلم أنه قال لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن، و لا يسرق
السارق حين يسرق و هو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص. و
فيه، بإسناده عن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و
جل:
"الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة" قال: هن نساء مشهورات و رجال مشهورون
بالزنا شهروا به، و عرفوا به و الناس اليوم بذلك المنزل فمن أقيم عليه حد الزنا
أو متهم بالزنا لم ينبغ لأحد أن يناكحه حتى يعرف منه التوبة: أقول: و رواه أيضا
بإسناده عن أبي الصباح عنه (عليه السلام) مثله، و بإسناده عن محمد بن سالم عن
أبي جعفر (عليه السلام) و لفظه: هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) مشهورين بالزنا فنهى الله عن أولئك الرجال و النساء، و
الناس اليوم على تلك المنزلة من شهر شيئا من ذلك أقيم عليه الحد فلا تزوجوه حتى
تعرفوا توبته. و فيه، بإسناده عن حكم بن حكيم عن أبي عبد الله (عليه السلام):
في الآية قال: إنما ذلك في الجهر ثم قال: لو أن إنسانا زنى ثم تاب تزوج حيث
شاء. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و الحاكم و صححه و
ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه و أبو
داود في ناسخه عن عبد الله بن عمر قال: كانت امرأة يقال لها: أم مهزول، و كانت
تسافح الرجل و تشرط أن تنفق عليه فأراد رجل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يزوجها فأنزل الله: "الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك". أقول: و روي
ما يقرب منه عن عدة من أصحاب الجوامع عن مجاهد.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: لما قدم المهاجرون المدينة قدموها و هم
بجهد إلا قليل منهم، و المدينة غالية السعر شديدة الجهد، و في السوق زوان
متعالنات من أهل الكتاب، و أما الأنصار منهن أمية وليدة عبد الله بن أبي و
نسيكة بنت أمية لرجل من الأنصار في بغايا من ولائد الأنصار قد رفعت كل امرأة
منهن علامة على بابها ليعرف أنها زانية و كن من أخصب أهل المدينة و أكثره خيرا.
فرغب أناس من مهاجري المسلمين فيما يكتسبن للذي هم فيه من الجهد فأشار بعضهم
على بعض لو تزوجنا بعض هؤلاء الزواني فنصيب من بعض أطعماتهن فقال بعضهم: نستأمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتوه فقالوا: يا رسول الله قد شق علينا
الجهد و لا نجد ما نأكل، و في السوق بغايا نساء أهل الكتاب و ولائدهن و ولائد
الأنصار يكتسبن لأنفسهن فيصلح لنا أن نتزوج منهن فنصيب من فضول ما يكتسبن فإذا
وجدنا عنهن
غنى تركناهن فأنزل الله: "الزاني لا ينكح" الآية "فحرم على المؤمنين أن يتزوجوا
الزواني المسافحات العالنات زناهن. أقول: و الروايتان إنما تذكران سبب نزول
قوله: "الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك" دون قوله: "الزاني لا ينكح إلا
زانية أو مشركة".
و في المجمع،: في قوله تعالى: "إلا الذين تابوا اختلف في هذا الاستثناء إلى ما
ذا يرجع على قولين: أحدهما أنه يرجع إلى الفسق خاصة دون قوله: "و لا تقبلوا لهم
شهادة أبدا" إلى أن قال و الآخر أن الاستثناء يرجع إلى الأمرين فإذا تاب قبلت
شهادته حد أم لم يحد عن ابن عباس إلى أن قال و قول أبي جعفر و أبي عبد الله
(عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر
عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا و نكل زياد فحد
عمر الثلاثة، و قال لهم: توبوا تقبل شهادتكم فتاب رجلان و لم يتب أبو بكرة فكان
لا تقبل شهادته، و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه فلما كان من أمر زياد ما كان حلف
أبو بكرة أن لا يكلمه أبدا فلم يكلمه حتى مات.
و في التهذيب، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا قذف
العبد الحر جلد ثمانين. و قال: هذا من حقوق الناس.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و الذين يرمون أزواجهم إلى قوله - إن كان
من الصادقين" فإنها نزلت في اللعان فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني و كان من
الأنصار و قال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن السمحاء و هي منه حامل
فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعاد عليه القول فأعرض عنه حتى
فعل ذلك أربع مرات. فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منزله فنزلت عليه
آية اللعان فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و صلى بالناس العصر، و
قال لعويمر: ائتني بأهلك فقد أنزل الله عز و جل فيكما قرآنا فجاء إليها و قال
لها: رسول الله يدعوك و كانت في شرف من قومها فجاء معها جماعة فلما دخلت المسجد
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعويمر: تقدم إلى المنبر و التعنا
فقال: كيف
أصنع؟ فقال: تقدم و قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به فتقدم و
قالها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعدها فأعادها حتى فعل ذلك
أربع مرات فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها
به فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها به. ثم
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن اللعنة موجبة إن كنت كاذبا. ثم
قال له: تنح فتنحى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، و إلا أقمت عليك حد الله
فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسود هذه الوجوه في هذه العشية فتقدمت إلى
المنبر و قالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة من الكاذبين فيما رماني، فقال لها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعيديها فأعادتها حتى أعادتها أربع مرات،
فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): العني نفسك في الخامسة إن كان
من الصادقين فيما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من
الصادقين فيما رماها به، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ويلك إنها
موجبة إن كنت كاذبة. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لزوجها: اذهب
فلا تحل لك أبدا. قال: يا رسول الله فمالي الذي أعطيتها. قال: إن كنت كاذبا فهو
أبعد لك منه، و إن كنت صادقا فهو لها بما استحللت من فرجها.
الحديث.
و في المجمع، في رواية عكرمة عن ابن عباس: قال سعد بن عبادة لو أتيت لكاع و قد
يفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء فوالله ما كنت لآتي بأربعة
شهداء حتى يفرغ من حاجته و يذهب، و إن قلت ما رأيت إن في ظهري لثمانين جلدة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا معشر الأنصار ما تسمعون إلى ما قال
سيدكم؟ فقالوا: لا تلمه فإنه رجل غيور ما تزوج امرأة قط إلا بكرا، و لا طلق
امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها، فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله بأبي أنت
و أمي و الله إني لأعرف أنها من الله و أنها حق و لكن عجبت من ذلك لما أخبرتك،
فقال: فإن الله يأبى إلا ذلك، فقال: صدق الله و رسوله. فلم يلبثوا إلا يسيرا
حتى جاء ابن عم له يقال له: هلال بن أمية من حديقة له قد رأى رجلا مع امرأته
فلما أصبح غدا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني جئت أهلي
عشاء فوجدت معها رجلا رأيته بعيني و سمعته بأذني، فكره رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) حتى رئي الكراهة في وجهه فقال هلال: إني لأرى الكراهة في وجهك
و الله يعلم إني لصادق، و إني لأرجو أن يجعل الله فرجا فهم رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بضربه. قال: و اجتمعت الأنصار و قالوا: ابتلينا بما قال سعد أ
يجلد هلال و يبطل شهادته؟ فنزل الوحي و أمسكوا عن الكلام حين عرفوا أن الوحي قد
نزل فأنزل الله تعالى: "و الذين يرمون أزواجهم" الآيات. فقال (صلى الله عليه
وآله وسلم): أبشر يا هلال فإن الله تعالى قد جعل فرجا فقال: قد كنت أرجو ذلك من
الله تعالى، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أرسلوا إليها فجاءت فلاعن بينهما
فلما انقضى اللعان فرق بينهما و قضى أن الولد لها و لا يدعى لأب و لا يرمى
ولدها. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن جاءت به كذا و كذا فهو
لزوجها و إن جاءت به كذا و كذا فهو للذي قيل فيه:. أقول: و رواه في الدر
المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن ابن عباس.
24 سورة النور - 11 - 26
إِنّ الّذِينَ جَاءُو بِالافْكِ عُصبَةٌ مِّنكمْ لا تحْسبُوهُ شرّا لّكُم بَلْ
هُوَ خَيرٌ لّكمْ لِكلِّ امْرِىٍ مِّنهُم مّا اكْتَسب مِنَ الاثْمِ وَ الّذِى
تَوَلى كِبرَهُ مِنهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لّوْ لا إِذْ سمِعْتُمُوهُ
ظنّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنَت بِأَنفُسِهِمْ خَيراً وَ قَالُوا هَذَا
إِفْكٌ مّبِينٌ (12) لّوْ لا جَاءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شهَدَاءَ فَإِذْ
لَمْ يَأْتُوا بِالشهَدَاءِ فَأُولَئك عِندَ اللّهِ هُمُ الْكَذِبُونَ (13) وَ
لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْكمْ وَ رَحْمَتُهُ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ
لَمَسكمْ فى مَا أَفَضتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقّوْنَهُ
بِأَلْسِنَتِكمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكم مّا لَيْس لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَ
تحْسبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِندَ اللّهِ عَظِيمٌ (15) وَ لَوْ لا إِذْ
سمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مّا يَكُونُ لَنَا أَن نّتَكلّمَ بهَذَا سبْحَنَك هَذَا
بهْتَنٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظكُمُ اللّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن
كُنتُم مّؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَينُ اللّهُ لَكُمُ الاَيَتِ وَ اللّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ (18) إِنّ الّذِينَ يحِبّونَ أَن تَشِيعَ الْفَحِشةُ فى الّذِينَ
ءَامَنُوا لهَُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ وَ اللّهُ
يَعْلَمُ وَ أَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْكمْ وَ
رَحْمَتُهُ وَ أَنّ اللّهَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ (20) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا
لا تَتّبِعُوا خُطوَتِ الشيْطنِ وَ مَن يَتّبِعْ خُطوَتِ الشيْطنِ فَإِنّهُ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنكَرِ وَ لَوْ لا فَضلُ اللّهِ عَلَيْكمْ وَ
رَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنكم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لَكِنّ اللّهَ يُزَكى مَن
يَشاءُ وَ اللّهُ سمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضلِ مِنكمْ
وَ السعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولى الْقُرْبى وَ الْمَسكِينَ وَ الْمُهَجِرِينَ فى
سبِيلِ اللّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصفَحُوا أَ لا تحِبّونَ أَن يَغْفِرَ
اللّهُ لَكمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (22) إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصنَتِ الْغَفِلَتِ الْمُؤْمِنَتِ لُعِنُوا فى الدّنْيَا وَ الاَخِرَةِ
وَ لهَُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشهَدُ عَلَيهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ
أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُم بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئذٍ
يُوَفِّيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الْحَقّ وَ يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ هُوَ
الْحَقّ الْمُبِينُ (25) الخَْبِيثَت لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَتِ وَ الطيِّبَت لِلطيِّبِينَ وَ الطيِّبُونَ لِلطيِّبَتِ أُولَئك
مُبرّءُونَ مِمّا يَقُولُونَ لَهُم مّغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كرِيمٌ (26)
بيان
الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهل السنة أن المقذوفة في قصة الإفك هي
أم المؤمنين عائشة، و روت الشيعة أنها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها
مقوقس ملك مصر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كل من الحديثين لا يخلو
عن شيء على ما سيجيء في البحث الروائي الآتي.
فالأحرى أن نبحث عن متن الآيات في معزل من الروايتين جميعا غير أن من المسلم أن
الإفك المذكور فيها كان راجعا إلى بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما
زوجه و إما أم ولده و ربما لوح إليه قوله تعالى: "و تحسبونه هينا و هو عند الله
عظيم" و كذا ما يستفاد من الآيات أن الحديث كان قد شاع بينهم و أفاضوا فيه و
سائر ما يومىء إليه من الآيات.
و المستفاد من الآيات أنهم رموا بعض أهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بالفحشاء، و كان الرامون عصبة من القوم فشاع الحديث بين الناس يتلقاه هذا من
ذاك، و كان بعض المنافقين أو الذين في قلوبهم مرض يساعدون على إذاعة الحديث حبا
منهم أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا فأنزل الله الآيات و دافع عن نبيه (صلى
الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم" إلخ، الإفك على ما ذكره الراغب
الكذب مطلقا و الأصل في معناه أنه كل مصروف عن وجهه الذي يحق أن يكون عليه
كالاعتقاد المصروف عن الحق إلى الباطل - و الفعل المصروف عن الجميل إلى القبيح،
و القول المصروف عن الصدق إلى الكذب، و قد استعمل في كلامه تعالى في جميع هذه
المعاني.
و ذكر أيضا أن العصبة جماعة متعصبة متعاضدة، و قيل: إنها عشرة إلى أربعين.
و الخطاب في الآية و ما يتلوها من الآيات لعامة المؤمنين ممن ظاهره الإيمان أعم
من المؤمن بحقيقة الإيمان و المنافق و من في قلبه مرض، و أما قول بعضهم: إن
المخاطب
بالخطابات الأربعة الأول أو الثاني و الثالث و الرابع النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و المقذوفة و المقذوف ففيه تفكيك بين الخطابات الواقعة في الآيات
العشر الأول و هي نيف و عشرون خطابا أكثرها لعامة المؤمنين بلا ريب.
و أسوأ حالا منه قول بعض آخر إن الخطابات الأربعة أو الثلاثة المذكورة لمن ساءه
ذلك من المؤمنين فإنه مضافا إلى استلزامه التفكيك بين الخطابات المتوالية
مجازفة ظاهرة.
و المعنى: إن الذين أتوا بهذا الكذب - و اللام في الإفك للعهد - جماعة معدودة
منكم مرتبط بعضهم ببعض، و في ذلك إشارة إلى أن هناك تواطؤا منهم على إذاعة هذا
الخبر ليطعنوا به في نزاهة بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يفضحوه بين
الناس.
و هذا هو فائدة الخبر في قوله: "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم" لا تسلية
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تسليته و تسلية من ساءه هذا الإفك كما ذكره
بعضهم فإن السياق لا يساعد عليه.
و قوله: "لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم" مقتضى كون الخطاب لعامة المؤمنين أن
يكون المراد بنفي كونه شرا لهم و إثبات كونه خيرا أن المجتمع الصالح من سعادته
أن يتميز فيه أهل الزيغ و الفساد ليكونوا على بصيرة من أمرهم و ينهضوا لإصلاح
ما فسد من أعضائهم، و خاصة في مجتمع ديني متصل بالوحي ينزل عليهم الوحي عند
وقوع أمثال هذه الوقائع فيعظهم و يذكرهم بما هم في غفلة منه أو مساهلة حتى
يحتاطوا لدينهم و يتفطنوا لما يهمهم.
و الدليل على ما ذكرنا قوله بعد: "لكل امرىء منهم ما اكتسب من الإثم" فإن الإثم
هو الأثر السيىء الذي يبقى للإنسان عن اقتراف المعصية فظاهر الجملة أن أهل
الإفك الجائين به يعرفون بإثمه و يتميزون به عندكم فيفتضحون به بدل ما أرادوا
أن يفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما قول من قال: إن المراد بكونه خيرا لهم أنهم يثابون بما اتهموهم بالإفك
كما أن أهل الإفك يتأثمون به فمبني على كون الخطاب للمتهمين خاصة و قد عرفت
فساده.
و قوله: "و الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" فسروا كبره بمعنى معظمه
و الضمير للإفك، و المعنى: و الذي تولى معظم الإفك و أصر على إذاعته بين الناس
من هؤلاء الآفكين له عذاب عظيم.
قوله تعالى: "لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا
هذا إفك مبين" توبيخ لهم إذ لم يردوا الحديث حينما سمعوه و لم يظنوا بمن رمي به
خيرا.
و قوله: "ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم" من وضع الظاهر موضع المضمر، و الأصل
"ظننتم بأنفسكم" و الوجه في تبديل الضمير وصفا الدلالة على علة الحكم فإن صفة
الإيمان رادعة بالطبع تردع المتلبس بها عن الفحشاء و المنكر في القول و الفعل
فعلى المتلبس بها أن يظن على المتلبسين بها خيرا، و أن يجتنب القول فيهم بغير
علم فإنهم جميعا كنفس واحدة في التلبس بالإيمان و لوازمه و آثاره.
فالمعنى: و لو لا إذ سمعتم الإفك ظننتم بمن رمي به خيرا فإنكم جميعا مؤمنون
بعضكم من بعض و المرمي به من أنفسكم و على المؤمن أن يظن بالمؤمن خيرا و لا
يصفه بما لا علم له به.
و قوله: "قالوا هذا إفك مبين" أي قال المؤمنون و المؤمنات و هم السامعون - أي
قلتم - هذا إفك مبين لأن الخبر الذي لا علم لمخبره به و الدعوى التي لا بينة
لمدعيها عليها محكوم شرعا بالكذب سواء كان بحسب الواقع صدقا أو كذبا، و الدليل
عليه قوله في الآية التالية: "فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون".
قوله تعالى: "لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند
الله هم الكاذبون" أي لو كانوا صادقين فيما يقولون و يرمون لأقاموا عليه
الشهادة و هي في الزنا بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فهم محكومون شرعا
بالكذب لأن الدعوى من غير بينة كذب و إفك.
قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لمسكم فيما
أفضتم فيه عذاب عظيم" إفاضة القوم في الحديث خوضهم فيه.
و قوله: "و لو لا فضل الله" إلخ، عطف على قوله: "لو لا إذ سمعتموه" إلخ، و فيه
كرة ثانية على المؤمنين، و في تقييد الفضل و الرحمة بقوله: "في الدنيا و
الآخرة" دلالة على كون العذاب المذكور ذيلا هو عذاب الدنيا و الآخرة.
و المعنى: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته في الدنيا و الآخرة لوصل إليكم بسبب
ما خضتم فيه من الإفك عذاب عظيم في الدنيا و الآخرة.
قوله تعالى: "إذ تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم" إلخ،
الظرف متعلق بقوله: "أفضتم" و تلقي الإنسان القول أخذه القول الذي ألقاه إليه
غيره، و تقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال القول من لسان
إلى لسان من غير تثبت و تدبر فيه.
و على هذا فقوله: "و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم" من قبيل عطف التفسير،
و تقييده أيضا بقوله: "بأفواهكم" للإشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت و تبين
قلبي و لم يكن له موطن إلا الأفواه لا يتعداها.
و المعنى: أفضتم و خضتم فيه إذ تأخذونه و تنقلونه لسانا عن لسان و تتلفظون بما
لا علم لكم به.
و قوله: "و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم" أي تظنون التلقي بألسنتكم و القول
بأفواهكم من غير علم سهلا و هو عند الله عظيم لأنه بهتان و افتراء، على أن
الأمر مرتبط بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شيوع إفك هذا شأنه بين الناس
يفضحه عندهم و يفسد أمر الدعوة الدينية.
قوله تعالى: "و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا
بهتان عظيم" عطف بعد عطف على قوله: "لو لا إذ سمعتموه" إلخ، و فيه كرة ثالثة
على المؤمنين بالتوبيخ، و قوله: "سبحانك" اعتراض بالتنزيه لله سبحانه و هو من
أدب القرآن أن ينزه الله بالتسبيح عند تنزيه كل منزه.
و البهتان الافتراء سمي به لأنه يبهت الإنسان المفتري عليه و كونه بهتانا عظيما
لأنه افتراء في عرض و خاصة إذ كان متعلقه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و
إنما كان بهتانا لكونه إخبارا من غير علم و دعوى من غير بينة كما تقدم في قوله:
"فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون" و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: "يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا" إلى آخر الآيتين موعظة بالنهي
عن العود لمثله، و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: "إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا" إلى آخر الآية إن
كانت الآية نازلة في جملة آيات الإفك و متصلة بما تقدمها و موردها الرمي بالزنا
بغير بينة كان مضمونها تهديد الرامين المفيضين في الإفك لكونه فاحشة و إشاعته
في المؤمنين حبا منهم لشيوع الفاحشة.
فالمراد بالفاحشة مطلق الفحشاء كالزنا و القذف و غير ذلك.
و حب شيوعها و منها القذف في المؤمنين يستوجب عذابا أليما لمحبيه في الدنيا و
الآخرة.
و على هذا فلا موجب لحمل العذاب في الدنيا على الحد إذ حب شيوع الفحشاء ليس مما
يوجب الحد، نعم لو كان اللام في "الفاحشة" للعهد و المراد بها القذف و كان حب
الشيوع كناية عن قصة الشيوع بالإفاضه و التلقي بالألسن و النقل أمكن حمل العذاب
على الحد لكن السياق لا يساعد عليه.
على أن الرمي بمجرد تحققه مرة موجب للحد و لا موجب لتقييده بقصد الشيوع و لا
نكتة تستدعي ذلك.
و قوله: "و الله يعلم و أنتم لا تعلمون" تأكيد و إعظام لما فيه من سخط الله و
غضبه و إن جهله الناس.
قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته" تكرارا للامتنان و معناه ظاهر.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان و من يتبع خطوات
الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء و المنكر" تقدم تفسير الآية في الآية 208 من سورة
البقرة في الجزء الثاني من الكتاب.
قوله تعالى: "و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا" إلى آخر
الآية.
رجوع بعد رجوع إلى الامتنان بالفضل و الرحمة، لا يخلو هذا الاهتمام من تأييد
لكون الإفك متعلق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس إلا لكرامته على الله
سبحانه.
و قد صرح في هذه المرة الثالثة بجواب لو لا و هو قوله: "ما زكى منكم من أحد
أبدا" و هذا مما يدل عليه العقل فإن مفيض الخير و السعادة هو الله سبحانه، و
التعليم القرآني أيضا يعطيه كما قال تعالى: "بيدك الخير": آل عمران: 26، و قال:
"ما أصابك من حسنة فمن الله": النساء: 79.
و قوله: "و لكن الله يزكي من يشاء و الله سميع عليم" إضراب عما تقدمه فهو تعالى
يزكي من يشاء فالأمر إلى مشيته، و لا يشاء إلا تزكية من استعد لها و سأله بلسان
استعداده
ذلك، و إليه يشير قوله: "و الله سميع عليم" أي سميع لسؤال من سأله التزكية عليم
بحال من استعد لها.
قوله تعالى: "و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولي القربى و
المساكين و المهاجرين في سبيل الله" إلخ، الايتلاء التقصير و الترك و الحلف، و
كل من المعاني الثلاثة لا يخلو من مناسبة، و المعنى لا يقصر أولوا الفضل منكم و
السعة يعني الأغنياء في إيتاء أولي القرابة و المساكين و المهاجرين في سبيل
الله من مالهم أو لا يترك إيتاءهم أو لا يحلف أن لا يؤتيهم - و ليعفوا عنهم و
ليصفحوا - ثم حرضهم بقوله: "أ لا تحبون أن يغفر الله لكم و الله غفور رحيم".
و في الآية - على تقدير نزولها في جملة الآيات و اتصالها بها - دلالة على أن
بعض المؤمنين عزم على أن يقطع ما كان يؤتيه بعض أهل الإفك فنهاه الله عن ذلك و
حثه على إدامة الإيتاء كما سيجيء.
قوله تعالى: "إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا و
الآخرة و لهم عذاب عظيم" أخذ الصفات الثلاث الإحصان و الغفلة و الإيمان للدلالة
على عظم المعصية فإن كلا من الإحصان بمعنى العفة و الغفلة و الإيمان سبب تام في
كون الرمي ظلما و الرامي ظالما و المرمية مظلومة فإذا اجتمعت كان الظلم أعظم ثم
أعظم، و جزاؤه اللعن في الدنيا و الآخرة و العذاب العظيم، و الآية عامة و إن
كان سبب نزولها لو نزلت في جملة آيات الإفك خاصا.
قوله تعالى: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون"
الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: "و لهم عذاب عظيم".
و المراد بقوله: "بما كانوا يعملون" كما يقتضيه إطلاقه مطلق الأعمال السيئة -
كما قيل - لا خصوص الرمي بأن تشهد ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم على رميهم فالمراد
بالشهادة شهادة الأعضاء على السيئات و المعاصي بحسب ما يناسبها فما كان منها من
قبيل الأقوال كالقذف و الكذب و الغيبة و نحوها شهدت عليه الألسنة، و ما كان
منها من قبيل الأفعال كالسرقة و المشي للنميمة و السعاية و غيرهما شهدت عليه
بقية الأعضاء، و إذ كان معظم المعاصي من الأفعال للأيدي و الأرجل اختصتا
بالذكر.
و بالحقيقة الشاهد على كل فعل هو العضو الذي صدر منه كما يشير إليه قوله تعالى:
"شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون": حم السجدة: 20، و
قوله: "إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا": إسراء - 36، و
قوله: "اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا
يكسبون": يس: 65، و سيأتي الكلام على شهادة الأعضاء يوم القيامة في بحث مستقل
في تفسير سورة حم السجدة إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين"
المراد بالدين الجزاء كما في قوله: "مالك يوم الدين": الحمد: 4، و توفية الشيء
بذله تاما كاملا، و المعنى: يوم القيامة يؤتيهم الله جزاءهم الحق إيتاء تاما
كاملا و يعلمون أن الله هو الحق المبين".
هذا بالنظر إلى اتصال الآية بما قبلها و وقوعها في سياق ما تقدمها، و أما
بالنظر إلى استقلالها في نفسها فمن الممكن أن يراد بالدين ما يرادف الملة و هو
سنة الحياة، و هو معنى عال يرجع إلى ظهور الحقائق يوم القيامة للإنسان، و يكون
أكثر مناسبة لقوله: "و يعلمون أن الله هو الحق المبين".
و الآية من غرر الآيات القرآنية تفسر معنى معرفة الله فإن قوله: "و يعلمون أن
الله هو الحق المبين" ينبىء أنه تعالى هو الحق لا سترة عليه بوجه من الوجوه و
لا على تقدير من التقادير فهو من أبده البديهيات التي لا يتعلق بها جهل لكن
البديهي ربما يغفل عنه فالعلم به تعالى هو ارتفاع الغفلة عنه الذي ربما يعبر
عنه بالعلم، و هذا هو الذي يبدو لهم يوم القيامة فيعلمون أن الله هو الحق
المبين.
و إلى مثله يشير قوله تعالى: "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك
اليوم حديد": ق: 22.
قوله تعالى: "الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و
الطيبون للطيبات" إلخ ذيل الآية "أولئك مبرءون مما يقولون" دليل على أن المراد
بالخبيثات و الخبيثين و الطيبات و الطيبين نساء و رجال متلبسون بالخباثة و
الطيب فالآية من تمام آيات الإفك متصلة بها مشاركة لها في سياقها، و هي عامة لا
مخصص لها من جهة اللفظ البتة.
فالمراد بالطيب الذي يوجب كونهم مبرءين مما يقولون على ما تدل عليه الآيات
السابقة هو المعنى الذي يقتضيه تلبسهم بالإيمان و الإحصان فالمؤمنون و المؤمنات
مع الإحصان طيبون و طيبات يختص كل من الفريقين بصاحبه، و هم بحكم الإيمان و
الإحصان مصونون مبرءون شرعا من الرمي بغير بينة، محكومون من جهة إيمانهم بأن
لهم مغفرة كما قال تعالى: "و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم": الأحقاف: 31 و لهم
رزق كريم، و هو الحياة الطيبة في الدنيا و الأجر الحسن في الآخرة كما قال: "من
عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون": النحل: 97.
و المراد بالخبث في الخبيثين و الخبيثات و هم غير المؤمنين هو الحال المستقذرة
التي يوجبها لهم تلبسهم بالكفر و قد خصت خبيثاتهم بخبيثهم و خبيثوهم بخبيثاتهم
بمقتضى المجانسة و المسانخة و ليسوا بمبرءين عن التلبس بالفحشاء - نعم هذا ليس
حكما بالتلبس -.
فظهر بما تقدم: أولا: أن الآية عامة بحسب اللفظ تصف المؤمنين و المؤمنات بالطيب
و لا ينافي ذلك اختصاص سبب نزولها و انطباقها عليه.
و ثانيا: أنها تدل على كونهم جميعا محكومين شرعا بالبراءة عما يرمون به ما لم
تقم عليه بينة.
و ثالثا: أنهم محكومون بالمغفرة و الرزق الكريم كل ذلك حكم ظاهري لكرامتهم على
الله بإيمانهم، و الكفار على خلاف ذلك.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و البخاري و عبد بن حميد و مسلم و ابن
جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في الشعب عن عائشة
قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع
بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج سهمي فخرجت مع رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) بعد ما نزل الحجاب و أنا أحمل في هودجي و أنزل فيه فسرنا حتى
إذا فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوته تلك و قفل.
فدنونا من المدينة قافلين آذن ليلة بالرحيل فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى
جاوزت الجيش فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع
فالتمست عقدي و حبسني ابتغاؤه و أقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا
هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، و هم يحسبون أني فيه، و كانت النساء إذ
ذاك خفافا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل المرأة العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم
خفة الهودج حين رفعوه و كنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل فساروا فوجدت عقدي
بعد ما استمر الجيش فجئت منازلهم و ليس بها داع و لا مجيب فيممت منزلي الذي كنت
به فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي فبينا أنا جالسة في منزل غلبتني عيني فنمت.
و كان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكراني من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي
فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني و كان يراني قبل الحجاب فاستيقظت
باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي و الله ما كلمني كلمة واحدة و لا سمعت
منه كلمة غير استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطىء على يديها فركبتها فانطلق يقود بي
الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة فهلك في من هلك. و
كان الذي تولى الإفك عبد الله بن أبي بن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت
شهرا و الناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيء من ذلك، و هو يريبني في
وجعي أني لا أعرف من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اللطف الذي كنت أرى
منه حين اشتكى إنما يدخل علي فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف فذاك الذي
يريبني
و لا أشعر بالشر حتى خرجت بعد ما نقهت و خرجت معي أم مسطح قبل المناصع و هي
متبرزنا و كنا لا نخرج إلا ليلا إلى ليل، و ذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من
بيوتنا و أمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط فكنا نتأذى بالكنف أن
نتخذها عند بيوتنا. فانطلقت أنا و أم مسطح فأقبلت أنا و أم مسطح قبل بيتي قد
أشرعنا من ثيابنا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلت
أ تسبين رجلا شهد بدرا؟ قالت: أي هنتاه أ و لم تسمعي ما قال؟ قلت: و ما قال:
فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي دخل علي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ فقلت: أ تأذن لي
أن آتي أبوي؟ قالت: و أنا حينئذ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما قالت: فأذن لي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجئت لأبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث
الناس؟ قالت يا بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها
و لها ضرائر إلا أكثرن عليها فقلت: سبحان الله و لقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت
تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم ثم أصبحت أبكي. و دعا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد حين
استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله، فأما أسامة فأشار على رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) بالذي يعلم من براءة أهله و بالذي يعلم لهم في نفسه من
الود فقال: يا رسول الله أهلك و لا نعلم إلا خيرا، و أما علي بن أبي طالب فقال:
يا رسول الله لم يضيق الله عليك، و النساء سواها كثيرة و إن تسأل الجارية
تصدقك، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت
شيئا يريبك؟ قالت بريرة: لا و الذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا أغمضه أكثر
من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبي
فقال و هو على المنبر: يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل
بيتي فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، و لقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا
خيرا و ما كان يدخل على أهلي إلا معي. فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول
الله أنا أعذرك منه إن كان من الأوس ضربت عنقه و إن كان من إخواننا من بني
الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك، فقام سعد بن عبادة و هو سيد الخزرج و كان قبل ذلك
رجلا صالحا و لكن احتملته الحمية فقال لسعد: كذبت لعمر الله ما تقتله و لا تقدر
على قتله، فقام أسيد بن حضير و هو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه
فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فتثاورا الحيان: الأوس و الخزرج حتى هموا أن
يقتتلوا و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم على المنبر فلم يزل رسول ص
يخفضهم حتى سكتوا و سكت. فبكيت يومي ذلك فلا يرقأ لي دمع و لا أكتحل بنوم فأصبح
أبواي عندي و قد بكيت ليلتين و يوما لا أكتحل بنوم و لا يرقأ لي دمع و أبواي
يظنان أن البكاء فالق كبدي. فبينما هما جالسان عندي و أنا أبكي فاستأذنت علي
امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي فبينما نحن على ذلك دخل علينا رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم جلس و لم يجلس عندي منذ قيل في ما قيل قبلها
و قد لبث شهرا لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهد حين جلس ثم قال: أما بعد يا
عائشة إنه بلغني عنك كذا و كذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، و إن كنت ألممت
بذنب فاستغفري الله و توبي إليه فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله
عليه. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مقالته قلص دمعي حتى ما
أحس منه قطرة، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: و
الله ما أدري ما أقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقلت لأمي: أجيبي
عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالت: و الله ما أدري ما أقول لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
فقلت و أنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيرا من القرآن: إني و الله لقد علمت
أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم و صدقتم به فلئن قلت لكم: إني بريئة
و الله يعلم أني بريئة لا تصدقوني، و لئن اعترفت لكم بأمر و الله يعلم أني منه
بريئة لتصدقني، و الله لا أجد لي و لكم مثلا إلا قول أبي يوسف: فصبر جميل و
الله المستعان على ما تصفون. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي و أنا حينئذ أعلم أني
بريئة و أن الله مبرئي ببراءتي و لكن و الله ما كنت أظن أن الله منزل في شأني
وحيا يتلى، و لشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بأمر يتلى، و لكن كنت
أرجو أن يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا يبرئني الله بها. قالت:
فوالله ما رام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجلسه و لا خرج أحد من أهل
البيت حتى أنزل عليه فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى إنه ليتحدر
منه مثل الجمان من العرق و هو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه فلما سرى
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سرى عنه و هو يضحك فكان أول كلمة تكلم
بها أن قال: أبشري يا عائشة أما الله فقد برأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: و
الله لا أقوم إليه و لا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، و أنزل الله: "إن
الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم" العشر الآيات كلها. فلما أنزل الله هذا في
براءتي قال أبو بكر، و كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه و فقره: و الله
لا أنفق على مسطح شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: "و لا يأتل
أولوا الفضل منكم و السعة - أن يؤتوا أولي القربى و المساكين إلى قوله رحيم"
قال أبو بكر: و الله إني أحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح النفقة التي كان
ينفق عليه، و قال: و الله لا أنزعها منه أبدا. قالت عائشة: فكان رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) يسأل زينب ابنة جحش عن أمري فقال: يا زينب ما ذا علمت أو
رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي و بصري ما علمت إلا خيرا، قالت: و هي التي
كانت تساميني من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعصمها الله بالورع، و
طفقت أختها حمنة تحارب لها فهلكت فيمن هلك من أصحاب الإفك:
أقول: و الرواية مروية بطرق أخرى عن عائشة أيضا و عن عمر و ابن عباس و أبي
هريرة و أبي اليسر الأنصاري و أم رومان أم عائشة و غيرهم و فيها بعض الاختلاف:
و فيها إن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبي بن سلول و مسطح بن أثاثة و كان
بدريا من السابقين الأولين من المهاجرين، و حسان بن ثابت، و حمنة أخت زينب زوج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
دعاهم بعد ما نزلت آيات الإفك فحدهم جميعا غير أنه حد عبد الله بن أبي حدين و
إنما حده حدين لأنه من قذف زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليه حدان.
و في الروايات على تقاربها في سرد القصة إشكال من وجوه: أحدها: أن المسلم من
سياقها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في ريب من أمر عائشة بعد تحقق
الإفك كما يدل عليه تغير حاله بالنسبة إليها في المعاملة باللطف أيام اشتكائها
و بعدها حتى نزلت الآيات، و يدل عليه قولها له حين نزلت الآيات و بشرها به:
بحمد الله لا بحمدك، و في بعض الروايات أنها قالت لأبيها و قد أرسله النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) ليبشرها بنزول العذر: بحمد الله لا بحمد صاحبك الذي
أرسلك، تريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في الرواية الأخرى عنها: أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما وعظها أن تتوب إلى الله إن كان منها شيء و
في الباب امرأة جالسة قالت له عائشة: أ ما تستحي من هذه المرأة أن تذكر شيئا، و
من المعلوم أن هذا النوع من الخطاب المبني على الإهانة و الإزراء ما كان يصدر
عنها لو لا أنها وجدت النبي في ريب من أمرها.
كل ذلك مضافا إلى التصريح به في رواية عمر ففيها: "فكان في قلب النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) مما قالوا".
و بالجملة دلالة عامة الروايات على كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ريب
من أمرها إلى نزول العذر مما لا ريب فيه، و هذا مما يجل عنه مقامه (صلى الله
عليه وآله وسلم) كيف؟ و هو سبحانه يقول: "لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و
المؤمنات بأنفسهم خيرا و قالوا هذا إفك مبين" فيوبخ المؤمنين و المؤمنات على
إساءتهم الظن و عدم ردهم ما سمعوه من الإفك فمن لوازم الإيمان حسن الظن
بالمؤمنين، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحق من يتصف بذلك و يتحرز من سوء
الظن الذي من الإثم و له مقام النبوة و العصمة الإلهية.
على أنه تعالى ينص في كلامه على اتصافه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك إذ
يقول: "و منهم الذين
يؤذون النبي و يقولون هو أذن قل أذن خير لكم يؤمن بالله و يؤمن للمؤمنين و رحمة
للذين آمنوا منكم و الذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم": التوبة: 61.
على أنا نقول: إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفر القلوب عنه فمن الواجب أن
يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا و الفحشاء و إلا لغت الدعوة
و تثبت بهذه الحجة العقلية عفتهن واقعا لا ظاهرا فحسب، و النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أعرف بهذه الحجة منا فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام
أو شيوع من إفك.
و ثانيها: أن الذي تدل عليه الروايات أن حديث الإفك كان جاريا بين الناس منذ
بدأ به أصحاب الإفك إلى أن ختم بحدهم أكثر من شهر و قد كان حكم القذف مع عدم
قيام الشهادة معلوما و هو جلد القاذف و تبرئة المقذوف شرعا فما معنى توقف النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) عن حد أصحاب الإفك هذه المدة الطويلة و انتظاره
الوحي في أمرها حتى يشيع بين الناس و تتلقاه الألسن و تسير به الركبان و يتسع
الخرق على الراتق؟ و ما أتى به الوحي من العذر لا يزيد على ما تعينه آية القذف
من براءة المقذوف حكما شرعيا ظاهريا.
فإن قيل: الذي نزل من العذر براءتها واقعا و طهارة ذيلها في نفس الأمر و هذا
أمر لا تكفي له آية حد القاذف، و لعل صبره (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المدة
الطويلة إنما كان لأجله.
قلت: لا دلالة في شيء من هذه الآيات الست عشرة على ذلك، و إنما تثبت بالحجة
العقلية السابقة الدالة على طهارة بيوت الأنبياء من لوثة الفحشاء.
أما الآيات العشر الأول التي فيها شائبة الاختصاص فأظهرها في الدلالة على
براءتها قوله تعالى: "لو لا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء
فأولئك عند الله هم الكاذبون" و قد استدل فيها على كذبهم بعدم إتيانهم
بالشهداء، و من الواضح أن عدم إقامة الشهادة إنما هو دليل البراءة الظاهرية
أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعية لوضوح عدم الملازمة.
و أما الآيات الست الأخيرة فقوله: "الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات إلخ عام
من غير مخصص من جهة اللفظ فالذي تثبته من البراءة مشترك فيه بين جميع المقذوفين
من غير قيام بينة من المؤمنين و المؤمنات، و من الواضح أن البراءة المناسبة
لهذا المعنى هي البراءة الشرعية.
و الحق أن لا مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بأن آية القذف لم تكن نازلة قبل
حديث الإفك و إنما نزلت بعده، و إنما كان سبب توقفه (صلى الله عليه وآله وسلم)
خلو الواقعة عن حكم الله بعد فكان ينتظر في أمر الإفك الحكم السماوي.
و من أوضح الدليل عليه ما في الرواية من استعذار النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) من القاذف في المسجد و قول سعد بن معاذ ما قال و مجادلة سعد بن عبادة
إياه و اختلاف الأوس و الخزرج بمحضر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في
رواية عمر بعد ما ذكر اختلاف ابن معاذ و ابن عبادة: فقال هذا: يا للأوس و قال
هذا: يا للخزرج فاضطربوا بالنعال و الحجارة فتلاطموا، الحديث فلو كانت آية
القذف نازلة قبل ذلك و حكم الحد معلوما لم يجب سعد بن معاذ النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) بأنه يعذره منه بالقتل و لقال هو و سائر الناس: يا رسول الله
حكم القذف معلوم و يدك مبسوطة.
و ثالثها: أنها تصرح بكون أصحاب الإفك هم عبد الله بن أبي و مسطحا و حسانا و
حمنة ثم تذكر أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) حد عبد الله بن أبي حدين و كلا من
مسطح و حسان و حمنة حدا واحدا، ثم تعلل حدي عبد الله بن أبي بأن من قذف أزواج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعليه حدان، و هذا تناقض صريح فإنهم جميعا
كانوا قاذفين بلا فرق بينهم.
نعم تذكر الروايات أن عبد الله بن أبي كان هو الذي تولى كبره منهم لكن لم يقل
أحد من الأمة إن هذا الوصف يوجب حدين.
و لا أن المراد بالعذاب العظيم في قوله: "الذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم" هو
ثبوت حدين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم" الآية
فإن العامة روت أنها نزلت في عائشة و ما رميت به في غزوة بني المصطلق من خزاعة
و أما الخاصة فإنهم رووا أنها نزلت في مارية القبطية و ما رمتها به عائشة.
حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن فضال قال: حدثني
عبد الله بن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لما هلك
إبراهيم بن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حزن عليه حزنا شديدا فقالت
عائشة: ما الذي
يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
عليا (عليه السلام) و أمره بقتله. فذهب علي (عليه السلام) و معه السيف و كان
جريح القبطي في حائط فضرب علي (عليه السلام) باب البستان فأقبل جريح له ليفتح
الباب فلما رأى عليا (عليه السلام) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا و لم يفتح
باب البستان فوثب علي (عليه السلام) على الحائط و نزل إلى البستان و اتبعه و
ولى جريح مدبرا فلما خشي أن يرهقه صعد في نخلة و صعد علي (عليه السلام) في أثره
فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة فبدت عورته فإذا ليس له ما للرجال و لا
له ما للنساء. فانصرف علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال له: يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمي في الوبر أم
أثبت؟ قال: لا بل تثبت. قال: و الذي بعثك بالحق ما له ما للرجال و ما له ما
للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.
و فيه، في رواية عبيد الله بن موسى عن أحمد بن راشد عن مروان بن مسلم عن عبد
الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك كان رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بقتل القبطي و قد علم أنها كذبت عليه أو لم
يعلم؟ و قد دفع الله عن القبطي القتل بتثبيت علي (عليه السلام) فقال: بل كان و
الله علم، و لو كان عزيمة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما انصرف علي
(عليه السلام) حتى يقتله، و لكن إنما فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لترجع عن ذنبها فما رجعت و لا اشتد عليها قتل رجل مسلم.
أقول: و هناك روايات أخر تدل على مشاركة غيرها معها في هذا الرمي، و جريح هذا
كان خادما خصيا لمارية أهداه معها مقوقس عظيم مصر لرسول (صلى الله عليه وآله
وسلم) و أرسله معها ليخدمها.
و هذه الروايات لا تخلو من نظر: أما أولا: فلأن ما فيها من القصة لا يقبل
الانطباق على الآيات و لا سيما قوله: "إن
الذين جاءوا بالإفك" الآية و قوله: "لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات
بأنفسهم خيرا" الآية، و قوله: "تلقونه بألسنتكم و تقولون بأفواهكم ما ليس لكم
به علم" الآية، فمحصل الآيات أنه كان هناك جماعة مرتبط بعضهم ببعض يذيعون
الحديث ليفضحوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان الناس يتداولونه لسانا
عن لسان حتى شاع بينهم و مكثوا على ذلك زمانا و هم لا يراعون حرمة النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) و كرامته من الله، و أين مضمون هذه الروايات من ذلك.
اللهم إلا أن تكون الروايات قاصرة في شرحها للقصة.
و أما ثانيا: فقد كان مقتضى القصة و ظهور براءتها إجراء الحد و لم يجر، و لا
مناص عن هذا الإشكال إلا بالقول بنزول آية القذف بعد قصة الإفك بزمان.
و الذي ينبغي أن يقال بالنظر إلى إشكال الحد الوارد على الصنفين من الروايات
جميعا - كما عرفت - أن آيات الإفك نزلت قبل آية حد القذف، و لم يشرع بنزول آيات
الإفك إلا براءة المقذوف مع عدم قيام الشهادة و تحريم القذف.
و لو كان حد القاذف مشروعا قبل حديث الإفك لم يكن هناك مجوز لتأخيره مدة معتدا
بها و انتظار الوحي و لا نجا منه قاذف منهم، و لو كان مشروعا مع نزول آيات
الإفك لأشير فيها إليه، و لا أقل باتصال الآيات بآية القذف، و العارف بأساليب
الكلام لا يرتاب في أن قوله: "إن الذين جاءوا بالإفك" الآيات منقطعة عما قبلها.
و لو كان على من قذف أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حدان لأشير إلى ذلك
في خلال آيات الإفك بما فيها من التشديد و اللعن و التهديد بالعذاب على
القاذفين.
و يتأكد الإشكال على تقدير نزول آية القذف مع نزول آيات الإفك فإن لازمه أن يقع
الابتلاء بحكم الحدين فينزل حكم الحد الواحد.
و في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: من قال في مؤمن ما رأته عيناه و سمعته أذناه فهو
من الذين قال الله عز و جل: "إن الذين يحبون إلى قوله و الآخرة":. أقول: و رواه
القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عنه (عليه السلام)
و الصدوق في الأمالي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن محمد بن حمران عنه (عليه
السلام)، و المفيد في الاختصاص، عنه (عليه السلام) مرسلا.
و فيه، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أذاع فاحشة كان كمبتدئها.
و في المجمع،: قيل: إن قوله: "و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة" الآية، نزلت
في أبي بكر و مسطح بن أثاثة و كان ابن خالة أبي بكر، و كان من المهاجرين و من
جملة البدريين و كان فقيرا، و كان أبو بكر يجري عليه و يقوم بنفقته فلما خاض في
الإفك قطعها و حلف أن لا ينفعه بنفع أبدا فلما نزلت الآية عاد أبو بكر إلى ما
كان، و قال: و الله إني لأحب أن يغفر الله لي، و الله لا أنزعها عنه أبدا: عن
ابن عباس و عائشة و ابن زيد.
و فيه،: و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة أقسموا على أن لا يتصدقوا على رجل
تكلم بشيء من الإفك و لا يواسوهم: عن ابن عباس و غيره. أقول: و رواه في الدر
المنثور، عن ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عباس.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله
تعالى: "و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة - أن يؤتوا أولي القربى" و هم
قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) "و المساكين و المهاجرين في سبيل
الله - و ليعفوا و ليصفحوا" يقول يعفو بعضكم عن بعض، و يصفح بعضكم بعضا فإذا
فعلتم كانت رحمة الله لكم، يقول الله عز و جل: "أ لا تحبون أن يغفر الله لكم و
الله غفور رحيم".
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال:
و نزل بالمدينة "و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - فاجلدوهم
ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا - و أولئك هم الفاسقون - إلا الذين
تابوا من بعد ذلك و أصلحوا - فإن الله غفور رحيم". فبرأه الله ما كان مقيما على
الفرية من أن يسمى بالإيمان، قال الله عز و جل: "أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا
لا يستوون" و جعله من أولياء إبليس قال: "إلا
إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه" و جعله ملعونا فقال: "إن الذين يرمون
المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم، يوم
تشهد عليهم ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم - بما كانوا يعملون". و ليست تشهد
الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب فأما المؤمن فيعطى
كتابه بيمينه، قال الله عز و جل: "فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم
و لا يظلمون فتيلا" و في المجمع،: في قوله تعالى: "الخبيثات للخبيثين و
الخبيثون للخبيثات - و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات" الآية، قيل في معناه
أقوال إلى أن قال الثالث الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال و الخبيثون من
الرجال للخبيثات من النساء عن أبي مسلم و الجبائي و هو المروي عن أبي جعفر و
أبي عبد الله (عليه السلام). قالا: هي مثل قوله: "الزاني لا ينكح إلا زانية أو
مشركة" إلا أن أناسا هموا أن يتزوجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك و كره ذلك لهم.
و في الخصال، عن عبد الله بن عمر و أبي هريرة قالا: قال رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم): إذا طاب قلب المرء طاب جسده، و إذا خبث القلب خبث الجسد.
و في الإحتجاج، عن الحسن بن علي (عليهما السلام): في حديث له مع معاوية و
أصحابه و قد نالوا من علي (عليه السلام): "الخبيثات للخبيثين و الخبيثون
للخبيثات" هم و الله يا معاوية أنت و أصحابك هؤلاء و شيعتك "و الطيبات للطيبين
و الطيبون للطيبات" إلى آخر الآية، هم علي بن أبي طالب و أصحابه و شيعته.
|