قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
45 سورة الجاثية - 1 - 13
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَبِ مِنَ اللّهِ
الْعَزِيزِ الحَْكِيمِ (2) إِنّ فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لاَيَتٍ
لِّلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فى خَلْقِكمْ وَ مَا يَبُث مِن دَابّةٍ ءَايَتٌ
لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَ اخْتِلَفِ الّيْلِ وَ النهَارِ وَ مَا أَنزَلَ
اللّهُ مِنَ السمَاءِ مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا وَ
تَصرِيفِ الرِّيَح ءَايَتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْك ءَايَت اللّهِ
نَتْلُوهَا عَلَيْك بِالْحَقِّ فَبِأَى حَدِيثِ بَعْدَ اللّهِ وَ ءَايَتِهِ
يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِّكلِّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسمَعُ ءَايَتِ اللّهِ
تُتْلى عَلَيْهِ ثمّ يُصِرّ مُستَكْبراً كَأَن لّمْ يَسمَعْهَا فَبَشرْهُ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَتِنَا شيْئاً اتخَذَهَا
هُزُواً أُولَئك لهَُمْ عَذَابٌ مّهِينٌ (9) مِّن وَرَائهِمْ جَهَنّمُ وَ لا
يُغْنى عَنهُم مّا كَسبُوا شيْئاً وَ لا مَا اتخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ
أَوْلِيَاءَ وَ لهَُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَ الّذِينَ كَفَرُوا
بِئَايَتِ رَبهِمْ لهَُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللّهُ الّذِى
سخّرَ لَكمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِى الْفُلْك فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا
مِن فَضلِهِ وَ لَعَلّكمْ تَشكُرُونَ (12) وَ سخّرَ لَكم مّا فى السمَوَتِ وَ
مَا فى الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنّ فى ذَلِك لاَيَتٍ لِّقَوْمٍ
يَتَفَكّرُونَ (13)
بيان
غرض السورة دعوة عامة على الإنذار تفتتح بآيات الوحدانية ثم تذكر تشريع الشريعة
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تشير إلى لزوم اتباعها له و لغيره بما أن
أمامهم يوما يحاسبون فيه على أعمالهم الصالحة من الإيمان و اتباع الشريعة و
اجتراحهم السيئات بالإعراض عن الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك
اليوم و هو يوم القيامة.
و في خلال مقاصدها إنذار و وعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله و الذين
اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم.
و من طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الأعمال و استنساخها.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها و استثنى بعضهم قوله تعالى: "قل للذين آمنوا"
الآية، و لا شاهد له.
قوله تعالى: "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" الظاهر أن "تنزيل الكتاب"
من إضافة الصفة إلى الموصوف و المصدر بمعنى المفعول، و "من الله" متعلق بتنزيل،
و المجموع خبر لمبتدإ محذوف.
و المعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، و قد تقدم الكلام في مفردات
الآية فيما تقدم.
قوله تعالى: "إن في السماوات و الأرض لآيات للمؤمنين" آية الشيء علامته التي
تدل عليه و تشير إليه، و المراد بكون السماوات و الأرض فيها آيات كونها بنفسها
آيات له فليس وراء السماوات و الأرض و سائر ما خلق الله أمر مظروف لها هو آية
دالة عليه تعالى.
و من الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في
الشيء آية له و أخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: "إن في خلق السماوات و الأرض
و اختلاف الليل و النهار لآيات": آل عمران: 190، و قوله: "و من آياته خلق
السماوات و الأرض": الروم: 22، و نظائرهما كثيرة، و يستفاد من اختلاف التعبير
الذي فيها أن معنى كون الشيء فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف
التعبير في مثل قوله: "إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار
لآيات"، و قوله: "إن في السماوات و الأرض لآيات" الآية، أن المراد من خلق
السماوات و الأرض نفسها لا غير.
و العناية في أخذ الشيء ظرفا للآية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده و إن
لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الآيات و لو أخذت نفس الشيء لم يستقم
إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: "و في الأرض آيات للموقنين": الذاريات:
20، و لو أخذت الآية نفس الأرض لم يستقم إلا أن يقال: و الأرض آية للموقنين و
ضاع المراد و هو أن في وجود الأرض جهات كل واحدة منها آية وحدها.
فمعنى قوله: "إن في السماوات و الأرض" إلخ، إن لوجود السماوات و الأرض جهات
دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها
الذاتية إلى من يوجدها و عظمة خلقتها و بداعة تركيبها و اتصال وجود بعضها ببعض
و ارتباطه على كثرتها الهائلة و اندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت
نظام عام يجمعها و يحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها
فلو لا أن هناك من يوجدها لم توجد من رأس، و لو لا أن مدبرها واحد لتناقضت
النظامات و تدافعت و اختلف التدبير.
و مما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: "في السماوات" بتقدير مضاف محذوف و
التقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه.
قوله تعالى: "و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون" البث التفريق و
الإثارة و بثه تعالى للدواب خلقها و تفريقها و نشرها على الأرض كما قال في خلق
الإنسان: "ثم إذا أنتم بشر تنتشرون": الروم: 20.
و معنى الآية: و فيكم من حيث وجودكم المخلوق و فيما يفرقه الله من دابة من حيث
خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين.
و خلق الإنسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق يغاير
خلق السماوات و الأرض لأنه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية عنصرية تفسد
بالموت بالتفرق و التلاشي و أمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد بالموت بل
يتوفى و يحفظ عند الله، و هو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: "و نفخت فيه
من روحي": الحجر: 29، و قال بعد ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم مضغة ثم
تتميم خلق بدنه: "ثم أنشأناه خلقا آخر": المؤمنون: 14 و قال: "قل يتوفاكم ملك
الموت الذي وكل بكم": الم السجدة: 11.
فالناظر في خلق الإنسان ناظر في آية ملكوتية وراء الآيات المادية و كذا الناظر
في خلق الدواب و لها نفوس ذوات حياة و شعور و إن كانت دون الإنسان في حياتها و
شعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لأهل اليقين يعرفون
بها الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته و ألوهيته.
قوله تعالى: "و اختلاف الليل و النهار" إلى آخر الآية هذا القبيل من الآيات
آيات ما بين السماء و الأرض.
و قوله: "و اختلاف الليل و النهار" يريد به اختلافهما في الطول و القصر اختلافا
منظما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة و يتكرر بتكرر السنين
يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض و يربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: "و قدر
فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين": حم السجدة: 10.
و قوله: "و ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها" المراد
بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو
لأن المطر أيضا من الرزق فإن مياه الأرض من المطر، و المراد بالسماء جهة العلو
أو السحاب مجازا، و إحياء الأرض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات
بالأخذ في الرشد و النمو، و لا يخلو التعرض للإحياء بعد الموت من تلويح إلى
المعاد.
و قوله: "و تصريف الرياح" أي تحويلها و إرسالها من جانب إلى جانب، لتصريفها
فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب إلى أقطار الأرض و تلقيح النباتات و دفع
العفونات و الروائح المنتنة.
و قوله: "آيات لقوم يعقلون" أي يميزون بين الحق و الباطل و الحسن و القبيح
بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم.
و قد خص كل قبيل من الآيات بقوم خاص فخصت آية السماوات و الأرض بالمؤمنين و آية
الإنسان و سائر الحيوان بقوم يوقنون، و آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار و
تصريف الرياح بقوم يعقلون.
و لعل الوجه في ذلك أن آية السماوات و الأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها
لم توجد نفسها بنفسها و لا عن اتفاق و صدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من
الآثار و الأفعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع و رب
الكل، و الإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج و المؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون
ذلك و ينتفعون به.
و أما أنه خلق الإنسان و سائر الدواب التي لها حياة و شعور فإنها من حيث
أرواحها و نفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة و هو المسمى بالملكوت
و قد خص القرآن كمال إدراكه و مشاهدته بأهل اليقين كما قال: "و كذلك نري
إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين": الأنعام: 75.
و أما آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار المحيية للأرض و تصريف الرياح فإنها
لتنوع أقسامها و تعدد جهاتها و ارتباطها بالأرض و الأرضيات و كثرة فوائدها و
سعة منافعها تحتاج إلى تعقل فكري تفصيلي عميق و لا تنال بالفهم البسيط الساذج و
لذلك خصت بقوم يعقلون و الآيات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم
خصت بهم.
و قد عبر عن أهل اليقين و العقل بقوم يوقنون و بقوم يعقلون و عن أهل الإيمان
بالمؤمنين لأن بساطة آية أهل الإيمان تفيد أن المراد بالإيمان أصله و هو ثابت
فيهم فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين و العقل فإنهما لدقتهما
و علو منالهما تدركان شيئا فشيئا فناسبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على
الاستمرار التجددي.
و قيل في وجه ما في الآيات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل
الإيمان ثم الإيقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الإيقان مرتبة خاصة في
الإيمان فهو بعد الإيمان و العقل مدار الإيمان و الإيقان و نعني العقل المؤيد
بنور البصيرة فبسببه يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه و في استحكامه كل
خير.
و روعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.
و فيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب على
أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره.
و قيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن
السماوات و الأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، و كذلك النظر
في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين أما الأول فظاهر، و أما الثاني فلأنه
العلة الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث و هو المعلول يتوقف في معرفته
على ذكر علته الغائية قبله.
و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الآيات دون مراتب الصفات الثلاث أعني
الإيمان و الإيقان و العقل.
على أن الثالث أيضا كالأول من أسباب تكون الحيوان فيجب أن يتقدم على الثاني، و
بوجه آخر الثاني علة غائية للأول فيجب أن يتقدم على الأول كما تقدم على الثالث.
و قيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه
الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و كنتم من طلاب الجزم و اليقين فافهموا هذه
الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و لا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الآيات الثلاثة
على أن لازمه أن لا يختص شيء من الآيات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون
الجميع للجميع و السياق لا يساعد عليه على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم
و هو العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني و لا يعبأ به في المعارف
الاعتقادية.
قوله تعالى: "تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله و آياته
يؤمنون" الإيمان بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلو لم يلتزم لم يكن
إيمانا و إن كان هناك علم، قال تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم":
النمل: 14، و قال: "و أضله الله على علم": الجاثية: 23.
و الآيات هي العلامات الدالة فآيات الله الكونية هي الأمور الكونية الدالة
بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن كل
نقص و حاجة، و الإيمان بهذه الآيات هو الإيمان بدلالتها عليه تعالى و لازمه
الإيمان به تعالى كما تدل هي عليه.
و الآيات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الآيات الكونية الدالة عليه
سبحانه أو على معارف اعتقادية أو أحكام عملية أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه و
يأمر بها فإن مضامينها دالة عليه و من عنده، و الإيمان بهذه الآيات أيضا إيمان
بدلالتها و يلزمه الإيمان بمدلولها.
و الآيات المعجزة أيضا إما آيات كونية و دلالتها دلالة الآيات الكونية و إما
غير كونية كالقرآن في إعجازه و مرجع دلالتها إلى دلالة الآيات الكونية.
و قوله: "تلك آيات الله نتلوها عليك" الإشارة إلى الآيات القرآنية المتلوة عليه
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و يمكن أن تكون إشارة إلى الآيات الكونية المذكورة
في الآيات الثلاث السابقة بعناية الاتحاد بين الدال و المدلول.
و قوله: "فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون" قيل: هو من قبيل قولك: أعجبني زيد
و كرمه، و إنما أعجبك كرمه و المعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم زيد و زيد من
حيث كرمه، فمعنى الآية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الآيات القرآنية يؤمنون؟
يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون؟.
و قيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله و آياته
يؤمنون، و الأنسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالآيات الآيات الكونية و لذا
قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: و الفرق بين الحديث الذي هو القرآن و بين
الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، و الآيات هي الأدلة
الفاصلة بين الصحيح و الفاسد.
انتهى و أول الوجهين ألطف.
قوله تعالى: "ويل لكل أفاك أثيم" الويل و الهلاك، و الأفاك مبالغة من الإفك و
هو الكذب، و الأثيم من الإثم بمعنى المعصية و المعنى: ليكن الهلاك على كل كذاب
ذي معصية.
قوله تعالى: "يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها" إلخ صفة
لكل أفاك أثيم، و "ثم" للتراخي الرتبي و تفيد معنى الاستبعاد، و الإصرار على
الفعل ملازمته و عدم الانفكاك عنه.
و المعنى: يسمع آيات الله - و هي آيات القرآن - تقرأ عليه ثم يلازم الكفر و
الحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الآيات فبشره بعذاب أليم.
قوله تعالى: "و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا" إلخ، ظاهر السياق أن ضمير
"اتخذها" للآيات، و جعل الهزء متعلقا بالآيات دون ما علم منها يفيد كمال جهله،
و المعنى: و إذا علم ذلك الأفاك الأثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزأ
بآياتنا جميعا.
و قوله: "أولئك لهم عذاب مهين" أي مذل مخز، و توصيف العذاب بالإهانة مقابلة
لاستكبارهم و استهزائهم، و الإشارة بأولئك إلى كل أفاك، و قيل في الآية بوجوه
أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها.
قوله تعالى: "من ورائهم جهنم و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا و لا ما اتخذوا من
دون الله أولياء" إلخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين
إلى تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم و هم سائرون نحوها متوجهون
إليها.
و قيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع،: وراء اسم يقع على القدام و الخلف
فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك.
انتهى و في قوله: "من ورائهم جهنم" قضاء حتم.
و قوله: "و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا" المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا
من مال و نحوه، و تنكير "شيئا" للتحقير أي و لا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه
من مال و جاه و أنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا.
و قوله: "و لا ما اتخذوا من دون الله أولياء" "ما" مصدرية و المراد بالأولياء
أرباب الأصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة و زعموا أنهم لهم شفعاء أو الأصنام.
و قوله: "و لهم عذاب عظيم" تأكيد لوعيدهم و قد أوعدهم الله سبحانه أولا بقوله:
"ويل لكل أفاك" إلخ، و ثانيا بقوله: "فبشره بعذاب أليم" و ثالثا بقوله: "أولئك
لهم عذاب مهين" و رابعا بقوله: "من ورائهم جهنم" إلخ، و خامسا بقوله: "و لهم
عذاب عظيم"، و وصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم.
قوله تعالى: "هذا هدى و الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم" الإشارة
بقوله: "هذا هدى" إلى القرآن و وصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل و الرجز - كما
قيل - أشد العذاب و أصله الاضطراب.
و الآية في مقام الرد لما رموا به القرآن و عدوه مهانا بالهزء و السخرية و
خلاصة وعيد من كفر بآياته.
قوله تعالى: "الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره" إلخ، لما ذكر
سبحانه حال الأفاكين من الاستكبار عن الإيمان بالآيات إذا تليت عليهم و
الاستهزاء بما علموا منها و أوعدهم أبلغ الإيعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب
الجميع ممن يؤمن و يكفر، و ذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم و ليس
في وسعهم إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات و الأرض جميعا
ففيها آيات لا يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الإنسانية و نسي التفكر الذي هو
من أجلى خواص الإنسان.
فقوله: "الله الذي سخر لكم البحر" اللام في "لكم" للغاية أي سخر لأجلكم البحر
بأن خلقه على نحو يحمل الفلك و يقبل أن تجري فيه فينتفع به الإنسان، و يمكن أن
تكون للتعدية فيكون الإنسان يسخر البحر بإذن الله.
و قوله: "لتجري الفلك فيه بأمره" غاية لتسخير البحر، و جريان الفلك فيه بأمره،
هو إيجاد الجريان بكلمة كن فآثار الأشياء كنفس الأشياء منسوبة إليه تعالى و
قوله: "و لتبتغوا من فضله" أي و لتطلبوا بركوبه عطيته تعالى و هو رزقه.
و قوله: "و لعلكم تشكرون" أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي هي
تسخير البحر.
قوله تعالى: "و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه" إلخ، هذا من
الترقي بعطف العام على الخاص، و الكلام في "لكم" كالكلام في مثله في الآية
السابقة، و قوله: "جميعا" تأكيد لما في السماوات و الأرض أو حال منه.
و قوله: "سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا" معنى تسخيرها للإنسان أن
أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها و يربط بعضها ببعض و يربط
الجميع بالإنسان فينتفع في حياته من علويها و سفليها و لا يزال المجتمع البشري
يتوسع في الانتفاع بها و الاستفادة من توسيطها و التوسل بشتاتها في الحصول على
مزايا الحياة فالكل مسخر له.
و قوله: "منه" من للابتداء، و الضمير لله تعالى و هو حال مما في السماوات و
الأرض، و المعنى: سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعا حال كونه مبتدأ منه
حاصلا من عنده فذوات الأشياء تبتدىء منه بإيجاده لها من غير مثال سابق و كذلك
خواصها و آثارها بخلقه و من خواصها و آثارها ارتباط بعضها ببعض و هو النظام
الجاري فيها المرتبط بالإنسان قال تعالى: "الله يبدأ الخلق ثم يعيده": الروم:
11، و قال: "إنه هو يبديء و يعيد": البروج: 13.
و قد ذكروا لقوله: "منه" معاني أخر لا يخلو شيء منها عن التكلف تركنا التعرض
لها.
و قوله: "إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" وجه تعلقها بالتفكر ظاهر.
45 سورة الجاثية - 14 - 19
قُل لِّلّذِينَ ءَامَنُوا يَغْفِرُوا لِلّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيّامَ اللّهِ
لِيَجْزِى قَوْمَا بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صلِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيهَا ثمّ إِلى رَبِّكمْ تُرْجَعُونَ (15) وَ
لَقَدْ ءَاتَيْنَا بَنى إِسرءِيلَ الْكِتَب وَ الحُْكمَ وَ النّبُوّةَ وَ
رَزَقْنَهُم مِّنَ الطيِّبَتِ وَ فَضلْنَهُمْ عَلى الْعَلَمِينَ (16) وَ
ءَاتَيْنَهُم بَيِّنَتٍ مِّنَ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِن بَعْدِ مَا
جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَا بَيْنَهُمْ إِنّ رَبّك يَقْضى بَيْنهُمْ يَوْمَ
الْقِيَمَةِ فِيمَا كانُوا فِيهِ يخْتَلِفُونَ (17) ثُمّ جَعَلْنَك عَلى
شرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتّبِعْهَا وَ لا تَتّبِعْ أَهْوَاءَ الّذِينَ لا
يَعْلَمُونَ (18) إِنهُمْ لَن يُغْنُوا عَنك مِنَ اللّهِ شيْئاً وَ إِنّ
الظلِمِينَ بَعْضهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَ اللّهُ وَلىّ الْمُتّقِينَ (19)
بيان
لما ذكر آيات الوحدانية و أشار فيها بعض الإشارة إلى المعاد و كذا إلى النبوة
في ضمن ذكر تنزيل الكتاب و إيعاد المستكبرين المستهزءين به ذكر في هذه الآيات
تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و توسل إلى ذلك بمقدمتين
تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال
الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لأن الأعمال مسئول عنها
صالحة أو طالحة، و هذا هو السبب لتشريع الشريعة، و الثانية: أن إنزال الكتاب و
الحكم و النبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و
آتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم
اختلفوا فيه بغيا منهم و سيقضي الله بينهم.
ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له و أمره باتباعها و نهاه عن اتباع أهواء
الجاهلين.
قوله تعالى: "قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله" إلخ، أمر منه
تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار
فيصير تقدير الآية: قل لهم: اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: "قل لعبادي الذين
آمنوا يقيموا الصلاة": إبراهيم: 31.
و الآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزءين
بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب و كان المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزءين يبالغون في طعنهم و إهانتهم للنبي و
استهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله و من
أرسله به و يدعوهم إلى رفض ما هم فيه و الإيمان مع كونهم ممن حقت عليهم كلمة
العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن يأمرهم بالعفو و الصفح عنهم و عدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم
سيلحق بهم و جزاء ما كسبوه سينالهم.
و على هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: "قل للذين آمنوا يغفروا" الصفح و الإعراض
عنهم بترك مخاصمتهم و مجادلتهم، و المراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين
ذكروا في الآيات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياما لا حكم فيها و لا ملك إلا
له تعالى كيوم الموت و البرزخ و يوم القيامة و يوم عذاب الاستئصال.
و قوله: "ليجزي قوما بما كانوا يكسبون" تعليل للأمر بالمغفرة أو للأمر بالأمر
بالمغفرة و محصله ليصفحوا عنهم و لا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لأن الله
سيجزيهم بما كانوا يكسبون فتكون الآية نظيرة قوله: "و ذرني و المكذبين أولي
النعمة و مهلهم قليلا إن لدينا أنكالا و جحيما": المزمل: 12، و قوله: "ثم ذرهم
في خوضهم يلعبون": الأنعام: 91 و قوله: "فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا
يومهم الذي يوعدون": المعارج: 42، و قوله: "فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون":
الزخرف: 89.
و معنى الآية: مر الذين آمنوا أن يعفوا و يصفحوا عن أولئك المستكبرين
المستهزءين بآيات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا
يكسبون و يوم الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لأيام الله حتى
يجزيهم بأعمالهم في يوم من أيامه.
و في قوله: "ليجزي قوما" وضع الظاهر موضع الضمير، و كان مقتضى الظاهر أن يقال:
ليجزيهم، و النكتة فيه مع كون "قوما" نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم و عدم
العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لا يعرف شخصهم و لا يهتم بشيء من أمرهم.
و بما تقدم من تقرير معنى الآية تتصل الآية و ما بعدها بما قبلها و تندفع
الإشكالات التي أوردوها عليها و اهتموا بالجواب عنها، و يظهر فساد المعاني
المختلفة التي ذكروها لها و من أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: "من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون" في
موضع التعليل لقوله: "ليجزي قوما" إلخ، و لذا لم يعطف و ليس من الاستئناف في
شيء.
و محصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الأعمال لا تذهب سدى و بلا أثر بل
من عمل صالحا انتفع به و من أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم حسب
أعمالكم إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
قوله تعالى: "و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة" إلخ، لما بين
أن للأعمال آثارا حسنة أو سيئة تلحق صاحبيها أراد التنبيه على تشريع شريعة
للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان على الله سبحانه أن يهدي عباده إلى ما
فيه خيرهم و سعادتهم كما قال تعالى: "و على الله قصد السبيل و منها جائر":
النحل: 9.
فنبه على ذلك بقوله الآتي: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر" إلخ، و قدم على ذلك
الإشارة إلى ما آتى بني إسرائيل من الكتاب و الحكم و النبوة و رزقهم من الطيبات
و تفضيلهم و إيتائهم البينات ليؤذن به أن الإفاضة الإلهية بالشريعة و النبوة و
الكتاب ليست ببدع لم يسبق إليه بل لها نظير في بني إسرائيل و هم بمرآهم و
مسمعهم.
فقوله: "و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة" المراد بالكتاب
التوراة المشتملة على شريعة موسى (عليه السلام) و أما الإنجيل فلا يتضمن
الشريعة و شريعته شريعة التوراة، و أما زبور داود فهي أدعية و أذكار، و يمكن أن
يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة و الإنجيل و الزبور كما قيل لكن يبعده أن
الكتاب لم يطلق في القرآن إلا على ما يشتمل على الشريعة.
و المراد بالحكم بقرينة ذكره مع الكتاب ما يحكم و يقضي به الكتاب من وظائف
الناس كما يذكره قوله تعالى: "و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما
اختلفوا فيه": البقرة: 213، و قال في التوراة: "يحكم بها النبيون الذين أسلموا
للذين هادوا و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله": المائدة: 44،
فالحكم من لوازم الكتاب كما أن النبوة من لوازمه.
و المراد بالنبوة معلوم و قد بعث الله من بني إسرائيل جما غفيرا من الأنبياء
كما في الأخبار و قص في كتابه جماعة من رسلهم.
و قوله: "و رزقناهم من الطيبات" أي طيبات الرزق و من ذلك المن و السلوى.
و قوله: "و فضلناهم على العالمين" إن كان المراد جميع العالمين فقد فضلوا من
بعض الجهات ككثرة الأنبياء المبعوثين و المعجزات الكثيرة الظاهرة من أنبيائهم،
و إن كان المراد عالمي زمانهم فقد فضلوا من جميع الجهات.
قوله تعالى: "و آتيناهم بينات من الأمر" إلى آخر الآية المراد بالبينات الآيات
البينات التي تزيل كل شك و ريب و تمحوه عن الحق و يشهد بذلك تفريع قوله: "فما
اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم".
و المراد بالأمر قيل: هو أمر الدين، و "من" بمعنى في و المعنى: و أعطيناهم
دلائل بينة في أمر الدين و يندرج فيه معجزات موسى (عليه السلام).
و قيل: المراد به أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: آتيناهم آيات
من أمر النبي و علامات مبينة لصدقه كظهوره في مكة و مهاجرته منها إلى يثرب و
نصرة أهله و غير ذلك مما كان مذكورا في كتبهم.
و قوله: "فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم" يشير إلى أن ما
ظهر بينهم من الاختلاف في الدين و اختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل و
إنما أوجدها علماؤهم بغيا و كان البغي دائرا بينهم.
و قوله: "إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون" إشارة إلى أن
اختلافهم الذي لا يخلو من اختلاط الباطل بالحق لا يذهب سدى و سيؤثر أثره و يقضي
الله بينهم يوم القيامة فيجزون على حسب ما يستدعيه أعمالهم.
قوله تعالى: "ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا
يعلمون" الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يشاركه فيه أمته، و الشريعة
طريق ورود الماء و الأمر أمر الدين، و المعنى: بعد ما آتينا بني إسرائيل ما
آتينا جعلناك على طريقة خاصة من أمر الدين الإلهي و هي الشريعة الإسلامية التي
خص الله بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته.
و قوله: "فاتبعها" إلخ، أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ما يوحى
إليه من الدين و أن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الإلهي.
و يظهر من الآية أولا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلف بالدين كسائر
الأمة.
و ثانيا: أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإلهي و لم ينته إليه فهو هوى من
أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم.
قوله تعالى: "إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا" إلخ، تعليل للنهي عن اتباع أهواء
الذين لا يعلمون، و الإغناء من شيء رفع الحاجة إليه، و المحصل: أن لك إلى الله
سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو و الذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير فلا
يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني
شيئا من الإغناء.
و قوله: "و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين" الذي يعطيه
السياق أنه تعليل آخر للنهي عن اتباع أهواء الجاهلين، و أن المراد بالظالمين
المتبعون لأهوائهم المبتدعة و بالمتقين المتبعون لدين الله.
و المعنى: أن الله ولي الذين يتعبون دينه لأنهم متقون و الله وليهم، و الذين
يتبعون أهواء الجهلة ليس هو تعالى وليا لهم بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون و
الظالمون بعضهم أولياء بعض فاتبع دين الله يكن لك وليا و لا تتبع أهواءهم حتى
يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا.
و تسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق لما يستفاد من قوله: "أن
لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و بالآخرة هم
كافرون": الأعراف: 45.
45 سورة الجاثية - 20 - 37
هَذَابَصئرُ لِلنّاسِ وَ هُدًى وَ رَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ
حَسِب الّذِينَ اجْترَحُوا السيِّئَاتِ أَن نجْعَلَهُمْ كالّذِينَ ءَامَنُوا وَ
عَمِلُوا الصلِحَتِ سوَاءً محْيَاهُمْ وَ مَمَاتهُمْ ساءَ مَا يحْكُمُونَ (21)
وَ خَلَقَ اللّهُ السمَوَتِ وَ الأَرْض بِالحَْقِّ وَ لِتُجْزَى كلّ نَفْسِ
بِمَا كسبَت وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (22) أَ فَرَءَيْت مَنِ اتخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَ أَضلّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ
جَعَلَ عَلى بَصرِهِ غِشوَةً فَمَن يهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللّهِ أَ فَلا
تَذَكّرُونَ (23) وَ قَالُوا مَا هِىَ إِلا حَيَاتُنَا الدّنْيَا نَمُوت وَ
نحْيَا وَ مَا يهْلِكُنَا إِلا الدّهْرُ وَ مَا لهَُم بِذَلِك مِنْ عِلْمٍ إِنْ
هُمْ إِلا يَظنّونَ (24) وَ إِذَا تُتْلى عَلَيهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ مّا
كانَ حُجّتهُمْ إِلا أَن قَالُوا ائْتُوا بِئَابَائنَا إِن كُنتُمْ صدِقِينَ
(25) قُلِ اللّهُ يحْيِيكمْ ثمّ يُمِيتُكمْ ثمّ يجْمَعُكمْ إِلى يَوْمِ
الْقِيَمَةِ لا رَيْب فِيهِ وَ لَكِنّ أَكْثرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَ
للّهِ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ الساعَةُ يَوْمَئذٍ
يخْسرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرَى كلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كلّ أُمّةٍ تُدْعَى
إِلى كِتَبهَا الْيَوْمَ تجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا
كِتَبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنّا كُنّا نَستَنسِخُ مَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ (29) فَأَمّا الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ
فَيُدْخِلُهُمْ رَبهُمْ فى رَحْمَتِهِ ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ
أَمّا الّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ ءَايَتى تُتْلى عَلَيْكمْ
فَاستَكْبرْتمْ وَ كُنتُمْ قَوْماً مجْرِمِينَ (31) وَ إِذَا قِيلَ إِنّ وَعْدَ
اللّهِ حَقّ وَ الساعَةُ لا رَيْب فِيهَا قُلْتُم مّا نَدْرِى مَا الساعَةُ إِن
نّظنّ إِلا ظنّا وَ مَا نحْنُ بِمُستَيْقِنِينَ (32) وَ بَدَا لهَُمْ سيِّئَات
مَا عَمِلُوا وَ حَاقَ بهِم مّا كانُوا بِهِ يَستهْزِءُونَ (33) وَ قِيلَ
الْيَوْمَ نَنساشْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكمْ هَذَا وَ مَأْوَاشُ
النّارُ وَ مَا لَكم مِّن نّصِرِينَ (34) ذَلِكم بِأَنّكمُ اتخَذْتمْ ءَايَتِ
اللّهِ هُزُواً وَ غَرّتْكمُ الحَْيَوةُ الدّنْيَا فَالْيَوْمَ لا يخْرَجُونَ
مِنهَا وَ لا هُمْ يُستَعْتَبُونَ (35) فَللّهِ الحَْمْدُ رَب السمَوَتِ وَ رَب
الأَرْضِ رَب الْعَلَمِينَ (36) وَ لَهُ الْكِبرِيَاءُ فى السمَوَتِ وَ
الأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
بيان
لما أشار إلى جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على شريعة من الأمر و هو
تشريع الشريعة الإسلامية أشار في هذه الآيات إلى أنها بصائر للناس يبصرون بها
ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة
الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.
و أشار إلى أن الذي يدعو مجترحي السيئات أن يستنكفوا عن التشرع بالشريعة
إنكارهم المعاد فيحسبون أنهم و المتشرعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن
لا أثر للتشرع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الذي تهدي إليه الشريعة إلا
إتعاب النفس بالتقيد من غير موجب.
فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثم أردفه بوصف المعاد و ما يثيب
به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الإجرام، و عند ذلك
تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.
قوله تعالى: "هذا بصائر للناس و هدى و رحمة لقوم يوقنون" الإشارة بهذا إلى
الأمر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر
جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنما كانت
الشريعة بصائر لأنها تتضمن أحكاما و قوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في
سبيل السعادة.
و المعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر بكل
منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحق و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد
ذكر تشريع الشريعة: "هذا بصائر للناس" كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول
السورة: "هذا هدى و الذين كفروا" إلخ.
و قوله: "و هدى و رحمة لقوم يوقنون" أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد
بقوم يوقنون: الذين يوقنون بآيات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في
القرآن تعلق الإيقان بالأصول الاعتقادية.
و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من
تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، و بالرحمة
الرحمة الخاصة بمن اتقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى: "يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا
تمشون به و يغفر لكم": الحديد: 28، و قال: "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين
الذين يؤمنون بالغيب - إلى أن قال - و بالآخرة هم يوقنون": البقرة: 4، و للرحمة
درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الإيمان أيضا مراتب مختلفة
باختلاف مراتب الإيمان فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.
و أما الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإن القرآن بما يشتمل على
الشريعة رحمة للناس كافة كما أن الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعا، قال تعالى:
"و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين": الأنبياء: 107، و قد أوردنا بعض الكلام في
هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.
قوله تعالى: "أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا
الصالحات سواء محياهم و مماتهم" إلخ، قال في الجمع،: الاجتراح الاكتساب، يقال:
جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأن لذلك تأثيرا كتأثير الجراح.
قال: و السيئة الفعلة القبيحة التي يسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها.
انتهي.
و الجعل بمعنى التصيير، و قوله: "كالذين آمنوا و عملوا الصالحات" في محل
المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالذين آمنوا، إلخ.
و جزم الزمخشري في الكشاف على كون الكاف في "كالذين" اسما بمعنى المثل هو مفعول
ثان لقوله: "نجعلهم"، و قوله: "سواء" بدلا منه.
و قوله: "سواء" بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي
مستويا أو متساويا، و قوله: "محياهم" مصدر ميمي و فاعل "سواء" و ضميره راجع إلى
مجموع المجترحين و المؤمنين، و "مماتهم" معطوف على "محياهم" و حاله كحاله.
و الآية مسوقة سوق الإنكار و "أم" منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظن الذين
يكتسبون السيئات أن نصيرهم مثل الذين آمنوا و عملوا الصالحات مستويا محياهم و
مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة أولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرع
بالدين لغوا لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.
و قوله: "ساء ما يحكمون" رد لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي
السيئات و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.
فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.
أما أنهما لا يتساويان في الحياة فلأن الذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم
مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربهم كما ذكره سبحانه في الآية
السابقة و المسيء صفر الكف، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر: "فمن اتبع هداي
فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا": طه: 124، و قال في
موضع آخر: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن
مثله في الظلمات ليس بخارج منها": الأنعام: 122.
و أما أنهما لا يتساويان في الممات فلأن الموت كما ينطق به البراهين الساطعة
ليس انعداما للشيء و بطلانا للنفس الإنسانية كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى
الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة التي هي دار البقاء و
عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.
و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدم من كلامه بقوله: "كذلك يحيي الله الموتى" و
قوله: "ثم إلى ربكم ترجعون" و غير ذلك، و سيتعرض له بقوله: "و خلق الله
السماوات و الأرض بالحق" إلخ.
و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصل منها من معارك الآراء بين
المفسرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما
قدمناه و لا كثير فائدة في التعرض لوجوه أخر ذكروها فمن أراد الاطلاع عليها
فليراجع المطولات.
قوله تعالى: "و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم
لا يظلمون" الظاهر أن المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء
في "بالحق" للملابسة فكون خلق العالم بالحق كونه حقا لا باطلا و لعبا و هو أن
يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.
و قوله: "و لتجزى" إلخ، عطف على "بالحق" و الباء في قوله: "بما كسبت" للتعدية
أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية
فالعقاب، و قوله: "و هم لا يظلمون" حال من كل نفس أي و لتجزى كل نفس بما كسبت
بالعدل.
فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و بالعدل
فكون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و
كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كل نفس ما تستحقه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء
حسنا و المسيء يجزى جزاء سيئا و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة أخرى.
و بهذا البيان يظهر أن الآية تتضمن حجتين على المعاد إحداهما ما أشير إليه
بقوله: "و خلق الله السماوات و الأرض بالحق" و يسلك من طريق الحق، و الثانية ما
أشير إليه بقوله: "و لتجزى" إلخ، و يسلك من طريق العدل.
فتئول الحجتان إلى ما يشتمل عليه قوله: "و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما
باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و
عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار": ص: 28.
و الآية بما فيها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الممات فإن حديث
المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع
و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الحياة فإن
ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر
في حياته يأتي بواجب العمل و يتزود من يومه لغده بخلاف المسيء العائش في عمى و
ضلال فليسا بمتساويين.
قوله تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم" إلى آخر الآية
ظاهر السياق أن قوله: "أ فرأيت" مسوق للتعجيب أي أ لا تعجب ممن حاله هذا الحال؟
و المراد بقوله: "اتخذ إلهه هواه" حيث قدم "إلهه" على "هواه" إنه يعلم أن له
إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنه يبدله من هواه و يجعل هواه مكانه
فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقبه بقوله: "و أضله الله
على علم" أي أنه ضال عن السبيل و هو يعلم.
و معنى اتخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإن الله سبحانه عد الطاعة
عبادة كما في قوله: "أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم
عدو مبين و أن اعبدوني": يس: 61، و قوله: "اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من
دون الله": التوبة: 31، و قوله: "و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله": آل
عمران: 64.
و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلا إظهار الخضوع و تمثيل أن العابد عبد لا
يريد و لا يفعل إلا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئا فقد اتخذه إلها و
عبده فمن أطاع هواه فقد اتخذ إلهه هواه و لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.
فقوله: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه" أي أ لا تعجب ممن يعبد هواه بإطاعته و
اتباعه و هو يعلم أن له إلها غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنه يجعل معبوده و
مطاعه هو هواه.
و قوله: "و أضله الله على علم" أي هو ضال بإضلال منه تعالى يضله به مجازاة
لاتباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرا على علم هذا الضال، و لا ضير في اجتماع
الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى: "و جحدوا بها و استيقنتها
أنفسهم": النمل: 14 و ذلك أن العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل
الذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقبه الاهتداء و
أما إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو
الضلال و إن كان معه علم.
و أما قول بعضهم: إن المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضله الله على
علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.
و قوله: "و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة" كالعطف التفسيري لقوله:
"و أضله الله على علم" و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحق و لا
يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحق من آيات الله و محصل
الجميع: أن لا يترتب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما
ناله من الحق إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتباع للهوى، و قد عرفت أن الضلال
عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.
و قوله: "فمن يهديه من بعد الله" الضمير لمن اتخذ إلهه هواه و التفريع على ما
تحصل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضله الله على علم إلخ، فمن يهديه
من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى: "قل إن هدى الله هو الهدى":
البقرة: 120 و قال: "و من يضلل الله فما له من هاد": المؤمن: 33.
و قوله: "أ فلا تذكرون" أي أ فلا تتفكرون في حاله فتتذكروا أن هؤلاء لا سبيل
لهم إلى الهدى مع اتباع الهوى فتتعظوا.
قوله تعالى: "و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا
الدهر" إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدإ
وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى: "هل أتى على الإنسان حين من الدهر"
ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة
القليلة و الكثيرة.
انتهي.
و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيين المثبتين للصانع
المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريين
الناسبين للحوادث وجودا و عدما إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعا إذا
لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.
فقولهم: "ما هي إلا حياتنا الدنيا" الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلا حياتنا
الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدعيه الدين الإلهي من البعث و الحياة
الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيدة لأن يكون المراد بقوله: "نموت و نحيا" يموت
بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمر بذلك بقاء النسل الإنساني بموت الأسلاف و حياة
الأخلاف و يؤيد ذلك بعض التأييد قوله بعده: "و ما يهلكنا إلا الدهر" المشعر
بالاستمرار.
فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيش بها في
الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما
يهلكنا إلا الزمان - الذي بمروره يبلى كل جديد و يفسد كل كائن و يميت كل حي -
فليس الموت انتقالا من دار إلى دار منتهيا إلى البعث و الرجوع إلى الله.
و لعل هذا كلام بعض الجهلة من وثنية العرب و إلا فالعقيدة الدائرة بين الوثنية
هي التناسخ و هو أن نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلقت بأبدان أخرى
جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلقت ببدن جديد
تتنعم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلقت ببدن لاحق
تشقى فيه و تعذب جزاء لعملها السيىء و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر
الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.
و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائرا بين الوثنية ذكر بعض المفسرين أن المراد
بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى: "إن هي إلا حياتنا الدنيا" فلسنا نخرج من
الدنيا أبدا "نموت" عن حياة دنيا "و نحيا" بعد الموت بالتعلق ببدن جديد و هكذا
"و ما يهلكنا إلا الدهر".
و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلا: "و ما يهلكنا إلا
الدهر" إلا أن يوجه بأن مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة
يتوسل بها الملك الموكل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجتهم المنقولة
ذيلا: "ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين" الظاهرة في أنهم يرون آباءهم معدومين
باطلي الذوات.
و ذكر في معنى الآية وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتا لا
حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثم نحيا بولوجها على حد قوله تعالى: "و كنتم
أمواتا فأحياكم": البقرة: 28.
و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازا، و المعنى: نموت نحن و نحيا
ببقاء نسلنا.
إلى غير ذلك مما قيل.
و قوله: "و ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون" أي إن قولهم ذلك المشعر بإنكار
المعاد قول بغير علم و إنما هو ظن يظنونه و ذلك أنهم لا دليل لهم يدل على نفي
المعاد مع ما هناك من الأدلة على ثبوته.
قوله تعالى: "و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا
بآبائنا إن كنتم صادقين" تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة
الدنيا قولا بغير علم.
و المراد بالآيات البينات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها
بينات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شك، و تسمية قولهم: "ائتوا بآبائنا إن كنتم
صادقين" مع كونه اقتراحا جزافيا بعد قيام الحجة إنما هو من باب التهكم فإنه من
قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنه قيل: ما كانت حجتهم
إلا اللاحجة.
و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج
المثبتة للمعاد و الحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من
القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.
قوله تعالى: "قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و
لكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - و الأرض" ما ذكر من اقتراحهم الحجة على
مطلوب قامت عليه الحجة و إن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب لكنه
سبحانه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا
يستبعدونه.
و محصله: أن الذي يحييكم لأول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي لا
ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرف
فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم
القيامة و القضاء بينكم ثم الجزاء، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "و يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون" قال الراغب: الخسر و
الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل
فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: "تلك إذا كرة خاسرة" و يستعمل ذلك في المقتنيات
الخارجية كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسية كالصحة
و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الذي جعله الله تعالى الخسران
المبين.
قال: و كل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون
الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية و التجارات البشرية.
و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشيء و إزالته سواء كان ذلك الشيء حقا أو
باطلا قال تعالى: "ليحق الحق و يبطل الباطل" و قد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة
له نحو "و لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون"، و قوله
تعالى: "خسر هنالك المبطلون" أي الذين يبطلون الحق.
انتهي.
و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث و الجمع و
الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم و هما واحد، و
الأشبه أن يكون قوله: "يومئذ" تأكيدا لقوله: "يوم تقوم الساعة".
و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون
الذين أبطلوا الحق و عدلوا عنه.
قوله تعالى: "و ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها" إلخ، الجثو البروك
على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الأصابع.
و الخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية و إن كان متوجها إلى النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به
الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده: "اليوم تجزون ما كنتم تعملون".
و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كل أمة من الأمم جالسة على الجثو جلسة
الخاضع الخائف كل أمة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها و هي صحيفة الأعمال و قيل
لهم: "اليوم تجزون ما كنتم تعملون".
و يستفاد من ظاهر الآية أن لكل أمة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا
به قال تعالى: "و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا
يلقاه منشورا": إسراء: 13.
قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" قال
في الصحاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كله بمعنى، و النسخة اسم
المنتسخ منه.
انتهي.
و قال الراغب: النسخ إزالة الشيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل و نسخ
الظل الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى
كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة
أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدم بنسخ الشيء و الترشح
للنسخ.
انتهي.
و مقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو
الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله: "إنا كنا نستنسخ ما
كنتم تعملون" كتابا و أصلا و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو
أريد به ضبط الأعمال الخارجية القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما
كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتابا و أصلا يستنسخ، و لا دليل
على كون "يستنسخ" بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.
و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح
المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و
تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة
الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.
و هذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق (عليه السلام) و
من طرق أهل السنة عن ابن عباس، و سيوافيك في البحث الروائي التالي.
و على هذا فقوله: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" من كلامه تعالى لا من كلام
الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في
معنى: "و يقال لهم هذا كتابنا" إلخ.
و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة
إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة
الأعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى و نظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة
التشريف و قوله: "ينطق عليكم بالحق" أي يشهد على ما عملتم و يدل عليه دلالة
واضحة ملابسا للحق.
و قوله: "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون" تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق
أي إن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لأنه اللوح المحفوظ
المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.
و لو لا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك و لا يحتمل منهم التكذيب
لكذبوه، قال تعالى: "يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود
لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا": آل عمران: 30.
و للقوم في الآية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الآية من كلام الملائكة لا من
كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا
معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون.
و فيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى
مطلق الكتابة لم يثبت لغة.
و منها: أن الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى
اللوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
قوله تعالى: "أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو
الفوز المبين" تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب
و العقاب، و السعداء المثابون هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء
المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين.
و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهية تسعد من استقر فيها و منها الجنة، و الفوز
المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.
قوله تعالى: "و أما الذين كفروا أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم و كنتم
قوما مجرمين" المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة
قوله: "أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم" إلخ.
و الفاء في "أ فلم تكن" للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما، و
التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهية
الملقاة إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبس بالأجرام و هو الذنب.
و المعنى: و أما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا و تقريعا:
أ لم تكن حججي تقرأ و تبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوما
مذنبين.
قوله تعالى: "و إذا قيل إن وعد الله حق و الساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما
الساعة" إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و
الجزاء فيكون قوله: "و الساعة لا ريب فيها" من عطف التفسير، و يمكن أن يراد
بالوعد المعنى المصدري.
و قولهم: "ما ندري ما الساعة" معناه أنه غير مفهوم لهم و الحال أنهم أهل فهم و
دراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول و لو كان معقولا لدروه.
و قوله: "إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين" أي ليست مما نقطع به و نجزم بل
نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: "ما ندري ما الساعة" إلخ، غب ما
تليت عليهم من الآيات البينة أفحش المكابرة مع الحق.
قوله تعالى: "و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون" إضافة
السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي
ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله: "يوم تجد
كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء": آل عمران: 30.
فالآية من الآيات الدالة على تمثل الأعمال، و قيل: إن في الكلام حذفا و
التقدير: و بدا لهم جزاء سيئات ما عملوا.
و قوله: "و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون" أي و حل بهم العذاب الذي كانوا
يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.
قوله تعالى: "و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النار و ما
لكم من ناصرين" النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم
القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك
في الدنيا إعراضهم عن تذكره و تركهم التأهب للقائه، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا و غرتكم الحياة الدنيا" إلخ،
الإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات و حلول العذاب و
الهزء السخرية التي يستهزأ بها و الباء للسببية.
و المعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية تستهزءون
بها و بسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلقتم بها.
و قوله: "فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون" صرف الخطاب عنهم إلى النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، و يتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب
يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.
و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.
قوله تعالى: "فلله الحمد رب السماوات و رب الأرض رب العالمين" تحميد له تعالى
بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و
المدبر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع
إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة و
الثواب و يتعقبه الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و
العدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا و لم يفعل إلا فعلا
محمودا فله الحمد كله.
و قد كرر "الرب" فقال: رب السماوات و رب الأرض ثم أبدل منهما قوله: "رب
العالمين" ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جيء برب العالمين و اكتفي
به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر و للأرض وحدها رب
آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن
صريحا في ربوبيته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.
قوله تعالى: "و له الكبرياء في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم" الكبرياء
على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في
المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.
و هي على أي حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسية و مرجعه إلى
كمال وجوده و لا تناهي كماله.
و قوله: "و له الكبرياء في السماوات و الأرض" أي له الكبرياء في كل مكان فلا
يتعالى عليه شيء فيهما و لا يستصغره شيء و تقديم الخبر في "له الكبرياء" يفيد
الحصر كما في قوله: "فلله الحمد".
و قوله: "و هو العزيز الحكيم أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير
في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه" قال: نزلت في
قريش كلما هووا شيئا عبدوه.
و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن
عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر
فأنزل الله "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه".
و في المجمع، في قوله تعالى: "و ما يهلكنا إلا الدهر" و قد روي في الحديث عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.
أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: و تأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون
الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا
يسبون الدهر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن فاعل هذه الأمور هو الله فلا
تسبوا فاعلها انتهى.
و يؤيد هذا الوجه الرواية التالية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تبارك و تعالى: لا يقل
ابن آدم يسب الدهر يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل و النهار فإذا شئت
قبضتهما.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" الآية:،
حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: سألته عن "ن و القلم" قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها
الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر و كان أشد بياضا من الثلج و
أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما
هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من
الياقوت. ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا. فهو
الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أ و لستم عربا؟ فكيف لا تعرفون معنى
الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنما ينسخ من كتاب آخر
من الأصل؟ و هو قوله: "إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون".
أقول: قوله (عليه السلام): فكتب القلم في رق إلخ، تمثيل للوح المكتوب فيه
الحوادث بالرق و الرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدم
الحديث عنه (عليه السلام) أن القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن
العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثم ختم على فم
القلم "إلخ" كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير و لا يتبدل، و
قوله: أ و لستم عربا "إلخ"، إشارة إلى ما تقدم توضيحه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون و هو
الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم
القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من
ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟. ثم جعل على
العباد حفظة و على الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم
فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل
ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم
قد ماتوا. قال ابن عباس: أ لستم قوما عربا؟ تسمعون الحفظة يقولون: "إنا كنا
نستنسخ ما كنتم تعملون" و هل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟.
أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب
ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب.
و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: و في
رواية: أنهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من
اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا و مساء بديوان العبد قابله إسرافيل
بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و له الكبرياء في السماوات و الأرض" و في الحديث
يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في
نار جهنم. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و
غيرهم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
46 سورة الأحقاف - 1 - 14
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ حم (1) تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ
الْعَزِيزِ الحَْكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ مَا
بَيْنَهُمَا إِلا بِالحَْقِّ وَ أَجَلٍ مّسمّى وَ الّذِينَ كَفَرُوا عَمّا
أُنذِرُوا مُعْرِضونَ (3) قُلْ أَ رَءَيْتُم مّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ
أَرُونى مَا ذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لهَُمْ شِرْكٌ فى السمَوَتِ
ائْتُونى بِكِتَبٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَرَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كنتُمْ
صدِقِينَ (4) وَ مَنْ أَضلّ مِمّن يَدْعُوا مِن دُونِ اللّهِ مَن لا يَستَجِيب
لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيَمَةِ وَ هُمْ عَن دُعَائهِمْ غَفِلُونَ (5) وَ إِذَا
حُشِرَ النّاس كانُوا لهَُمْ أَعْدَاءً وَ كانُوا بِعِبَادَتهِمْ كَفِرِينَ (6)
وَ إِذَا تُتْلى عَلَيهِمْ ءَايَتُنَا بَيِّنَتٍ قَالَ الّذِينَ كَفَرُوا
لِلْحَقِّ لَمّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مّبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْترَاهُ
قُلْ إِنِ افْترَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لى مِنَ اللّهِ شيْئاً هُوَ أَعْلَمُ
بِمَا تُفِيضونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شهِيدَا بَيْنى وَ بَيْنَكمْ وَ هُوَ
الْغَفُورُ الرّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنت بِدْعاً مِّنَ الرّسلِ وَ مَا أَدْرِى
مَا يُفْعَلُ بى وَ لا بِكمْ إِنْ أَتّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلىّ وَ مَا أَنَا
إِلا نَذِيرٌ مّبِينٌ (9) قُلْ أَ رَءَيْتُمْ إِن كانَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَ
كَفَرْتم بِهِ وَ شهِدَ شاهِدٌ مِّن بَنى إِسرءِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَئَامَنَ وَ
استَكْبرْتمْ إِنّ اللّهَ لا يهْدِى الْقَوْمَ الظلِمِينَ (10) وَ قَالَ
الّذِينَ كفَرُوا لِلّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ كانَ خَيراً مّا سبَقُونَا إِلَيْهِ
وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِن
قَبْلِهِ كِتَب مُوسى إِمَاماً وَ رَحْمَةً وَ هَذَا كِتَبٌ مّصدِّقٌ لِّساناً
عَرَبِيّا لِّيُنذِرَ الّذِينَ ظلَمُوا وَ بُشرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنّ
الّذِينَ قَالُوا رَبّنَا اللّهُ ثُمّ استَقَمُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا
هُمْ يحْزَنُونَ (13) أُولَئك أَصحَب الجَْنّةِ خَلِدِينَ فِيهَا جَزَاءَ بِمَا
كانُوا يَعْمَلُونَ (14)
بيان
غرض السورة إنذار المشركين الرادين للدعوة إلى الإيمان بالله و رسوله بالمعاد
بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، و لذلك تفتتح الكلام بإثبات
المعاد: "ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق" ثم يعود إليه عودة
بعد عودة كقوله: "و إذا حشر الناس"، و قوله: "و الذي قال لوالديه أف لكما أ
تعدانني أن أخرج"، و قوله: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم"،
و قوله: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق"، و قوله في مختتم
السورة: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ" الآية.
و فيها احتجاج على الوحدانية و النبوة، و إشارة إلى هلاك قوم هود و هلاك القرى
التي حول مكة و إنذارهم بذلك، و إنباء عن حضور نفر من الجن عند النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم) و استماعهم القرآن و إيمانهم به و رجوعهم إلى قومهم منذرين
لهم.
و السورة مكية كلها إلا آيتين اختلف فيهما سنشير إليهما في البحث الروائي الآتي
إن شاء الله، قوله تعالى: "أم يقولون افتراه" إلخ، و قوله: "قل أ رأيتم إن كان
من عند الله" الآية.
قوله تعالى: "حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" تقدم تفسيره.
قوله تعالى: "ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى" إلخ،
المراد بالسماوات و الأرض و ما بينهما مجموع العالم المشهود علويه و سفليه، و
الباء في "بالحق" للملابسة، و المراد بالأجل المسمى ما ينتهي إليه أمد وجود
الشيء، و المراد به في الآية الأجل المسمى لوجود مجموع العالم و هو يوم القيامة
الذي تطوى فيه السماء كطي السجل للكتب و تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و
برزوا لله الواحد القهار.
و المعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلوية و السفلية إلا ملابسا
للحق له غاية ثابتة و ملابسا لأجل معين لا يتعداه وجوده و إذا كان له أجل معين
يفنى عند حلوله و كانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم
البقاء و هو المعاد الموعود، و قد تكرر الكلام فيما تقدم في معنى كون الخلق
بالحق.
و قوله: "و الذين كفروا عما أنذروا معرضون" المراد بالذين كفروا هم المشركون
بدليل الآية التالية لكن ظاهر السياق أن المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و "ما"
في "عما" مصدرية أو موصولة و الثاني هو الأوفق للسياق و المعنى: و المشركون
الذين كفروا بالمعاد عما أنذروا به - و هو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب
لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون.
قوله تعالى: "قل أ رأيتم ما تدعون من دون الله" إلى آخر الآية "أ رأيتم" بمعنى
أخبروني و المراد بما تدعون من دون الله الأصنام التي كانوا يدعونها و يعبدونها
و إرجاع ضمائر أولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال أولي العقل و حجة
الآية و ما بعدها مع ذلك تجري في كل إله معبود من دون الله.
و قوله: "أروني ما ذا خلقوا من الأرض" أروني بمعنى أخبروني و "ما" اسم استفهام
و "ذا" بعده زائدة و المجموع مفعول "خلقوا" و من الأرض متعلق به.
و قوله: "أم لهم شرك في السماوات" أي شركة في خلق السماوات فإن خلق شيء من
السماوات و الأرض هو المسئول عنه.
توضيح ذلك أنهم و إن لم ينسبوا إليها إلا تدبير الكون و خصوا الخلق به سبحانه
كما قال تعالى: "و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله": الزمر:
38، و قال: "و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله": الزخرف: 87، لكن لما كان
الخلق لا ينفك عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق
و لذلك أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسألهم عما لأربابهم الذين
يدعون من دون الله من النصيب في خلق الأرض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير
في الكون من غير خلق.
و قوله: "ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين" الإشارة
بهذا إلى القرآن، و المراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماوي كالتوراة نازل من
عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الأرض.
و الأثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل و الرواية قال: و أثرت العلم
رويته آثره أثرا و أثارة و أثرة و أصله تتبعت أثره انتهى.
و عليه فالأثارة في الآية مصدر بمعنى المفعول أي شيء منقول من علم يثبت أن
لآلهتهم شركة في شيء من السماوات و الأرض، و فسره غالب المفسرين بمعنى البقية و
هو قريب مما تقدم.
و المعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شيء من الأرض أو في خلق
السماوات بكتاب سماوي من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشيء منقول من علم أو بقية من
علم أورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم شركاء لله سبحانه.
قوله تعالى: "و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة"
إلخ، الاستفهام إنكاري، و تحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أن يوم
القيامة أجل مسمى للدنيا و الدعوة مقصورة في الدنيا و لا دنيا بعد قيام الساعة.
و قوله: "و هم عن دعائهم غافلون" صفة أخرى من صفات آلهتهم مضافة إلى صفة عدم
استجابتهم و ليس تعليلا لعدم الاستجابة فإن عدم استجابتهم معلول كونهم لا
يملكون لعبادهم شيئا قال تعالى: "قل أ تعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا و
لا نفعا": المائدة: 76.
بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئة و تمهيدا لما سيذكره في الآية
التالية من عداوتهم لهم و كفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن
دعائهم و سيطلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم و يكفرون بعبادتهم.
و في الآية دلالة على سراية الحياة و الشعور في الأشياء حتى الجمادات فإن
الأصنام من الجماد و قد نسب إليها الغفلة و الغفلة من شئون ذوي الشعور لا تطلق
إلا على ما من شأن موصوفه أن يشعر.
قوله تعالى: "و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين" الحشر
إخراج الشيء من مقره بإزعاج، و المراد بعث الناس من قبورهم و سوقهم إلى المحشر
يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتهم و يكفرون بشرك عبادهم بالتبري منهم كما قال
تعالى: "و يوم القيامة يكفرون بشرككم": فاطر: 14، و قال حكاية عنهم: "تبرأنا
إليك ما كانوا إيانا يعبدون": القصص: 63، و قال: "فكفى بالله شهيدا بيننا و
بينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين": يونس: 29.
و في سياق الآيتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر لنا في هذه النشأة
أن لها حياة لعدم ظهور آثارها سيظهر في النشأة الآخرة أن لها حياة و تظهر
آثارها و قد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: "قالوا أنطقنا
الله الذي أنطق كل شيء": الم السجدة: 21.
قوله تعالى: "و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم
هذا سحر مبين" الآية و التي بعدها مسوقتان للتوبيخ، و المراد بالآيات البينات
آيات القرآن تتلى عليهم، ثم بدلها من الحق الذي جاءهم حيث قال: "للحق لما
جاءهم" - و كان مقتضى الظاهر أن يقال: "لها" للدلالة على أنها حق جاءهم لا مسوغ
لرميها بأنها سحر مبين و هم يعلمون أنها حق مبين فهم متحكمون مكابرون للحق
الصريح.
قوله تعالى: "أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا" إلخ،
"أم" منقطعة أي بل يقولون افترى القرآن على الله في دعواه أنه كلامه.
و قوله: "قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا" أي إن افتريت القرآن
لأجلكم آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء و لستم تقدرون على دفع
عذابه عني فكيف أفتريه عليه لأجلكم، و المحصل أني على يقين من أمر الله و أعلم
أنه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته و أنكم لا تقدرون على دفع ما يريده
فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لأجلكم؟ أي لست بمفتر عليه.
و يتبين بذلك أن جزاء الشرط في قوله: "إن افتريته فلا تملكون لي" إلخ، محذوف و
قد أقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، و التقدير: إن افتريته آخذني
بالعذاب أو عاجلني بالعذاب و لا مانع من قبلكم يمنع عنه، و ليس من قبيل وضع
المسبب موضع السبب كما قيل.
و قوله: "هو أعلم بما تفيضون فيه" الإفاضة في الحديث الخوض فيه و "ما" موصولة
يرجع إليه ضمير "فيه" أو مصدرية و مرجع الضمير هو القرآن، و المعنى: الله
سبحانه أعلم بالذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر و الافتراء على
الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن.
و قوله: "كفى به شهيدا بيني و بينكم" احتجاج ثان على نفي الافتراء و أول
الاحتجاجين قوله: "إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا" و قد تقدم بيانه
آنفا، و معنى الجملة: أن شهادة الله سبحانه في كلامه بأنه كلامه و ليس افتراء
مني يكفي في نفي كوني مفتريا به عليه، و قد صدق سبحانه هذه الدعوى بقوله: "لكن
الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه": النساء: 166، و ما في معناه من الآيات،
و أما أنه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدي.
و قوله: "و هو الغفور الرحيم" تذييل الآية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي
ما يتضمنه تحكمهم الباطل من نفي الرسالة كأنه قيل: إن قولكم: "افتراه" يتضمن
دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله و دعوى بطلان الرسالة - و
الوثنيون ينفونها مطلقا - أما الدعوى الأولى فيدفعه أولا: أنه إن افتريته فلا
تملكون، إلخ، و ثانيا: أن الله يكفيني شهيدا على كونه كلامه لا كلامي.
و أما الدعوى الثانية فيدفعها أن الله سبحانه غفور رحيم، و من الواجب في حكمته
أن يعامل خلقه بالمغفرة و الرحمة و لا تشملان إلا التائبين الراجعين إليه
الصالحين لذلك و ذلك بأن يهديهم إلى صراط يقربهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته و
رحمته بحط السيئات و الاستقرار في دار السعادة الخالدة، و كونه واجبا في حكمته
لأن فيهم صلاحية هذا الكمال و هو الجواد الكريم، قال تعالى: "و ما كان عطاء ربك
محظورا": إسراء: 20، و قال: "و على الله قصد السبيل": النحل: 9، و السبيل إلى
هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس
رسولا يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته و رحمته.
قوله تعالى: "قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم" إلخ،
البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله و أفعاله و لذا
فسره بعضهم بأن المعنى: ما كنت أول رسول أرسل إليكم لا رسول قبلي، و قيل:
المعنى: ما كنت مبدعا في أقوالي و أفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل.
و المعنى الأول لا يلائم السياق و لا قوله المتقدم: "و هو الغفور الرحيم"
بالمعنى الذي تقدم توجيهه فثاني المعنيين هو الأنسب، و عليه فالمعنى: لست أخالف
الرسل السابقين في صورة أو سيرة و في قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم في من آثار
البشرية ما فيهم و سبيلهم في الحياة سبيلي.
و بهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم: "ما لهذا الرسول يأكل الطعام
و يمشي في الأسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو
تكون له جنة يأكل منها": الفرقان: 8.
و قوله: "و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم" نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير
قوله: "و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير و ما مسني السوء": الأعراف: 188،
و الفرق بين الآيتين أن قوله: "و لو كنت أعلم الغيب" إلخ، نفي للعلم بمطلق
الغيب و استشهاد له بمس السوء و عدم الاستكثار من الخير، و قوله: "و ما أدري ما
يفعل بي و لا بكم" نفي للعلم بغيب خاص و هو ما يفعل به و بهم من الحوادث التي
يواجهونها جميعا، و ذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي
يجب أن يكون عالما في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم
المحكية في القرآن فأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعترف - مصرحا به - أنه
لا يدري ما يفعل به و لا بهم فينفي عن نفسه العلم بالغيب، و أن ما يجري عليه و
عليهم من الحوادث خارج عن إرادته و اختياره و ليس له في شيء منها صنع بل يفعله
به و بهم غيره و هو الله سبحانه.
فقوله: "و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم" كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه
القدرة على شيء مما يصيبه و يصيبهم مما هو تحت أستار الغيب.
و نفي الآية العلم بالغيب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينافي علمه بالغيب
من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله: "ذلك من أنباء الغيب
نوحيه إليك": آل عمران: 44، يوسف: 102، و قوله: "تلك من أنباء الغيب نوحيها
إليك": هود: 49، و قوله: "عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من
رسول": الجن: 27 و من هذا الباب قول المسيح (عليه السلام): "و أنبئكم بما
تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم": آل عمران: 49، و قول يوسف (عليه السلام) لصاحبي
السجن: "لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما": يوسف:
37.
وجه عدم المنافاة أن الآيات النافية للعلم بالغيب عنه و عن سائر الأنبياء
(عليهم السلام) إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية
أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب
كل نفع و دفع كل شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الأسباب و هذا لا ينافي
انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما
أتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لأنفسهم بل بإذن من الله تعالى و
أمر، قال تعالى: "قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا": الإسراء: 93، جوابا عما
اقترحوا عليه من الآيات، و قال: "قل إنما الآيات عند الله و إنما أنا نذير
مبين": العنكبوت: 50، و قال: "و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا
جاء أمر الله قضي بالحق": المؤمن: 78.
و يشهد بذلك قوله بعده متصلا به: "إن أتبع إلا ما يوحى إلي" فإن اتصاله بما
قبله يعطي أنه في موضع الإضراب، و المعنى: أني ما أدري شيئا من هذه الحوادث
بالغيب من قبل نفسي و إنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك.
و قوله: "و ما أنا إلا نذير مبين" تأكيد لجميع ما تقدم في الآية من قوله: "ما
كنت بدعا" إلخ، و "و ما أدري" إلخ، و قوله: "إن أتبع" إلخ.
بحث فلسفي و دفع شبهة
تظافرت الأخبار من طرق أئمة أهل البيت أن الله سبحانه علم النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و الأئمة (عليهم السلام) علم كل شيء، و فسر ذلك في بعضها أن علم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طريق الوحي و أن علم الأئمة (عليهم السلام)
ينتهي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أورد عليه أن المأثور من سيرتهم أنهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر
الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الأسباب الظاهرية و يهدي
إليه السبل العادية فربما أصابوا مقاصدهم و ربما أخطأ بهم الطريق فلم يصيبوا، و
لو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبدا فالعاقل لا يترك سبيلا يعلم يقينا أنه
مصيب فيه و لا يسلك سبيلا يعلم يقينا أنه مخطىء فيه.
و قد أصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقي الإنسان نفسه في مهلكتها لو علم
بواقع الأمر كما أصيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد بما أصيب، و
أصيب علي (عليه السلام) في مسجد الكوفة حين فتك به المرادي لعنه الله، و أصيب
الحسين (عليه السلام) فقتل في كربلاء، و أصيب سائر الأئمة بالسم، فلو كانوا
يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة و هو محرم، و الإشكال
كما ترى مأخوذ من الآيتين: "و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير" "و ما أدري
ما يفعل بي و لا بكم".
و يرده أنه مغالطة بالخلط بين العلوم العادية و غير العادية فالعلم غير العادي
بحقائق الأمور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجية.
توضيح ذلك أن أفعالنا الاختيارية كما تتعلق بإرادتنا كذلك تتعلق بعلل و شرائط
أخرى مادية زمانية و مكانية إذا اجتمعت عليها تلك العلل و الشرائط و تمت
بالإرادة تحققت العلة التامة و كان تحقق الفعل عند ذلك واجبا ضروريا إذ من
المستحيل تخلف المعلول عن علته التامة.
فنسبة الفعل و هو معلول إلى علته التامة نسبة الوجوب و الضرورة كنسبة جميع
الحوادث إلى عللها التامة، و نسبته إلى إرادتنا و هي جزء علته نسبة الجواز و
الإمكان.
فتبين أن جميع الحوادث الخارجية و منها أفعالنا الاختيارية واجبة الحصول في
الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة و لا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختيارية
ممكنة بالنسبة إلينا مع وجوبها على ما تقدم.
فإذا كان كل حادث و منها أفعالنا الاختيارية بصفة الاختيار معلولا له علة تامة
يستحيل معها تخلفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدى
حلقة من حلقاتها موضعها و لا تتبدل من غيرها و كان الجميع واجبا من أول يوم
سواء في ذلك ما وقع في الماضي و ما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق
الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها و إن
كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد الإمكان.
فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقيني في مجرى أسباب الأفعال الاختيارية كالعلم
الحاصل من الطرق العادية فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق
العادية فيصير سببا للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العادي.
قلت: كلا فإن المفروض تحقق العلة التامة للعلم العادي مع سائر أسباب الفعل
الاختياري فمثله كمثل أهل الجحود و العناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع
الجحود إلى النار و مع ذلك يصرون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود و هذا
منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل، قال تعالى في قصة آل فرعون: "و جحدوا بها و
استيقنتها أنفسهم": النمل: 14.
و بهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في
الإرادة فليكشف عدم تأثيره في الإرادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف.
وجه الاندفاع: أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الإرادة مستندة إليه
و إنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود أهل
الجحود و إنكارهم الحق مع يقينهم به و مثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على
جذع عال، منه على الأرض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط
هلاكه القطعي.
و قد أجاب بعضهم عن أصل الإشكال بأن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة
(عليهم السلام) تكاليف خاصة بكل واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك و إن
كان ذلك منا إلقاء النفس في التهلكة و هو حرام، و إليه إشارة في بعض الأخبار.
و أجاب بعضهم عنه بأن الذي ينجز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العادية و
أما غيره فليس بمنجز، و يمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدم.
قوله تعالى: "قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به و شهد شاهد من بني
إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم" إلخ، ضمائر "كان" و "به" و "مثله" على ما
يعطيه السياق للقرآن، و قوله: "و شهد شاهد من بني إسرائيل" إلخ، معطوف على
الشرط و يشاركه في الجزاء، و المراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف
الإلهية و هو كتاب التوراة الأصلية التي نزلت على موسى (عليه السلام)، و قوله:
"فآمن و استكبرتم" أي فآمن الشاهد الإسرائيلي المذكور بعد شهادته.
و قوله: "إن الله لا يهدي القوم الظالمين" تعليل للجزاء المحذوف دال عليه، و
الظاهر أنه أ لستم ضالين لا ما قيل: إنه أ لستم ظلمتم لأن التعليل بعدم هداية
الله الظالمين إنما يلائم ضلالهم لا ظلمهم و إن كانوا متصفين بالوصفين جميعا.
و المعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله و الحال أنكم
كفرتم به و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فآمن هو و
استكبرتم أنتم أ لستم في ضلال؟ فإن الله لا يهدي القوم الظالمين.
و الذي شهد على مثله فآمن على ما في بعض الأخبار هو عبد الله بن سلام من علماء
اليهود، و الآية على هذا مدنية لا مكية لأنه ممن آمن بالمدينة، و قول بعضهم: من
الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله: "و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله
فآمن" لتحقق الوقوع و القصة واقعة في المستقبل سخيف لأنه لا يلائم كون الآية في
سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
صدقه فيما يخبرهم به من الأمور المستقبلة.
و في معنى الآية أقوال أخر منها أن المراد ممن شهد على مثله فآمن هو موسى (عليه
السلام) شهد على التوراة فآمن به و إنما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى
للبناء على كون الآية مكية، و أنه إنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة.
و فيه أولا: عدم الدليل على كون الآية مكية و لتكن القصة دليلا على كونها
مدنية، و ثانيا: بعد أن يجعل موسى الكليم (عليه السلام) قرينا لهؤلاء المشركين
الأجلاف يقاسون به فيقال ما محصله: أن موسى (عليه السلام) آمن بالكتاب النازل
عليه و أنتم استكبرتم عن الإيمان بالقرآن فسخافته ظاهرة.
و مما قيل إن المثل في الآية بمعنى نفس الشيء كما قيل في قوله تعالى: "ليس
كمثله شيء": الشورى: 11، و هو في البعد كسابقه.
قوله تعالى: "و قال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه" إلى
آخر الآية قيل: اللام في قوله: "للذين آمنوا" للتعليل أي لأجل إيمانهم و يئول
إلى معنى في، و ضمير "كان" و "إليه" للقرآن من جهة الإيمان به.
و المعنى: و قال الذين كفروا في الذين آمنوا - أي لأجل إيمانهم -: لو كان
الإيمان بالقرآن خيرا ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه.
و قال بعضهم: إن المراد بالذين آمنوا بعض المؤمنين و بالضمير العائد إليه في
قوله: "سبقونا" البعض الآخر، و اللام متعلق بقال و المعنى: و قال الذين كفروا
لبعض المؤمنين لو كان خيرا ما سبقنا البعض من المؤمنين و هم الغائبون إليه، و
فيه أنه بعيد من سياق الآية.
و قال آخرون: إن المراد بالذين آمنوا المؤمنون جميعا لكن في قوله: ما سبقونا
التفاتا و الأصل ما سبقتمونا و هو في البعد كسابقه و ليس خطاب الحاضرين بصيغة
الغيبة من الالتفات في شيء.
و قوله: "و إذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم" ضمير "به" للقرآن و كذا
الإشارة بهذا إليه و الإفك الافتراء أي و إذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن
الإيمان به فسيقولون أي الذين كفروا هذا أي القرآن إفك و افتراء قديم، و قولهم:
هذا إفك قديم كقولهم: أساطير الأولين.
قوله تعالى: "و من قبله كتاب موسى إماما و رحمة و هذا كتاب مصدق لسانا عربيا"
إلخ، الظاهر أن قوله: "و من قبله" إلخ، جملة حالية و المعنى: فسيقولون هذا إفك
قديم و الحال أن كتاب موسى حال كونه إماما و رحمة قبله أي قبل القرآن و هذا
القرآن كتاب مصدق له حال كونه لسانا عربيا ليكون منذرا للذين ظلموا و هو بشرى
للمحسنين فكيف يكون إفكا.
و كون التوراة إماما و رحمة هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل و يتبعونها في
أعمالهم و رحمة للذين آمنوا بها و اتبعوها في إصلاح نفوسهم.
قوله تعالى: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا" إلى آخر الآية المراد
بقولهم ربنا الله إقرارهم و شهادتهم بانحصار الربوبية في الله سبحانه و توحده
فيها، و باستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ و انحراف و التزامهم
بلوازمه العملية.
و قوله: "فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون" أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من
عقاب محتمل، و لا مكروه محقق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف إنما يكون من
مكروه ممكن الوقوع، و الحزن من مكروه محقق الوقوع، و الفاء في قوله: "فلا خوف"
إلخ، لتوهم معنى الشرط فإن الكلام في معنى من قال ربنا الله ثم استقام فلا خوف
إلخ.
قوله تعالى: "أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون" المراد
بصحابة الجنة ملازمتها، و قوله: "خالدين فيها" حال مؤكدة لمعنى الصحابة.
و المعنى: أولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ملازمون للجنة حال كونهم
خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات و القربات.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله
تعالى: "ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم - إن كنتم صادقين" قال: عنى
بالكتاب التوراة و الإنجيل "و أثارة من علم" فإنما عنى بذلك علم أوصياء
الأنبياء.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن
مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) "أو أثارة من علم" قال: الخط.
أقول: لعل المراد بالخط كتاب مخطوط موروث من الأنبياء أو العلماء الماضين لكن
في بعض ما روي في تفسير قوله: "أو أثارة من علم" أنه حسن الخط و في بعض آخر أنه
جودة الخط و هو أجنبي من سياق الاحتجاج الذي في الآية.
و في العيون، في باب مجلس الرضا مع المأمون عنه (عليه السلام) حدثني أبي عن جدي
عن آبائه عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: اجتمع المهاجرون و الأنصار إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: إن لك يا رسول الله مئونة في
نفقتك و فيمن يأتيك من الوفود، و هذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا
أعط ما شئت و احكم ما شئت من غير حرج. قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الأمين
فقال: يا محمد "قل لا أسألكم عليه أجرا - إلا المودة في القربى" يعني أن تودوا
قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا
عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده، و إن هو إلا شيء افتراه في مجلسه و كان
ذلك من قولهم عظيما. فأنزل الله عز و جل هذه الآية "أم يقولون افتراه قل إن
افتريته - فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه - كفى به شهيدا
بيني و بينكم و هو الغفور الرحيم" فبعث إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: هل من حدث؟ فقالوا: إي و الله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاما غليظا
كرهناه فتلا عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الآية فبكوا و اشتد
بكاؤهم فأنزل الله تعالى: "و هو الذي يقبل التوبة عن عباده - و يعفوا عن
السيئات و يعلم ما تفعلون".
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله:
"و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم" قال: نسختها هذه الآية التي في الفتح فخرج إلى
الناس فبشرهم بالذي غفر له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر. فقال رجل من المؤمنين:
هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الآن ما يفعل بك فما ذا يفعل بنا؟ فأنزل الله في
سورة الأحزاب "و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا" و قال: "ليدخل
المؤمنين و المؤمنات - جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها - و يكفر عنهم
سيئاتهم - و كان ذلك عند الله فوزا عظيما" فبين الله ما به يفعل و بهم.
أقول: الرواية لا تخلو من شيء: أما أولا: فلما تقدم بيانه في تفسير الآية أعني
قوله: "و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم" أنها أجنبية عن العلم بالغيب الذي هو من
طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي
حتى تنسخها آية سورة الفتح.
و أما ثانيا: فلأن ظاهر الرواية أن الذنب الذي تصرح بمغفرته آية سورة الفتح هو
الذنب بمعنى مخالفة الأمر و النهي المولويين و سيأتي في تفسير سورة الفتح - إن
شاء الله تعالى - أن الذنب في الآية لغير هذا المعنى.
و أما ثالثا: فلأن الآيات الدالة على دخول المؤمنين الجنة كثيرة جدا في مكية
السور و مدنيتها و لا تدل آيتا سورة الأحزاب على أزيد مما يدل عليه سائر الآيات
فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنة و شمول المغفرة لهم.
على أن سورة الأحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان.
و فيه، أخرج أبو يعلى و ابن جرير و الطبراني و الحاكم و صححه بسند صحيح عن عوف
بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا معه حتى
دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم. فقال لهم رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): أروني اثني عشر رجلا منكم يشهدون أن لا إله إلا
الله و أن محمدا رسول الله يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي
عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد، ثم رد عليهم فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد
فقال: أبيتم فوالله لأنا الحاشر و أنا العاقب و أنا المقفي آمنتم أو كذبتم. ثم
انصرف و أنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد،
فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود؟ فقالوا: و الله لا
نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله و لا أفقه منك و لا من أبيك و لا من جدك، فقال:
إني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة و الإنجيل، قالوا: كذبت ثم
ردوا عليه و قالوا شرا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كذبتم لن
يقبل منكم قولكم. فخرجنا و نحن ثلاث: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و
أنا و ابن سلام فأنزل الله: "قل أ رأيتم إن كان من عند الله و كفرتم به - و شهد
شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم - إن الله لا يهدي القوم
الظالمين".
أقول: و في نزول الآية في عبد الله بن سلام روايات أخرى من طرق أهل السنة غير
هذه الرواية، و سياق الآية و خاصة قوله: "من بني إسرائيل" لا يلائم كون الخطاب
فيها لبني إسرائيل، و قد عد الإنجيل في الرواية من كتبهم و ليس من كتبهم و
اليهود لا يصدقونه.
و في بعض الروايات أن الآية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد و أسلم
فكذبته اليهود، و الإشكال السابق على حاله.
46 سورة الأحقاف - 15 - 20
وَوَصيْنَا الانسنَ بِوَلِدَيْهِ إِحْسناً حَمَلَتْهُ أُمّهُ كُرْهاً وَ
وَضعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصلُهُ ثَلَثُونَ شهْراً حَتى إِذَا بَلَغَ
أَشدّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سنَةً قَالَ رَب أَوْزِعْنى أَنْ أَشكُرَ
نِعْمَتَك الّتى أَنْعَمْت عَلىّ وَ عَلى وَلِدَى وَ أَنْ أَعْمَلَ صلِحاً
تَرْضاهُ وَ أَصلِحْ لى فى ذُرِّيّتى إِنى تُبْت إِلَيْك وَ إِنى مِنَ
الْمُسلِمِينَ (15) أُولَئك الّذِينَ نَتَقَبّلُ عَنهُمْ أَحْسنَ مَا عَمِلُوا
وَ نَتَجَاوَزُ عَن سيِّئَاتهِمْ فى أَصحَبِ الجَْنّةِ وَعْدَ الصدْقِ الّذِى
كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الّذِى قَالَ لِوَلِدَيْهِ أُفٍ لّكُمَا أَ
تَعِدَانِنى أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلى وَ هُمَا
يَستَغِيثَانِ اللّهَ وَيْلَك ءَامِنْ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَيَقُولُ مَا
هَذَا إِلا أَسطِيرُ الأَوّلِينَ (17) أُولَئك الّذِينَ حَقّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فى أُمَمٍ قَدْ خَلَت مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِْنِّ وَ الانسِ
إِنهُمْ كانُوا خَسِرِينَ (18) وَ لِكلٍّ دَرَجَتٌ ممّا عَمِلُوا وَ
لِيُوَفِّيهُمْ أَعْمَلَهُمْ وَ هُمْ لا يُظلَمُونَ (19) وَ يَوْمَ يُعْرَض
الّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أَذْهَبْتُمْ طيِّبَتِكمْ فى حَيَاتِكمُ
الدّنْيَا وَ استَمْتَعْتُم بهَا فَالْيَوْمَ تجْزَوْنَ عَذَاب الْهُونِ بِمَا
كُنتُمْ تَستَكْبرُونَ فى الأَرْضِ بِغَيرِ الحَْقِّ وَ بمَا كُنتُمْ
تَفْسقُونَ (20)
بيان
لما قسم الناس في قوله: "لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين" إلى ظالمين و
محسنين و أشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف و يحذر و للمحسنين ما يسر الإنسان و
يبشر به عقب ذلك في هذا الفصل من الآيات بتفصيل القول فيه، و أن الناس بين قوم
تائبين إلى الله مسلمين له و هم الذين يتقبل أحسن أعمالهم و يتجاوز عن سيئاتهم
في أصحاب الجنة، و قوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و
الإنس.
و مثل الطائفة الأولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن
يلهمه الشكر على ما أنعم عليه و على والديه و العمل الصالح و إصلاح ذريته، و
الطائفة الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الإيمان بالله و اليوم
الآخر فيزجرهما و يعد ذلك من أساطير الأولين.
قوله تعالى: "و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا" إلى آخر الآية، الوصية على ما
ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ و التوصية تفعيل من
الوصية قال تعالى: "و وصى بها إبراهيم بنيه": البقرة: 132، فمفعوله الثاني الذي
يتعدى إليه بالباء من قبيل الأفعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل
يتعلق بهما و هو الإحسان إليهما.
و على هذا فتقدير الكلام: و وصينا الإنسان بوالديه أن يحسن إليهما إحسانا.
و في إعراب: "إحسانا" أقوال أخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين "وصينا"
معنى أحسنا، و التقدير: وصينا الإنسان محسنين إليهما إحسانا، و قول بعضهم: إنه
صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، و قول بعضهم: هو مفعول له، و
التقدير: وصيناه بهما لإحساننا إليهما، إلى غير ذلك مما قيل.
و كيف كان فبر الوالدين و الإحسان إليهما من الأحكام العامة المشرعة في جميع
الشرائع كما تقدم في تفسير قوله تعالى: "قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا
تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا": الأنعام: 151، و لذلك قال: "و وصينا
الإنسان" فعممه لكل إنسان.
ثم عقبه سبحانه بالإشارة إلى ما قاسته أمه في حمله و وضعه و فصاله إشعارا بملاك
الحكم و تهييجا لعواطفه و إثارة لغريزة رحمته و رأفته فقال: "حملته أمه كرها و
وضعته كرها و حمله و فصاله ثلاثون شهرا" أي حملته أمه حملا ذا كره أي مشقة و
ذلك لما في حمله من الثقل، و وضعته وضعا ذا كره و ذلك لما عنده من ألم الطلق.
و أما قوله: "و حمله و فصاله ثلاثون شهرا" فقد أخذ فيه أقل مدة الحمل و هو ستة
أشهر، و الحولان الباقيان إلى تمام ثلاثين شهرا مدة الرضاع، قال تعالى: "و
الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين": البقرة: 233، و قال: "و فصاله في
عامين": لقمان: 14.
و الفصال التفريق بين الصبي و بين الرضاع، و جعل العامين ظرفا للفصال بعناية
أنه في آخر الرضاع و لا يتحقق إلا بانقضاء عامين.
و قوله: "حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة" بلوغ الأشد بلوغ زمان من العمر
تشتد فيه قوى الإنسان، و قد مر نقل اختلافهم في معنى بلوغ الأشد في تفسير قوله:
"و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما": يوسف: 22، و بلوغ الأربعين ملازم عادة
لكمال العقل.
و قوله: "قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي و على والدي و أن أعمل
صالحا ترضاه" الإيزاع الإلهام، و هذا الإلهام ليس بإلهام علم يعلم به الإنسان
ما جهلته نفسه بحسب الطبع كما في قوله: "و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و
تقواها": الشمس: 8، بل هو إلهام عملي بمعنى البعث و الدعوة الباطنية إلى فعل
الخير و شكر النعمة و بالجملة العمل الصالح.
و قد أطلق النعمة التي سأل إلهام الشكر عليها فتعم النعم الظاهرية كالحياة و
الرزق و الشعور و الإرادة، و الباطنية كالإيمان بالله و الإسلام و الخشوع له و
التوكل عليه و التفويض إليه ففي قوله: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك" إلخ، سؤال أن
يلهمه الثناء عليه بإظهار نعمته قولا و فعلا: أما قولا فظاهر، و أما فعلا
فباستعمال هذه النعم استعمالا يظهر به أنها لله سبحانه أنعم بها عليه و ليست له
من قبل نفسه و لازمه ظهور العبودية و المملوكية من هذا الإنسان في قوله و فعله
جميعا.
و تفسير النعمة بقوله: "التي أنعمت علي و على والدي" يفيد شكره من قبل نفسه على
ما اختص به من النعمة و من قبل والديه فيما أنعم به عليهما فهو لسان ذاكر لهما
بعدهما.
و قوله: "و أن أعمل صالحا ترضاه" عطف على قوله: "أن أشكر" إلخ، سؤال متمم لسؤال
الشكر على النعم فإن الشكر يحلي ظاهر الأعمال، و الصلاحية التي يرتضيها الله
تعالى تحلي باطنها و تخلصها له تعالى.
و قوله: "و أصلح لي في ذريتي" الإصلاح في الذرية إيجاد الصلاح فيهم و هو من
الله سبحانه توفيقهم للعمل الصالح و ينجر إلى إصلاح نفوسهم، و تقييد الإصلاح
بقوله: "لي" للدلالة على أن يكون إصلاحهم بنحو ينتفع هو به أي أن يكون ذريته له
في بره و إحسانه كما كان هو لوالديه.
و محصل الدعاء سؤال أن يلهمه الله شكر نعمته و صالح العمل و أن يكون بارا محسنا
بوالديه و يكون ذريته له كما كان هو لوالديه، و قد تقدم غير مرة أن شكر نعمه
تعالى بحقيقة معناه هو كون العبد خالصا لله فيئول معنى الدعاء إلى سؤال خلوص
النفس و صلاح العمل.
و قوله: "إني تبت إليك و إني من المسلمين" أي الذين يسلمون الأمر لك فلا تريد
شيئا إلا أرادوه بل لا يريدون إلا ما أردت.
و الجملة في مقام التعليل لما يتضمنه الدعاء من المطالب، و يتبين بالآية حيث
ذكر الدعاء و لم يرده بل أيده بما وعد في قوله: "أولئك الذين نتقبل عنهم" إلخ،
إن التوبة و الإسلام لله سبحانه إذا اجتمعا في العبد استعقب ذلك الهامة تعالى
بما يصير به العبد من المخلصين - بفتح اللام - ذاتا و المخلصين - بكسر اللام -
عملا أما إخلاص الذات فقد تقدمت الإشارة إليه آنفا، و أما إخلاص العمل فلأن
العمل لا يكون صالحا لقبوله تعالى مرفوعا إليه إلا إذا كان خالصا لوجهه الكريم،
قال تعالى: "ألا لله الدين الخالص": الزمر: 3.
قوله تعالى: "أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا و نتجاوز عن سيئاتهم في
أصحاب الجنة" إلخ، التقبل أبلغ من القبول، و المراد بأحسن ما عملوا طاعاتهم من
الواجبات و المندوبات فإنها هي المقبولة المتقبلة و أما المباحات فإنها و إن
كانت ذات حسن لكنها ليست بمتقبلة، كذا ذكر في مجمع البيان و هو تفسير حسن و
يؤيده مقابلة تقبل أحسن ما عملوا بالتجاوز عن السيئات فكأنه قيل: إن أعمالهم
طاعات من الواجبات و المندوبات و هي أحسن أعمالهم فنتقبلها و سيئات فنتجاوز
عنها و ما ليس بطاعة و لا حسنة فلا شأن له من قبول و غيره.
و قوله: "في أصحاب الجنة" متعلق بقوله: "نتجاوز" أي نتجاوز عن سيئاتهم في جملة
من نتجاوز عن سيئاتهم من أصحاب الجنة، فهو حال من ضمير "عنهم".
و قوله: "وعد الصدق الذي كانوا يوعدون" أي يعدهم الله بهذا الكلام وعد الصدق
الذي كانوا يوعدونه إلى هذا الحين بلسان الأنبياء و الرسل، أو المراد أنه ينجز
لهم بهذا التقبل و التجاوز يوم القيامة وعد الصدق الذي كانوا يوعدونه في
الدنيا.
قوله تعالى: "و الذي قال لوالديه أف لكما أ تعدانني أن أخرج و قد خلت القرون من
قبلي" لما ذكر الإنسان الذي تاب إلى الله و أسلم له و سأله الخلوص و الإخلاص و
بر والديه و إصلاح أولاده له قابله بهذا الإنسان الذي يكفر بالله و رسوله و
المعاد و يعق والديه إذا دعواه إلى الإيمان و أنذراه بالمعاد.
فقوله: "و الذي قال لوالديه أف لكما" الظاهر أنه مبتدأ في معنى الجمع و خبره
قوله بعد: "أولئك الذين" إلخ، و "أف" كلمة تبرم يقصد بها إظهار التسخط و التوجع
و "أ تعدانني أن أخرج" الاستفهام للتوبيخ، و المعنى: أ تعدانني أن أخرج من قبري
فأحيا و أحضر للحساب أي أ تعدانني المعاد "و قد خلت القرون من قبلي" أي و الحال
أنه هلكت أمم الماضون العائشون من قبلي و لم يحي منهم أحد و لا بعث.
و هذا على زعمهم حجة على نفي المعاد و تقريره أنه لو كان هناك إحياء و بعث
لأحيي بعض من هلك إلى هذا الحين و هم فوق حد الإحصاء عددا في أزمنة طويلة لا
أمد لها و لا خبر عنهم و لا أثر و لم يتنبهوا أن القرون السالفة لو عادوا كما
يقولون كان ذلك بعثا لهم و إحياء في الدنيا و الذي وعده الله سبحانه هو البعث
للحياة الآخرة و القيام لنشأة أخرى غير الدنيا.
و قوله: "و هما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق" الاستغاثة طلب الغوث من
الله أي و الحال أن والديه يطلبان من الله أن يغيثهما و يعينهما على إقامة
الحجة و استمالته إلى الإيمان و يقولان له: ويلك آمن بالله و بما جاء به رسوله
و منه وعده تعالى بالمعاد إن وعد الله بالمعاد من طريق رسله حق.
و منه يظهر أن مرادهما بقولهما: "آمن" هو الأمر بالإيمان بالله و رسوله فيما
جاء به من عند الله، و قولهما: "إن وعد الله حق" المراد به المعاد، و تعليل
الأمر بالإيمان به لغرض الإنذار و التخويف.
و قوله: "فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين" الإشارة بهذا إلى الوعد الذي ذكراه
و أنذراه به أو مجموع ما كانا يدعوانه إليه و المعنى: فيقول هذا الإنسان
لوالديه ليس هذا الوعد الذي تنذرانني به أو ليس هذا الذي تدعوانني إليه إلا
خرافات الأولين و هم الأمم الأولية الهمجية.
قوله تعالى: "أولئك الذين حق عليهم القول" إلخ، تقدم بعض الكلام فيه في تفسير
الآية 25 من سورة حم السجدة.
قوله تعالى: "و لكل درجات مما عملوا" إلى آخر الآية أي لكل من المذكورين و هم
المؤمنون البررة و الكافرون الفجرة منازل و مراتب مختلفة صعودا و حدورا فللجنة
درجات و للنار دركات.
و يعود هذا الاختلاف إلى اختلافهم في أنفسهم و إن كان ظهوره في أعمالهم و لذلك
قال: "لكل درجات مما عملوا" فالدرجات لهم و منشؤها أعمالهم.
و قوله: "و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون" اللام للغاية و الجملة معطوفة على
غاية أو غايات أخرى محذوفة لم يتعلق بذكرها غرض، و إنما جعلت غاية لقوله: "لكل
درجات" لأنه في معنى و جعلناهم درجات، و المعنى: جعلناهم درجات لكذا و كذا و
ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون.
و معنى توفيتهم أعمالهم إعطاؤهم نفس أعمالهم فالآية من الآيات الدالة على تجسم
الأعمال، و قيل: الكلام على تقدير مضاف و التقدير و ليوفيهم أجور أعمالهم.
قوله تعالى: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار" إلخ، عرض الماء على الدابة و
للدابة وضعه بمرأى منها بحيث إن شاءت شربته، و عرض المتاع على البيع وضعه موضعا
لا مانع من وقوع البيع عليه.
و قوله: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار" قيل: المراد بعرضهم على النار
تعذيبهم فيها من قولهم: عرض فلان على السيف إذا قتل و هو مجاز شائع.
و فيه أن قوله في آخر السورة "و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا
بالحق قالوا بلى و ربنا قال فذوقوا العذاب" لا يلائمه تلك الملاءمة حيث فرع ذوق
العذاب على العرض فهو غيره.
و قيل: إن في الآية قلبا و الأصل عرض النار على الذين كفروا لأن من الواجب في
تحقق معنى العرض أن يكون في المعروض عليه شعور بالمعروض و النار لا شعور لها
بالذين كفروا بل الأمر بالعكس ففي الكلام قلب، و المراد عرض النار على الذين
كفروا.
و وجهه بعض المفسرين بأن المناسب أن يؤتى بالمعروض إلى المعروض عليه كما في
قولنا: عرضت الماء على الدابة و عرضت الطعام على الضيف، و لما كان الأمر في عرض
النار على الذين كفروا بالعكس فإنهم هم المسيرون إلى النار فقلب الكلام رعاية
لهذا الاعتبار.
و فيه نظر أما ما ذكر من أن المعروض عليه يجب أن يكون ذا شعور و إدراك بالمعروض
حتى يرغب إليه أو يرغب عنه و النار لا شعور لها ففيه أولا: أنه ممنوع كما يؤيده
قولهم: عرضت المتاع على البيع، و قوله تعالى: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات
و الأرض و الجبال": الأحزاب: 72، و ثانيا: أنا لا نسلم خلو نار الآخرة عن
الشعور، ففي الأخبار الصحيحة أن للجنة و النار شعورا و يشعر به قوله: "يوم نقول
لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد": ق: 30، و غيره من الآيات.
و أما ما قيل من أن المناسب تحريك المعروض إلى المعروض عليه فلا نسلم لزومه و
لا اطراده فهو منقوض بقوله: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض" الآية:،
الأحزاب: 72.
على أن في كلامه تعالى ما يدل على الإتيان بالنار إلى الذين كفروا كقوله: "و
جيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان و أنى له الذكرى": الفجر: 23.
فالحق أن العرض و هو إظهار عدم المانع من تلبس شيء بشيء معنى له نسبة إلى
الجانبين يمكن أخذ كل منهما أصلا معروضا عليه و الآخر فرعا معروضا فتارة تؤخذ
النار معروضة على الكافرين بعناية أن لا مانع من عمل صالح أو شفاعة تمنع من
دخولهم فيها كقوله تعالى: "و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا": الكهف: 100، و
تارة يؤخذ الكفار معروضين للنار بعناية أن لا مانع يمنع النار أن تعذبهم، كما
في قوله: "النار يعرضون عليها غدوا و عشيا": المؤمن: 36، و قوله: "يعرض الذين
كفروا على النار" الآية.
و على هذا فالأشبه تحقق عرضين يوم القيامة: عرض جهنم للكافرين حين تبرز لهم ثم
عرضهم على جهنم بعد الحساب و القضاء الفصل بدخولهم فيها حين يساقون إليها، قال
تعالى: "و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا": الزمر: 71.
و قوله: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا و استمتعتم بها" على تقدير القول أي
يقال لهم: "أذهبتم" إلخ، و الطيبات الأمور التي تلائم النفس و توافق الطبع و
يستلذ بها الإنسان، و إذهاب الطيبات إنفادها بالاستيفاء لها، و المراد
بالاستمتاع بها استعمالها و الانتفاع بها لنفسها لا للآخرة و التهيؤ لها.
و المعنى: يقال لهم حين عرضهم على النار: أنفذتم الطيبات التي تلتذون بها في
حياتكم الدنيا و استمتعتم بتلك الطيبات فلم يبق لكم شيء تلتذون به في الآخرة.
و قوله: "فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق و بما
كنتم تفسقون" تفريع على إذهابهم الطيبات، و عذاب الهون العذاب الذي فيه الهوان
و الخزي.
و المعنى: فاليوم تجزون العذاب الذي فيه الهوان و الخزي قبال استكباركم في
الدنيا عن الحق و قبال فسقكم و توليكم عن الطاعات، و هما ذنبان أحدهما متعلق
بالاعتقاد و هو الاستكبار عن الحق و الثاني متعلق بالعمل و هو الفسق.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن المنذر من طريق قتادة عن
أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال: رفع إلى عمر امرأة ولدت لستة أشهر فسأل عنها
أصحاب النبي فقال علي: لا رجم عليها أ لا ترى أنه يقول: و حمله و فصاله ثلاثون
شهرا، و قال: و فصاله في عامين، و كان الحمل هاهنا ستة أشهر فتركها عمر. قال:
ثم بلغنا أنها ولدت آخر لستة أشهر:. أقول: و روى القصة المفيد في الإرشاد،.
و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن بعجة بن عبد الله الجهني قال: تزوج
رجل منا امرأة من جهينة فولدت له تماما لستة أشهر فانطلق زوجها إلى عثمان بن
عفان فأمر برجمها فبلغ ذلك عليا فأتاه فقال: ما تصنع؟ قال: ولدت تماما لستة
أشهر و هل يكون ذلك؟ قال علي: أ ما سمعت الله تعالى يقول: و حمله و فصاله
ثلاثون شهرا و قال: حولين كاملين فكم تجده بقي إلا ستة أشهر؟. فقال عثمان: و
الله ما فطنت لهذا. علي بالمرأة فوجدوها قد فرغ منها، و كان من قولها لأختها:
لا تحزني فو الله ما كشف فرجي أحد قط غيره. قال: فشب الغلام بعد فاعترف الرجل
به و كان أشبه الناس به. قال: فرأيت الرجل بعد يتساقط عضوا عضوا على فراشه.
و في التهذيب، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سأله أبي و أنا حاضر عن قول الله عز و جل: "حتى إذا بلغ أشده" قال: الاحتلام.
و في الخصال، عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بلغ العبد
ثلاثا و ثلاثين سنة فقد بلغ أشده، و إذا بلغ أربعين سنة فقد بلغ منتهاه، فإذا
طعن في إحدى و أربعين فهو في النقصان، و ينبغي لصاحب الخمسين أن يكون كمن كان
في النزع.
أقول: لا تخلو الرواية من إشعار بكون بلوغ الأشد مما يختلف بالمراتب فيكون
الاحتلام و هو غالبا في الست عشرة أول مرتبة منها و الثلاث و الثلاثين و هي بعد
مضي ست عشرة أخرى المرتبة الثانية، و قد تقدم في نظيره الآية من سورة يوسف بعض
أخبار أخر.
و اعلم أنه قد وردت في الآية أخبار تطبقها على الحسين بن علي (عليهما السلام) و
ولادته لستة أشهر و هي من الجري.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن عبد الله قال: إني لفي
المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأيا حسنا و
إن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر و عمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: أ هرقلية؟
إن أبا بكر و الله ما جعلها في أحد من ولده و لا أحد من أهل بيته و لا جعلها
معاوية إلا رحمة و كرامة لولده. فقال مروان: أ لست الذي قال لوالديه: أف لكما؟
فقال عبد الرحمن: أ لست ابن اللعين الذي لعن أباك رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم)؟. قال: و سمعتها عائشة فقالت: يا مروان أنت القائل لعبد الرحمن كذا
و كذا؟ كذبت و الله ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.
و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: في الذي قال لوالديه أف لكما الآية، قال:
هذا ابن لأبي بكر: أقول: و روي ذلك أيضا عن قتادة و السدي، و قصة رواية مروان و
تكذيب عائشة له مشهورة.
قال في روح المعاني بعد رد رواية مروان: و وافق بعضهم كالسهيلي في الأعلام
مروان في زعم نزولها في عبد الرحمن، و على تسليم ذلك لا معنى للتعيير لا سيما
من مروان فإن الرجل أسلم و كان من أفاضل الصحابة و أبطالهم، و كان له في
الإسلام عناء يوم اليمامة و غيره، و الإسلام يجب ما قبله فالكافر إذا أسلم لا
ينبغي أن يعير بما كان يقول.
انتهي.
و فيه أن الروايات لو صحت لم يكن مناص عن صريح شهادة الآية عليه بقوله: "أولئك
الذين حق عليهم القول - إلى قوله - إنهم كانوا خاسرين" و لم ينفع شيء مما دافع
عنه به.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و يوم يعرض الذين كفروا إلى قوله و
استمتعتم بها" قال: أكلتم و شربتم و ركبتم، و هي في بني فلان "فاليوم تجزون
عذاب الهون" قال: العطش.
و في المحاسن، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه
(عليهم السلام) قال: أتي يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخبيص فأبى أن
يأكله فقيل: أ تحرمه؟ فقال: لا و لكني أكره أن تتوق إليه نفسي ثم تلا الآية
"أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا".
و في المجمع، في الآية و قد روي في الحديث أن عمر بن الخطاب قال: استأذنت على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخلت عليه في مشربة أم إبراهيم و إنه
لمضطجع على حفصة و إن بعضه على التراب و تحت رأسه وسادة محشوة ليفا فسلمت عليه
ثم جلست فقلت: يا رسول الله أنت نبي الله و صفوته و خيرته من خلقه و كسرى و
قيصر على سرير الذهب و فرش الحرير و الديباج! فقال رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): أولئك قوم عجلت طيباتهم و هي وشيكة الانقطاع، و إنما أخرت لنا
طيباتنا:. أقول: و رواه في الدر المنثور، بطرق عنه.
46 سورة الأحقاف - 21 - 28
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ وَ قَدْ خَلَتِ
النّذُرُ مِن بَينِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللّهَ
إِنى أَخَاف عَلَيْكمْ عَذَاب يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَ جِئْتَنَا
لِتَأْفِكَنَا عَنْ ءَالهَِتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنت مِنَ
الصدِقِينَ (22) قَالَ إِنّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللّهِ وَ أُبَلِّغُكم مّا
أُرْسِلْت بِهِ وَ لَكِنى أَرَاشْ قَوْماً تجْهَلُونَ (23) فَلَمّا رَأَوْهُ
عَارِضاً مّستَقْبِلَ أَوْدِيَتهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ ممْطِرُنَا بَلْ
هُوَ مَا استَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كلّ
شىْءِ بِأَمْرِ رَبهَا فَأَصبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسكِنهُمْ كَذَلِك نجْزِى
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَ لَقَدْ مَكّنّهُمْ فِيمَا إِن مّكّنّكُمْ
فِيهِ وَ جَعَلْنَا لَهُمْ سمْعاً وَ أَبْصراً وَ أَفْئِدَةً فَمَا أَغْنى
عَنهُمْ سمْعُهُمْ وَ لا أَبْصرُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتهُم مِّن شىْءٍ إِذْ
كانُوا يجْحَدُونَ بِئَايَتِ اللّهِ وَ حَاقَ بهِم مّا كانُوا بِهِ
يَستهْزِءُونَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكم مِّنَ الْقُرَى وَ
صرّفْنَا الاَيَتِ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصرَهُمُ الّذِينَ
اتخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ قُرْبَاناً ءَالهَِةَ بَلْ ضلّوا عَنْهُمْ وَ ذَلِك
إِفْكُهُمْ وَ مَا كانُوا يَفْترُونَ (28)
بيان
لما قسم الناس على قسمين و انتهى الكلام إلى الإنذار عقب ذلك بالإشارة إلى
قصتين قصة قوم عاد و هلاكهم و معها الإشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة و قصة
إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستمعوا
القرآن فآمنوا و رجعوا إلى قومهم منذرين و إنما أورد القصتين ليعتبر بهما من
شاء أن يعتبر منهم، و هذه الآيات المنقولة تتضمن أولى القصتين.
قوله تعالى: "و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه
و من خلفه" إلخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، و المراد بأخي عاد
هود النبي (عليه السلام)، و الأحقاف مسكن قوم عاد و المتيقن أنه في جنوب جزيرة
العرب و لا أثر اليوم باقيا منهم، و اختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان و
مهرة، و قيل رمال بين عمان إلى حضرموت، و قيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من
أرض اليمن و قيل غير ذلك.
و قوله: "و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه" النذر جمع نذير و المراد به
الرسول على ما يفيده السياق، و أما تعميم بعضهم الندر للرسول و نوابهم من
العلماء ففي غير محله.
و فسروا "من بين يديه" بالذين كانوا قبله و "من خلفه" بالذين جاءوا بعده و يمكن
العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، و من خلفه من كان
قبله، و الأولى على الأول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه و من خلفه أن
يكون كناية عن مجيئه إليهم و إنذاره لهم على فترة من الرسل.
و قوله: "ألا تعبدوا إلا الله" تفسير للإنذار و فيه إشارة إلى أن أساس دينه
الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.
و قوله: "إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم" تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، و الظاهر
أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما
سيأتي من قولهم: "فائتنا بما تعدنا" و قوله: "بل هو ما استعجلتم به" و الباقي
ظاهر.
قوله تعالى: "قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا" إلخ، جواب القوم له قبال
إنذاره، و قوله: "لتأفكنا عن آلهتنا" بتضمين الإفك و هو الكذب و الفرية معنى
الصرف و المعنى: قالوا أ جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا و افتراء.
و قوله: "فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" أمر تعجيزي منهم له زعما منهم
أنه (عليه السلام) كاذب في دعواته آفك في إنذاره.
قوله تعالى: "قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به" إلخ، جواب هود عن
قولهم ردا عليهم، فقوله: "إنما العلم عند الله" قصر العلم بنزول العذاب فيه
تعالى لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه، و هو كناية عن أنه
(عليه السلام) لا علم له بأنه ما هو؟ و لا كيف هو؟ و لا متى هو؟ و لذلك عقبه
بقوله: "و أبلغكم ما أرسلت به" أي إن الذي حملته و أرسلت به إليكم هو الذي
أبلغكموه و لا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟ و كيف هو؟ و متى
هو؟ و لا قدرة لي عليه.
و قوله: "و لكني أراكم قوما تجهلون" إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه العلم
عن نفسه، و المعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب و لكني أراكم قوما
تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم و خيركم من شركم حين تردون دعوة الله و
تكذبون بآياته و تستهزءون بما يوعدكم به من العذاب.
قوله تعالى: "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا" إلخ، صفة
نزول العذاب إليهم بادىء ظهوره عليهم.
و العارض هو السحاب يعرض في الأفق ثم يطبق السماء و هو صفة العذاب الذي يرجع
إليه ضمير "رأوه" المعلوم من السياق، و قوله: "مستقبل أوديتهم" صفة أخرى له، و
الأودية جمع الوادي، و قوله: "قالوا هذا عارض ممطرنا" أي استبشروا ظنا منهم أنه
سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا.
و قوله: "بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم" رد لقولهم: "هذا عارض
ممطرنا" بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب
الذي استعجلتم به حين قلتم: "فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين" و زاد في
البيان ثانيا بقوله: "ريح فيها عذاب أليم".
و الكلام من كلامه تعالى و قيل: هو كلام لهود النبي (عليه السلام).
قوله تعالى: "تدمر كل شيء بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي
القوم المجرمين" التدمير الإهلاك، و تعلقه بكل شيء و إن كان يفيد عموم التدمير
لكن السياق يخصصه بنحو الإنسان و الدواب و الأموال، فالمعنى: أن تلك الريح ريح
تهلك كل ما مرت عليه من إنسان و دواب و أموال.
و قوله: "فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم" بيان لنتيجة نزول العذاب، و قوله: "كذلك
نجزي القوم المجرمين" إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي بالفرد
الممثل به و التشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي
قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى: "و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن
أخذه أليم شديد": هود: 102.
قوله تعالى: "و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه" إلخ، موعظة لكفار مكة مستنتجة
من القصة.
و التمكين إقرار الشيء و إثباته في المكان، و هو كناية عن إعطاء القدرة و
الاستطاعة في التصرف و "ما" في "فيما" موصولة أو موصوفة و "إن" نافية، و
المعنى: و لقد جعلنا قوم هود في الذي - أو في شيء - ما مكناكم معشر كفار مكة و
من يتلوكم فيه من بسطة الأجسام و قوة الأبدان و البطش الشديد و القدرة القومية.
و قوله: "و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة" أي جهزناهم بما يدركون به ما
ينفعهم و ما يضرهم و هو السمع و الأبصار و ما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم
فيحتالون لجلب النفع و لدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك.
و قوله: "فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شيء إذ كانوا
يجحدون بآيات الله" ما في "فما أغنى" نافية لا استفهامية، و "إذ" ظرف متعلق
بالنفي الذي في قوله: "فما أغنى".
و محصل المعنى: أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك و كان لهم من أدوات
الإدراك و التمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره و الاتقاء من الحوادث
المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم و لم ينفعهم هذه المشاعر و الأفئدة شيئا عند
ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله و أنتم جاحدون لآيات الله.
و قيل: معنى الآية: و لقد مكناهم في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من القوة و
الاستطاعة و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة ليستعملوها فيما خلقت له و يسمعوا
كلمة الحق و يشاهدوا آيات التوحيد و يعتبروا بالتفكر في العبر، و يستدلوا
بالتعقل الصحيح على المبدإ و المعاد فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا
أفئدتهم من شيء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا و لعل
الذي قدمناه من المعنى أنسب للسياق.
و قد جوزوا في مفردات الآية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها.
و قد تقدم في نظائر قوله: "سمعا و أبصارا و أفئدة" أن إفراد السمع - و المراد
منه الجمع - لمكان مصدريته في الأصل نظير الضيف و القربان و الجنب، قال تعالى:
"ضيف إبراهيم المكرمين": الذاريات: 24 و قال: "إذ قربا قربانا": المائدة: 27، و
قال: "و إن كنتم جنبا": المائدة: 6.
و قوله: "و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون" عطف على قوله: "ما أغنى عنهم" إلخ.
قوله تعالى: "و لقد أهلكنا ما حولكم من القرى" تذكرة إنذارية متفرعة على العظة
التي في قوله: "و لقد مكناهم" إلخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على
قوله: "و اذكر أخا عاد".
و قوله: "و صرفنا الآيات لعلهم يرجعون" أي و صيرنا الآيات المختلفة من معجزة
أيدنا بها الأنبياء و وحي أنزلناه عليهم و نعم رزقناهموها ليتذكروا بها و نقم
ابتليناهم بها ليتوبوا و ينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله
سبحانه إلى عبادته.
و الضمير في "لعلهم يرجعون" راجع إلى القرى و المراد بها أهل القرى.
قوله تعالى: "فلو لا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة" إلخ، ظاهر
السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا و مفعوله الأول هو الضمير الراجع إلى الموصول
و "قربانا" بمعنى ما يتقرب به، و الكلام مسوق للتهكم، و المعنى: فلو لا نصرهم
الذين اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون: "ما
نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى".
و قوله: "بل ضلوا عنهم" أي ضل الآلهة عن أهل القرى و انقطعت رابطة الألوهية و
العبودية التي كانوا يزعمونها و يرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد و المكاره
فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.
و قوله: "و ذلك إفكهم و ما كانوا يفترون" مبتدأ و خبر و الإشارة إلى ضلال
آلهتهم، و المراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و "ما" مصدرية، و المعنى: و
ذلك الضلال أثر إفكهم و افترائهم.
و يمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز و الإشارة إلى
إهلاكهم بعد تصريف الآيات و ضلال آلهتهم عند ذلك، و محصل المعنى: أن هذا الذي
ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الآلهة يشفعون لهم و يقربونهم من الله
زعمهم الذي أفكوه و افتروه، و الكلام مسوق للتهكم.
46 سورة الأحقاف - 29 - 35
وَإِذْ صرَفْنَا إِلَيْك نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَستَمِعُونَ الْقُرْءَانَ
فَلَمّا حَضرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمّا قُضىَ وَلّوْا إِلى قَوْمِهِم
مّنذِرِينَ (29) قَالُوا يَقَوْمَنَا إِنّا سمِعْنَا كتَباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ
مُوسى مُصدِّقاً لِّمَا بَينَ يَدَيْهِ يهْدِى إِلى الْحَقِّ وَ إِلى طرِيقٍ
مّستَقِيمٍ (30) يَقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِىَ اللّهِ وَ ءَامِنُوا بِهِ
يَغْفِرْ لَكم مِّن ذُنُوبِكمْ وَ يجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَن
لا يجِب دَاعِىَ اللّهِ فَلَيْس بِمُعْجِزٍ فى الأَرْضِ وَ لَيْس لَهُ مِن
دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئك فى ضلَلٍ مّبِينٍ (32) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّ
اللّهَ الّذِى خَلَقَ السمَوَتِ وَ الأَرْض وَ لَمْ يَعْىَ بخَلْقِهِنّ
بِقَدِرٍ عَلى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتى بَلى إِنّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ
(33) وَ يَوْمَ يُعْرَض الّذِينَ كَفَرُوا عَلى النّارِ أَ لَيْس هَذَا
بِالْحَقِّ قَالُوا بَلى وَ رَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنتُمْ
تَكْفُرُونَ (34) فَاصبرْ كَمَا صبرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرّسلِ وَ لا
تَستَعْجِل لهُّمْ كَأَنهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا
إِلا ساعَةً مِّن نهَارِ بَلَغٌ فَهَلْ يُهْلَك إِلا الْقَوْمُ الْفَسِقُونَ
(35)
بيان
هذه هي القصة الثانية عقبت بها قصة عاد ليعتبر بها قومه (صلى الله عليه وآله
وسلم) أن اعتبروا، و فيه تقريع للقوم حيث كفروا به (صلى الله عليه وآله وسلم) و
بكتابه النازل على لغتهم و هم يعلمون أنها آية معجزة و هم مع ذلك يماثلونه في
النوعية البشرية و قد آمن الجن بالقرآن إذ استمعوا إليه و رجعوا إلى قومهم
منذرين.
قوله تعالى: "و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن" إلى آخر الآية
الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، و النفر - على ما ذكره
الراغب - عدة من الرجال يمكنهم النفر و هو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من
الرجال و النساء و الإنسان و على الجن كما في الآية و "يستمعون القرآن" صفة
نفر، و المعنى: و اذكر إذ وجهنا إليك عدة من الجن يستمعون القرآن.
و قوله: "فلما حضروه قالوا أنصتوا" ضمير "حضروه" للقرآن بما يلمح إليه من
المعنى الحدثي و الإنصات السكوت للاستماع أي فلما حضروا قراءة القرآن و تلاوته
قالوا أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتى نستمع حق الاستماع.
و قوله: "فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين" ضمير "قضى" للقرآن باعتبار قراءته و
تلاوته، و التولية الانصراف و "منذرين" حال من ضمير الجمع في "ولوا" أي فلما
أتمت القراءة و فرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوفين لهم من
عذاب الله.
قوله تعالى: "قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين
يديه" إلخ، حكاية دعوتهم قومهم و إنذارهم لهم، و المراد بالكتاب النازل بعد
موسى القرآن، و في الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسى (عليه السلام)
و كتابه، و المراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب
السماوية السابقة.
و قوله: "يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم" أي يهدي من اتبعه إلى صراط الحق و
إلى طريق مستقيم لا يضل سالكوه عن الحق في الاعتقاد و العمل.
قوله تعالى: "يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم
من عذاب أليم" المراد بداعي الله هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
تعالى: "قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة": يوسف: 108، و قيل: المراد به
ما سمعوه من القرآن و هو بعيد.
و الظاهر أن "من" في "يغفر لكم من ذنوبكم" للتبعيض، و المراد مغفرة بعض الذنوب
و هي التي اكتسبوها قبل الإيمان، قال تعالى: "إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف":
الأنفال: 38.
و قيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنها مغفورة بالتوبة و الإيمان
توبة و أما حقوق الناس فإنها غير مغفورة بالتوبة، و رد بأن الإسلام يجب ما
قبله.
قوله تعالى: "و من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه
أولياء" إلخ، أي و من لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الأرض برد دعوته و
ليس له من دون الله أولياء ينصرونه و يمدونه في ذلك، و المحصل: أن من لم يجب
داعي الله في دعوته فإنما ظلم نفسه و ليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلا و لا
بنصرة من ينصره من الأولياء فليس له أولياء من دون الله، و لذلك أتم الكلام
بقوله: "أولئك في ضلال مبين".
قوله تعالى: "أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن
بقادر" إلخ، الآية و ما بعدها إلى آخر السورة متصلة بما تقدم من قوله تعالى: "و
يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم" إلخ، و فيها تتميم القول فيما به
الإنذار في هذه السورة و هو المعاد و الرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في
البيان المتقدم.
و المراد بالرؤية العلم عن بصيرة، و العي العجز و التعب، و الأول أفصح على ما
قيل، و الباء في "بقادر" زائدة لوقوعها موقعا فيه شائبة حيز النفي كأنه قيل: أ
ليس الله بقادر.
و المعنى: أ و لم يعلموا أن الله الذي خلق السماوات و الأرض و لم يعجز عن خلقهن
أو لم يتعب بخلقهن قادر على إحياء الموتى - و هو تعالى مبدىء وجود كل شيء و
حياته - بلى هو قادر لأنه على كل شيء قدير، و قد أوضحنا هذه الحجة فيما تقدم
غير مرة.
قوله تعالى: "و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق" إلى آخر
الآية، تأييد للحجة المذكورة في الآية السابقة بالإخبار عما سيجري على منكري
المعاد يوم القيامة، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: "فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل و لا تستعجل لهم" إلى آخر
الآية، تفريع على حقية المعاد على ما دلت عليه الحجة العقلية و أخبر به الله
سبحانه و نفي الريب عنه.
و المعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفار و عدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر أولوا
العزم من الرسل و لا تستعجل لهم بالعذاب فإنهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب
و ليس اليوم عنهم ببعيد و إن استبعدوه.
و قوله: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار" تبيين لقرب
اليوم منهم و من حياتهم الدنيا بالإخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم
فإنهم إذا رأوا ما يوعدون من اليوم و ما هيىء لهم فيه من العذاب كان حالهم حال
من لم يلبث في الأرض إلا ساعة من نهار.
و قوله: "بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون" أي هذا القرآن بما فيه من البيان
تبليغ من الله من طريق النبوة فهل يهلك بهذا الذي بلغه الله من الإهلاك إلا
القوم الفاسقون الخارجون عن زي العبودية.
و قد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبر كما
صبر أولوا العزم من الرسل و فيه تلويح إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم
فليصبر كصبرهم، و معنى العزم هاهنا أما الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى: "و
لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور": الشورى: 43، و إما العزم على الوفاء
بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوح إليه قوله: "و لقد عهدنا إلى آدم من قبل
فنسي و لم نجد له عزما": طه: 115، و إما العزم بمعنى العزيمة و هي الحكم و
الشريعة.
و على المعنى الثالث و هو الحق الذي تذكره روايات أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) هم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و
سلم و عليهم و لقوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا
إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى": الشورى: 13، و قد مر تقريب معنى
الآية.
و عن بعض المفسرين أن جميع الرسل أولوا العزم، و قد أخذ "من الرسل" بيانا لأولي
العزم في قوله: "أولوا العزم من الرسل" و عن بعضهم أنهم الرسل الثمانية عشر
المذكورون في سورة الأنعام الآية 83 - 90 لأنه تعالى قال بعد ذكرهم: "فبهداهم
اقتده".
و فيه أنه تعالى قال بعد عدهم: "و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم" ثم قال:
"فبهداهم اقتده" و لم يقل ذلك بعد عدهم بلا فصل.
و عن بعضهم أنهم تسعة: نوح و إبراهيم و الذبيح و يعقوب و يوسف و أيوب و موسى و
داود و عيسى، و عن بعضهم أنهم سبعة: آدم و نوح و إبراهيم و موسى و داود و
سليمان و عيسى، و عن بعضهم أنهم ستة و هم الذين أمروا بالقتال: نوح و هود و
صالح و موسى و داود و سليمان، و ذكر بعضهم أن الستة هم نوح و إبراهيم و إسحاق و
يعقوب و يوسف و أيوب، و عن بعضهم أنهم خمسة و هم: نوح و هود و إبراهيم و شعيب و
موسى، و عن بعضهم أنهم أربعة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و ذكر بعضهم أن
الأربعة هم نوح و إبراهيم و هود و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عليهم
أجمعين.
و هذه الأقوال بين ما لم يستدل عليه بشيء أصلا و بين ما استدل عليه بما لا
دلالة فيه، و لذا أغمضنا عن نقلها، و قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني
من الكتاب بعض الكلام في أولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن" الآيات، كان
سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من مكة إلى
سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد و لم يجد
أحدا يقبله ثم رجع إلى مكة. فلما بلغ موضعا يقال له: وادي مجنة تهجد بالقرآن في
جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) استمعوا له فلما سمعوا قرآنه قال بعضهم لبعض: "أنصتوا" يعني اسكتوا "فلما
قضى" أي فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن "ولوا إلى قومهم
منذرين قالوا يا قومنا" إلى آخر الآيات. فجاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) و أسلموا و آمنوا و علمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
شرائع الإسلام فأنزل الله عز و جل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) "قل أوحي
إلي أنه استمع نفر من الجن" السورة كلها، فحكى الله قولهم و ولى عليهم رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، و كانوا يعودون إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) في كل وقت فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير
المؤمنين (عليه السلام) أن يعلمهم و يفقههم فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و
يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجان.
أقول: و الروايات في قصة هؤلاء النفر من الجن الذين استمعوا إلى القرآن كثيرة
مختلفة اختلافا شديدا، و لا سبيل إلى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها
و لذا اكتفينا منها على ما تقدم من خبر القمي و سيأتي نبذ منها في تفسير سورة
الجن إن شاء الله تعالى.
و فيه،: سئل العالم (عليه السلام) عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا، و
لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.
أقول: و روي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنة، و رواية القمي
مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنة و عمومات الكتاب تدل على
عموم الثواب للمطيعين من الإنس و الجن.
و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: سادة النبيين و المرسلين خمسة: و هم أولوا العزم من الرسل و عليهم دارت
الرحى: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و على
جميع الأنبياء.
و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله بن
آدم، و ما من نبي مضى إلا و له وصي. و كان جميع الأنبياء مائة ألف و عشرين ألف
نبي: منهم خمسة أولوا العزم: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه
و آله و سلم و عليهم. الحديث.
أقول: كون أولي العزم خمسة مما استفاضت عليه الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) فهو مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن الباقر و الصادق و
الرضا (عليهما السلام) بطرق كثيرة.
و عن روضة الواعظين للمفيد،: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كم بين
الدنيا و الآخرة؟ قال: غمضة عين قال الله عز و جل: "كأنهم يوم يرون ما يوعدون -
لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ" الآية.
47 سورة محمد - 1 - 6
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الّذِينَ كَفَرُوا وَ صدّوا عَن سبِيلِ
اللّهِ أَضلّ أَعْمَلَهُمْ (1) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ وَ
ءَامَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلى محَمّدٍ وَ هُوَ الحَْقّ مِن رّبهِمْ كَفّرَ
عَنهُمْ سيِّئَاتهِمْ وَ أَصلَحَ بَالهَُمْ (2) ذَلِك بِأَنّ الّذِينَ كَفَرُوا
اتّبَعُوا الْبَطِلَ وَ أَنّ الّذِينَ ءَامَنُوا اتّبَعُوا الحَْقّ مِن رّبهِمْ
كَذَلِك يَضرِب اللّهُ لِلنّاسِ أَمْثَلَهُمْ (3) فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ
كَفَرُوا فَضرْب الرِّقَابِ حَتى إِذَا أَثخَنتُمُوهُمْ فَشدّوا الْوَثَاقَ
فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَ إِمّا فِدَاءً حَتى تَضعَ الحَْرْب أَوْزَارَهَا ذَلِك
وَ لَوْ يَشاءُ اللّهُ لانتَصرَ مِنهُمْ وَ لَكِن لِّيَبْلُوَا بَعْضكم
بِبَعْضٍ وَ الّذِينَ قُتِلُوا فى سبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَلَهُمْ (4)
سيهْدِيهِمْ وَ يُصلِحُ بَالهَُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الجَْنّةَ عَرّفَهَا
لهَُمْ (6)
بيان
تصف السورة الذين كفروا بما يخصهم من الأوصاف الخبيثة و الأعمال السيئة و تصف
الذين آمنوا بصفاتهم الطيبة و أعمالهم الحسنة ثم تذكر ما يعقب صفات هؤلاء من
النعمة و الكرامة و صفات أولئك من النقمة و الهوان و على الجملة فيها المقايسة
بين الفريقين في صفاتهم و أعمالهم في الدنيا و ما يترتب عليها في الأخرى، و
فيها بعض ما يتعلق بالقتال من الأحكام.
و هي سورة مدنية على ما يشهد به سياق آياتها.
قوله تعالى: "الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم" فسر الصد بالإعراض
عن سبيل الله و هو الإسلام كما عن بعضهم، و فسر بالمنع و هو منعهم الناس أن
يؤمنوا بما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم إليه من دين التوحيد
كما عن بعض آخر.
و ثاني التفسيرين أوفق لسياق الآيات التالية و خاصة ما يأمر المؤمنين بقتلهم و
أسرهم و غيرهم.
فالمراد بالذين كفروا كفار مكة و من تبعهم في كفرهم و قد كانوا يمنعون الناس عن
الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يفتنونهم، و صدوهم أيضا عن المسجد
الحرام.
و قوله: "أضل أعمالهم" أي جعل أعمالهم ضالة لا تهتدي إلى مقاصدها التي قصدت بها
و هي بالجملة إبطال الحق و إحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرر منه تعالى من
قوله: "و الله لا يهدي القوم الكافرين": البقرة: 264، و قد وعد سبحانه بإحياء
الحق و إبطال الباطل كما في قوله: "ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره
المجرمون": الأنفال: 8.
فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها و فسادها دون الوصول إلى الغاية، و عد ذلك
ضلالا من الاستعارة بالكناية.
قوله تعالى: "و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد و هو
الحق من ربهم" إلخ، ظاهر إطلاق صدر الآية أن المراد بالذين آمنوا إلخ، مطلق من
آمن و عمل صالحا فيكون قوله: "و آمنوا بما نزل على محمد" تقييدا احترازيا لا
تأكيدا و ذكرا لما تعلقت به العناية في الإيمان.
و قوله: "و هو الحق من ربهم" جملة معترضة و الضمير راجع إلى ما نزل.
و قوله: "كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم" قال في المجمع: البال الحال و الشأن و
البال القلب أيضا يقال: خطر ببالي كذا، و البال لا يجمع لأنه أبهم أخواته من
الحال و الشأن انتهى.
و قد قوبل إضلال الأعمال في الآية السابقة بتكفير السيئات و إصلاح البال في هذه
الآية فمعنى ذلك هداية إيمانهم و عملهم الصالح إلى غاية السعادة، و إنما يتم
ذلك بتكفير السيئات المانعة من الوصول إلى السعادة، و لذلك ضم تكفير السيئات
إلى إصلاح البال.
و المعنى: ضرب الله الستر على سيئاتهم بالعفو و المغفرة، و أصلح حالهم في
الدنيا و الآخرة أما الدنيا فلأن الدين الحق هو الدين الذي يوافق ما تقتضيه
الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، و الفطرة لا تقتضي إلا ما فيه
سعادتها و كمالها ففي الإيمان بما أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال
المؤمنين في مجتمعهم الدنيوي، و أما في الآخرة فلأنها عاقبة الحياة الدنيا و إذ
كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال تعالى: "و العاقبة للتقوى": طه: 132.
قوله تعالى: "ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل و أن الذين آمنوا اتبعوا الحق
من ربهم" إلخ، تعليل لما في الآيتين السابقتين من إضلال أعمال الكفار و إصلاح
حال المؤمنين مع تكفير سيئاتهم.
و في تقييد الحق بقوله: "من ربهم" إشارة إلى أن المنتسب إليه تعالى هو الحق و
لا نسبة للباطل إليه و لذلك تولى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه
طريق الحق الذي اتبعوه، و أما الكفار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم و أما
انتساب ضلالهم إليه في قوله: "أضل أعمالهم" فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها
إلى غايات صالحة سعيدة.
و في الآية إشارة إلى أن الملاك كل الملاك في سعادة الإنسان و شقائه اتباع الحق
و اتباع الباطل و السبب في ذلك انتساب الحق إليه تعالى دون الباطل.
و قوله: "كذلك يضرب الله للناس أمثالهم" أي يبين لهم أوصافهم على ما هي عليه، و
في الإتيان باسم الإشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لأمر ما ضربه من المثل.
قوله تعالى: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" إلى آخر الآية، تفريع على ما
تقدم في الآيات الثلاث من وصف الفريقين كأنه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحق و
الله ينعم عليهم بما ينعم و الكفار أهل الباطل و الله يضل أعمالهم فعلى
المؤمنين إذا لقوا الكفار أن يقتلوهم و يأسروهم ليحيا الحق الذي عليه المؤمنون
و تطهر الأرض من الباطل الذي عليه الكفار.
فقوله: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" المراد باللقاء اللقاء في القتال
و ضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، و التقدير: فاضربوا الرقاب
- أي رقابهم - ضربا و ضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لأن أيسر القتل و
أسرعه ضرب الرقبة به.
و قوله: "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق" في المجمع: الإثخان إكثار القتل و
غلبة العدو و قهرهم و منه أثخنه المرض اشتد عليه و أثخنه الجراح.
انتهي.
و في المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه و اعتمدت عليه، و أوثقته شددته، و
الوثاق - بفتح الواو - و الوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشيء.
انتهي.
و "حتى" غاية لضرب الرقاب، و المعنى: فاقتلوهم حتى إذا أكثرتم القتل فيهم
فأسروهم بشد الوثاق و إحكامه فالمراد بشد الوثاق الأسر فالآية في ترتب الأسر
فيها على الإثخان في معنى قوله تعالى: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن
في الأرض": الأنفال: 67.
و قوله: "فإما منا بعد و إما فداء" أي فأسروهم و يتفرع عليه أنكم إما تمنون
عليهم منا بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقونهم و إما تفدونهم فداء بالمال أو بمن
لكم عندهم من الأسارى.
و قوله: "حتى تضع الحرب أوزارها" أوزار الحرب أثقالها و هي الأسلحة التي يحملها
المحاربون و المراد به وضع المقاتلين و أهل الحرب أسلحتهم كناية عن انقضاء
القتال.
و قد تبين بما تقدم من المعنى ما في قول بعضهم إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى:
"ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض": الأنفال: 67، لأن هذه السورة
متأخرة نزولا عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها.
و ذلك لعدم التدافع بين الآيتين فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان و
الآية المبحوث عنها تأمر بالأسر بعد الإثخان.
و كذا ما قيل: إن قوله: "فشدوا الوثاق" إلخ، منسوخ بآية السيف "فاقتلوا
المشركين حيث وجدتموهم": التوبة: 5، و كأنه مبني على كون العام الوارد بعد
الخاص ناسخا له لا مخصصا به و الحق خلافه و تمام البحث في الأصول، و في الآية
أيضا مباحث فقهية محلها علم الفقه.
و قوله: "ذلك" أي الأمر ذلك أي إن حكم الله هو ما ذكر في الآية.
و قوله: "و لو يشاء الله لانتصر منهم" الضمير للكفار أي و لو شاء الله الانتقام
منهم لانتقم منهم بإهلاكهم و تعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم.
و قوله: "و لكن ليبلوا بعضكم ببعض" استدراك من مشية الانتصار أي و لكن لم ينتصر
منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفار يأمرهم
بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين و يمتحن الكفار بالمؤمنين فيتميز أهل الشقاء
منهم ممن يوفق للتوبة من الباطل و الرجوع إلى الحق.
و قد ظهر بذلك أن قوله: "ليبلوا بعضكم ببعض" تعليل للحكم المذكورة في الآية و
الخطاب في "بعضكم" لمجموع المؤمنين و الكفار و وجه الخطاب إلى المؤمنين.
و قوله: "و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم" الكلام مسوق سوق الشرط و
الحكم عام أي و من قتل في سبيل الله و هو الجهاد و القتال مع أعداء الدين فلن
يبطل أعمالهم الصالحة التي أتوا بها في سبيل الله.
و قيل: المراد بقوله: "و الذين قتلوا في سبيل الله" شهداء يوم أحد، و فيه أنه
تخصيص من غير مخصص و السياق سياق العموم.
قوله تعالى: "سيهديهم و يصلح بالهم" الضمير للذين قتلوا في سبيل الله فالآية و
ما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة و
الكرامة و يصلح حالهم بالمغفرة و العفو عن سيئاتهم فيصلحون لدخول الجنة.
و إذا انضمت هذه الآية إلى قوله تعالى: "و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم": آل عمران: 169، ظهر أن المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم
حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء.
و قال في المجمع،: و الوجه في تكرير قوله: "بالهم" أن المراد بالأول أنه أصلح
بالهم في الدين و الدنيا، و بالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالأول سبب
النعيم و الثاني نفس النعيم.
انتهي.
و الفرق بين ما ذكره من المعنى و ما قدمناه أن قوله تعالى: "و يصلح بالهم" على
ما ذكرنا كالعطف التفسيري لقوله: "سيهديهم" دون ما ذكره، و قوله الآتي: "و
يدخلهم الجنة" على ما ذكره كالعطف التفسيري لقوله: "و يصلح بالهم" دون ما
ذكرناه.
قوله تعالى: "و يدخلهم الجنة عرفها لهم" غاية هدايته لهم، و قوله: "عرفها لهم"
حال من إدخاله إياهم الجنة أي سيدخلهم الجنة و الحال أنه عرفها لهم إما بالبيان
الدنيوي من طريق الوحي و النبوة و إما بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في
القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: سورة محمد آية فينا و آية في بني
أمية. أقول: و روى القمي في تفسيره، عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله
(عليه السلام): مثله.
و في المجمع،: في قوله: "فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب" إلخ:، المروي عن
أئمة الهدى (عليهم السلام): أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال و
الحرب قائمة فهؤلاء يكون الإمام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم
من خلاف و يتركهم حتى ينزفوا، و لا يجوز المن و لا الفداء. و الضرب الآخر الذين
يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال فالإمام مخير فيهم بين المن و
الفداء إما بالمال أو بالنفس و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب فإذا أسلموا في
الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.
أقول: و روي ما في معناه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: "و الذين
قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم" قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) يوم أحد.
أقول: قد عرفت أن الآية عامة، و سياق الاستقبال في قوله: سيهديهم و يصلح بالهم"
إلخ، إنما يلائم العموم و كون الكلام مسوقا لضرب القاعدة.
و قد روي أن قوله تعالى: "حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق" ناسخ لقوله: "و ما
كان لنبي أن يكون له أسرى" الآية، و أيضا أن قوله: "فاقتلوا المشركين حيث
وجدتموهم" ناسخ لقوله: "فشدوا الوثاق فإما منا بعد و إما فداء" و قد عرفت فيما
تقدم عدم استقامة النسخ.
47 سورة محمد - 7 - 15
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِن تَنصرُوا اللّهَ يَنصرْكُمْ وَ يُثَبِّت
أَقْدَامَكمْ (7) وَ الّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لهُّمْ وَ أَضلّ أَعْمَلَهُمْ
(8) ذَلِك بِأَنّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ فَأَحْبَط أَعْمَلَهُمْ (9)
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فى الأَرْضِ فَيَنظرُوا كَيْف كانَ عَقِبَةُ الّذِينَ مِن
قَبْلِهِمْ دَمّرَ اللّهُ عَلَيهِمْ وَ لِلْكَفِرِينَ أَمْثَلُهَا (10) ذَلِك
بِأَنّ اللّهَ مَوْلى الّذِينَ ءَامَنُوا وَ أَنّ الْكَفِرِينَ لا مَوْلى
لهَُمْ (11) إِنّ اللّهَ يُدْخِلُ الّذِينَ ءَامَنُوا وَ عَمِلُوا الصلِحَتِ
جَنّتٍ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ وَ الّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتّعُونَ وَ
يَأْكلُونَ كَمَا تَأْكلُ الأَنْعَمُ وَ النّارُ مَثْوًى لهُّمْ (12) وَ
كَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِىَ أَشدّ قُوّةً مِّن قَرْيَتِك الّتى أَخْرَجَتْك
أَهْلَكْنَهُمْ فَلا نَاصِرَ لهَُمْ (13) أَ فَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِّن
رّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سوءُ عَمَلِهِ وَ اتّبَعُوا أَهْوَاءَهُم (14)
مّثَلُ الجَْنّةِ الّتى وُعِدَ الْمُتّقُونَ فِيهَا أَنهَرٌ مِّن مّاءٍ غَيرِ
ءَاسِنٍ وَ أَنهَرٌ مِّن لّبنٍ لّمْ يَتَغَيرْ طعْمُهُ وَ أَنهَرٌ مِّنْ خَمْرٍ
لّذّةٍ لِّلشرِبِينَ وَ أَنهَرٌ مِّنْ عَسلٍ مّصفّى وَ لهَُمْ فِيهَا مِن كلِّ
الثّمَرَتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِّن رّبهِمْ كَمَنْ هُوَ خَلِدٌ فى النّارِ وَ سقُوا
مَاءً حَمِيماً فَقَطعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
بيان
الآيات جارية على السياق السابق.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم" تحضيض
لهم على الجهاد و وعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن
يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييدا لدينه و إعلاء لكلمة
الحق لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجده و شجاعة.
و المراد بنصر الله لهم توفيقه الأسباب المقتضية لظهورهم و غلبتهم على عدوهم
كإلقاء الرعب في قلوب الكفار و إدارة الدوائر للمؤمنين عليهم و ربط جاش
المؤمنين و تشجيعهم، و على هذا فعطف تثبيت الأقدام على النصر من عطف الخاص على
العام و تخصيص تثبيت الأقدام، و هو كناية عن التشجيع و تقوية القلوب، لكونه من
أظهر أفراد النصر.
قوله تعالى: "و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم" ذكر ما يفعل بالكفار عقيب
ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم.
و التعس هو سقوط الإنسان على وجهه و بقاؤه عليه و يقابله الانتعاش و هو القيام
عن السقوط على الوجه فقوله: "تعسا لهم" أي تعسوا تعسا و هو ما يتلوه دعاء عليهم
نظير قوله: "قاتلهم الله أنى يؤفكون": التوبة: 30، "قتل الإنسان ما أكفره":
عبس: 17، و يمكن أن يكون إخبارا عن تعسهم و بطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية
فإن الإنسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطا على وجهه.
قوله تعالى: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم" المراد بما أنزل
الله هو القرآن و الشرائع و الأحكام التي أنزلها الله تعالى على نبيه (صلى الله
عليه وآله وسلم) و أمر بإطاعتها و الانقياد لها فكرهوها و استكبروا عن اتباعها.
و الآية تعليل مضمون الآية السابقة و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر
الله عليهم و للكافرين أمثالها" التدمير الإهلاك، يقال: دمره الله أي أهلكه، و
يقال: دمر الله عليه أي أهلك ما يخصه من نفس و أهل و دار و عقار فدمر عليه أبلغ
من دمره كما قيل، و ضمير "أمثالها" للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق
الكلام.
و المراد بالكافرين الكافرون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المعنى: و
للكافرين بك يا محمد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة و إنما أوعدوا بأمثال
العاقبة أو العقوبة و لا يحل بهم إلا مثل واحد لأنهم في معرض عقوبات كثيرة
دنيوية و أخروية و إن كان لا يحل بهم إلا بعضها، و يمكن أن يراد بالكافرين مطلق
الكافرين، و الجملة من باب ضرب القاعدة.
قوله تعالى: "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا و أن الكافرين لا مولى لهم"
الإشارة بذلك إلى ما تقدم من نصر المؤمنين و مقت الكافرين و سوء عاقبتهم، و لا
يصغى إلى ما قيل: إنه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الأمم السالفة لهؤلاء، و
كذا ما قيل: إنه إشارة إلى نصر المؤمنين، و ذلك لأن الآية متعرضة لحال
الطائفتين: المؤمنين و الكفار جميعا.
و المولى كأنه مصدر ميمي أريد به المعنى الوصفي فهو بمعنى الولي و لذلك يطلق
على سيد العبد و مالكه لأن له ولاية التصرف في أمور عبده، و يطلق على الناصر
لأنه يلي التصرف في أمر منصورة بالتقوية و التأييد و الله سبحانه مولى لأنه
المالك الذي يلي أمور خلقه في صراط التكوين و يدبرها كيف يشاء، قال تعالى: "ما
لكم من دونه من ولي و لا شفيع": الم السجدة: 4، و قال: "و ردوا إلى الله مولاهم
الحق": يونس: 30، و هو تعالى مولى لأنه يلي تدبير أمور عباده في صراط السعادة
فيهديهم إلى سعادتهم و الجنة و يوفقهم للصالحات و ينصرهم على أعدائهم، و
المولوية بهذا المعنى الثانية تختص بالمؤمنين، لأنهم هم الداخلون في حظيرة
العبودية المتبعون لما يريده منهم ربهم دون الكفار.
و للمؤمنين مولى و ولي هو الله سبحانه كما قال: "ذلك بأن الله مولى الذين
آمنوا"، و قال: "الله ولي الذين آمنوا": البقرة: 257، و أما الكفار فقد اتخذوا
الأصنام أو أرباب الأصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء
على مزعمتهم بنوع من التهكم: "و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت": البقرة: 257، و
نفي ولايتهم بالبناء على حقيقة الأمر فقال: "و أن الكافرين لا مولى لهم" ثم نفى
ولايتهم مطلقا تكوينا و تشريعا مطلقا فقال: "أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو
الولي": الشورى: 9، و قال: "إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم": النجم:
23.
فمعنى الآية: أن نصره تعالى للمؤمنين و تثبيته أقدامهم و خذلانه الكفار و
إضلاله أعمالهم و عقوبته لهم إنما ذلك بسبب أنه تعالى مولى المؤمنين و وليهم، و
أن الكفار لا مولى لهم فينصرهم و يهدي أعمالهم و ينجيهم من عقوبته.
و قد تبين بما تقدم ضعف ما قيل: إن المولى في الآية بمعنى الناصر دون المالك و
إلا كان منافيا لقوله تعالى: "و ردوا إلى الله مولاهم الحق": يونس: 30، و وجه
الضعف ظاهر.
قوله تعالى: "إن الله يدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات تجري من تحتها
الأنهار و الذين كفروا يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام و النار مثوى لهم"
مقايسة بين الفريقين و بيان أثر ولاية الله للمؤمنين و عدم ولايته للكفار من
حيث العاقبة و الآخرة و هي أن المؤمنين يدخلون الجنة و الكفار يقيمون في النار.
و قد أشير في الكلام إلى منشأ ما ذكر من الأثر حيث وصف كلا من الفريقين بما
يناسب مآل حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات"
و إلى صفة الكفار بقوله: "يتمتعون و يأكلون كما تأكل الأنعام" فأفاد الوصفان
بما بينهما من المقابلة أن المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق حيث
آمنوا بالله و عملوا الأعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد و قاموا بوظيفة
الإنسانية، و أما الكفار فلا عناية لهم بإصابة الحق و لا تعلق لقلوبهم بوظائف
الإنسانية، و إنما همهم بطنهم و فرجهم يتمتعون في حياتهم الدنيا القصيرة و
يأكلون كما تأكل الأنعام لا منية لهم إلا ذلك و لا غاية لهم وراءه.
فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكا يريده منهم ربهم و يهديهم
إليه و لذلك يدخلهم في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار، و أولئك أي الكفار
ما لهم من ولي و إنما وكلوا إلى أنفسهم و لذلك كان مثواهم و مقامهم النار.
و إنما نسب دخول المؤمنين الجنات إلى الله نفسه دون إقامة الكفار في النار قضاء
لحق الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصة بأوليائه، و أما المنسلخون من
ولايته فلا يبالي في أي واد هلكوا.
قوله تعالى: "و كأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا
ناصر لهم" المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد: "أهلكناهم" إلخ، و القرية
التي أخرجته (صلى الله عليه وآله وسلم) هي مكة.
و في الآية تقوية لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تهديد لأهل مكة و
تحقير لأمرهم إن الله أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم و لا ناصر لهم
ينصرهم.
قوله تعالى: "أ فمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله و اتبعوا أهواءهم"
السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفار يدل على أن المراد بمن كان
على بينة من ربه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بينة من ربهم كونهم على دلالة
بينة من ربهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه و هي الحجة البرهانية فهم إنما
يتبعون الحجة القاطعة على ما هو الحري بالإنسان الذي من شأنه أن يستعمل العقل و
يتبع الحق.
و أما الذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيئة التي زينها لهم الشيطان و تعلقت
بها أهواؤهم و عملوا السيئات، فكم بين الفريقين من فرق.
قوله تعالى: "مثل الجنة التي وعد المتقون" إلى آخر الآية يفرق بين الفريقين
ببيان مآل أمرهما و هو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: "إن الله يدخل الذين
آمنوا" إلخ من الفرق بينهما فهذه الآية في الحقيقة تفصيل تلك الآية.
فقوله: "مثل الجنة التي وعد المتقون" المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة
الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، و ربما حمل المثل على معناه
المعروف و استفيد منه أن الجنة أرفع و أعلى من أن يحيط بها الوصف و يحدها اللفظ
و إنما تقرب إلى الأذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى:
"فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين": السجدة: 17.
و قد بدل قوله في الآية السابقة: "الذين آمنوا و عملوا الصالحات" في هذه الآية
من قوله: "المتقون" تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الإيمان به و
عمل الصالحات من الأعمال.
و قوله: "فيها أنهار من ماء غير آسن" أي غير متغير بطول المقام، و قوله: "و
أنهار من لبن لم يتغير طعمه" كما في ألبان الدنيا، و قوله: "و أنهار من خمر لذة
للشاربين" أي لذيذة للشاربين، و اللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، و إما
مصدر وصفت به الخمر مبالغة، و إما بتقدير مضاف أي ذات لذة، و قوله: "و أنهار من
عسل مصفى" أي خالص من الشمع و الرغوة و القذى و سائر ما في عسل الدنيا من الأذى
و العيوب، و قوله: "و لهم فيها من كل الثمرات" جمع للتعميم.
و قوله: "و مغفرة من ربهم" ينمحي بها عنهم كل ذنب و سيئة فلا تتكدر عيشتهم
بمكدر و لا ينتغص بمنغص، و في التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان الرحمة
و شمول الحنان و الرأفة الإلهية.
و قوله: "كمن هو خالد في النار" قياس محذوف أحد طرفيه أي أ من يدخل الجنة التي
هذا مثلها كمن هو خالد في النار و شرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع
أمعاءهم و ما في جوفهم من الأحشاء إذا سقوه، و إنما يسقونه و هم مكرهون كما في
قوله: "و سقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم" و قيل: قوله: "كمن هو خالد" إلخ، بيان
لقوله في الآية السابقة: "كمن زين" إلخ، و هو كما ترى.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله": قال أبو جعفر
(عليه السلام): كرهوا ما أنزل الله في حق علي (عليه السلام).
و فيه،: في قوله تعالى: "كمن زين له سوء عمله" قيل: هم المنافقون: و هو المروي
عن أبي جعفر (عليه السلام).
أقول: و يحتمل أن تكون الروايتان من الجري.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "كمن هو خالد في النار - و سقوا ماء حميما
فقطع أمعاءهم" قال: ليس من هو في هذه الجنة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما
أن ليس عدو الله كوليه.
47 سورة محمد - 16 - 32
وَمِنهُم مّن يَستَمِعُ إِلَيْك حَتى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِك قَالُوا
لِلّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَا ذَا قَالَ ءَانِفاً أُولَئك الّذِينَ طبَعَ
اللّهُ عَلى قُلُوبهِمْ وَ اتّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَ الّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَ ءَاتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنظرُونَ
إِلا الساعَةَ أَن تَأْتِيهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشرَاطهَا فَأَنى لهَُمْ
إِذَا جَاءَتهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلا اللّهُ وَ
استَغْفِرْ لِذَنبِك وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ
مُتَقَلّبَكُمْ وَ مَثْوَاشْ (19) وَ يَقُولُ الّذِينَ ءَامَنُوا لَوْ لا
نُزِّلَت سورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَت سورَةٌ محْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا
الْقِتَالُ رَأَيْت الّذِينَ فى قُلُوبهِم مّرَضٌ يَنظرُونَ إِلَيْك نَظرَ
الْمَغْشىِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَ قَوْلٌ
مّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صدَقُوا اللّهَ لَكانَ خَيراً لّهُمْ
(21) فَهَلْ عَسيْتُمْ إِن تَوَلّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فى الأَرْضِ وَ
تُقَطعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئك الّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ فَأَصمّهُمْ
وَ أَعْمَى أَبْصرَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلى
قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنّ الّذِينَ ارْتَدّوا عَلى أَدْبَرِهِم مِّن
بَعْدِ مَا تَبَينَ لَهُمُ الْهُدَى الشيْطنُ سوّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ
(25) ذَلِك بِأَنّهُمْ قَالُوا لِلّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزّلَ اللّهُ
سنُطِيعُكمْ فى بَعْضِ الأَمْرِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِسرَارَهُمْ (26) فَكَيْف
إِذَا تَوَفّتْهُمُ الْمَلَئكَةُ يَضرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبَرَهُمْ (27)
ذَلِك بِأَنّهُمُ اتّبَعُوا مَا أَسخَط اللّهَ وَ كرِهُوا رِضوَنَهُ فَأَحْبَط
أَعْمَلَهُمْ (28) أَمْ حَسِب الّذِينَ فى قُلُوبِهِم مّرَضٌ أَن لّن يخْرِجَ
اللّهُ أَضغَنهُمْ (29) وَ لَوْ نَشاءُ لأَرَيْنَكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم
بِسِيمَهُمْ وَ لَتَعْرِفَنّهُمْ فى لَحْنِ الْقَوْلِ وَ اللّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَلَكمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنّكُمْ حَتى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكمْ وَ
الصبرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبَارَكمْ (31) إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا وَ صدّوا عَن
سبِيلِ اللّهِ وَ شاقّوا الرّسولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَينَ لهَُمُ الهُْدَى لَن
يَضرّوا اللّهَ شيْئاً وَ سيُحْبِط أَعْمَلَهُمْ (32)
بيان
الآيات جارية على السياق السابق، و فيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض و
المنافقين و من ارتد بعد إيمانه.
قوله تعالى: "و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا
العلم ما ذا قال آنفا" إلخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا
فيه، و معناه الساعة التي قبيل ساعتك، و قيل: معناه هذه الساعة و هو على أي حال
مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.
و قوله: "و منهم من يستمع إليك" الضمير للذين كفروا، و المراد باستماعهم إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن و ما يبين لهم
من أصول المعارف و شرائع الدين.
و قوله: "حتى إذا خرجوا من عندك" الضمير للموصول و جمع الضمير باعتبار المعنى
كما أن إفراده في "يستمع" باعتبار اللفظ.
و قوله: "قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا" المراد بالذين أوتوا العلم
العلماء بالله من الصحابة، و الضمير في "ما ذا قال" للنبي (صلى الله عليه وآله
وسلم).
و الاستفهام في قولهم: "ما ذا قال آنفا" قيل: للاستعلام حقيقة لأن استغراقهم في
الكبر و الغرور و اتباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال
تعالى: "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا": النساء: 78، و قيل:
للاستهزاء، و قيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالأباطيل لا يرجع إلى معنى
محصل، و لكل من المعاني الثلاثة وجه.
و قوله: "أولئك الذين طبع الله على قلوبهم" تعريف لهم، و قوله: "و اتبعوا
أهواءهم" تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، و يتحصل منه أن اتباع الأهواء
أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة
الأصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية و الحقائق الإلهية.
قوله تعالى: "و الذين اهتدوا زادهم هدى و آتاهم تقواهم" المقابلة الظاهرة بين
الآية و بين الآية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم
للطبع على القلب و هو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة و اتباع الحق، و
زيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، و قد تقدم أن الهدى و
الإيمان ذو مراتب مختلفة، و المراد بالتقوى ما يقابل اتباع الأهواء و هو الورع
عن محارم الله و التجنب عن ارتكاب المعاصي.
و بذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم و إيتاء التقوى
إلى تكميلهم في ناحية العمل، و يظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع
إلى فقدانهم كمال العلم و اتباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح و
حرمانهم منه و هذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة
إلى الطبع على القلوب.
قوله تعالى: "فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها" إلخ،
النظر هو الانتظار، و الأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، و الأصل في معناه الشرط
بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشيء لأن تحققه علامة تحقق الشيء فأشراط الساعة
علاماتها الدالة عليها.
و سياق الآية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد
بذلك عاقبتهم، و إما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها و أشرفوا عليها
تذكروا و آمنوا و اتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو
بموعظة أو عبرة، و أما انتظارهم مجيء الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا
فإنها تجيء بغتة و لا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى و إذا وقعت لم
ينفعهم الذكرى لأن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: "يومئذ يتذكر الإنسان
و أنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي": الفجر: 24.
مضافا إلى أن أشراطها و علاماتها قد جاءت و تحققت، و لعل المراد بأشراطها خلق
الإنسان و انقسام نوعه إلى صلحاء و مفسدين و متقين و فجار المستدعي للحكم الفصل
بينهم و نزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة و إتيان الساعة، و
قيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو خاتم
الأنبياء و انشقاق القمر و نزول القرآن و هو آخر الكتب السماوية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى و هي - كما ترى - حجة برهانية في عين
أنها مسوقة سوق التهكم.
و عليه فقوله: "بغتة" حال من الإتيان جيء به لبيان الواقع و ليتفرع عليه قوله
الآتي: "فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم" و ليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما
ينتظرون إتيانها بغتة، و لدفع هذا التوهم قيل: "إلا الساعة أن تأتيهم بغتة" و
لم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.
و قوله: "فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم" أنى خبر مقدم و "ذكراهم" مبتدأ مؤخر و
"إذا جاءتهم" معترضة بينهما، و المعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم؟
أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه و إنما هو يوم
الجزاء.
و للقوم في معنى جمل الآية و معناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من
أرادها فليراجع كتبهم المفصلة.
قوله تعالى: "فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات"
إلخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين و شقاوة
الكفار كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء و شقاوة أولئك
فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على
هذا هو الأمر بالثبات على العلم.
و يمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الآيتين السابقتين أعني قوله: "و منهم من
يستمع إليك - إلى قوله - و آتاهم تقواهم" من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين
و يتركهم و ذنوبهم و يعكس الأمر في الذين اهتدوا إلى توحيده و الإيمان به فكأنه
قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الإله و اطلب مغفرة ذنبك و
مغفرة أمتك من المؤمنين بك و المؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه و
يحرمه التقوى بتركه و ذنوبه، و يؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: "و الله يعلم
متقلبكم و مثواكم".
فقوله: "فاعلم أنه لا إله إلا الله" معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك
أنه لا إله إلا الله، و قوله: "و استغفر لذنبك" تقدم الكلام في معنى الذنب
المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيأتي أيضا في تفسير أول سورة الفتح
إن شاء الله تعالى.
و قوله: "و للمؤمنين و المؤمنات" أمر بطلب المغفرة للأمة من المؤمنين و
المؤمنات و حاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار و لا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء و
لا يقابله بالاستجابة.
و قوله: "و الله يعلم متقلبكم و مثواكم" تعليل لما في صدر الآية: "فاعلم أنه"
إلخ، و الظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال إلى حال، و كذلك
المثوى بمعنى الاستقرار و السكون، و المراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير
و ثابت و حركة و سكون فاثبتوا على توحيده و اطلبوا مغفرته، و احذروا أن يطبع
على قلوبكم و يترككم و أهواءكم.
و قيل: المراد بالمتقلب و المثوى التصرف في الحياة الدنيا و الاستقرار في
الآخرة و قيل: المتقلب هو التقلب من الأصلاب إلى الأرحام و المثوى السكون في
الأرض.
و قيل: المتقلب التصرف في اليقظة و المثوى المنام، و قيل: المتقلب التصرف في
المعايش و المكاسب و المثوى الاستقرار في المنازل، و ما قدمناه أظهر و أعم.
قوله تعالى: "و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة" إلى آخر الآية، لو لا
تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم
بتكاليف جديدة يمتثلونها، و المراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه
فيها، و المراد بذكر القتال الأمر به.
و المراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الإيمان من المؤمنين دون المنافقين فإن
الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، و لا يعم
الذين آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى
فالآية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين: "أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا
أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم
يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية": النساء: 77.
و المغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره و غطاه و غشي
على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، و نظر المغشي عليه من
الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.
و قوله: "فأولى لهم" لعله خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: أولى لهم ذلك أي حري
بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، و عن الأصمعي أن قولهم: "أولى لك"
كلمة تهديد معناه وليك و قارنك ما تكره، و الآية نظيرة قوله تعالى: "أولى لك
فأولى ثم أولى لك فأولى": القيامة: 35.
و معنى الآية: و يقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة لا
تشابه فيها و أمروا فيها بالقتال و الجهاد رأيت الضعفاء الإيمان منهم ينظرون
إليك من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.
قوله تعالى: "طاعة و قول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم"
عزم الأمر أي جد و تنجز.
و قوله: "طاعة و قول معروف" كأنه خبر لمبتدإ محذوف و التقدير أمرنا - أو أمرهم
و شأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها و قول معروف غير منكر قالوا لنا و
هو إظهار السمع و الطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: "آمن الرسول بما أنزل
إليه من ربه و المؤمنون - إلى أن قال - و قالوا سمعنا و أطعنا": البقرة: 285.
و على هذا يتصل قوله بعده: "فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم" بما
قبله اتصالا بينا، و المعنى: أن الأمر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا
و أطعنا فلو أنهم حين عزم الأمر صدقوا الله فيما قالوا و أطاعوه فيما يأمر به و
منه أمر القتال لكان خيرا لهم.
و يحتمل أن يكون قوله: "طاعة" إلخ، خبرا لضمير عائد إلى القتال المذكور و
التقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم و قول معروف فلو أنهم حين عزم
الأمر صدقوا الله في إيمانهم و أطاعوه به لكان خيرا لهم.
أما كونه طاعة منهم فظاهر، و أما كونه قولا معروفا فلأن إيجاب القتال و الأمر
بالدفاع عن المجتمع الصالح لإبطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل و العقلاء.
و قيل: إن قوله: "طاعة" إلخ، مبتدأ الخبر و التقدير طاعة و قول معروف خير لهم و
أمثل، و قيل: مبتدأ خبره "فأولى لهم" في الآية السابقة فالآية من تمام الآية
السابقة، و هو قول ردي، و أردأ منه ما قيل: إن "طاعة" إلخ، صفة لسورة في قوله:
"فإذا أنزلت سورة" و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: "فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم" الخطاب
للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، و قد التفت إليهم
بالخطاب لزيادة التوبيخ و التقريع، و الاستفهام للتقرير، و التولي الإعراض و
المراد به الإعراض عن كتاب الله و العمل بما فيه و العود إلى الشرك و رفض
الدين.
و المعنى: فهل يتوقع منكم أن أعرضتم عن كتاب الله و العمل بما فيه و منه الجهاد
في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم بسفك الدماء و نهب الأموال و
هتك الأعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك.
و قد ظهر بذلك أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: "لكان خيرا
لهم" و لذا صدر بالفاء.
و قيل: المراد بالتولي التصدي للحكم و الولاية، و المعنى: هل يتوقع منكم إن
جعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام و أخذ
الرشاء و الجور في الحكم هذا، و هو معنى بعيد عن السياق.
قوله تعالى: "أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم" الإشارة إلى
المفسدين في الأرض المقطعين للأرحام و قد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم و أذهب
بسمعهم فلا يسمعون القول الحق و أعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا
تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور.
قوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" الاستفهام للتوبيخ و
ضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، و تنكير "قلوب" كما قيل
للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء و أمثالهم.
قال في مجمع البيان،: و في هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شيء
من ظاهر القرآن إلا بخبر و سمع.
انتهي.
قوله تعالى: "إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان
سول لهم و أملى لهم" الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال
و هو استعارة أريد بها الترك بعد الأخذ، و التسويل تزيين ما تحرض النفس عليه و
تصوير القبيح لها في صورة الحسن، و المراد بالإملاء الأمداد أو تطويل الآمال.
قوله تعالى: "ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر و
الله يعلم أسرارهم" الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان و إملائه و بالجملة تسلطه
عليهم، و المراد "بالذين كرهوا ما نزل الله" هم الذين كفروا كما تقدم في قوله:
"و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله": الآية:
9 من السورة.
و قوله: "سنطيعكم في بعض الأمر" مقول قولهم و وعد منهم للكفار بالطاعة و هو كما
يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر
بطاعة من يريد طاعته في جميع الأمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة
فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الأمر و فيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك و
يقعد متربصا للدوائر.
و يستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه
تعالى عنهم و وعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، و يؤيد ذلك قوله تعالى بعد:
"و الله يعلم أسرارهم".
و اختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل: هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر
نصرناكم، و قيل: هم اليهود أو اليهود و المنافقون قالوا ذلك للمشركين.
و يرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الآية المرتدون بعد إيمانهم و
اليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا.
و قيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: "أ لم تر إلى الذين
نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا
نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم": الحشر: 11.
و فيه أن الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم
النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلهم
قوم من المنافقين غيرهم.
قوله تعالى: "فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم" متفرع على ما
قبله، و المعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاءون
فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة و هم يضربون وجوههم و أدبارهم.
قوله تعالى: "ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم"
الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس و تسويلات الشيطان المستتبعة
للمعاصي و الذنوب الموبقة كما قال تعالى: "و اتبعوا أهواءهم"، و قال: "الشيطان
سول لهم و أملى لهم".
و السخط و الرضا من صفاته تعالى الفعلية و المراد بهما العقاب و الثواب.
و الإشارة في قوله: "ذلك" إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم
عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله و كراهتهم
رضوانه، و إذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب.
قوله تعالى: "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم" قال الراغب:
الضغن - بكسر الضاد - و الضغن - بضمها - الحقد الشديد و جمعه أضغان انتهى.
و المراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان و لعلهم الذين آمنوا أولا على
ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق و ارتدوا بعد الإيمان، فالتدبر الدقيق في
تاريخ صدر الإسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا منافقين من أول يوم آمنوا
إلى آخر عمرهم، و على هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادىء أمرهم.
و المعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله و لن
يظهر أحقادهم للدين و أهله.
قوله تعالى: "و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحن القول و
الله يعلم أعمالكم" السيماء العلامة، و المعنى: و لو نشاء لأريناك أولئك المرضى
القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.
و قوله: "و لتعرفنهم في لحن القول" قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه
الجاري عليه: إما بإزالة الإعراب أو التصحيف و هو المذموم، و ذلك أكثر
استعمالا، و أما بإزالته عن التصريح و صرفه إلى تعريض و فحوى، و هو محمود عند
أكثر الأدباء من حيث البلاغة.
انتهي.
فالمعنى: و لتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية و التعريض، و في
جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية.
و قوله: "و الله يعلم أعمالكم" أي يعلم حقائقها و أنها من أي القصود و النيات
صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم و غيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين و وعيد
لغيرهم.
قوله تعالى: "و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلوا أخباركم"
البلاء و الابتلاء الامتحان و الاختبار، و الآية بيان علة كتابة القتال على
المؤمنين، و هو الاختبار الإلهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على
مشاق التكاليف الإلهية.
و قوله: "و نبلوا أخباركم" كان المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنها تصدر عن
العاملين فيكون إخبارا لهم يخبر بها عنهم، و اختبار الأعمال يمتاز به صالحها من
طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة و قد تقدم فيما
تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد
بذلك، و بنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات.
قوله تعالى: "إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما
تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم" المراد بهؤلاء رؤساء
الضلال من كفار مكة و من يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله و شاقوا
الرسول و عادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.
و قوله: "لن يضروا الله شيئا" لأن كيد الإنسان و مكره لا يرجع إلا إلى نفسه و
لا يضر إلا إياه و قوله: "و سيحبط أعمالهم" أي مساعيهم لهدم أساس الدين و ما
عملوه لإطفاء نور الله، و قيل: المراد إحباط أعمالهم و إبطالها فلا يثابون في
الآخرة على شيء من أعمالهم، و المعنى الأول أنسب للسياق لأن فيه تحريض المؤمنين
و تشجيعهم على قتال المشركين و تطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات
التالية.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "و منهم من يستمع إليك" إلخ:، عن الأصبغ بن نباتة
عن علي (عليه السلام) قال: إنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ما ذا قال آنفا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي عن أنس قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أشار بالسبابة و
الوسطى:. أقول: و روي هذا اللفظ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق أخرى عن
أبي هريرة و سهل بن مسعود.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و ابن ماجة و ابن مردويه عن أبي
هريرة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما بارزا للناس فأتاه
رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل و
لكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، و إذا كانت
الحفاة العراة رعاء الشاء رءوس الناس فذاك من أشراطها، و إذا تطاول رعاء الغنم
في البنيان فذاك من أشراطها.
و في العلل، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام و قد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة
فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
أقول: و لعل المراد به غير ظاهرة، و الأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة و
أهل السنة فوق حد الإحصاء، و قد مرت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواية حمران عن الصادق (عليه السلام) و
هما روايتان جامعتان في الباب.
و في المجمع، قد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب
اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في
اليوم مائة مرة.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و مسلم و أبو داود و النسائي و
ابن حبان و ابن مردويه عن الأغر المزني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم): إنه ليغان على قلبي، و إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.
و فيه،: في قوله تعالى: "فهل عسيتم إن توليتم" الآية: أخرج البيهقي عن جابر بن
عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرحم معلقة بالعرش
لها لسان ذلق تقول: اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني.
أقول: و الروايات فيها و في صلتها و قطعها كثيرة، و قد مر شطر منها في تفسير
أول سورة النساء.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "أ فلا يتدبرون القرآن" الآية أ فلا يتدبرون
القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق: عن أبي عبد الله و أبي الحسن (عليه السلام).
و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد
(عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عز و جل هل له رضى و
سخط؟ قال: نعم و ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين و لكن غضب الله عقابه و رضاه
ثوابه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و لتعرفنهم في لحن القول" الآية:، عن أبي سعيد
الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال: كنا نعرف المنافقين على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببغضهم علي بن أبي طالب.: قال في المجمع،:
و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
و قال: و عن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا
رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين
على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ببغض علي بن أبي طالب.
و في أمالي الطوسي، بإسناده إلى علي (عليه السلام) أنه قال: قلت أربعا أنزل
الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر،
فأنزل الله: "و لتعرفنهم في لحن القول".
|