قرآن، حديث، دعا |
زندگينامه |
کتابخانه |
احكام و فتاوا |
دروس |
معرفى و اخبار دفاتر |
ديدارها و ملاقات ها |
پيامها |
فعاليتهاى فرهنگى |
کتابخانه تخصصى فقهى |
نگارخانه |
اخبار |
مناسبتها |
صفحه ويژه |
|
56 سورة الواقعة - 1 - 10
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْس
لِوَقْعَتهَا كاذِبَةٌ (2) خَافِضةٌ رّافِعَةٌ (3) إِذَا رُجّتِ الأَرْض رَجّا
(4) وَ بُستِ الْجِبَالُ بَسّا (5) فَكانَت هَبَاءً مّنبَثّا (6) وَ كُنتُمْ
أَزْوَجاً ثَلَثَةً (7) فَأَصحَب الْمَيْمَنَةِ مَا أَصحَب الْمَيْمَنَةِ (8)
وَ أَصحَب المَْشئَمَةِ مَا أَصحَب المَْشئَمَةِ (9) وَ السبِقُونَ السبِقُونَ
(10)
بيان
تصف السورة القيامة الكبرى التي فيها بعث الناس و حسابهم و جزاؤهم فتذكر أولا
شيئا من أهوالها مما يقرب من الإنسان و الأرض التي يسكنها فتذكر تقليبها
للأوضاع و الأحوال بالخفض و الرفع و ارتجاج الأرض و انبثاث الجبال و تقسم الناس
إلى ثلاثة أزواج إجمالا ثم تذكر ما ينتهي إليه حال كل من الأزواج السابقين و
أصحاب اليمين و أصحاب الشمال.
ثم تحتج على أصحاب الشمال المنكرين لربوبيته و للبعث المكذبين بالقرآن الداعي
إلى التوحيد و الإيمان بالبعث.
ثم تختم الكلام بذكر الاحتضار بنزول الموت و انقسام الناس إلى ثلاثة أزواج.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: "إذا وقعت الواقعة" وقوع الحادثة هو حدوثها، و الواقعة صفة توصف
بها كل حادثة، و المراد بها هاهنا واقعة القيامة و قد أطلقت إطلاق الأعلام
كأنها لا تحتاج إلى موصوف مقدر و لذا قيل: إنها من أسماء القيامة في القرآن
كالحاقة و القارعة و الغاشية.
و الجملة "إذا وقعت الواقعة" مضمنة معنى الشرط و لم يذكر جزاء الشرط إعظاما له
و تفخيما لأمره و هو على أي حال أمر مفهوم مما ستصفه السورة من حال الناس يوم
القيامة، و التقدير نحو من قولنا: فاز المؤمنون و خسر الكافرون.
قوله تعالى: "ليس لوقعتها كاذبة" قال في المجمع،: الكاذبة مصدر كالعافية و
العاقبة.
انتهي.
و عليه فالمعنى: ليس في وقعتها و تحققها كذب، و قيل: كاذبة صفة محذوفة الموصوف
و التقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة.
قوله تعالى: "خافضة رافعة" خبران مبتدؤهما الضمير الراجع إلى الواقعة، و الخفض
خلاف الرفع و كونها خافضة رافعة كناية عن تقليبها نظام الدنيا المشهود فتظهر
السرائر و هي محجوبة اليوم و تحجب و تستر آثار الأسباب و روابطها و هي ظاهرة
اليوم و تذل الأعزة من أهل الكفر و الفسق و تعز المتقين.
قوله تعالى: "إذا رجت الأرض رجا" الرج تحريك الشيء تحريكا شديدا إشارة إلى
زلزلة الساعة التي يعظمها الله سبحانه في قوله: "إن زلزلة الساعة شيء عظيم":
الحج: 1، و قد عظمها في هذه الآية حيث عبر عنها برج الأرض ثم أكد شدتها بتنكير
قوله: "رجا" أي رجا لا يوصف شدته.
و الجملة بدل أو بيان لقوله: "إذا وقعت الواقعة".
قوله تعالى: "و بست الجبال بسا فكانت هباء منبثا" عطف على رجت و البس الفت و هو
عود الجسم بدق و نحوه أجزاء صغارا متلاشية كالدقيق، و قيل: البس هو التسيير فهو
في معنى قوله: "و سيرت الجبال": النبأ: 20.
و قوله: "فكانت هباء منبثا" الهباء قيل: هو الغبار و قيل: هو الذرة من الغبار
الظاهر في شعاع الشمس الداخل من كوة، و الانبثات التفرق، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "و كنتم أزواجا ثلاثة" الزوج بمعنى الصنف و الخطاب لعامة البشر.
قوله تعالى: "فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة" متفرع على ما قبلها تفرع البيان
على المبين، فهذه الآية و الآيتان بعدها بيان للأزواج الثلاثة.
و الميمنة من اليمن مقابل الشؤم، فأصحاب الميمنة أصحاب السعادة و اليمن مقابل
أصحاب المشأمة أصحاب الشقاء و الشؤم، و ما قيل: إن المراد بالميمنة اليمين، أي
ناحية اليمين لأنهم يؤتون كتابهم بيمينهم و غيرهم يؤتونه بشمالهم يرده مقابلة
أصحاب الميمنة بأصحاب المشأمة، و لو كان كما قيل لقيل أصحاب الشمال و هو ظاهر.
و ما في قوله: "ما أصحاب الميمنة" استفهامية و مبتدأ خبره "أصحاب الميمنة"، و
المجموع خبر لقوله: "فأصحاب الميمنة" و في الاستفهام إعظام لأمرهم و تفخيم
لشأنهم.
قوله تعالى: "و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة" المشأمة مصدر كالشؤم مقابل
اليمين، و الميمنة و المشأمة السعادة و الشقاء.
قوله تعالى: "و السابقون السابقون" الذي يصلح أن يفسر به السابقون الأول قوله
تعالى: "فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله": فاطر:
32، و قوله: "و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات": البقرة: 148، و قوله:
"أولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون": المؤمنون: 61.
فالمراد بالسابقين - الأول - في الآية السابقون بالخيرات من الأعمال، و إذا
سبقوا بالخيرات سبقوا إلى المغفرة و الرحمة التي بإزائها كما قال تعالى:
"سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة": الحديد: 21، فالسابقون بالخيرات هم السابقون
بالرحمة و هو قوله: "و السابقون السابقون".
و قيل: المراد بالسابقون الثاني هو الأول على حد قوله: أنا أبو النجم و شعري
شعري.
و قوله: "و السابقون السابقون" مبتدأ و خبر، و قيل: الأول مبتدأ و الثاني
تأكيد، و الخبر قوله: "أولئك المقربون".
و لهم في تفسير السابقين أقوال أخر فقيل: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله
إليه، و قيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة من غير توان، و قيل: هم
الأنبياء (عليهم السلام) لأنهم مقدموا أهل الأديان، و قيل: هم مؤمن آل فرعون و
حبيب النجار المذكور في سورة يس و علي (عليه السلام) السابق إلى الإيمان بالنبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضلهم و قيل: هم السابقون إلى الهجرة، و قيل:
هم السابقون إلى الصلوات الخمس، و قيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، و قيل: هم
السابقون إلى الجهاد، و قيل غير ذلك.
و القولان الأولان راجعان إلى ما تقدم من المعنى، و الثالث و الرابع ينبغي أن
يحملا على التمثيل، و الباقي كما ترى إلا أن يحمل على نحو من التمثيل.
بحث روائي
في الخصال، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: من لم
يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و الله ما الدنيا و الآخرة إلا
ككفتي ميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر ثم تلا قوله عز و جل: "إذا وقعت الواقعة"
يعني القيامة "ليس لوقعتها كاذبة خافضة" خفضت و الله بأعداء الله في النار
"رافعة" رفعت و الله أولياء الله إلى الجنة.
و في تفسير القمي،: "إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة" قال: القيامة هي حق،
و قوله: "خافضة" قال: بأعداء الله "رافعة" لأولياء الله "إذا رجت الأرض رجا"
قال: يدق بعضها على بعض "و بست الجبال بسا" قال: قلعت الجبال قلعا "فكانت هباء
منبثا" قال: الهباء الذي في الكوة من شعاع الشمس. و قوله: "و كنتم أزواجا
ثلاثة" قال: يوم القيامة "فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة - و أصحاب المشأمة
ما أصحاب المشأمة - و السابقون السابقون" الذين سبقوا إلى الجنة.
أقول: قوله: الذين سبقوا إلى الجنة تفسير للسابقون الثاني.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن علي بن أبي
طالب قال: الهباء المنبث رهج 1 الذرات و الهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه
في شعاع الكوة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: "و السابقون السابقون" قال: نزلت
في حزقيل مؤمن آل فرعون، و حبيب النجار الذي ذكر في يس و علي بن أبي طالب، كل
رجل منهم سابق أمته و علي أفضلهم سبقا.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السابقون أربعة: ابن آدم المقتول،
و سابق أمة موسى و هو مؤمن آل فرعون، و سابق أمة عيسى و هو حبيب و السابق في
أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام):.
أقول: و روي هذا المعنى في روضة الواعظين، عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى ابن عباس قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) عن قول الله عز و جل: "و السابقون السابقون - أولئك المقربون في
جنات النعيم" فقال: قال لي جبرئيل: ذلك علي و شيعته، هم السابقون إلى الجنة
المقربون من الله بكرامته لهم.
و في كمال الدين، بإسناده إلى خيثمة الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث:
و نحن السابقون السابقون و نحن الآخرون.
و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة
بإسناده عن علي (عليه السلام) قال: "و السابقون السابقون أولئك المقربون" في
نزلت.
و في المجمع،: في الآية: و قيل: إلى الصلوات الخمس:. عن علي (عليه السلام).
أقول: الوجه حمل جميع هذه الأخبار على التمثيل كما تقدم.
56 سورة الواقعة - 11 - 56
أُولَئك الْمُقَرّبُونَ (11) فى جَنّتِ النّعِيمِ (12) ثُلّةٌ مِّنَ
الأَوّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِّنَ الاَخِرِينَ (14) عَلى سرُرٍ مّوْضونَةٍ
(15) مّتّكِئِينَ عَلَيهَا مُتَقَبِلِينَ (16) يَطوف عَلَيهِمْ وِلْدَنٌ
مخَلّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَ أَبَارِيقَ وَ كَأْسٍ مِّن مّعِينٍ (18) لا
يُصدّعُونَ عَنهَا وَ لا يُنزِفُونَ (19) وَ فَكِهَةٍ مِّمّا يَتَخَيرُونَ (20)
وَ لحَْمِ طيرٍ مِّمّا يَشتهُونَ (21) وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَلِ
اللّؤْلُو الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءَ بِمَا كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا
يَسمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25) إِلا قِيلاً سلَماً سلَماً
(26) وَ أَصحَب الْيَمِينِ مَا أَصحَب الْيَمِينِ (27) فى سِدْرٍ مخْضودٍ (28)
وَ طلْحٍ مّنضودٍ (29) وَ ظِلٍّ ممْدُودٍ (30) وَ مَاءٍ مّسكُوبٍ (31) وَ
فَكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطوعَةٍ وَ لا ممْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ
مّرْفُوعَةٍ (34) إِنّا أَنشأْنَهُنّ إِنشاءً (35) فجَعَلْنَهُنّ أَبْكاراً
(36) عُرُباً أَتْرَاباً (37) لأَصحَبِ الْيَمِينِ (38) ثُلّةٌ مِّنَ
الأَوّلِينَ (39) وَ ثُلّةٌ مِّنَ الاَخِرِينَ (40) وَ أَصحَب الشمَالِ مَا
أَصحَب الشمَالِ (41) فى سمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِّن يحْمُومٍ (43)
لا بَارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنهُمْ كانُوا قَبْلَ ذَلِك مُترَفِينَ (45) وَ
كانُوا يُصِرّونَ عَلى الحِْنثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ ئذَا
مِتْنَا وَ كُنّا تُرَاباً وَ عِظماً أَ ءِنّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ
ءَابَاؤُنَا الأَوّلُونَ (48) قُلْ إِنّ الأَوّلِينَ وَ الاَخِرِينَ (49)
لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقَتِ يَوْمٍ مّعْلُومٍ (50) ثمّ إِنّكُمْ أَيهَا
الضالّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لاَكلُونَ مِن شجَرٍ مِّن زَقّومٍ (52)
فَمَالِئُونَ مِنهَا الْبُطونَ (53) فَشرِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحَْمِيمِ (54)
فَشرِبُونَ شرْب الهِْيمِ (55) هَذَا نُزُلهُُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
بيان
الآيات تفصل ما ينتهي إليه حال كل واحد من الأزواج الثلاثة يوم القيامة.
قوله تعالى: "أولئك المقربون في جنات النعيم" الإشارة بأولئك إلى السابقين، و
"أولئك المقربون" مبتدأ و خبر، و الجملة استئنافية، و قيل: خبر لقوله: "و
السابقون"، و قيل: مبتدأ خبره في جنات النعيم، و أول الوجوه الثلاثة أوجه
بالنظر إلى سياق تقسيم الناس إلى ثلاثة أزواج أولا ثم تفصيل ما ينتهي إليه أمر
كل منهم.
و القرب و البعد معنيان متضائفان تتصف بهما الأجسام بحسب النسبة المكانية ثم
توسع فيهما فاعتبرا في غير المكان من الزمان و نحوه، يقال: الغد قريب من اليوم
و الأربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، و الخضرة أقرب إلى السواد من البياض ثم
توسع فيهما فاعتبرا في غير الأجسام و الجسمانيات من الحقائق.
و قد اعتبر القرب وصفا له تعالى بما له من الإحاطة بكل شيء، قال تعالى: "و إذا
سألك عبادي عني فإني قريب": البقرة: 186، و قال: "و نحن أقرب إليه منكم":
الواقعة: 85، و قال: "و نحن أقرب إليه من حبل الوريد": ق: 16.
و هذا المعنى أعني كونه تعالى أقرب إلى الشيء من نفسه أعجب ما يتصور من معنى
القرب، و قد أشرنا إلى تصويره في تفسير الآية.
و اعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية و لما كان أمرا اكتسابيا
يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه و هو وقوعه في
معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء و الحرمان، و الله سبحانه يقرب
العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى و
مغفرته و رحمته، قال تعالى: "كتاب مرقوم يشهده المقربون": المطففين: 21، و قال:
"و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون": المطففين: 28.
فالمقربون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: "و السابقون
السابقون أولئك المقربون" و لا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال: "لن يستنكف
المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون": النساء: 172، و لا تكمل
العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته و عمله لمولاه لا يريد و لا
يعمل إلا ما يريده و هذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله.
و قوله: "في جنات النعيم" أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم،
و يمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة:
"فأما إن كان من المقربين فروح و ريحان و جنة نعيم".
و قد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية و أن جنة النعيم هي جنة الولاية و هو
المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله.
قوله تعالى: "ثلة من الأولين و قليل من الآخرين" الثلة - على ما قيل - الجماعة
الكثيرة، و المراد بالأولين الأمم الماضون للأنبياء السابقين، و بالآخرين هذه
الأمة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الأولين و الآخرين
معا و منها ما سيأتي من قوله: "أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون قل إن
الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" فمعنى الآيتين: هم أي
المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضين و قليل من هذه الأمة.
و بما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالأولين و الآخرين أولوا هذه الأمة و
آخروها غير سديد.
قوله تعالى: "على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين" الوضن النسج و قيل: نسج
الدرع و إطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها.
و قوله: "متكئين عليها" حال من الضمير العائد إلى المقربين و الضمير للسرر، و
قوله: "متقابلين" حال آخر منه أو من ضمير "متكئين" و تقابلهم كناية عن بلوغ
أنسهم و حسن عشرتهم و صفاء باطنهم فلا ينظرون في قفاء صاحبهم و لا يعيبونه و لا
يغتابونه.
و المعنى: هم أي المقربون مستقرون على سرر منسوجة حال كونهم متكئين عليها حال
كونهم متقابلين.
قوله تعالى: "يطوف عليهم ولدان مخلدون" الولدان جمع ولد و هو الغلام، و طوافهم
عليهم كناية عن خدمتهم لهم، و المخلدون من الخلود بمعنى الدوام أي باقون أبدا
على هيئتهم من حداثة السن، و قيل من الخلد بفتحتين و هو القرط، و المراد أنهم
مقرطون بالخلد.
قوله تعالى: "بأكواب و أباريق و كأس من معين" الأكواب جمع كوب و هو الإناء الذي
لا عروة له و لا خرطوم، و الأباريق جمع إبريق و هو الإناء الذي له خرطوم، و
قيل: عروة و خرطوم معا، و الكأس معروف، قيل: أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا
إذا كانت ممتلئة، و المراد بالمعين الخمر المعين و هو الظاهر للبصر الجاري.
قوله تعالى: "لا يصدعون عنها و لا ينزفون" أي لا يأخذهم صداع لأجل خمار يحصل من
الخمر كما في خمر الدنيا و لا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها.
قوله تعالى: "و فاكهة مما يتخيرون و لحم طير مما يشتهون" الفاكهة و الطير
معطوفان على قوله: "بأكواب"، و المعنى: يطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يختارون
و بلحم طير مما يشتهون.
و لا يستشكل بما ورد في الروايات أن أهل الجنة إذا اشتهوا فاكهة تدلى إليهم غصن
شجرتها بما لها من ثمرة فيتناولونها، و إذا اشتهوا لحم طير وقع مقليا مشويا في
أيديهم فيأكلون منها ما أرادوا ثم حيي و طار.
و ذلك لأن لهم ما شاءوا و من فنون التنعم تناول ما يريدونه من أيدي خدمهم و
خاصة حال اجتماعهم و احتفالهم كما أن من فنونه تناولهم أنفسهم من غير توسيط
خدمهم فيه.
قوله تعالى: "و حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون" مبتدأ محذوف الخبر على ما يفيده
السياق و التقدير و لهم حور عين أو و فيها حور عين و الحور العين نساء الجنة و
قد تقدم معنى الحور العين في تفسير سورة الدخان.
و قوله: "كأمثال اللؤلؤ المكنون" أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف لم تمسه
الأيدي فهو منته في صفائه.
قوله تعالى: "جزاء بما كانوا يعملون" قيد لجميع ما تقدم و هو مفعول له، و
المعنى: فعلنا بهم ما فعلنا ليكون جزاء لهم قبال ما كانوا يستمرون عليه من
العمل الصالح.
قوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما" اللغو من القول ما لا فائدة فيه
و لا أثر يترتب عليه، و التأثيم النسبة إلى الإثم أي لا يخاطب أحدهم صاحبه بما
لا فائدة فيه و لا ينسبه إلى الإثم إذ لا إثم هناك، و فسر بعضهم التأثيم
بالكذب.
قوله تعالى: "إلا قيلا سلاما سلاما" استثناء منقطع من اللغو و التأثيم، و القيل
مصدر كالقول، و "سلاما" بيان لقوله: "قيلا" و تكراره يفيد تكرر الوقوع، و
المعنى: إلا قولا هو السلام بعد السلام.
قيل: و يمكن أن يكون "سلاما" مصدرا بمعنى الوصف و صفة لقيلا، و المعنى: إلا
قولا هو سالم.
قوله تعالى: "و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين" شروع في تفصيل ما انتهى إليه حال
أصحاب الميمنة و في تبديله من أصحاب اليمين يعلم أن أصحاب اليمين و أصحاب
الميمنة واحد و هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم.
و الجملة استفهامية مسوقة لتفخيم أمرهم و التعجيب من حالهم و هي خبر لقوله: "و
أصحاب اليمين".
قوله تعالى: "في سدر مخضود" السدر شجرة النبق، و المخضود ما قطع شوكه فلا شوك
له.
قوله تعالى: "و طلح منضود" الطلح شجر الموز، و قيل: ليس بالموز بل شجر له ظل
بارد رطب، و قيل: شجرة أم غيلان لها أنوار طيبة الرائحة، و نضد الأشياء جعل
بعضها على بعض، و المعنى: و في شجر موز منضود الثمر بعضه على بعض من أسفله إلى
أعلاه.
قوله تعالى: "و ظل ممدود و ماء مسكوب" قيل: الممدود من الظل هو الدائم الذي لا
تنسخه شمس فهو باق لا يزول، و الماء المسكوب هو المصبوب الجاري من غير انقطاع.
قوله تعالى: "و فاكهة كثيرة لا مقطوعة و لا ممنوعة" أي لا مقطوعة في بعض
الأزمان كانقطاع الفواكه في شتاء و نحوه في الدنيا، و لا ممنوعة التناول لمانع
من قبل أنفسهم كسأمة أو شبع أو من خارج كبعد المكان أو شوكة تمنع القطف أو غير
ذلك.
قوله تعالى: "و فرش مرفوعة" الفرش جمع فراش و هو البساط، و المرفوعة العالية، و
قيل: المراد بالفرش المرفوعة النساء المرتفعات قدرا في عقولهن و جمالهن و
كمالهن و المرأة تسمى فراشا، و يناسب هذا المعنى قوله بعد: "إنا أنشأناهن
إنشاء" إلخ.
قوله تعالى: "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا" أي إنا أوجدناهن
و أحدثناهن و ربيناهن أحداثا و تربية خاصة، و فيه تلويح إلى أنهن لا يختلف
حالهن بالشباب و الشيب و صباحة المنظر و خلافها، و قوله: "فجعلناهن أبكارا" أي
خلقناهن عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا.
و قوله: "عربا أترابا" العرب جمع عروب و هي المتحننة إلى زوجها أو الغنجة أو
العاشقة لزوجها، و الأتراب جمع ترب بالكسر فالسكون بمعنى المثل أي أنهن أمثال
أو أمثال في السن لأزواجهن.
قوله تعالى: "لأصحاب اليمين ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين" يتضح معناه بما
تقدم، و يستفاد من الآيات أن أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالأولين لكن
السابقين المقربين في الآخرين أقل جمعا منهم في الأولين.
قوله تعالى: "و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال" مبتدأ و خبر، و الاستفهام
للتعجيب و التهويل، و قد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم
الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين.
قوله تعالى: "في سموم و حميم و ظل من يحموم لا بارد و لا كريم" السموم - على ما
في الكشاف، - حر نار ينفذ في المسام، و الحميم الماء الشديد الحرارة، و التنوين
فيهما لتعظيم الأمر، و اليحموم الدخان الأسود، و قوله: "لا بارد و لا كريم"
الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، و ذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد
بالاستظلال به و يستراح فيه دون الدخان.
قوله تعالى: "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين" تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في
العذاب، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، و إتراف النعمة
الإنسان إبطارها و إطغاؤها له، و ذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون
الإنسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا و ما يطلبه منها سواء كانت كثيرة
أو قليلة.
فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى
المتوسعين في التنعم و ذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه و ليست النعمة هي المال
فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفه منه، و المعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر
لأنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم.
قوله تعالى: "و كانوا يصرون على الحنث العظيم" في المجمع،: الحنث نقض العهد
المؤكد بالحلف، و الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه.
انتهي.
و لعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية
ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم و أخذ منهم الميثاق عليها في عالم
الذر فيطيعون غير ربهم و هو الشرك المطلق.
و قيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة و الحنث العظيم الشرك بالله،
و قيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، و قيل: هو القسم على إنكار البعث
المشار إليه بقوله تعالى: "و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت":
النحل: 38، و لفظ الآية مطلق.
قوله تعالى: "و كانوا يقولون أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمبعوثون أ
و آباؤنا الأولون" قول منهم مبني على الاستبعاد و لذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم
ببعث آبائهم لأن الاستبعاد في موردهم آكد، و التقدير أ و آباؤنا الأولون
مبعوثون.
قوله تعالى: "قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" أمر منه
تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم
إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام و شراب و هما الزقوم و الحميم.
و محصل القول إن الأولين و الآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث
أنفسهم مستبعدا و بعث آبائهم الأولين أشد استبعادا و آكد - لمجموعون محشورين
إلى ميقات يوم معلوم.
و الميقات ما وقت به الشيء و هو وقته المعين، و المراد بيوم معلوم يوم القيامة
المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية.
قوله تعالى: "ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون
منها البطون" من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرهم عما ينتهي
إليه حالهم يوم القيامة و يعيشون به من طعام و شراب.
و في خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم و خسرانهم يوم البعث و هو
ضلالهم عن طريق الحق و استقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم و إصرارهم
على الحنث، و لو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا و لا
يهلكوا.
و "من" في قوله: "من شجر" للابتداء، و في قوله: "من زقوم" بيانية و يحتمل أن
يكون "من زقوم" بدلا من "من شجر"، و ضمير "منها" للشجر أو الثمر و كل منهما
يؤنث و يذكر و لذا جيء هاهنا بضمير التأنيث و في الآية التالية في قوله:
"فشاربون عليه" بضمير التذكير، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم" كلمة "على" للاستعلاء
و تفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، و الهيم جمع هيماء الإبل
التي أصابها الهيام بضم الهاء و هو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء
حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، و قيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء.
و المعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون
كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم و هذا آخر ما أمر النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) أن يقوله لهم.
قوله تعالى: "هذا نزلهم يوم الدين" أي يوم الجزاء و النزل ما يقدم للضيف النازل
من طعام و شراب إكراما له، و المعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم و شرابهم هو نزل
الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، و الآية من كلامه
تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو كان من كلام النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن
عبد الله قال: لما نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها "ثلة من الأولين و قليل من
الآخرين" قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين، فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعال و استمع ما قد أنزل الله ثلة من الأولين
و ثلة من الآخرين". ألا و إن من آدم إلى ثلة و أمتي ثلة و لن نستكمل ثلتنا حتى
نستعين بالسودان رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له:. قال
السيوطي و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلا و فيه، أخرج
ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت "ثلة من الأولين و قليل من الآخرين" حزن
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: إذن لا يكون من أمة محمد
إلا قليل فنزلت نصف النهار "ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين" تقابلون الناس
فنسخت الآية "و قليل من الآخرين".
أقول: قال في الكشاف، في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك
على المسلمين فما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يراجع ربه حتى نزلت
"ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين".
قلت: هذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا و
كذلك الثانية في أصحاب اليمين، أ لا ترى كيف عطف أصحاب اليمين و وعدهم على
السابقين و وعدهم؟ الثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز.
انتهي.
و أجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل الحديث على أن الصحابة لما سمعوا الآية الأولى
حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من
الأولين و قليلا منهم فيكون الفائزون بالجنة في هذه الأمة أقل منهم في الأمم
السالفة فنزلت "ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين" فزال حزنهم، و معنى نسخ الآية
السابقة إزالة حسبانهم المذكور.
و أنت خبير بأنه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ و اللفظ يأباه و خاصة
حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، و حال الرواية الأولى و خاصة من جهة ذيلها
كحال هذه الرواية.
و في المجمع، في قوله تعالى: "يطوف عليهم ولدان مخلدون" اختلف في هذه الولدان
فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيئات
فيعاقبوا عليها فأنزلوا هذه المنزلة.
قال: و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه سئل عن أطفال المشركين؟
فقال: هم خدم أهل الجنة:. أقول: و رواه في الدر المنثور عن الحسن، و الرواية
ضعيفة لا تعويل عليها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و البزار و ابن مردويه و
البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة و في بعضها أن المؤمن يأكل ما يشتهيه ثم
يعود الباقي إلى ما كان عليه و يحيا فيطير إلى مكانه و يباهي بذلك.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: "لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما" قال:
الفحش و الكذب و الغنا.
أقول: لعل المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحف الخنا.
و فيه،: في قوله تعالى: "و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين" قال: علي بن أبي طالب
(عليه السلام) و أصحابه و شيعته.
أقول: الرواية مبنية على ما ورد في ذيل قوله تعالى: "يوم ندعوا كل أناس بإمامهم
فمن أوتي كتابه بيمينه": إسراء: 71، إن اليمين هو الإمام الحق و معناها أن
اليمين هو علي (عليه السلام) و أصحاب اليمين شيعته، و الرواية من الجري.
و فيه،: في قوله تعالى: "في سدر مخضود" شجر لا يكون له ورق و لا شوك فيه، و قرأ
أبو عبد الله (عليه السلام): "و طلع منضود" قال: بعضه على بعض.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي أمامة قال:
كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: إن الله ينفعنا
بالأعراب و مسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في
القرآن شجرة مؤذية. و ما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): و ما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله
(صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس يقول الله: "في سدر مخضود" يخضده الله من
شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة أنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين
لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.
و في المجمع،: و روت العامة عن علي (عليه السلام): أنه قرأ رجل عنده "و طلح
منضود" فقال: ما شأن الطلح إنما هو "و طلع" كقوله: "و نخل طلعها هضيم" فقيل له:
أ لا تغيره؟ قال: إن القرآن لا يهاج اليوم و لا يحرك:، رواه عنه ابنه الحسن
(عليه السلام) و قيس بن سعد.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و هناد و عبد بن حميد و ابن
جرير و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: "و طلح منضود" قال: هو الموز.
و في المجمع، ورد في الخبر: أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا
يقطعها اقرءوا إن شئتم "و ظل ممدود" و روي أيضا: أن أوقات الجنة كغدوات الصيف
لا يكون فيها حر و لا برد.
أقول: و روي الأول في الدر المنثور عن أبي سعيد و أنس و غيرهما عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم).
و في روضة الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمد بن إسحاق
المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث
يصف فيه الجنة و أهلها: و يزور بعضهم بعضا و يتنعمون في جناتهم في ظل ممدود في
مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و أطيب من ذلك.
و في تفسير القمي،: و قوله: "إنا أنشأناهن إنشاء" قال: الحور العين في الجنة
"فجعلناهن أبكارا عربا" قال: لا يتكلمون إلا بالعربية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: "عربا" قال: كلامهن عربي.
أقول: و فيه روايات أخر أن عربا جمع عروب و هي الغنجة.
و فيه، أخرج مسدد في مسنده و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن
أبي بكرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: "ثلة من الأولين
و ثلة من الآخرين" قال: هما جميعا من هذه الأمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أن
القسمة لكافة البشر لا لهذه الأمة خاصة، و لعل المراد من هذه الروايات بيان بعض
المصاديق و إن كان بعيدا، و كذا المراد مما ورد أن أصحاب اليمين أصحاب أمير
المؤمنين (عليه السلام)، و ما ورد أن أصحاب الشمال أعداء آل محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و في المحاسن، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه و قال: ذلك شرب الهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال:
الإبل.
و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه كان يكره أن
يتشبه بالهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال الرمل.
أقول: و المعنيان جميعا واردان في روايات أخر.
56 سورة الواقعة - 57 - 96
نحْنُخَلَقْنَكُمْ فَلَوْ لا تُصدِّقُونَ (57) أَ فَرَءَيْتُم مّا تُمْنُونَ
(58) ءَ أَنتُمْ تخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الخَْلِقُونَ (59) نحْنُ قَدّرْنَا
بَيْنَكمُ الْمَوْت وَ مَا نحْنُ بِمَسبُوقِينَ (60) عَلى أَن نّبَدِّلَ
أَمْثَلَكُمْ وَ نُنشِئَكُمْ فى مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ
النّشأَةَ الأُولى فَلَوْ لا تَذَكّرُونَ (62) أَ فَرَءَيْتُم مّا تحْرُثُونَ
(63) ءَ أَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نحْنُ الزّرِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ
لَجَعَلْنَهُ حُطماً فَظلْتُمْ تَفَكّهُونَ (65) إِنّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ
نحْنُ محْرُومُونَ (67) أَ فَرَءَيْتُمُ الْمَاءَ الّذِى تَشرَبُونَ (68) ءَ
أَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نحْنُ الْمُنزِلُونَ (69) لَوْ
نَشاءُ جَعَلْنَهُ أُجَاجاً فَلَوْ لا تَشكُرُونَ (70) أَ فَرَءَيْتُمُ النّارَ
الّتى تُورُونَ (71) ءَ أَنتُمْ أَنشأْتُمْ شجَرَتهَا أَمْ نحْنُ الْمُنشِئُونَ
(72) نحْنُ جَعَلْنَهَا تَذْكِرَةً وَ مَتَعاً لِّلْمُقْوِينَ (73) فَسبِّحْ
بِاسمِ رَبِّك الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَوَقِع النّجُومِ (75) وَ
إِنّهُ لَقَسمٌ لّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنّهُ لَقُرْءَانٌ كَرِيمٌ (77)
فى كِتَبٍ مّكْنُونٍ (78) لا يَمَسهُ إِلا الْمُطهّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن
رّب الْعَلَمِينَ (80) أَ فَبهَذَا الحَْدِيثِ أَنتُم مّدْهِنُونَ (81) وَ
تجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذَا بَلَغَتِ
الحُْلْقُومَ (83) وَ أَنتُمْ حِينَئذٍ تَنظرُونَ (84) وَ نحْنُ أَقْرَب
إِلَيْهِ مِنكُمْ وَ لَكِن لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْ لا إِن كُنتُمْ غَيرَ
مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونهَا إِن كُنتُمْ صدِقِينَ (87) فَأَمّا إِن كانَ
مِنَ الْمُقَرّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيحَانٌ وَ جَنّت نَعِيمٍ (89) وَ أَمّا
إِن كانَ مِنْ أَصحَبِ الْيَمِينِ (90) فَسلَمٌ لّك مِنْ أَصحَبِ الْيَمِينِ
(91) وَ أَمّا إِن كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضالِّينَ (92) فَنزُلٌ مِّنْ
حَمِيمٍ (93) وَ تَصلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنّ هَذَا لهَُوَ حَقّ الْيَقِينِ
(95) فَسبِّحْ بِاسمِ رَبِّك الْعَظِيمِ (96)
بيان
لما فصل سبحانه القول فيما ينتهي إليه حال كل من الأزواج الثلاثة ففصل حال
أصحاب الشمال و أن الذي ساقهم إلى ذلك نقضهم عهد العبودية و تكذيبهم للبعث و
الجزاء و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم بتقرير البعث و
الجزاء و بيان ما يجزون به يوم البعث.
وبخهم على تكذيبهم بالمعاد مع أن الذي يخبرهم به هو خالقهم الذي يدبر أمرهم و
يقدر لهم الموت ثم الإنشاء فهو يعلم ما يجري عليهم مدى وجودهم و ما ينتهي إليه
حالهم و مع أن الكتاب الذي ينبئهم بالمعاد هو قرآن كريم مصون من أن يلعب به
أيدي الشياطين و أولياؤهم المضلين.
ثم يعيد الكلام إلى ما بدىء به من حال الأزواج الثلاثة و يذكر أن اختلاف أحوال
الأقسام يأخذ من حين الموت و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: "نحن خلقناكم فلو لا تصدقون" السياق سياق الكلام في البعث و الجزاء
و قد أنكروه و كذبوا به، فقوله: "فلو لا تصدقون" تحضيض على تصديق حديث المعاد و
ترك التكذيب به، و قد علله بقوله: "نحن خلقناكم" كما يستفاد من التفريع الذي في
قوله: "فلو لا تصدقون".
و إيجاب خلقه تعالى لهم وجوب تصديقه فيما يخبر به من المعاد من وجهين: أحدهما:
أنه تعالى خلقهم أول مرة فهو قادر على إعادة خلقهم ثانيا كما قال: "قال من يحيي
العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة و هو بكل خلق عليم": يس: 79.
و ثانيهما: أنه تعالى لما كان هو خالقهم و هو المدبر لأمرهم المقدر لهم خصوصيات
خلقهم و أمرهم فهو أعلم بما يفعل بهم و سيجري عليهم فإذا أنبأهم بأنه سيبعثهم
بعد موتهم و يجزيهم بما عملوا إن خيرا و إن شرا لم يكن بد من تصديقه فلا عذر
لمن كذب بما أخبر به كتابه من البعث و الجزاء، قال تعالى: "أ لا يعلم من خلق و
هو اللطيف الخبير": الملك: 14، و قال: "كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا
كنا فاعلين": الأنبياء: 104، و قال: "وعد الله حقا و من أصدق من الله قيلا":
النساء: 122.
فمحصل الآية: نحن خلقناكم و نعلم ما فعلنا و ما سنفعل بكم فنخبركم أنا سنبعثكم
و نجزيكم بما عملتم فهلا تصدقون بما نخبركم به فيما أنزلناه من الكتاب.
و في الآية و ما يتلوها من الآيات التفات من الغيبة إلى الخطاب لأن السياق سياق
التوبيخ و المعاتبة و ذلك بالخطاب أوقع و آكد.
قوله تعالى: "أ فرأيتم ما تمنون" الأمناء قذف المني و صبه و المراد قذفه و صبه
في الأرحام، و المعنى: أ فرأيتم المني الذي تصبونه في أرحام النساء.
قوله تعالى: "أ أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" أي أ أنتم تخلقونه بشرا مثلكم أم
نحن خالقوه بشرا.
قوله تعالى: "نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين" تدبير أمر الخلق بجميع
شئونه و خصوصياته من لوازم الخلق بمعنى إفاضة الوجود فوجود الإنسان المحدود
بأول كينونته إلى آخر لحظة من حياته الدنيا بجميع خصوصياته التي تتحول عليه
بتقدير من خالقه عز و جل.
فموته أيضا كحياته بتقدير منه، و ليس يعتريه الموت لنقص من قدرة خالقه أن يخلقه
بحيث لا يعتريه الموت أو من جهة أسباب و عوامل تؤثر فيه بالموت فتبطل الحياة
التي أفاضها عليه خالقه تعالى فإن لازم ذلك أن تكون قدرته تعالى محدودة ناقصة و
أن يعجزه بعض الأسباب و تغلب إرادته إرادته و هو محال كيف؟ و القدرة مطلقة و
الإرادة غير مغلوبة.
و يتبين بذلك أن المراد بقوله: "نحن قدرنا بينكم الموت" أن الموت حق مقدر و ليس
أمرا يقتضيه و يستلزمه نحو وجود الحي بل هو تعالى قدر له وجودا كذا ثم موتا
يعقبه.
و أن المراد بقوله: "و ما نحن بمسبوقين" و - السبق هو الغلبة و المسبوق المغلوب
- و لسنا مغلوبين في عروض الموت عن الأسباب المقارنة له بأن نفيض عليكم حياة
نريد أن يدوم ذلك عليكم فيسبقنا الأسباب و تغلبنا فتبطل بالموت الحياة التي كنا
نريد دوامها.
قوله تعالى: "على أن نبدل أمثالكم و ننشئكم فيما لا تعلمون" "على" متعلقه
بقوله: "قدرنا" و جملة الجار و المجرور في موضع الحال أي نحن قدرنا بينكم الموت
حال كونه على أساس تبديل الأمثال و الإنشاء فيما لا تعلمون.
و الأمثال جمع مثل بالكسر فالسكون و مثل الشيء ما يتحد معه في نوعه كالفرد من
الإنسان بالنسبة إلى فرد آخر، و المراد بقوله: "أن نبدل أمثالكم" أن نبدل
أمثالكم من البشر منكم أو نبدل أمثالكم مكانكم، و المعنى على أي حال تبديل
جماعة من أخرى و جعل الأخلاف مكان الأسلاف.
و قوله: "و ننشئكم فيما لا تعلمون" ما موصولة و المراد به الخلق و الجملة
معطوفة على "نبدل" و التقدير و على أن ننشئكم و نوجدكم في خلق آخر لا تعلمونه و
هو الوجود الأخروي غير الوجود الدنيوي الفاني.
و محصل معنى الآيتين أن الموت بينكم إنما هو بتقدير منا لا لنقص في قدرتنا بأن
لا يتيسر لنا إدامة حياتكم و لا لغلبة الأسباب المهلكة المبيدة و قهرها و
تعجيزها لنا في حفظ حياتكم و إنما قدرناه بينكم على أساس تبديل الأمثال و إذهاب
قوم و الإتيان بآخرين و إنشاء خلق لكم يناسب الحياة الآخرة وراء الخلق الدنيوي
الداثر فالموت انتقال من دار إلى دار و تبدل خلق إلى خلق آخر و ليس بانعدام و
فناء.
و احتمل بعضهم أن يكون الأمثال في الآية جمع مثل بفتحتين و هو الوصف فتكون
الجملتان "على أن نبدل" إلخ، و "ننشئكم" إلخ، تفيدان معنى واحدا، و المعنى: على
أن نغير أوصافكم و ننشئكم في وصف لا تعرفونه أو لا تعلمونه كحشركم في صفة الكلب
أو الخنزير أو غيرهما من الحيوان بعد ما كنتم في الدنيا على صفة الإنسان، و
المعنى السابق أجمع و أكثر فائدة.
قوله تعالى: "و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون" المراد بالنشأة الأولى
نشأة الدنيا، و العلم بها بخصوصياتها يستلزم الإذعان بنشأة أخرى خالدة فيها
الجزاء، فإن من المعلوم من النظام الكوني أن لا لغو و لا باطل في الوجود فلهذه
النشأة الفانية غاية باقية، و أيضا من ضروريات هذا النظام هداية كل شيء إلى
سعادة نوعه و هداية الإنسان تحتاج إلى بعث الرسل و تشريع الشرائع و توجيه الأمر
و النهي، و الجزاء على خير الأعمال و شرها و ليس في الدنيا فهو في دار أخرى و
هي النشأة الآخرة 1.
على أنهم شاهدوا النشأة الأولى و عرفوها و علموا أن الذي أوجدها عن كتم العدم
هو الله سبحانه و إذ قدر عليها أولا فهو على إيجاد مثلها ثانيا قادر، قال
تعالى: "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة": يس: 79، و هذا برهان على الإمكان
يرتفع به استبعادهم للبعث.
و بالجملة يحصل لهم بالعلم بالنشأة الأولى علم بمبادىء البرهان على إمكان البعث
فيرتفع به استبعاد البعث فلا استبعاد مع الإمكان.
و هذا - كما ترى - برهان على إمكان حشر الأجساد، محصله أن البدن المحشور مثل
البدن الدنيوي و إذ جاز صنع البدن الدنيوي و إحياؤه فليجز صنع البدن الأخروي و
إحياؤه لأنه مثله و حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد.
فمن العجيب قول الزمخشري في الكشاف، في الآية: و في هذا دليل على صحة القياس
حيث جهلهم في ترك قياس النشأة الأخرى بالأولى.
انتهي.
و ذلك لأن الذي في الآية قياس برهاني منطقي و الذي يستدل بها عليه قياس فقهي
مفيد للظن فأين أحدهما من الآخر؟.
و قال في روح المعاني، في الآية: فهلا تتذكرون أن من قدر عليها يعني على النشأة
الأولى فهو على النشأة الأخرى أقدر و أقدر فإنها أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص
الأجزاء و سبق المثال، و هذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل
إلا على قياس الأولي لأنه الذي في الآية.
انتهي.
و فيه ما في سابقه.
على أن الذي في الآية ليس من قياس الأولي في شيء لأن الجامع بين النشأة الأولى
و الأخرى أنهما مثلان و مبدأ القياس أن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز
واحد.
و أما قوله: إن النشأة الأخرى أقل صنعا لحصول المواد و تخصيص الأجزاء، فهو
ممنوع فإن المواد تحتاج إلى إفاضة الوجود بقاء كما تحتاج إليها في حدوثها و أول
حصولها، و كذا تخصص الأجزاء يحتاج إليها بقاء كما تحتاج إليها فالصنع ثانيا
كالصنع أولا.
و أما قوله: و سبق المثال، فقد خلط بين المثل و المثال فالبدن الأخروي بالنظر
إلى نفسه مثل البدن الدنيوي لا على مثاله و لو كان على مثاله كانت الآخرة دنيا
لا آخرة.
فإن قلت: لو كان البدن الأخروي مثلا للبدن الدنيوي و مثل الشيء غيره كان
الإنسان المعاد في الآخرة غير الإنسان المبتدء في الدنيا لأنه مثله لا عينه.
قلت: قد تقدم في المباحث السابقة غير مرة أن شخصية الإنسان بروحه لا ببدنه، و
الروح لا تنعدم بالموت و إنما يفسد البدن و تتلاشى أجزاؤه ثم إذا سوي ثانيا مثل
ما كان في الدنيا ثم تعلقت به الروح كان الإنسان عين الإنسان الذي في الدنيا
كما كان زيد الشائب مثلا عين زيد الشاب لبقاء الروح على شخصيتها مع تغير البدن
لحظة بعد لحظة.
قوله تعالى: "أ فرأيتم ما تحرثون - إلى قوله - محرومون" بعد ما ذكرهم بكيفية
خلق أنفسهم و تقدير الموت بينهم تمهيدا للبعث و الجزاء و كل ذلك من لوازم
ربوبيته عد لهم أمورا ثلاثة من أهم ما يعيشون به في الدنيا و هي الزرع الذي
يقتاتون به و الماء الذي يشربونه و النار التي يصطلون بها و يتوسلون بها إلى
جمل من مآربهم، و تثبت بذلك ربوبيته لهم فليست الربوبية إلا التدبير عن ملك.
فقال: "أ فرأيتم ما تحرثون" الحرث العمل في الأرض و إلقاء البذر عليها "أ أنتم
تزرعونه" أي تنبتونه و تنمونه حتى يبلغ الغاية، و ضمير "تزرعونه" للبذر أو
الحرث المعلوم من المقام "أم نحن الزارعون" المنبتون المنمون حتى يكمل زرعا "لو
نشاء لجعلناه حطاما" أي هشيما متكسرا متفتتا "فظلتم" أي فظللتم و صرتم "تفكهون"
أي تتعجبون مما أصيب به زرعكم و تتحدثون بما جرى قائلين "إنا لمغرمون" موقعون
في الغرامة و الخسارة ذهب مالنا و ضاع وقتنا و خاب سعينا "بل نحن محرومون"
ممنوعون من الرزق و الخير.
و لا منافاة بين نفي الزرع عنهم و نسبته إليه تعالى و بين توسط عوامل و أسباب
طبيعية في نبات الزرع و نموه فإن الكلام عائد في تأثير هذه الأسباب و صنعها و
ليس نحو تأثيرها باقتضاء من ذاتها منقطعة عنه تعالى بل بجعله و وضعه و موهبته،
و كذا الكلام في أسباب هذه الأسباب، و ينتهي الأمر إلى الله سبحانه و أن إلى
ربك المنتهى.
قوله تعالى: "أ فرأيتم الماء الذي تشربون - إلى قوله - فلو لا تشكرون" المزن
السحاب، و قوله: "فلو لا تشكرون" تحضيض على الشكر، و شكره تعالى جميل ذكره
تعالى على نعمه و هو إظهار عبوديته قولا و عملا.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "أ فرأيتم النار التي تورون - إلى قوله - و متاعا للمقوين" قال في
المجمع،: الإيراء إظهار النار بالقدح، يقال أورى يوري، قال: و يقال قدح فأورى
إذا أظهر فإذا لم يور يقال: قدح فأكبى، و قال: و المقوي النازل بالقواء من
الأرض ليس بها أحد، و أقوت الدار خلت من أهلها.
انتهي.
و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: "فسبح باسم ربك العظيم" خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
لما ذكر سبحانه شواهد ربوبيته لهم و أنه الذي يخلقهم و يدبر أمرهم و من تدبيره
أنه سيبعثهم و يجزيهم بأعمالهم و هم مكذبون بذلك أعرض عن خطابهم و التفت إلى
خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إشعارا بأنهم لا يفقهون القول فأمر النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزهه تعالى عن إشراكهم به و إنكارهم البعث و
الجزاء.
فقوله: "فسبح باسم" إلخ، الفاء لتفريع التسبيح على ما تقدم من البيان، و الباء
للاستعانة أو الملابسة، و المعنى: فإذا كان كذلك فسبح مستعينا بذكر اسم ربك، أو
المراد بالاسم الذكر لأن إطلاق اسم الشيء ذكر له كما قيل أو الباء للتعدية لأن
تنزيه اسم الشيء تنزيه له، و المعنى: نزه اسم ربك من أن تذكر له شريكا أو تنفي
عنه البعث و الجزاء، و العظيم صفة الرب أو الاسم.
قوله تعالى: "فلا أقسم بمواقع النجوم" "لا أقسم" قسم و قيل: لا زائدة و أقسم هو
القسم، و قيل: لا نافية و أقسم هو القسم.
و "مواقع" جمع موقع و هو المحل، و المعنى: أقسم بمحال النجوم من السماء، و قيل:
مواقع جمع موقع مصدر ميمي بمعنى السقوط يشير به إلى سقوط الكواكب يوم القيامة
أو وقوع الشهب على الشياطين، أو مساقط الكواكب في مغاربها، و أول الوجوه هو
السابق إلى الذهن.
قوله تعالى: "و إنه لقسم لو تعلمون عظيم" تعظيم لهذا القسم و تأكيد على تأكيد.
قوله تعالى: "إنه لقرآن كريم - إلى قوله - من رب العالمين" لما كان إنكارهم
حديث وحدانيته تعالى في ربوبيته و ألوهيته و كذا إنكارهم للبعث و الجزاء إنما
أبدوه بإنكار القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي فيه نبأ
التوحيد و البعث كان إنكارهم منشعبا إلى إنكار أصل التوحيد و البعث أصلا، و إلى
إنكار ذلك بما أن القرآن ينبئهم به، فأورد تعالى أولا بيانا لإثبات أصل
الوحدانية و البعث بذكر شواهد من آياته تثبت ذلك و هو قوله: "نحن خلقناكم - إلى
قوله - و متاعا للمقوين"، و ثانيا بيانا يؤكد فيه كون القرآن الكريم كلامه
المحفوظ عنده النازل منه و وصفه بأحسن أوصافه.
فقوله: "إنه لقرآن كريم" جواب للقسم السابق، الضمير للقرآن المعلوم من السياق
السابق و يستفاد من توصيفه بالكريم من غير تقييد في مقام المدح أنه كريم على
الله عزيز عنده و كريم محمود الصفات و كريم بذال نفاع للناس لما فيه من أصول
المعارف التي فيها سعادة الدنيا و الآخرة.
و قوله: "في كتاب مكنون" وصف ثان للقرآن أي محفوظ مصون عن التغيير و التبديل، و
هو اللوح المحفوظ كما قال تعالى: "بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ": البروج: 22.
و قوله: "لا يمسه إلا المطهرون" صفة الكتاب المكنون و يمكن أن يكون وصفا ثالثا
للقرآن و مآل الوجهين على تقدير كون لا نافية واحد.
و المعنى: لا يمس الكتاب المكنون الذي فيه القرآن إلا المطهرون أو لا يمس
القرآن الذي في الكتاب إلا المطهرون.
و الكلام على أي حال مسوق لتعظيم أمر القرآن و تجليله فمسه هو العلم به و هو في
الكتاب المكنون كما يشير إليه قوله: "إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و
إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم": الزخرف: 4.
و المطهرون - اسم مفعول من التطهير - هم الذين طهر الله تعالى نفوسهم من أرجاس
المعاصي و قذارات الذنوب أو مما هو أعظم من ذلك و أدق و هو تطهير قلوبهم من
التعلق بغيره تعالى، و هذا المعنى من التطهير هو المناسب للمس الذي هو العلم
دون الطهارة من الخبث أو الحدث كما هو ظاهر.
فالمطهرون هم الذين أكرمهم الله تعالى بتطهير نفوسهم كالملائكة الكرام و الذين
طهرهم الله من البشر، قال تعالى: "إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و
يطهركم تطهيرا": الأحزاب: 33، و لا وجه لتخصيص المطهرين بالملائكة كما عن جل
المفسرين لكونه تقييدا من غير مقيد.
و ربما جعل "لا" في "لا يمسه" ناهية، و المراد بالمس على هذا مس كتابة القرآن،
و بالطهارة الطهارة من الحدث أو الحدث و الخبث جميعا - و قرىء "المطهرون"
بتشديد الطاء و الهاء و كسر الهاء أي المتطهرون - و مدلول الآية تحريم مس كتابة
القرآن على غير طهارة.
و يمكن حمل الآية على هذا المعنى على تقدير كون لا نافية بأن تكون الجملة
إخبارا أريد به الإنشاء و هو أبلغ من الإنشاء.
قال في الكشاف،: و إن جعلتها يعني جملة "لا يمسه إلا المطهرون" صفة للقرآن
فالمعنى: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس يعني مس المكتوب
منه، انتهى و قد عرفت صحة أن يراد بالمس العلم و الاطلاع على تقدير كونها صفة
للقرآن كما يصح على تقدير كونها صفة لكتاب مكنون.
و قوله: "تنزيل من رب العالمين" وصف آخر للقرآن، و المصدر بمعنى اسم المفعول أي
منزل من عند الله إليكم تفتهمونه و تعقلونه بعد ما كان في كتاب مكنون لا يمسه
إلا المطهرون.
و التعبير عنه تعالى برب العالمين للإشارة إلى أن ربوبيته تعالى منبسطة على
جميع العالمين و هم من جملتهم فهو تعالى ربهم و إذا كان ربهم كان عليهم أن
يؤمنوا بكتابه و يصغوا لكلامه و يصدقوه من غير تكذيب.
قوله تعالى: "أ فبهذا الحديث أنتم مدهنون" الإشارة بهذا الحديث إلى القرآن، و
الإدهان به التهاون به و أصله التليين بالدهن استعير للتهاون، و الاستفهام
للتوبيخ يوبخهم تعالى على عدهم أمر القرآن هينا لا يعتنى به.
قوله تعالى: "و تجعلون رزقكم أنكم تكذبون" قيل: المراد بالرزق حظهم من الخير، و
المعنى: و تجعلون حظكم من الخير الذي لكم أن تنالوه بالقرآن أنكم تكذبون به أي
تضعونه موضعه، و قيل: المراد بالرزق القرآن رزقهم الله إياه، و المعنى: تأخذون
التكذيب مكان هذا الرزق الذي رزقتموه، و قيل: الكلام بحذف مضاف و التقدير: و
تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون أي وضعتم التكذيب موضع الشكر.
قوله تعالى: "فلو لا إذا بلغت الحلقوم - إلى قوله صادقين" رجوع إلى أول الكلام
بالتفريع على تكذيبهم بأنكم إن كنتم صادقين في نفيكم للبعث مصيبين في تكذيبكم
لهذا القرآن الذي ينبؤكم بالبعث رددتم نفس المحتضر التي بلغت الحلقوم إذ لو لم
يكن الموت بتقدير من الله كان من الأمور الاتفاقية التي ربما أمكن الاحتيال
لدفعها، فإذا لم تقدروا على رجوعها و إعادة الحياة معها فاعلموا أن الموت حق
مقدر من الله لسوق النفوس إلى البعث و الجزاء.
فقوله: "فلو لا إذا بلغت الحلقوم" تفريع على تكذيبهم بالقرآن و بما أخبر به من
البعث و الجزاء، و لو لا للتحضيض تعجيزا و تبكيتا لهم، و ضمير "بلغت" للنفس، و
بلوغ النفس الحلقوم كناية عن الإشراف التام للموت.
و قوله: "و أنتم حينئذ تنظرون" أي تنظرون إلى المحتضر أي هو بمنظر منكم.
و قوله: "و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون" أي و الحال أنا أقرب إليه منكم
لإحاطتنا به وجودا و رسلنا القابضون لروحه أقرب إليه منكم و لكن لا تبصروننا و
لا رسلنا.
قال تعالى: "الله يتوفى الأنفس حين موتها": الزمر: 26، و قال: "قل يتوفاكم ملك
الموت الذي وكل بكم": السجدة: 11، و قال: "حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته
رسلنا": الأنعام: 61.
و قوله: "فلو لا إن كنتم غير مدينين" تكرار لو لا لتأكيد لو لا السابقة، و
"مدينين" أي مجزيين من دان يدين بمعنى جزى يجزي، و المعنى: إن كنتم غير مجزيين
ثوابا و عقابا بالبعث.
و قوله: "ترجعونها إن كنتم صادقين" أي إن كنتم صادقين في دعواكم أن لا بعث و لا
جزاء، و قوله: "ترجعونها" مدخول لو لا التحضيضية بحسب التقدير و ترتيب الآيات
بحسب التقدير فلو لا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم مدينين.
قوله تعالى: "فأما إن كان من المقربين فروح و ريحان و جنة نعيم" رجوع إلى بيان
حال الأزواج الثلاثة المذكورة في أول السورة عند الموت و بعده و ضمير "كان"
للمتوفى المعلوم من السياق، و المراد بالمقربين السابقون المقربون المذكورون
سابقا، و الروح الراحة، و الريحان الرزق، و قيل: هو الريحان المشموم من ريحان
الجنة يؤتى به إليه فيشمه و يتوفى.
و المعنى: فأما إن كان المتوفى من المقربين فله - أو فجزاؤه - راحة من كل هم و
غم و ألم و رزق من رزق الجنة و جنة نعيم.
قوله تعالى: "و أما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين" يمكن أن
يكون اللام للاختصاص الملكي و معنى "سلام لك" أنك تختص بالسلام من أصحاب اليمين
الذين هم قرناؤك و رفقاؤك فلا ترى منهم إلا خيرا و سلاما.
و قيل: لك بمعنى عليك أي يسلم عليك أصحاب اليمين، و قيل غير ذلك.
و الالتفات من الغيبة إلى الخطاب للدلالة على أنه يخاطب بهذا الخطاب: سلام لك
من أصحاب اليمين.
قوله تعالى: "و أما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم و تصلية جحيم"
تصلية النار الإدخال فيها، و قيل: مقاساة حرها و عذابها.
و المعنى: و أما إن كان من أهل التكذيب و الضلال فلهم نزل من ماء شديد الحرارة،
و مقاساة حر نار جحيم.
و قد وصفهم الله بالمكذبين الضالين فقدم التكذيب على الضلال لأن ما يلقونه من
العذاب تبعة تكذيبهم و عنادهم للحق و لو كان ضلالا بلا تكذيب و عناد كانوا
مستضعفين غير نازلين هذه المنزلة، و أما قوله سابقا: "ثم إنكم أيها الضالون
المكذبون" فإذ كان المقام هناك مقام الرد لقولهم: "أ إذا متنا و كنا ترابا و
عظاما أ إنا لمبعوثون" إلخ، كان الأنسب توصيفهم أولا بالضلال ثم بالتكذيب.
قوله تعالى: "إن هذا لهو حق اليقين" الحق هو العلم من حيث إن الخارج الواقع
يطابقه، و اليقين هو العلم الذي لا لبس فيه و لا ريب فإضافة الحق إلى اليقين
نحو من الإضافة البيانية جيء بها للتأكيد.
و المعنى: أن هذا الذي ذكرناه من حال أزواج الناس الثلاثة هو الحق الذي لا تردد
فيه و العلم الذي لا شك يعتريه.
قوله تعالى: "فسبح باسم ربك العظيم" تقدم تفسيره، و هو تفريع على ما تقدمه من
صفة القرآن و بيان حال الأزواج الثلاثة بعد الموت و في الحشر.
و المعنى: فإذا كان القرآن على هذه الصفات و صادقا فيما ينبىء به من حال الناس
بعد الموت فنزه ربك العظيم مستعينا أو ملابسا باسمه و أنف ما يراه و يدعيه
هؤلاء المكذبون الضالون.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: "أ أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون": و روي عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يقولن أحدكم زرعت و ليقل حرثت:. أقول: و
رواه في الدر المنثور، عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي هريرة عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و في تفسير القمي،: "أ أنتم أنزلتموه من المزن" قال: من السحاب "نحن جعلناها
تذكرة" لنار يوم القيامة "و متاعا للمقوين" قال: المحتاجين.
و في المجمع، في قوله تعالى: "فسبح باسم ربك العظيم": فقد صح عن النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم): أنه لما نزلت هذه الآية قال: اجعلوها في ركوعكم:. أقول:
و رواه في الفقيه، مرسلا، و رواه في الدر المنثور، عن الجهني عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن جرير و محمد بن نصر و الحاكم و صححه و
ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة
القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين و في
لفظ ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجوما ثم قرأ "فلا أقسم بمواقع النجوم".
أقول: و ظاهره تفسير مواقع النجوم بأوقات نزول نجوم القرآن.
و في تفسير القمي،: و قوله: "فلا أقسم بمواقع النجوم" قال: معناه أقسم بمواقع
النجوم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): "أنه لقرآن كريم في كتاب مكنون" قال: عند الله في صحف مطهرة
"لا يمسه إلا المطهرون" قال: المقربون.
أقول: و تفسير المطهرين بالمقربين يؤيد ما أوردناه في البيان المتقدم، و قد
أوردنا في ذيل قوله: "هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق" الآية: الجاثية: 29، حديثا
عن الصادق (عليه السلام) في الكتاب المكنون.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "لا يمسه إلا المطهرون" و قالوا: لا يجوز للجنب و
الحائض و المحدث مس المصحف: عن محمد بن علي (عليهما السلام).
أقول: المراد بمس المصحف مس كتابته بدليل الروايات الأخر.
و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
سألته عن التعويذ يعلق على الحائض قال: نعم لا بأس. و قال: تقرؤه و تكتبه و لا
تصيبه يدها.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي داود و ابن المنذر عن عبد الله
بن أبي بكر عن أبيه قال: في كتاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمرو بن
حزم: و لا تمس القرآن إلا عن طهور.
أقول: و الروايات فيه كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة.
و فيه، أخرج مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: مطر الناس على
عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم): أصبح من الناس شاكر و منهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله و قال
بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية "فلا أقسم بمواقع النجوم" حتى بلغ "و
تجعلون رزقكم أنكم تكذبون".
أقول: و قد استفاضت الرواية من طرق أهل السنة أن الآيات نزلت في الأنواء و
ظاهرها أنها مدنية لكنها لا تلائم سياق آيات السورة كما عرفت.
و في المجمع، و قراءة علي (عليه السلام) و ابن عباس و رويت عن النبي (صلى الله
عليه وآله وسلم): و تجعلون شكركم:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله: "غير مدينين" قال: معناه فلو كنتم غير مجازين على
أعمالكم "ترجعونها" يعني به الروح إذا بلغت الحلقوم تردونها في البدن "إن كنتم
صادقين".
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "فأما
إن كان من المقربين فروح و ريحان" في قبره "و جنة نعيم" في الآخرة.
و في الدر المنثور، أخرج القاسم بن مندة في كتاب الأحوال و الإيمان بالسؤال عن
سلمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أول ما يبشر به المؤمن
عند الوفاة بروح و ريحان و جنة نعيم و إن أول ما يبشر به المؤمن في قبره أن
يقال: أبشر برضا الله تعالى و الجنة قدمت خير مقدم قد غفر الله لمن شيعك إلى
قبرك، و صدق من شهد لك، و استجاب لمن استغفر لك.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس: في قوله: "فسلام لك من أصحاب
اليمين" قال: تأتيه الملائكة بالسلام من قبل الله تسلم عليه و تخبره أنه من
أصحاب اليمين.
أقول: و ما أورده من المعنى مبني على كون الآية حكاية خطاب الملائكة، و التقدير
قالت الملائكة سلام لك حال كونك من أصحاب اليمين فهي سلام و بشارة.
57 سورة الحديد - 1 - 6
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سبّحَ للّهِ مَا فى السمَوَتِ وَ الأَرْضِ
وَ هُوَ الْعَزِيزُ الحَْكِيمُ (1) لَهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ يحْىِ وَ
يُمِيت وَ هُوَ عَلى كلِّ شىْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأَوّلُ وَ الاَخِرُ وَ
الظهِرُ وَ الْبَاطِنُ وَ هُوَ بِكلِّ شىْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الّذِى خَلَقَ
السمَوَتِ وَ الأَرْض فى سِتّةِ أَيّامٍ ثمّ استَوَى عَلى الْعَرْشِ يَعْلَمُ
مَا يَلِجُ فى الأَرْضِ وَ مَا يخْرُجُ مِنهَا وَ مَا يَنزِلُ مِنَ السمَاءِ وَ
مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَ هُوَ مَعَكمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَ اللّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لّهُ مُلْك السمَوَتِ وَ الأَرْضِ وَ إِلى اللّهِ
تُرْجَعُ الأُمُورُ (5) يُولِجُ الّيْلَ فى النهَارِ وَ يُولِجُ النهَارَ فى
الّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمُ بِذَاتِ الصدُورِ (6)
بيان
غرض السورة حث المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله كما يشعر به تأكيد
الأمر به مرة بعد مرة في خلال آياتها "آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم
مستخلفين فيه" الآية، "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، "إن المصدقين و
المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا" و قد سمت إنفاقهم ذلك إقراضا منه لله عز
اسمه فالله سبحانه خير مطلوب و هو لا يخلف الميعاد و قد وعدهم إن أقرضوه أن
يضاعفه لهم و أن يؤتيهم أجرا كريما كثيرا.
و قد أشار إلى أن هذا الإنفاق من التقوى و الإيمان بالرسول و أنه يستتبع مغفرة
الذنوب و إتيان كفلين من الرحمة و لزوم النور بل و اللحوق بالصديقين و الشهداء
عند الله سبحانه.
و في خلال آياتها معارف راجعة إلى المبدأ و المعاد، و دعوة إلى التقوى و إخلاص
الإيمان و الزهد و موعظة.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها و قد ادعى بعضهم إجماع المفسرين على ذلك.
و لقد افتتحت السورة بتسبيحه و تنزيهه تعالى بعده من أسمائه الحسنى لما في غرض
السورة و هو الحث على الإنفاق من شائبة توهم الحاجة و النقص في ناحيته و
نظيرتها في ذلك جميع السور المفتتحة بالتسبيح و هي سور الحشر و الصف و الجمعة و
التغابن المصدرة بسبح أو يسبح.
قوله تعالى: "سبح لله ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم" التسبيح
التنزيه و هو نفي ما يستدعي نقصا أو حاجة مما لا يليق بساحة كماله تعالى، و ما
موصولة و المراد بها ما يعم العقلاء مما في السماوات و الأرض كالملائكة و
الثقلين و غير العقلاء كالجمادات و الدليل عليه ما ذكر بعد من صفاته المتعلقة
بالعقلاء كالإحياء و العلم بذات الصدور.
فالمعنى: نزه الله سبحانه ما في السماوات و الأرض من شيء و هو جميع العالم.
و المراد بتسبيحها حقيقة معنى التسبيح دون المعنى المجازي الذي هو دلالة وجود
كل موجود في السماوات و الأرض على أن له موجدا منزها من كل نقص متصفا بكل كمال،
و دون عموم المجاز و هو دلالة كل موجود على تنزهه تعالى إما بلسان القال
كالعقلاء و إما بلسان الحال كغير العقلاء من الموجودات و ذلك لقوله تعالى: "و
إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم": إسراء: 44، حيث استدرك
أنهم لا يفقهون تسبيحهم و لو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده و هي
قيام الحجة على الناس بوجودهم أو كان المراد تسبيحهم و تحميدهم بلسان الحال و
ذلك مما يفقه الناس لم يكن للاستدراك معنى.
فتسبيح ما في السماوات و الأرض تسبيح و نطق بالتنزيه بحقيقة معنى الكلمة و إن
كنا لا نفقهه، قال تعالى: "قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء": حم السجدة:
21.
و قوله: "و هو العزيز الحكيم" أي المنيع جانبه يغلب و لا يغلب، المتقن فعله لا
يعرض على فعله ما يفسده عليه و لا يتعلق به اعتراض معترض.
قوله تعالى: "له ملك السماوات و الأرض يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير"
الكلام موضوع على الحصر فهو المليك في السماوات و الأرض يحكم ما يشاء لأنه
الموجد لكل شيء فما في السماوات و الأرض يقوم به وجوده و آثار وجوده فلا حكم
إلا له فلا ملك و لا سلطنة إلا له.
و قوله: "يحيي و يميت" إشارة إلى اسمية المحيي و المميت، و إطلاق "يحيي و يميت"
يفيد شمولهما لكل إحياء و إماتة كإيجاده الملائكة أحياء من غير سبق موت، و
إحيائه الجنين في بطن أمه و إحيائه الموتى في البعث و إيجاده الجماد ميتا من
غير سبق حياة و إماتته الإنسان في الدنيا و إماتته ثانيا في البرزخ على ما يشير
إليه قوله: "ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين": المؤمن: 11 و في "يحيي و
يميت" دلالة على الاستمرار.
و قوله: "و هو على كل شيء قدير" فيه إشارة إلى صفة قدرته و أنها مطلقة غير
مقيدة بشيء دون شيء، و في تذييل الآية بالقدرة على كل شيء مناسبة مع ما تقدمها
من الإحياء و الإماتة لما ربما يتوهمه المتوهم أن لا قدرة على إحياء الموتى و
لا عين منهم و لا أثر.
قوله تعالى: "هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم" لما كان
تعالى قديرا على كل شيء مفروض كان محيطا بقدرته على كل شيء من كل جهة فكل ما
فرض أولا فهو قبله فهو الأول دون الشيء المفروض أولا، و كل ما فرض آخرا فهو
بعده لإحاطة قدرته به من كل جهة فهو الآخر دون الشيء المفروض آخرا، و كل شيء
فرض ظاهرا فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهرا،
و كل شيء فرض أنه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون
المفروض باطنا فهو تعالى الأول و الآخر و الظاهر و الباطن على الإطلاق و ما في
غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافية نسبية.
و ليست أوليته تعالى و لا آخريته و لا ظهوره و لا بطونه زمانية و لا مكانية
بمعنى مظروفيته لهما و إلا لم يتقدمهما و لا تنزه عنهما سبحانه بل هو محيط
بالأشياء على أي نحو فرضت و كيفما تصورت.
فبان مما تقدم أن هذه الأسماء الأربعة الأول و الآخر و الظاهر و الباطن من فروع
اسمه المحيط و هو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكل شيء و يمكن تفريع الأسماء
الأربعة على إحاطة وجوده بكل شيء فإنه تعالى ثابت قبل ثبوت كل شيء و ثابت بعد
فناء كل شيء و أقرب من كل شيء ظاهر و أبطن من الأوهام و العقول من كل شيء خفي
باطن.
و كذا للأسماء الأربعة نوع تفرع على علمه تعالى و يناسبه تذييل الآية بقوله: "و
هو بكل شيء عليم".
و فسر بعضهم الأسماء الأربعة بأنه الأول قبل كل شيء و الآخر بعد هلاك كل شيء
الظاهر بالأدلة الدالة عليه و الباطن غير مدرك بالحواس.
و قيل: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، و الآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، و الظاهر
الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه، و الباطن العالم بكل شيء فلا أحد أعلم
منه.
و قيل: الأول بلا ابتداء و الآخر بلا انتهاء و الظاهر بلا اقتراب و الباطن بلا
احتجاب.
و هناك أقوال أخر في معناها غير جيدة أغمضنا عن إيرادها.
قوله تعالى: "هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام" تقدم تفسيره.
قوله تعالى: "ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما
ينزل من السماء و ما يعرج فيها" تقدم تفصيل القول في معنى العرش في سورة
الأعراف آية: 54.
و تقدم أن الاستواء على العرش كناية عن الأخذ في تدبير الملك و لذا عقبه بالعلم
بجزئيات الأحوال لأن العلم من لوازم التدبير.
و قوله: "يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج
فيها" الولوج - كما قال الراغب - الدخول في مضيق، و العروج ذهاب في صعود، و
المعنى: يعلم ما يدخل و ينفذ في الأرض كماء المطر و البذور و غيرهما و ما يخرج
من الأرض كأنواع النبات و الحيوان و الماء و ما ينزل من السماء كالأمطار و
الأشعة و الملائكة و ما يعرج فيها و يصعد كالأبخرة و الملائكة و أعمال العباد.
قوله تعالى: "و هو معكم أينما كنتم" لإحاطته بكم فلا تغيبون عنه أينما كنتم و
في أي زمان عشتم و في أي حال فرضتم فذكر عموم الأمكنة "أينما كنتم" لأن الأعرف
في مفارقة شيء شيئا و غيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان و إلا فنسبته
تعالى إلى الأمكنة و الأزمنة و الأحوال سواء.
و قيل: المعية مجاز مرسل عن الإحاطة العلمية.
قوله تعالى: "و الله بما تعملون بصير" كالفرع المترتب على ما قبله من كونه معهم
أينما كانوا و كونه بكل شيء عليما فإن لازم حضوره عندهم من دون مفارقة ما و
احتجاب و هو عليم أن يكون بصيرا بأعمالهم يبصر ظاهر عملهم، و ما في باطنهم من
نية و قصد.
قوله تعالى: "له ملك السماوات و الأرض و إلى الله ترجع الأمور" كرر قوله: "له
ملك" إلخ، لابتناء رجوع الأشياء إليه على عموم الملك فصرح به ليفيد الابتناء،
قال تعالى: "يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله
الواحد القهار": المؤمن: 16.
و قوله: "و إلى الله ترجع الأمور" الأمور جمع محلى باللام يفيد العموم كقوله:
"ألا إلى الله تصير الأمور": الشورى: 53، فما من شيء إلا و يرجع إلى الله، و لا
راد إليه تعالى إلا هو لاختصاص الملك به فله الأمر و له الحكم.
و في الآية وضع الظاهر موضع الضمير في "إلى الله" و كذا في الآية السابقة "و
الله بما تعملون بصير" و لعل الوجه في ذلك أن تقرع الجملتان قلوبهم كما يقرع
المثل السائر لما سيجيء من ذكر يوم القيامة و جزيل أجر المنفقين في سبيل الله
فيه.
قوله تعالى: "يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و هو عليم بذات
الصدور" إيلاج الليل في النهار و إيلاج النهار في الليل اختلاف الليل و النهار
في الطول و القصر باختلاف فصول السنة في كل من البقاع الشمالية و الجنوبية بعكس
الأخرى، و قد تقدم في كلامه تعالى غير مرة.
و المراد بذات الصدور الأفكار المضمرة و النيات المكنونة التي تصاحب الصدور و
تلازمها لما أنها تنسب إلى القلوب و القلوب في الصدور، و الجملة أعني قوله: "و
هو عليم بذات الصدور" بيان لإحاطة علمه بما في الصدور بعد بيان إحاطة بصره
بظواهر أعمالهم بقوله: "و الله بما تعملون بصير".
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن
مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية: أن رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، و قال: إن فيهن آية أفضل من
ألف آية:. أقول: و رواه أيضا عن ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير عنه (صلى الله
عليه وآله وسلم).
و في الكافي، بإسناده عن عاصم بن حميد قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام)
عن التوحيد فقال: إن الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون
فأنزل الله تعالى: "قل هو الله أحد" و الآيات من سورة الحديد إلى قوله: "عليم
بذات الصدور" فمن رام وراء ذلك فقد هلك.
و في تفسير القمي،: "سبح لله ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم" قال:
هو قوله: أوتيت جوامع الكلم، و قوله: "هو الأول" قال: أي قبل كل شيء، "و الآخر"
قال: يبقى بعد كل شيء، "و هو عليم بذات الصدور" قال: بالضمائر.
و في الكافي، و روي: أنه يعني عليا (عليه السلام) سئل أين كان ربنا قبل أن يخلق
سماء و أرضا؟ قال: أين سؤال عن مكان و كان الله و لا مكان.
و في التوحيد، خطبة للحسن بن علي (عليهما السلام) و فيها: الحمد لله الذي لم
يكن فيه أول معلوم، و لا آخر متناه، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، فلا تدرك
العقول و أوهامها و لا الفكر و خطراتها و لا الألباب و أذهانها صفته فتقول: متى
و لا بدىء مما، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما.
أقول: و قوله أول معلوم إلخ، أوصاف توضيحية أي ليس له أول و لو كان له أول كان
من الجائز أن يتعلق به علم و لا آخر و لو كان له آخر كان متناهيا، و لا قبل و
لو كان لكان جائز الإدراك و لا بعد و إلا لكان محدودا.
و قوله: و لا بدىء مما أي لم يبتدأ من شيء حتى يكون له أول و لا ظاهر على ما أي
يتفوق على شيء بالوقوع و الاستقرار عليه كالجسم على الجسم "و لا باطن فيما" أي
لم يتبطن في شيء بالدخول فيه و الاستتار به.
و في نهج البلاغة،: و كل ظاهر غيره غير باطن، و كل باطن غيره غير ظاهر.
أقول: معناه أن حيثية الظهور في غيره تعالى غير حيثية البطون و بالعكس، و أما
هو تعالى فلما كان أحدي الذات لا تنقسم و لا تتجزى إلى جهة و جهة كان ظاهرا من
حيث هو باطن و باطنا من حيث هو ظاهر فهو باطن خفي من كمال ظهوره و ظاهر جلي من
كمال بطونه.
و فيه،: الحمد لله الأول فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، و الظاهر فلا شيء
فوقه، و الباطن فلا شيء دونه.
أقول: المراد بالقبلية و البعدية ليس هو القبلية و البعدية الزمانية بأن يفرض
هناك امتداد زماني غير متناهي الطرفين و قد حل العالم قطعة منه خاليا عنه طرفاه
و يكون وجوده تعالى و تقدس منطبقا على الزمان كله غير خال عنه شيء من جانبيه و
إن ذهبا إلى غير النهاية فيتقدم وجوده تعالى على العالم زمانا و يتأخر عنه
زمانا و لو كان كذلك لكان تعالى متغيرا في ذاته و أحواله بتغير الأزمنة
المتجددة عليه، و كان قبليته و بعديته بتبع الزمان و كان الزمان هو الأول و
الآخر بالأصالة.
و كذلك ليست ظاهريته و باطنيته بحسب المكان بنظير البيان بل هو تعالى سابق بنفس
ذاته المتعالية على كل شيء مفروض و آخر بنفس ذاته عن كل أمر مفروض أنه آخر، و
ظاهر، و باطن كذلك، و الزمان مخلوق له متأخر عنه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر و أبي سعيد عن النبي
(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا:
هذا الله كان قبل كل شيء فما ذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو
الأول قبل كل شيء و هو الآخر فليس بعده شيء و هو الظاهر فوق كل شيء و هو الباطن
دون كل شيء و هو بكل شيء عليم.
و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: لم يزل الله عز و جل ربنا و العلم ذاته و لا معلوم فلما أحدث الأشياء وقع
العلم منه على المعلوم.
أقول: ليس المراد بهذا العلم الصور الذهنية فيكون تعالى كباني دار يتصور للدار
صورة و هيئة قبل بنائها ثم يبنيها على ما تصور فتنطبق الصورة الذهنية على
البناء الخارجي ثم تنهدم الدار و الصورة الذهنية على حالها، و هذا هو المسمى
بالعلم الكلي و هو مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم بمعلومه ثم
المعلوم إذا تحقق في الخارج كان ذات المعلوم عين علمه تعالى به، و يسمى الأول
العلم الذاتي و الثاني العلم الفعلي.
و فيه، خطبة لعلي (عليه السلام) و فيها: و علمها لا بأداة لا يكون العلم إلا
بها، و ليس بينه و بين معلومه علم غيره.
أقول: المراد به أن ذاته تعالى عين علمه، و ليست هناك صورة زائدة.
57 سورة الحديد - 7 - 15
ءَامِنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ أَنفِقُوا مِمّا جَعَلَكم مّستَخْلَفِينَ
فِيهِ فَالّذِينَ ءَامَنُوا مِنكمْ وَ أَنفَقُوا لهَُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ
مَا لَكمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ الرّسولُ يَدْعُوكمْ لِتُؤْمِنُوا
بِرَبِّكمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثَقَكمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ (8) هُوَ الّذِى
يُنزِّلُ عَلى عَبْدِهِ ءَايَتِ بَيِّنَتٍ لِّيُخْرِجَكم مِّنَ الظلُمَتِ إِلى
النّورِ وَ إِنّ اللّهَ بِكمْ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ (9) وَ مَا لَكمْ أَلا
تُنفِقُوا فى سبِيلِ اللّهِ وَ للّهِ مِيرَث السمَوَتِ وَ الأَرْضِ لا يَستَوِى
مِنكم مّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْح وَ قَتَلَ أُولَئك أَعْظمُ دَرَجَةً
مِّنَ الّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَ قَتَلُوا وَ ُكلاً وَعَدَ اللّهُ
الحُْسنى وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مّن ذَا الّذِى يُقْرِض
اللّهَ قَرْضاً حَسناً فَيُضعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ
تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَتِ يَسعَى نُورُهُم بَينَ أَيْدِيهِمْ وَ
بِأَيْمَنِهِم بُشرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنّتٌ تجْرِى مِن تحْتهَا الأَنهَرُ
خَلِدِينَ فِيهَا ذَلِك هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ
الْمُنَفِقُونَ وَ الْمُنَفِقَت لِلّذِينَ ءَامَنُوا انظرُونَا نَقْتَبِس مِن
نّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسوا نُوراً فَضرِب بَيْنهُم
بِسورٍ لّهُ بَاب بَاطِنُهُ فِيهِ الرّحْمَةُ وَ ظهِرُهُ مِن قِبَلِهِ
الْعَذَاب (13) يُنَادُونهُمْ أَ لَمْ نَكُن مّعَكُمْ قَالُوا بَلى وَ
لَكِنّكمْ فَتَنتُمْ أَنفُسكُمْ وَ تَرَبّصتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرّتْكُمُ
الأَمَانىّ حَتى جَاءَ أَمْرُ اللّهِ وَ غَرّكُم بِاللّهِ الْغَرُورُ (14)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا
مَأْوَاكُمُ النّارُ هِىَ مَوْلَاكُمْ وَ بِئْس الْمَصِيرُ (15)
بيان
أمر مؤكد بالإنفاق في سبيل الله و خاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: "لا يستوي
منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل" الآية، و يتأيد بذلك ما قيل: إن قوله:
"آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا" إلخ، نزل في غزوة تبوك.
قوله تعالى: "آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" إلخ،
المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله و رسوله لا للكفار
و لا للمؤمنين و الكفار جميعا كما قيل، و أمر الذين تلبسوا بالإيمان بالله و
رسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة
من الصفات كالسخاء و العفة و الشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حق ثبوتها لم يتخلف
عنها أثرها الخاص و من آثار الإيمان بالله و رسوله الطاعة فيما أمر الله و
رسوله به.
و من هنا يظهر أولا: أن أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من
الإيمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، و هذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أن
الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الإرضاء.
و ثانيا: أن قوله: "آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا" أمر بالإنفاق مع التلويح إلى
أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيئول إلى تعليل
الإنفاق بإيمانهم.
و قوله: "و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه" استخلاف الإنسان جعله خليفة، و
المراد به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله:
"إني جاعل في الأرض خليفة": البقرة: 30، و التعبير عما بأيديهم من المال بهذا
التعبير لبيان الواقع و لترغيبهم في الإنفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله و
هم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه و
لم تتحرج نفوسهم من ذلك.
و إما خلافتهم عمن سبقهم من الأجيال كما يخلف كل جيل سابقه، و في التعبير به
أيضا ترغيب في الإنفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم
علموا أنه كذلك لا يدوم لهم و سيتركونه لغيرهم و هان عليهم إنفاقه و سخت بذلك
نفوسهم.
و قوله: "فالذين آمنوا منكم و أنفقوا لهم أجر كبير" وعد للأجر على الإنفاق
تأكيدا للترغيب، و المراد بالإيمان الإيمان بالله و رسوله.
قوله تعالى: "و ما لكم لا تؤمنون بالله و الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم" إلخ،
المراد بالإيمان الإيمان بحيث يترتب عليه آثاره و منها الإنفاق في سبيل الله -
و إن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإيمان عليه -.
و قوله: "و الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم" عبر الرب بالرب و إضافة إليهم تلويحا
إلى علة توجه الدعوة و الأمر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنه ربكم يجب
عليكم أن تؤمنوا به.
و قوله: "و قد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين" تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول
الآية، و ضمير "أخذ" لله سبحانه أو للرسول و على أي حال المراد بالميثاق
المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله و رسالة رسوله يوم آمنوا به
(صلى الله عليه وآله وسلم) من أنهم على السمع و الطاعة.
و قيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذر، و على هذا فضمير
"أخذ" لله سبحانه، و فيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه،
على أن أخذ الميثاق في الذر لا يختص بالمؤمنين بل يعم المنافقين و الكفار.
قوله تعالى: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور"
إلخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض
الدين، و فاعل "ليخرجكم" الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله (صلى الله عليه
وآله وسلم) و مرجع الثاني أيضا هو الأول فالميثاق ميثاقه و قد أخذه بواسطة
رسوله أو بغير واسطته كما أن الإيمان به و برسوله إيمان به و لذلك قال في صدر
الآية: "و ما لكم لا تؤمنون بالله" فذكر نفسه و لم يذكر رسوله إشارة إلى أن
الإيمان برسوله إيمان به.
و قوله: "و إن الله بكم لرءوف رحيم" في تذييل الآية برأفته تعالى و رحمته إشارة
إلى أن الإيمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم و أصلح و هم الذين ينتفعون به
دون الله و رسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان و الإنفاق.
قوله تعالى: "و ما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله و لله ميراث السماوات و الأرض"
الميراث و التراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من وراثه، و إضافة
الميراث إلى السماوات و الأرض بيانية فالسماوات و الأرض هي الميراث بما فيهما
من الأشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذوو الشعور من سكنتهما فالسماوات و الأرض
شاملة لما فيهما مما خلق منهما و يتصرف فيها ذوو الشعور كالإنسان مثلا بتخصيص
ما يتصرفون فيه لأنفسهم و هو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى
اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.
غير أنهم لا يبقون و لا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في
أيديهم إلى من بعدهم و هكذا حتى يفنى الجميع و لا يبقى إلا هو سبحانه.
فالأرض مثلا و ما فيها و عليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها
ممن قبله فكانت ميراثا دائما دائرا بينهم خلفا عن سلف، و ميراث من جهة أنهم
سيفنون جميعا و لا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
و لله سبحانه ميراث السماوات و الأرض بكلا المعنيين، أما الأول: فلأنه الذي
يملكهم المال و هو المالك لما ملكهم، قال تعالى: "لله ما في السماوات و الأرض":
لقمان: 26، و قال: "و لله ملك السماوات و الأرض": النور: 42، و قال: "و آتوهم
من مال الله الذي آتاكم": النور: 33.
و أما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: "كل من عليها فان": الرحمن: 26
و غيره، و الذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثا هو المعنى الثاني.
و كيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال
الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى و لا يبقى لهم و لا لغيرهم، و الإظهار في
موضع الإضمار في قوله: "و لله" لتشديد التوبيخ.
قوله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من
الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا" إلخ، الاستواء بمعنى التساوي، و قسيم قوله: "من
أنفق من قبل الفتح و قاتل" محذوف إيجازا لدلالة قوله: "أولئك أعظم درجة من
الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا" عليه.
و المراد بالفتح - كما قيل - فتح مكة أو فتح الحديبية و عطف القتال على الإنفاق
لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالإنفاق في سبيل الله المندوب إليه
في الآيات هو الإنفاق في الجهاد.
و كان الآية مسوقة لبيان أن الإنفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحب عند
الله و أعظم درجة و منزلة و إلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح و القتال
الذي بادروا إليه قبل الفتح و بعض المقاتل التي بعده.
و قوله: "و كلا وعد الله الحسنى" أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق و قاتل
قبل الفتح أو أنفق و قاتل بعده و إن كانت الطائفة الأولى أعظم درجة من الثانية،
و فيه تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقا و قتالا أن لهم نيلا من رحمته و ليسوا
بمحرومين مطلقا فلا موجب لأن ييأسوا منها و إن تأخروا.
و قوله: "و الله بما تعملون خبير" تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد
للتوبيخ و تقرير و تثبيت لقوله: "لا يستوي منكم" إلخ، و لقوله: "و كلا وعد الله
الحسنى" و يمكن أن يتعلق بالجملة الأخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم و أشمل.
قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له و له أجر كريم" قال
الراغب: و سمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضا.
انتهي.
و قال في المجمع،: و أصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد
مثله.
قال: و المضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله.
انتهي.
و قال الراغب: الأجر و الأجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو
أخرويا قال: و لا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع
و الضر.
انتهى ملخصا.
و ما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد
فإن العبد و ما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكا لا يقبل النقل و الانتقال
غير أنه اعتبر اعتبارا تشريعيا العبد مالكا و ملكه عمله، و هو المالك لما ملكه
و هو تفضل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثوابا على عمله و سماه أجرا و
جزاء و هو تفضل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلا العبد قال تعالى:
"للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم": آل عمران: 172، و قال: "إن الذين آمنوا
و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون": حم السجدة: 8، و قال بعد وصف الجنة و
نعيمها: "إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا": الإنسان: 22، و ما وعده من
الشكر و عدم المن عند إيتاء الثواب تمام التفضل.
و في الآية حث بليغ على ما ندب إليه من الإنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن
الذي ينفق منهم في سبيل الله و مثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه و عليه
أن يرده ثم قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه و لم يكتف بذلك بل أضاف إليه
أجرا كريما في الآخرة و الأجر الكريم هو المرضي في نوعه و الأجر الأخروي كذلك
لأنه غاية ما يتصور من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة.
قوله تعالى: "يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم"
إلخ، اليوم ظرف لقوله: "له أجر كريم" و المراد به يوم القيامة، و الخطاب في
"ترى" للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل سامع يصح خطابه، و الظاهر أن
الباء في "بأيمانهم" بمعنى في.
و المعنى: لمن أقرض الله قرضا حسنا أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كل
من يصح منه الرؤية - المؤمنين بالله و رسوله و المؤمنات يسعى نورهم أمامهم و في
أيمانهم و اليمين هو الجهة التي منها سعادتهم.
و الآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الأمم و لا تختص بهذه الأمة، و التعبير عن إشراق
النور بالسعي يشعر بأنهم ساعون إلى درجات الجنة التي أعدها الله سبحانه لهم و
تستنير لهم جهات السعادة و مقامات القرب واحدة بعد واحدة حتى يتم لهم نورهم كما
قال تعالى: "و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا": الزمر: 73، و قال: "يوم
نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا": مريم: 85، و قال: "يوم لا يخزي الله النبي و
الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا
نورنا": التحريم: 8.
و للمفسرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ
الآية عليها، و سيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائي الآتي إن شاء
الله.
و قوله: "بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها" حكاية ما يقال
للمؤمنين و المؤمنات يوم القيامة، و القائل الملائكة بأمر من الله و التقدير
يقال لهم: "بشراكم" إلخ، و المراد بالبشرى ما يبشر به و هو الجنة و الباقي
ظاهر.
و قوله: "ذلك هو الفوز العظيم" كلام الله سبحانه و الإشارة إلى ما ذكر من سعي
النور و البشرى أو من تمام قول الملائكة و الإشارة إلى الجنات و الخلود فيها.
قوله تعالى: "يوم يقول المنافقون و المنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من
نوركم" إلى آخر الآية، النظر إذا تعدى بنفسه أفاد معنى الانتظار و الإمهال، و
إذا عدي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء و إذا عدي بفي كان
بمعنى التأمل، و الاقتباس أخذ قبس من النار.
و السياق يفيد أنهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها و قد ألجئوا إلى المسير
نحو دارهم التي يخلدون فيها غير أن المؤمنين و المؤمنات يسيرون بنورهم الذي
يسعى بين أيديهم و بأيمانهم فيبصرون الطريق و يهتدون إلى مقاماتهم، و أما
المنافقون و المنافقات فهم مغشيون بالظلمة لا يهتدون سبيلا و هم مع المؤمنين
كما كانوا في الدنيا معهم و معدودين منهم فيسبق المؤمنون و المؤمنات إلى الجنة
و يتأخر عنهم المنافقون و المنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين و
المؤمنات أن ينتظروهم حتى يلحقوا بهم و يأخذوا قبسا من نورهم ليستضيئوا به في
طريقهم.
و قوله: "قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا" القائل به إما الملائكة أو قوم من
كمل المؤمنين كأصحاب الأعراف.
و كيف كان فهو من الله و بإذنه، و الخطاب بقوله: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"
قيل: إنه خطاب مبني على التهكم و الاستهزاء كما كانوا يستهزءون في الدنيا
بالمؤمنين، و الأظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، و محصل المعنى:
ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم و عملتم فيها ما عملتم على
النفاق، و التمسوا من تلك الأعمال نورا فإنما النور نور الأعمال أو الإيمان و
لا إيمان لكم و لا عمل.
و يمكن أن يجعل هذا وجها على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله:
"ارجعوا" أمرا بالرجوع إلى الدنيا و اكتساب النور بالإيمان و العمل الصالح و
ليسوا براجعين و لا يستطيعون فيكون الأمر بالرجوع كالأمر بالسجود المذكور في
قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم
ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون": القلم: 43.
و قيل: المراد ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور و التمسوا من هناك فيرجعون
فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم و قد ضرب بينهم بسور، و هذا خدعة منه تعالى
يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال: "إن المنافقين يخادعون الله
و هو خادعهم": النساء: 142.
قوله تعالى: "فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب"
سور المدينة حائطها الحاجز بينها و بين الخارج منها، و الضمير في "فضرب بينهم
بسور" راجع إلى المؤمنين و المنافقين جميعا أي ضرب بين المؤمنين و بين
المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الأخرى.
قيل: السور هو الأعراف و هو غير بعيد و قد تقدمت إشارة إليه في تفسير قوله
تعالى: "و بينهما حجاب و على الأعراف رجال" الآية: الأعراف: 46، و قيل: السور
غير الأعراف.
و قوله: "له باب" أي للسور باب و هذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا
فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم و ارتباط و هم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب.
على أنهم يرون أهل الجنة و يزيد بذلك حسرتهم و ندامتهم.
و قوله: "باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب" "باطنه" مبتدأ و جملة فيه
الرحمة" مبتدأ و خبر و هي خبر باطنه و كذا ظاهره مبتدأ و جملة من قبله العذاب
مبتدأ و خبر هي خبره، و ضميرا فيه و من قبله للباطن و الظاهر.
و يظهر من كون باطن السور فيه رحمة و ظاهره من قبله العذاب أن السور محيط
بالمؤمنين و هم في داخله و المنافقون في الخارج منه.
و في اشتمال داخله الذي يلي المؤمنين على الرحمة و ظاهره الذي يلي المنافقين
على العذاب مناسبة لحال الإيمان في الدنيا فإنه نعمة لأهل الإخلاص من المؤمنين
يبتهجون بها و يلتذون و عذاب لأهل النفاق يتحرجون من التلبس به و يتألمون منه.
قوله تعالى: "ينادونهم أ لم نكن معكم" إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب
السؤال كأنه قيل: فما ذا يفعل المنافقون و المنافقات بعد ضرب السور و مشاهدة
العذاب من ظاهره؟ فقيل: ينادونهم إلخ.
و المعنى: ينادي المنافقون و المنافقات المؤمنين و المؤمنات بقولهم: "أ لم نكن
معكم" يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين و المؤمنات في ظاهر الدين.
و قوله: "قالوا بلى" إلى آخر الآية جواب المؤمنين و المؤمنات لهم و المعنى:
"قالوا" أي قال المؤمنون و المؤمنات جوابا لهم "بلى" كنتم في الدنيا معنا "و
لكنكم فتنتم" أي محنتم و أهلكتم "أنفسكم و تربصتم" الدوائر بالدين و أهله "و
ارتبتم" و شككتم في دينكم "و غرتكم الأماني" و منها أمنيتكم أن الدين سيطفأ
نوره و يتركه أهله "حتى جاء أمر الله" و هو الموت "و غركم بالله الغرور" بفتح
الغين و هو الشيطان.
و الآية - كما ترى - تفيد أن المنافقين و المنافقات يستنصرون المؤمنين و
المؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسلين بأنهم كانوا معهم في الدنيا ثم تفيد
أن المؤمنين و المؤمنات يجيبون بأنهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر
حالهم حيث يفتنون أنفسهم و يتربصون و يرتابون و تغرهم الأماني و يغرهم بالله
الغرور، و هذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة و لا ينفع
يوم القيامة إلا القلب السليم قال تعالى: "يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من
أتى الله بقلب سليم": الشعراء: 89.
قوله تعالى: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا" تتمة كلام
المؤمنين و المؤمنات يخاطبون به المنافقين و المنافقات و يضيفون إليهم الكفار و
هم المعلنون لكفرهم أنهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى: "كل نفس بما كسبت
رهينة": المدثر: 38، لا يؤخذ منهم فدية يخلصون بها أنفسهم و الفدية أحد الأمرين
اللذين بهما التخلص من الرهانة و الآخر ناصر ينصر فينجي و قد نفوه بقولهم:
"مأواكم النار" إلخ.
فقوله: "مأواكم النار هي مولاكم و بئس المصير" ينفي أي ناصر ينصرهم و ينجيهم من
النار غير النار على ما يفيده قوله: "هي مولاكم" من الحصر، و المولى هو الناصر
و الجملة مسوقة للتهكم.
و يمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الأمر فإنهم كانوا يدعون لحوائجهم من
المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المسكن غير الله سبحانه و حقيقته النار
فاليوم مولاهم النار و هي التي تعد لهم ذلك فمأكلهم من الزقوم و مشربهم من
الحميم و ملبسهم من ثياب قطعت من النار و قرناؤهم الشياطين و مأواهم النار على
ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في
الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم
قلنا: من هم يا رسول الله أ قريش؟ قال: لا و لكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة و
ألين قلوبا. قلنا: أ هم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب
فأنفقه ما أدرك مد أحدكم و لا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا و بين الناس "لا
يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل" الآية.
أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة و هي مشتملة على الآية
و يشكل بأن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد الفتح و المراد به إما الحديبية أو
فتح مكة فلا تنطبق على ما قبل الفتح.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية "لا
يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل" قال أبو الدحداح: و الله لأنفقن اليوم
نفقة أدرك بها من قبلي و لا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللهم كل شيء يملكه أبو
الدحداح فإن نصفه لله حتى بلغ فرد نعله ثم قال: و هذا.
و في تفسير القمي،: في قوله: "يوم ترى المؤمنين و المؤمنات - يسعى نورهم بين
أيديهم و بأيمانهم" قال: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم
يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثم يقول للمؤمنين:
مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا و
يضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين: "أ لم نكن معكم قالوا:
بلى و لكنكم فتنتم أنفسكم" قال: بالمعاصي "و تربصتم و ارتبتم" قال: أي شككتم و
تربصتم. و قوله: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" قال: و الله ما عنى بذلك اليهود و
النصارى و ما عنى به إلا أهل القبلة ثم قال: "مأواكم النار هي مولاكم" قال: هي
أولى بكم.
أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم.
و في الكافي، بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)
يقول: تجنبوا المنى فإنها تذهب بهجة ما خولتم و تستصغرون بها مواهب الله جل و
عز عندكم و تعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم.
57 سورة الحديد - 16 - 24
أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ ءَامَنُوا أَن تخْشعَ قُلُوبهُمْ لِذِكرِ اللّهِ وَ
مَا نَزَلَ مِنَ الحَْقِّ وَ لا يَكُونُوا كالّذِينَ أُوتُوا الْكِتَب مِن
قَبْلُ فَطالَ عَلَيهِمُ الأَمَدُ فَقَست قُلُوبهُمْ وَ كَثِيرٌ مِّنهُمْ
فَسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يحْىِ الأَرْض بَعْدَ مَوْتهَا قَدْ
بَيّنّا لَكُمُ الاَيَتِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنّ الْمُصدِّقِينَ وَ
الْمُصدِّقَتِ وَ أَقْرَضوا اللّهَ قَرْضاً حَسناً يُضعَف لَهُمْ وَ لَهُمْ
أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ رُسلِهِ أُولَئك هُمُ
الصدِّيقُونَ وَ الشهَدَاءُ عِندَ رَبهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ
الّذِينَ كَفَرُوا وَ كذّبُوا بِئَايَتِنَا أُولَئك أَصحَب الجَْحِيمِ (19)
اعْلَمُوا أَنّمَا الحَْيَوةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَ لهَْوٌ وَ زِينَةٌ وَ
تَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فى الأَمْوَلِ وَ الأَوْلَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ
أَعجَب الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثمّ يهِيجُ فَترَاهُ مُصفَرّا ثمّ يَكُونُ حُطماً
وَ فى الاَخِرَةِ عَذَابٌ شدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَ رِضوَنٌ وَ مَا
الحَْيَوةُ الدّنْيَا إِلا مَتَعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ
مِّن رّبِّكمْ وَ جَنّةٍ عَرْضهَا كَعَرْضِ السمَاءِ وَ الأَرْضِ أُعِدّت
لِلّذِينَ ءَامَنُوا بِاللّهِ وَ رُسلِهِ ذَلِك فَضلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن
يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصاب مِن مّصِيبَةٍ فى
الأَرْضِ وَ لا فى أَنفُسِكُمْ إِلا فى كتَبٍ مِّن قَبْلِ أَن نّبرَأَهَا إِنّ
ذَلِك عَلى اللّهِ يَسِيرٌ (22) لِّكَيْلا تَأْسوْا عَلى مَا فَاتَكُمْ وَ لا
تَفْرَحُوا بِمَا ءَاتَامْ وَ اللّهُ لا يحِب كلّ مخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النّاس بِالْبُخْلِ وَ مَن يَتَوَلّ
فَإِنّ اللّهَ هُوَ الْغَنىّ الحَْمِيدُ (24)
بيان
جرى على وفق مقصد الكلام السابق و هو الحث و الترغيب في الإيمان بالله و رسوله
و الإنفاق في سبيل الله و تتضمن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة
القلوب منهم، و تأكيد الحث على الإنفاق ببيان درجة المنفقين عند الله و الأمر
بالمسابقة إلى المغفرة و الجنة و ذم الدنيا و أهلها الذين يبخلون و يأمرون
الناس بالبخل.
و قد تغير السياق خلال الآيات إلى سياق عام يشمل المسلمين و أهل الكتاب بعد
اختصاص السياق السابق بالمسلمين و سيجيء توضيحه.
قوله تعالى: "أ لم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق"
إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني إنى و إناء أي جاء وقته، و خشوع القلب تأثره
قبال العظمة و الكبرياء، و المراد بذكر الله ما يذكر به الله، و ما نزل من الحق
هو القرآن النازل من عنده تعالى و "من الحق" بيان لما نزل، و من شأن ذكر الله
تعالى عند المؤمن أن يعقب خشوعا كما أن من شأن الحق النازل من عنده تعالى أن
يعقب خشوعا ممن آمن بالله و رسله.
و قيل: المراد بذكر الله و ما نزل من الحق جميعا القرآن، و على هذا فذكر القرآن
بوصفيه لكون كل من الوصفين مستدعيا لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي
الخشوع كما أنه لكونه حقا نازلا من عنده تعالى يستدعي الخشوع.
و في الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة و عدم خشوعها لذكر الله
و الحق النازل من عنده تعالى و تشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الذين نزل عليهم
الكتاب و طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و قوله: "و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست
قلوبهم" عطف على قوله: "تخشع" إلخ، و المعنى: أ لم يأن لهم أن تخشع قلوبهم و أن
لا يكونوا إلخ، و الأمد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان و الأمد أن الأمد
يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدأ و الغاية و لذلك قال بعضهم: إن
المدى و الأمد يتقاربان.
انتهي.
و قد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية و
القلب القاسي حيث يفقد الخشوع و التأثر عن الحق ربما خرج عن زي العبودية فلم
يتأثر عن المناهي و اقترف الإثم و الفسوق، و لذا أردف قوله: "فقست قلوبهم"
بقوله: "و كثير منهم فاسقون".
قوله تعالى: "اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها" إلى آخر الآية في تعقيب
عتاب المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم و ترغيب لهم في
الخشوع.
و يمكن أن يكون من تمام العتاب السابق و يكون تنبيها على أن الله لا يخلي هذا
الدين على ما هو عليه من الحال بل كلما قست قلوب و حرموا الخشوع لأمر الله جاء
بقلوب حية خاشعة له يعبد بها كما يريد.
فتكون الآية في معنى قوله: "ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من
يبخل و من يبخل فإنما يبخل عن نفسه و الله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا
يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم": سورة محمد: 38.
و لذلك ذيل الآية بقوله: "قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون".
قوله تعالى: "إن المصدقين و المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم و لهم
أجر كريم" تكرار لحديث المضاعفة و الأجر الكريم للترغيب في الإنفاق في سبيل
الله و قد أضيف إلى الذين أقرضوا الله قرضا حسنا المصدقون و المصدقات.
و المصدقون و المصدقات - بتشديد الصاد و الدال - المتصدقون و المتصدقات، و
قوله: "و أقرضوا الله" عطف على مدخول اللام في "المصدقين"، و المعنى: أن الذين
تصدقوا و الذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ما أعطوه و لهم أجر كريم.
قوله تعالى: "و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند
ربهم" إلخ، لم يقل: آمنوا بالله و رسوله كما قال في أول السورة: "آمنوا بالله و
رسوله و أنفقوا" و قال في آخرها: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا
برسوله" لأنه تعالى لما ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله: "و لا يكونوا
كالذين أوتوا الكتاب من قبل" عدل عن السياق السابق إلى سياق عام يشمل المسلمين
و أهل الكتاب جميعا كما قال بعد: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات" و أما الآيتان
المذكورتان في أول السورة و آخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الأمة خاصة و لذا
جيء فيهما بالرسول مفردا.
و المراد بالإيمان بالله و رسله محض الإيمان الذي لا يفارق بطبعه الطاعة و
الاتباع كما مرت الإشارة إليه في قوله: "آمنوا بالله و رسوله" الآية، و المراد
بقوله: "أولئك هم الصديقون و الشهداء" إلحاقهم بالصديقين و الشهداء بقرينة
قوله: "عند ربهم" و قوله: "لهم أجرهم و نورهم" فهم ملحقون بالطائفتين يعامل
معهم معاملة الصديقين و الشهداء فيعطون مثل أجرهم و نورهم.
و الظاهر أن المراد بالصديقين و الشهداء هم المذكورون في قوله: "و من يطع الله
و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و
الصالحين و حسن أولئك رفيقا": النساء: 69، و قد تقدم في تفسير الآية أن المراد
بالصديقين هم الذين سرى الصدق في قولهم و فعلهم فيفعلون ما يقولون و يقولون ما
يفعلون، و الشهداء هم شهداء الأعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين
في سبيل الله.
فهؤلاء الذين آمنوا بالله و رسله ملحقون بالصديقين و الشهداء منزلون منزلتهم
عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم و نورهم.
و قوله: "لهم أجرهم و نورهم" ضمير "لهم" للذين آمنوا، و ضمير "أجرهم و نورهم"
للصديقين و الشهداء أي للذين آمنوا أجر من نوع أجر الصديقين و الشهداء و نور من
نوع نورهم، و هذا معنى قول من قال: إن المعنى: لهم أجر كأجرهم و نور كنورهم.
و ربما قيل: إن الآية مسوقة لبيان أنهم صديقون و شهداء على الحقيقة من غير
إلحاق و تنزيل فهم هم لهم أجرهم و نورهم، و لعل السياق لا يساعد عليه.
و ربما قيل: إن قوله: "و الشهداء" ليس عطفا على قوله: "الصديقون" بل استئناف و
"الشهداء" مبتدأ خبره "عند ربهم" و خبره الآخر "لهم أجرهم" فقد قيل: و الذين
آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون، و قد تم الكلام ثم استؤنف و قيل: "و
الشهداء عند ربهم" كما قيل: "بل أحياء عند ربهم": آل عمران: 169، و المراد
بالشهداء المقتولون في سبيل الله، ثم تمم الكلام بقوله: "لهم أجرهم و نورهم".
و قوله: "و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم" أي لا يفارقونها و
هم فيها دائمين.
و قد تعرض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصديقين و الشهداء و هم خيار الناس
و الناجون قطعا، و الكفار المكذبين لآياته و هم شرار الناس و الهالكون قطعا و
بقي فريق بين الفريقين و هم المؤمنون المقترفون للمعاصي و الذنوب على طبقاتهم
في التمرد على الله و رسوله، و هذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرض لشأن
الناس يوم القيامة.
و ذلك ليكون بعثا لقريحتي الخوف و الرجاء في ذلك الفريق المتخلل بين الخيار و
الشرار فيميلوا إلى السعادة و يختاروا النجاة على الهلاك.
و لذلك أعقب الآية بذم الحياة الدنيا التي تعلق بها هؤلاء الممتنعون من الإنفاق
في سبيل الله ثم بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة و الجنة ثم بالإشارة إلى أن
ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم و أنفسهم مكتوبة في كتاب سابق و قضاء متقدم
فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الإنفاق في سبيل الله، فيبخلوا و يمسكوا أو
يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلفوا و يقعدوا.
قوله تعالى: "اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و
تكاثر في الأموال و الأولاد" إلخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، و
اللهو ما يشغل الإنسان عما يهمه، و الزينة بناء نوع و ربما يراد به ما يتزين به
و هي ضم شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، و
التفاخر المباهاة بالأنساب و الأحساب، و التكاثر في الأموال و الأولاد.
و الحياة الدنيا عرض زائل و سراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة:
اللعب و اللهو و الزينة و التفاخر و التكاثر و هي التي يتعلق بها هوى النفس
الإنسانية ببعضها أو بجميعها و هي أمور وهمية و أعراض زائلة لا تبقى للإنسان و
ليست و لا واحدة منها تجلب للإنسان كمالا نفسيا و لا خيرا حقيقيا.
و عن شيخنا البهائي رحمه الله أن الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب
سني عمر الإنسان و مراحل حياته فيتولع أولا باللعب و هو طفل أو مراهق ثم إذا
بلغ و اشتد عظمه تعلق باللهو و الملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من
الملابس الفاخرة و المراكب البهية و المنازل العالية و توله للحسن و الجمال ثم
إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب و الأنساب ثم إذا شاب سعى في تكثير المال و
الولد.
و قوله: "كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما" مثل
لزينة الحياة الدنيا التي يتعلق بها الإنسان غرورا ثم لا يلبث دون أن يسلبها.
و الغيث المطر و الكفار جمع كافر بمعنى الحارث، و يهيج من الهيجان و هو الحركة،
و الحطام الهشيم المتكسر من يابس النبات.
و المعنى: أن مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب
الحراث نباته الحاصل بسببه ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفر
اللون ثم يكون هشيما متكسرا - متلاشيا تذروه الرياح -.
و قوله: "و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان" سبق المغفرة على
الرضوان لتطهير المحل ليحل به الرضوان، و توصيف المغفرة بكونه من الله دون
العذاب لا يخلو من إيماء إلى أن المطلوب بالقصد الأول هو المغفرة و أما العذاب
فليس بمطلوب في نفسه و إنما يتسبب إليه الإنسان بخروجه عن زي العبودية كما قيل.
و قوله: "و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" أي متاع التمتع منه هو الغرور
به، و هذا للمتعلق المغرور بها.
و الكلام أعني قوله: "و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان" إشارة
إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة و الرضوان على
العذاب، ثم في قوله: "و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" تنبيه و إيقاظ لئلا
تغره الحياة الدنيا بخاصة غروره.
قوله تعالى: "سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض" إلخ
المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كل من المسابقين جعل
حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإن
المسارعة الجد في تسريع الحركة و المسابقة الجد في تسريعها بحيث تزيد في السرعة
على حركة صاحبه.
و على هذا فقوله: "سابقوا إلى مغفرة" إلخ، يتضمن من التكليف ما هو أزيد مما
يتضمنه قوله: "سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت
للمتقين": آل عمران: 133.
و يظهر به عدم استقامة ما قيل: إن آية آل عمران في السابقين المقربين و الآية
التي نحن فيها في عامة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلا الإيمان بالله و رسله
بخلاف آية آل عمران فإنها مذيلة بجملة الأعمال الصالحة، و لذا أيضا وصف الجنة
الموعودة هناك بقوله: "عرضها السماوات و الأرض" بخلاف ما هاهنا حيث قيل: "عرضها
كعرض السماء و الأرض" فدل على أن جنة أولئك أوسع من جنة هؤلاء.
وجه عدم الاستقامة ما عرفت أن المكلف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلف
به في آية آل عمران.
على أن اللام في "السماء" للجنس فتنطبق على "السماوات" في تلك الآية.
و تقديم المغفرة على الجنة في الآية لأن الحياة في الجنة حياة طاهرة في عالم
الطهارة فيتوقف التلبس بها على زوال قذارات الذنوب و أوساخها.
و المراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول و هو معنى شائع، و الكلام كأنه
مسوق للدلالة على انتهائها في السعة.
و قيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول و الاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر
الطول معه فإن العرض أقصر الامتدادين و إذا كان كعرض السماء و الأرض كان طولها
أكثر من طولهما.
و لا يخلو الوجه من تحكم إذ لا دليل على مساواة طول السماء و الأرض لعرضهما ثم
على زيادة طول الجنة على عرضها حتى يلزم زيادة طول الجنة على طولهما و الطول قد
يساوي العرض كما في المربع و الدائرة و سطح الكرة و غيرها و قد يزيد عليه.
و قوله: "أعدت للذين آمنوا بالله و رسله" قد عرفت في ذيل قوله: "آمنوا بالله و
رسله" و قوله: "و الذين آمنوا بالله و رسله" أن المراد بالإيمان بالله و رسله
هو مرتبة عالية من الإيمان تلازم ترتب آثاره عليه من الأعمال الصالحة و اجتناب
الفسوق و الإثم.
و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن في الآية بشارة لعامة المؤمنين حيث قال: "أعدت
للذين آمنوا بالله و رسله" و لم يقيد الإيمان بشيء من العمل الصالح و نحوه غير
سديد فإن خطاب الآية و إن كان بظاهر لفظه يعم الكافر و المؤمن الصالح و الطالح
لكن وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الإيمان الذي يصاحب العمل الصالح، و لو
كان المراد بالإيمان بالله و رسله مجرد الإيمان و لو لم يصاحبه عمل صالح و كانت
الجنة معدة لهم و الآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة و الجنة كان خطاب "سابقوا"
متوجها إلى الكفار فإن المؤمنين قد سبقوا و سياق الآيات يأباه.
و قوله: "ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء" و قد شاء أن يؤتيه الذين آمنوا بالله و
رسله، و قد تقدم بيان أن ما يؤتيه الله من الأجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى
من غير أن يستحقوه عليه.
و قوله: "و الله ذو الفضل العظيم" إشارة إلى عظمة فضله، و أن ما يثيبهم به من
المغفرة و الجنة من عظيم فضله.
قوله تعالى: "ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن
نبرأها" إلخ، المصيبة الواقعة التي تصيب الشيء مأخوذة من إصابة السهم الغرض و
هي بحسب المفهوم أعم من الخير و الشر لكن غلب استعمالها في الشر فالمصيبة هي
النائبة، و المصيبة التي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخربة
و نحوها، و التي تصيب في الأنفس كالمرض و الجرح و الكسر و القتل و الموت، و
البرء و البروء الخلق من العدم، و ضمير "نبرأها" للمصيبة، و قيل: للأنفس، و
قيل: للأرض، و قيل: للجميع من الأرض و الأنفس و المصيبة، و يؤيد الأول أن
المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الأموال و الأنفس التي
تدعوهم إلى الإمساك عن الإنفاق و التخلف عن الجهاد.
و المراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم
القيامة كما تدل عليه الآيات و الروايات و إنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض
و في أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها.
قيل: إنما قيد المصيبة بما في الأرض و في الأنفس لأن مطلق المصائب غير مكتوبة
في اللوح لأن اللوح متناه و الحوادث غير متناهية و لا يكون المتناهي ظرفا لغير
المتناهي.
و الكلام مبني على أن المراد باللوح لوح فلزي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي
الجو مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخط يشبه خطوطنا، و قد مر كلام في معنى
اللوح و القلم و سيجيء له تتمة.
و قيل: المراد بالكتاب علمه تعالى و هو خلاف الظاهر إلا أن يراد به أن الكتاب
المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعلي.
و ختم الآية بقوله: "إن ذلك على الله يسير" للدلالة على أن تقدير الحوادث قبل
وقوعها و القضاء عليها بقضاء لا يتغير لا صعوبة فيه عليه تعالى.
قوله تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم" إلخ، تعليل راجع
إلى الآية السابقة و هو تعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس
الكتابة، و الأسى الحزن، و المراد بما فات و ما آتى النعمة الفائتة و النعمة
المؤتاة.
و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها و تحققها لئلا تحزنوا بما فاتكم
من النعم و لا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لأن الإنسان إذا أيقن أن الذي أصابه
مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه و أن ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل
مسمى لم يعظم حزنه إذا فاته و لا فرحه إذا أوتيه.
قيل: إن اختلاف الإسناد في قوليه: "ما فاتكم" و "ما آتاكم" حيث أسند الفوت إلى
نفس الأشياء و الإيتاء إلى الله سبحانه لأن الفوات و العدم ذاتي للأشياء فلو
خليت و نفسها لم تبق بخلاف حصولها و بقائها فإنه لا بد من استنادهما إلى الله
تعالى.
و قوله: "و الله لا يحب كل مختال فخور" المختال من أخذته الخيلاء و هي التكبر
عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه - على ما ذكره الراغب - و الفخور الكثير الفخر
و المباهاة و الاختيال و الفخر ناشئان عن توهم الإنسان أنه يملك ما أوتيه من
النعم باستحقاق من نفسه، و هو مخالف لما هو الحق من استناد ذلك إلى تقدير من
الله لا لاستقلال من نفس الإنسان فهما من الرذائل و الله لا يحبها.
قوله تعالى: "الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل" وصف لكل مختال فخور يفيد
تعليل عدم حبه تعالى.
و الوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الذي يعتمد عليه اختيالهم و فخرهم و الوجه في
أمرهم الناس بالبخل أنهم يحبونه لأنفسهم فيحبونه لغيرهم، و لأن شيوع السخاء و
الجود بين الناس و إقبالهم على الإنفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل
المذموم.
و قوله: "و من يتول فإن الله هو الغني الحميد" أي و من يعرض عن الإنفاق و لم
يتعظ بعظة الله و لا اطمأن قلبه بما بينه من صفات الدنيا و نعت الجنة و تقدير
الأمور فإن الله هو الغني فلا حاجة له إلى إنفاقهم، و المحمود في أفعاله.
و الآيات الثلاث أعني قوله: "و ما أصاب من مصيبة - إلى قوله - الغني الحميد"
كما ترى حث على الإنفاق و ردع عن البخل و الإمساك بتزهيدهم عن الأسى بما فاتهم
و الفرح بما آتاهم لأن الأمور مقدرة مقضية مكتوبة في كتاب معينة قبل أن يبرأها
الله سبحانه.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: "أ لم يأن" الآية: أخرج ابن المبارك و عبد
الرزاق و ابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد
فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت: "أ لم يأن للذين آمنوا".
أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة و هناك رواية عن ابن مسعود قال: ما كان
بين إسلامنا و بين أن عاتبنا الله بهذه "أ لم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم
لذكر الله" إلا أربع سنين، و ظاهره كون السورة مكية، و في معناه ما ورد أن عمر
آمن بعد نزول هذه السورة و قد عرفت أن سياق آيات السورة تأبى إلا أن تكون
مدنية، و يمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية "أ لم يأن" إلخ، أو هي و التي
تتلوها مما نزل بمكة دون باقي آيات السورة.
و في رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): استبطأ الله قلوب المهاجرين
بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله "أ لم يأن" الآية، و لازمه نزول السورة
سنة أربع أو خمس من الهجرة، و في رواية أخرى عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ
قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: "أ لم يأن"
إلخ، و لازمه نزول السورة أيام الهجرة، و الروايتان أيضا لا تلائمان سياق
آياتها.
و فيه، أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم) يقول: مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
"و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون - و الشهداء عند ربهم".
و في تفسير العياشي، بإسناده عن منهال القصاب قال: لأبي عبد الله (عليه
السلام): ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إن المؤمن شهيد و قرأ هذه الآية.
أقول: و في معناه روايات أخرى و ظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل
في سبيل الله.
و في تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لأبي عبد الله (عليه
السلام): جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا؟ فقال: قد حده الله في كتابه فقال
عز و جل: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم".
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله
تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم" و من لم يأس على
الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
أقول: و الأساس الذي يبتنيان عليه عدم تعلق القلب بالدنيا، و في الحديث
المعروف: حب الدنيا رأس كل خطيئة.
57 سورة الحديد - 25 - 29
لَقَدْ أَرْسلْنَا رُسلَنَا بِالْبَيِّنَتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَب وَ
الْمِيزَانَ لِيَقُومَ النّاس بِالْقِسطِ وَ أَنزَلْنَا الحَْدِيدَ فِيهِ
بَأْسٌ شدِيدٌ وَ مَنَفِعُ لِلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصرُهُ وَ
رُسلَهُ بِالْغَيْبِ إِنّ اللّهَ قَوِىّ عَزِيزٌ (25) وَ لَقَدْ أَرْسلْنَا
نُوحاً وَ إِبْرَهِيمَ وَ جَعَلْنَا فى ذُرِّيّتِهِمَا النّبُوّةَ وَ الْكتَب
فَمِنهُم مّهْتَدٍ وَ كثِيرٌ مِّنهُمْ فَسِقُونَ (26) ثمّ قَفّيْنَا عَلى
ءَاثَرِهِم بِرُسلِنَا وَ قَفّيْنَا بِعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وَ ءَاتَيْنَهُ
الانجِيلَ وَ جَعَلْنَا فى قُلُوبِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً
وَ رَهْبَانِيّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ
رِضوَنِ اللّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الّذِينَ
ءَامَنُوا مِنهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِّنهُمْ فَسِقُونَ (27) يَأَيهَا
الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَ ءَامِنُوا بِرَسولِهِ يُؤْتِكُمْ
كِفْلَينِ مِن رّحْمَتِهِ وَ يجْعَل لّكمْ نُوراً تَمْشونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ
لَكُمْ وَ اللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ (28) لِّئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكتَبِ أَلا
يَقْدِرُونَ عَلى شىْءٍ مِّن فَضلِ اللّهِ وَ أَنّ الْفَضلَ بِيَدِ اللّهِ
يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ وَ اللّهُ ذُو الْفَضلِ الْعَظِيمِ (29)
بيان
ثم إنه تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين و تثاقلهم و فتورهم في امتثال
التكاليف الدينية و خاصة في الإنفاق في سبيل الله، الذي به قوام أمر الجهاد و
شبههم بأهل الكتاب حيث قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد.
ذكر أن الغرض الإلهي من إرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان معهم أن يقوم
الناس بالقسط، و أن يعيشوا في مجتمع عادل، و قد أنزل الحديد ليمتحن عباده في
الدفاع عن مجتمعهم الصالح و بسط كلمة الحق في الأرض مضافا إلى ما في الحديد من
منافع ينتفعون بها.
ثم ذكر أنه أرسل نوحا و إبراهيم (عليه السلام) و جعل في ذريتهما النبوة و
الكتاب و أتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمر الأمر في كل من الأمم على إيمان
بعضهم و اهتدائه و كثير منهم فاسقون، ثم ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى
تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة.
قوله تعالى: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم
الناس بالقسط" إلخ، استئناف يتبين به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل و إنزال
الكتاب و الميزان و أن الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط و امتحانهم بذلك و
بإنزال الحديد ليتميز من ينصر الله بالغيب و يتبين أن أمر الرسالة لم يزل
مستمرا بين الناس و لم يزالوا يهتدي من كل أمة بعضهم و كثير منهم فاسقون.
فقوله: "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات" أي بالآيات البينات التي يتبين بها أنهم
مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة و البشارات الواضحة و الحجج
القاطعة.
و قوله: "و أنزلنا معهم الكتاب" و هو الوحي الذي يصلح أن يكتب فيصير كتابا،
المشتمل على معارف الدين من اعتقاد و عمل و هو خمسة: كتاب نوح و كتاب إبراهيم و
التوراة و الإنجيل و القرآن.
و قوله: "و الميزان ليقوم الناس بالقسط" فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن
به الأثقال، و أخذوا قوله: "ليقوم الناس بالقسط" غاية متعلقة بإنزال الميزان و
المعنى: و أنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال
الأوزان و النسب بين الأشياء فقوام حياة الإنسان بالاجتماع، و قوام الاجتماع
بالمعاملات الدائرة بينهم و المبادلات في الأمتعة و السلع و قوام المعاملات في
ذوات الأوزان بحفظ النسب بينها و هو شأن الميزان.
و لا يبعد - و الله أعلم - أن يراد بالميزان الدين فإن الدين هو الذي يوزن به
عقائد أشخاص الإنسان و أعمالهم، و هو الذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين
و منفردين، و هذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرض لحال الناس من حيث خشوعهم
و قسوة قلوبهم و جدهم و مساهلتهم في أمر الدين.
و قيل: المراد بالميزان هنا العدل و قيل: العقل.
و قوله: "و أنزلنا الحديد" الظاهر أنه كقوله تعالى: "و أنزل لكم من الأنعام
ثمانية أزواج": الزمر: 6، و قد تقدم في تفسير الآية أن تسمية الخلق في الأرض
إنزالا إنما هو باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن
إنزالا لها من خزائنه التي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى: "و إن من
شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم": الحجر: 21.
و قوله: "فيه بأس شديد و منافع للناس" البأس هو الشدة في التأثير و يغلب
استعماله في الشدة في الدفاع و القتال، و لا تزال الحروب و المقاتلات و أنواع
الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد و أقسام الأسلحة المعمولة منه منذ تنبه البشر
له و استخرجه.
و أما ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب
الحياة و ما يرتبط بها من الصنائع.
و قوله: "و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب" غاية معطوفة على محذوف و
التقدير و أنزلنا الحديد لكذا و ليعلم الله من ينصره إلخ، و المراد بنصره و
رسله الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين و بسطا لكلمة الحق، و كون النصر
بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، و المراد بعلمه بمن ينصره و رسله
تميزهم ممن لا ينصر.
و ختم الآية بقوله: "إن الله قوي عزيز" و كان وجهه الإشارة إلى أن أمره تعالى
لهم بالجهاد إنما هو ليتميز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر
ينصره أنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذلة إليه.
قوله تعالى: "و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب
فمنهم مهتد و كثير منهم فاسقون" شروع في الإشارة إلى أن الاهتداء و الفسق
جاريان في الأمم الماضية حتى اليوم فلم تصلح أمة من الأمم بعامة أفرادها بل لم
يزل كثير منهم فاسقين.
و ضمير "فمنهم" و "منهم" للذرية و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: "ثم قفينا على آثارهم برسلنا و قفينا بعيسى بن مريم و آتيناه
الإنجيل" في المجمع،: التقفية جعل الشيء في إثر شيء على الاستمرار فيه، و لهذا
قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه.
انتهي.
و ضمير "على آثارهم" لنوح و إبراهيم و السابقين من ذريتهما، و الدليل عليه أنه
لا نبي بعد نوح إلا من ذريته لأن النسل بعده له.
على أن عيسى من ذرية إبراهيم قال تعالى في نوح: "و جعلنا ذريته هم الباقين":
الصافات: 77، و قال: "و من ذريته داود و سليمان - إلى أن قال - و عيسى":
الأنعام: 85، فالمراد بقوله: "ثم قفينا على آثارهم برسلنا" إلخ، التقفية
باللاحقين من ذريتهما على آثارهما و السابقين من ذريتهما.
و في قوله: "على آثارهم" إشارة إلى أن الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر
بعض.
و قوله: "و قفينا بعيسى بن مريم و آتيناه الإنجيل و جعلنا في قلوب الذين اتبعوه
رأفة و رحمة" الرأفة و الرحمة - على ما قالوا - مترادفان، و نقل عن بعضهم أن
الرأفة يقال في درء الشر و الرحمة في جلب الخير.
و الظاهر أن المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوب الذين اتبعوه توفيقهم للرأفة
و الرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة و المسالمة كما وصف الله
سبحانه الذين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحمة إذ قال: "رحماء
بينهم": الفتح: 29، و قيل: المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوبهم الأمر بهما و
الترغيب فيهما و وعد الثواب عليهما.
و قوله: "و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم" الرهبانية من الرهبة و هي
الخشية، و يطلق عرفا على انقطاع الإنسان من الناس لعبادة الله خشية منه، و
الابتداع إتيان ما لم يسبق إليه في دين أو سنة أو صنعة، و قوله: "ما كتبناها
عليهم" في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما
كتبناها عليهم.
و المعنى: أنهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانية من غير أن نشرعه نحن لهم.
و قوله: "إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها" استثناء منقطع معناه ما
فرضناها عليهم لكنهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله و طلبا لمرضاته
فما حافظوا عليها حق محافظتها بتعديهم حدودها.
و فيه إشارة إلى أنها كانت مرضية عنده تعالى و إن لم يشرعها بل كانوا هم
المبتدعين لها.
و قوله: "فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم و كثير منهم فاسقون" إشارة إلى أنهم
كالسابقين من أمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم و كثير منهم فاسقون، و
الغلبة للفسق.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من
رحمته" إلخ، أمر الذين آمنوا بالتقوى و الإيمان بالرسول مع أن الذين استجابوا
الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضا دليل على أن المراد بالإيمان بالرسول
الاتباع التام و الطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به و ينهى عنه سواء كان ما
يأمر به أو ينهى عنه حكما من الأحكام الشرعية أو صادرا عنه بما له من ولاية
أمور الأمة كما قال تعالى: "فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما": النساء: 65.
فهذا إيمان بعد إيمان و مرتبة فوق مرتبة الإيمان الذي ربما يتخلف عنه أثره فلا
يترتب عليه لضعفه، و بهذا يناسب قوله: "يؤتكم كفلين من رحمته" و الكفل الحظ و
النصيب فله ثواب على ثواب كما أنه إيمان على إيمان.
و قيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه
قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان
بالرسل المتقدمين و بخاتمهم (عليهم السلام) لا تفرقون بين أحد من رسله.
و قوله: "و يجعل لكم نورا تمشون به" قيل: يعني يوم القيامة و هو النور الذي
أشير إليه بقوله: "يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم".
و فيه أنه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا و هو المدلول عليه بقوله
تعالى: "أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله
في الظلمات ليس بخارج منها: الأنعام: 122، و نورهم في الآخرة و هو المدلول عليه
بقوله: "يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم" الآية:
12 من السورة و غيره.
ثم كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته و جعل نور يمشون به بالمغفرة فقال:
"و يغفر لكم و الله غفور رحيم".
قوله تعالى: "لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله" ظاهر
السياق أن في الآية التفاتا من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم)، و المراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و "أن" مخففة من الثقيلة، و
ضمير "يقدرون" للمؤمنين، و في الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة.
و المعنى: إنما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان و وعدناهم كفلين من الرحمة و جعل
النور و المغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل
الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا.
و قيل: إن لا في "لئلا يعلم" زائدة و ضمير "يقدرون" لأهل الكتاب، و المعنى:
إنما وعدنا المؤمنين بما وعدنا لأن يعلم أهل الكتاب القائلون: إن من آمن منا
بكتابكم فله أجران و من لم يؤمن فله أجر واحد لإيمانه بكتابنا، إنهم لا يقدرون
على شيء من فضل الله إن لم يؤمنوا، هذا و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف.
و قوله: "و أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم" معطوف على
ألا يعلم"، و المعنى: إنما وعدنا بما وعدنا لأن كذا كذا و لأن الفضل بيد الله و
الله ذو الفضل العظيم.
و في الآية أقوال و احتمالات أخر لا جدوى في إيرادها و البحث عنها.
بحث روائي
عن جوامع الجامع، روي: أن جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح (عليه السلام) و
قال: مر قومك يزنوا به.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث و قال: "و أنزلنا الحديد فيه بأس
شديد" فإنزاله ذلك خلقه إياه.
و في المجمع، عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله على الحمار فقال: يا ابن أم
عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله و رسوله أعلم.
فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي الله فغضب أهل
الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل. فقالوا:
إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض
إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله
وسلم) فتفرقوا في غيران 1 الجبال و أحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه، و منهم
من كفر. ثم تلا هذه الآية "و رهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم" إلى آخرها.
ثم قال: يا ابن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله و رسوله أعلم. قال:
الهجرة و الجهاد و الصلاة و الصوم و الحج و العمرة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) لقد آتى
الله أهل الكتاب خيرا كثيرا. قال: و ما ذاك؟ قلت: قول الله عز و جل: "الذين
آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما
صبروا" قال: فقال: آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله و آمنوا برسوله - يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به" يعني
إماما تأتمون به.
و في المجمع، عن سعيد بن جبير: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفرا
في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه و دعاه فاستجاب له و آمن به فلما
كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته و هم أربعون رجلا: ائذن لنا
فنأتي هذا النبي فنسلم به. فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة
استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: يا نبي الله إن لنا
أموالا و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا
فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين
فأنزل الله فيهم: "الذين آتيناهم الكتاب من قبله - هم به يؤمنون إلى قوله و مما
رزقناهم ينفقون" فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلما سمع أهل الكتاب
ممن لم يؤمن به قوله: "أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا" فخروا على المسلمين
فقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا و كتابكم فله أجران، و من آمن
منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: "يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله - و آمنوا برسوله" الآية، فجعل لهم أجرين و زادهم النور و المغفرة
ثم قال: "لئلا يعلم أهل الكتاب".
58 سورة المجادلة - 1 - 6
بِسمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَدْ سمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّتى تجَدِلُك فى
زَوْجِهَا وَ تَشتَكِى إِلى اللّهِ وَ اللّهُ يَسمَعُ تحَاوُرَكُمَا إِنّ
اللّهَ سمِيعُ بَصِيرٌ (1) الّذِينَ يُظهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسائهِم مّا هُنّ
أُمّهَتِهِمْ إِنْ أُمّهَتُهُمْ إِلا الّئِى وَلَدْنَهُمْ وَ إِنهُمْ
لَيَقُولُونَ مُنكراً مِّنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنّ اللّهَ لَعَفُوّ
غَفُورٌ (2) وَ الّذِينَ يُظهِرُونَ مِن نِّسائهِمْ ثمّ يَعُودُونَ لِمَا
قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسا ذَلِكمْ تُوعَظونَ
بِهِ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لّمْ يجِدْ فَصِيَامُ
شهْرَيْنِ مُتَتَابِعَينِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسا فَمَن لّمْ يَستَطِعْ
فَإِطعَامُ سِتِّينَ مِسكِيناً ذَلِك لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسولِهِ وَ
تِلْك حُدُودُ اللّهِ وَ لِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) إِنّ الّذِينَ
يحَادّونَ اللّهَ وَ رَسولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِت الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَ
قَدْ أَنزَلْنَا ءَايَتِ بَيِّنَتٍ وَ لِلْكَفِرِينَ عَذَابٌ مّهِينٌ (5)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا أَحْصاهُ
اللّهُ وَ نَسوهُ وَ اللّهُ عَلى كلِّ شىْءٍ شهِيدٌ (6)
بيان
تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم و أدب و صفة فشطر منها في حكم الظهار و
النجوى و أدب الجلوس في المجالس و شطر منها يصف حال الذين يحادون الله و رسوله،
و الذين يوادون أعداء الدين و يصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين و
يعدهم وعدا جميلا في الدنيا و الآخرة.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله و الله
يسمع تحاوركما" إلخ، قال في المجمع،: الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، و
الشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه.
قال: و التحاور التراجع و هي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام و
تحاورا.
انتهي.
الآيات الأربع أو الست نزلت في الظهار و كان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي
كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه و تحرم عليه مؤبدة و قد
ظاهر بعض الأنصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله وسلم) تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها و تجادله (صلى
الله عليه وآله وسلم) في ذلك و تشتكي إلى الله فنزلت الآيات.
و المراد بالسمع في قوله: "قد سمع الله" استجابة الدعوة و قضاء الحاجة من باب
الكناية و هو شائع و الدليل عليه قوله: "تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله"
الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، و أما قوله: "و
الله يسمع تحاوركما" فالسمع فيه بمعناه المعروف.
و المعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها - و قد ظاهر منها - و
تشتكي غمها و ما حل بها من سوء الحال إلى الله و الله يسمع تراجعكما في الكلام
أن الله سميع للأصوات بصير بالمبصرات.
قوله تعالى: "الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي
ولدنهم" إلخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم و إلغاء لتأثيره بالطلاق و التحريم
الأبدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية تلحق الزوجة بالأم
بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الأم على ولدها حرمة مؤبدة.
فقوله: "ما هن أمهاتهم" أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار
فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: "إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم" أي ليس أمهات
أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم.
ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: "و إنهم ليقولون منكرا من القول و زورا" بما فيه من
سياق التأكيد أي و إن هؤلاء الأزواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول
ينكره الشرع حيث لم يعتبره و لم يسنه، و كذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما
لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا و هذا
لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها و
إن حرمت المواقعة قبل الكفارة.
و قوله: "و إن الله لعفو غفور" لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر
الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: "و تلك حدود الله و للكافرين عذاب
أليم" ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.
قوله تعالى: "و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا" إلخ، الكلام في معنى الشرط و لذلك دخلت الفاء في الخبر لأنه في
معنى الجزاء و المحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم
تحرير رقبة.
و في قوله: "من قبل أن يتماسا" دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد
الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار و هو قرينة على أن المراد بقوله: "يعودون
لما قالوا" إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار.
و المعنى: و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من
كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
و قيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، و فيه أن الندم عليه يصلح أن
يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة "يعودون لما قالوا".
و قيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن
يتلفظوا بها ثانيا و فيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون
الأول و الآية لا تفيد ذلك و السنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده.
ثم ذيل الآية بقوله: "ذلكم توعظون به و الله بما تعملون خبير" إيذانا بأن ما
أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبره بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع
بها ما لحقهم من تبعة العمل.
قوله تعالى: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا" إلى آخر الآية
خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الأولى لمن لا يتمكن منها و هي صيام
شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، و قيد ثانيا بقوله: "من قبل أن يتماسا" لدفع
توهم اختصاص القيد بالخصلة الأولى.
و قوله: "فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا" بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق
صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا و تفصيل الكلام في ذلك كله في
الفقه.
و قوله: "ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله" أي ما جعلناه من الحكم و افترضناه من
الكفارة فأبقينا علقة الزوجية و وضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة
جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و ترفضوا
أباطيل السنن.
و قوله: "و تلك حدود الله و للكافرين عذاب أليم" حد الشيء ما ينتهي إليه و لا
يتعداه و أصله المنع، و المراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من
الأحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة و للكافرين بما حكمنا به في الظهار أو
بما شرعناه من الأحكام بالمخالفة و المحادة عذاب أليم.
و الظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم و الأخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة،
و يؤيده قوله: "ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله" أي تذعنوا بأن حكم الله حق و أن
رسوله صادق أمين في تبليغه، و قد أكده بقوله: "و تلك حدود الله" إلخ، و يمكن أن
يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل و هو العصيان.
قوله تعالى: "إن الذين يحادون الله و رسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم" إلخ،
المحادة الممانعة و المخالفة، و الكبت الإذلال و الإخزاء.
و الآية و التي تتلوها و إن أمكن أن تكونا استئنافا يبين أمر محادة الله و
رسوله من حيث تبعتها و أثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل
الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله و رسوله، و المعنى: إنما أمرناكم
بالإيمان بالله و رسوله و نهيناكم عن تعدي حدود الله و الكفر بها لأن الذين
يحادون الله و رسوله بالمخالفة أذلوا و أخزوا كما أذل و أخزى الذين من قبلهم.
ثم أكده بقوله: "و قد أنزلنا آيات بينات و للكافرين عذاب مهين" أي لا ريب في
كونها منا و في أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، و للكافرين بها الرادين لها
عذاب مهين مخز.
قوله تعالى: "يوم يبعثهم الله فينبؤهم بما عملوا" ظرف لقوله: "و للكافرين عذاب
أليم" أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله و هو يوم الحساب و الجزاء فيخبرهم
بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا.
و قوله: "أحصاه الله و نسوه" الإحصاء الإحاطة بعدد الشيء من غير أن يفوت منه
شيء، قال الراغب: الإحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، و ذلك من لفظ الحصى،
و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على
الأصابع.
انتهي.
و قوله: "و الله على كل شيء شهيد" تعليل لقوله: "أحصاه الله" و قد مر تفسير
شهادة الله على كل شيء في آخر سورة حم السجدة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و
البيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت
ثعلبة و يخفى علي بعضه و هي تشتكي زوجها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) و هي تقول: يا رسول الله أكل شبابي و نثرت له بطني حتى إذا كبر سني و
انقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات
"قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها" و هو أوس بن الصامت.
أقول: و الروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، و اختلفت في اسم
المرأة و اسم أبيها و اسم زوجها و اسم أبيه و الأعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة و
اسم زوجها أوس بن الصامت الأنصاري و أورد القمي إجمال القصة في رواية، و له
رواية أخرى ستوافيك.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "و الذين يظاهرون من نسائهم - ثم يعودون لما
قالوا" فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو
أن المراد بالعود إرادة الوطء و نقض القول الذي قاله فإن الوطء لا يجوز له إلا
بعد الكفارة، و لا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة.
و في تفسير القمي، حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن
الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن امرأة
من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن فلانا
زوجي و قد نثرت له بطني و أعنته على دنياه و آخرته لم تر مني مكروها أشكوه
إليك. قال: فيم تشكونيه؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي و قد أخرجني من
منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنزل
الله تبارك و تعالى كتابا أقضي فيه بينك و بين زوجك و أنا أكره أن أكون من
المتكلفين، فجعلت تبكي و تشتكي ما بها إلى الله عز و جل و إلى رسول الله (صلى
الله عليه وآله وسلم) و انصرفت. قال: فسمع الله تبارك و تعالى مجادلتها لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زوجها و ما شكت إليه، و أنزل الله في ذلك
قرآنا "بسم الله الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله
و إن الله لعفو غفور". قال: فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أ قلت لامرأتك هذه: أنت
حرام علي كظهر أمي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله (صلى الله عليه
وآله وسلم): قد أنزل الله تبارك و تعالى فيك و في امرأتك قرآنا و قرأ: "بسم
الله الرحمن الرحيم - قد سمع الله قول التي تجادلك إلى قوله إن الله لعفو
غفور"، فضم إليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول و زورا، و قد عفا الله عنك
و غفر لك و لا تعد. قال: فانصرف الرجل و هو نادم على ما قال لامرأته، و كره
الله عز و جل ذلك للمؤمنين بعد و أنزل الله: "الذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا" يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. قال: فمن
قالها بعد ما عفا الله و غفر للرجل الأول فإن عليه "تحرير رقبة من قبل أن
يتماسا" يعني مجامعتها "ذلكم توعظون به و الله بما تعملون خبير - فمن لم يجد
فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا - فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا"
قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: "ذلك لتؤمنوا بالله و
رسوله و تلك حدود الله" قال: هذا حد الظهار.
الحديث.
أقول: الآية بما لها من السياق و خاصة ما في آخرها من ذكر العفو و المغفرة أقرب
انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، و لا بأس بها من حيث السند أيضا
غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: "الذين يظاهرون من نسائهم ثم
يعودون لما قالوا".
58 سورة المجادلة - 7 - 13
أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فى السمَوَتِ وَ مَا فى الأَرْضِ مَا
يَكونُ مِن نجْوَى ثَلَثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لا خَمْسةٍ إِلا هُوَ
سادِسهُمْ وَ لا أَدْنى مِن ذَلِك وَ لا أَكْثرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا
كانُوا ثمّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنّ اللّهَ بِكلِّ
شىْءٍ عَلِيمٌ (7) أَ لَمْ تَرَ إِلى الّذِينَ نهُوا عَنِ النّجْوَى ثمّ
يَعُودُونَ لِمَا نهُوا عَنْهُ وَ يَتَنَجَوْنَ بِالاثْمِ وَ الْعُدْوَنِ وَ
مَعْصِيَتِ الرّسولِ وَ إِذَا جَاءُوك حَيّوْك بِمَا لَمْ يحَيِّك بِهِ اللّهُ
وَ يَقُولُونَ فى أَنفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللّهُ بِمَا نَقُولُ
حَسبُهُمْ جَهَنّمُ يَصلَوْنهَا فَبِئْس الْمَصِيرُ (8) يَأَيهَا الّذِينَ
ءَامَنُوا إِذَا تَنَجَيْتُمْ فَلا تَتَنَجَوْا بِالاثْمِ وَ الْعُدْوَنِ وَ
مَعْصِيَتِ الرّسولِ وَ تَنَجَوْا بِالْبرِّ وَ التّقْوَى وَ اتّقُوا اللّهَ
الّذِى إِلَيْهِ تحْشرُونَ (9) إِنّمَا النّجْوَى مِنَ الشيْطنِ لِيَحْزُنَ
الّذِينَ ءَامَنُوا وَ لَيْس بِضارِّهِمْ شيْئاً إِلا بِإِذْنِ اللّهِ وَ عَلى
اللّهِ فَلْيَتَوَكلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا
قِيلَ لَكُمْ تَفَسحُوا فى الْمَجَلِسِ فَافْسحُوا يَفْسح اللّهُ لَكُمْ وَ
إِذَا قِيلَ انشزُوا فَانشزُوا يَرْفَع اللّهُ الّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَ
الّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَتٍ وَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
يَأَيهَا الّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا نَجَيْتُمُ الرّسولَ فَقَدِّمُوا بَينَ
يَدَى نجْوَاشْ صدَقَةً ذَلِك خَيرٌ لّكمْ وَ أَطهَرُ فَإِن لّمْ تجِدُوا
فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ (12) ءَ أَشفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَينَ
يَدَى نجْوَاشْ صدَقَتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تَاب اللّهُ عَلَيْكُمْ
فَأَقِيمُوا الصلَوةَ وَ ءَاتُوا الزّكَوةَ وَ أَطِيعُوا اللّهَ وَ رَسولَهُ وَ
اللّهُ خَبِيرُ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
بيان
آيات في النجوى و بعض آداب المجالسة.
قوله تعالى: "أ لم تر أن الله يعلم ما في السماوات و ما في الأرض" الاستفهام
إنكاري، و المراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، و الجملة تقدمه
يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركا لهم في نجواهم.
قوله تعالى: "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم"
إلى آخر الآية النجوى مصدر بمعنى التناجي و هو المسارة، و ضمائر الإفراد لله
سبحانه، و المراد بقوله: "رابعهم" و "سادسهم" جاعل الثلاثة أربعة و جاعل الخمسة
ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه و معيته لهم في الاطلاع على ما
يسارون فيه كما يشهد به ما احتف بالكلام من قوله في أول الآية: "أ لم تر أن
الله يعلم" إلخ، و في آخرها من قوله: "إن الله بكل شيء عليم".
و قوله: "و لا أدنى من ذلك و لا أكثر" أي و لا أقل مما ذكر من العدد و لا أكثر
مما ذكر، و بهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أيا ما كان أما الأدنى
من ذلك فالأدنى من الثلاثة الاثنان و الأدنى من الخمسة الأربعة، و أما الأكثر
فالأكثر من خمسة الستة فما فوقها.
و من لطف سياق الآية ترتب ما أشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة و الأربعة و
الخمسة و الستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا أربعة
إلا هو خامسهم و هكذا.
و قوله: "إلا هو معهم أينما كانوا" المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون
به و المشاركة لهم فيه.
و بذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين و سادس الخمسة
المتناجين معيته لهم في العلم و مشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا
مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلا منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى
مثله عدد الاثنين و إلى مثليه الثلاثة و الله سبحانه منزه عن الجسمية بريء من
المادية.
و ذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: "ما يكون من نجوى" إلخ، معنى واحد
و هو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: "إلا هو رابعهم" "إلا هو سادسهم" في
معنى قوله: "إلا هو معهم" و هو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم و
يقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه
هناك سميع عليم.
و في قوله: "أينما كانوا" تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من
حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال و لم يختلف باختلاف الأمكنة
بالقرب و البعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان و ليس في مكان.
و بما تقدم يظهر أيضا أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لأصحاب النجوى و كونه
رابع الثلاثة منهم و سادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلا في ذيل قوله
تعالى: "لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة": المائدة: 73، من أن وحدته
تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانيا له
فالمراد بكونه معهم و رابعا للثلاثة منهم و سادسا للخمسة منهم أنه عالم بما
يتناجون به و ظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجودا محدودا يقبل
العد يمكن أن يفرض له ثان و ثالث و هكذا.
و قوله: "ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل و
منه نجواهم و مسارتهم.
و قوله: "إن الله بكل شيء عليم" تعليل لقوله: "ثم ينبئهم" إلخ، و تأكيد لما
تقدم من علمه بما في السماوات و ما في الأرض، و كونه مع أصحاب النجوى.
و الآية تصلح أن تكون توطئة و تمهيدا لمضمون الآيات التالية و لا يخلو ذيلها من
لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم و التهديد.
قوله تعالى: "أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه" إلى
آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوما من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من
المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
و المؤمنين يتناجون بينهم بالإثم و العدوان و معصية الرسول و ليؤذوا بذلك
المؤمنين و يحزنون و كانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات.
فقوله: "أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه" ذم و توبيخ
غيابي لهم، و قد خاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يخاطبهم أنفسهم
مبالغة في تحقير أمرهم و إبعادا لهم عن شرف المخاطبة.
و المعنى: أ لم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغم المؤمنين و
يحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عود بعد عودة، و في التعبير بقوله:
"يعودون" دلالة على الاستمرار، و في العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول و الصلة
حيث قيل: "يعودون لما نهوا عنه" و لم يقل يعودون إليها دلالة على سبب الذم و
التوبيخ و مساءة العود لأنها أمر منهي عنه.
و قوله: "يتناجون بالإثم و العدوان و معصيت الرسول" المقابلة بين الأمور
الثلاثة: الإثم و العدوان و معصية الرسول تفيد أن المراد بالإثم هو العمل الذي
له أثر سيىء لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر و الميسر و ترك الصلاة مما يتعلق من
المعاصي بحقوق الله، و العدوان هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به
الناس و يتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، و القسمان أعني الإثم و
العدوان جميعا من معصية الله، و معصية الرسول مخالفته في الأمور التي هي جائزة
في نفسها لا أمر و لا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة
الأمة بما له ولاية أمورهم و النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن
النجوى و إن لم يشتمل على معصية.
كان ما تقدم من قوله: "الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه" ذما و
توبيخا لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو
غيرها: و هذا الفصل أعني قوله: "و يتناجون بالإثم و العدوان و معصية الرسول" ذم
و توبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها و هؤلاء القوم هم
المنافقون و مرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتم بها المؤمنون و
يحزنوا و يتأذوا.
و قيل: المنافقون و اليهود كان يناجي بعضهم بعضا ليحزنوا المؤمنين و يلقوا
بينهم الوحشة و الفزع و يوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: "الذين نهوا عن النجوى
ثم يعودون لما نهوا عنه" لليهود خفاء.
و قوله: "و إذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله" فإن الله حياه بالتسليم و شرع
له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة و هم كانوا يحيونه بغيره.
قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا:
السام عليك - و السام هو الموت - و هم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، و لا
يخلو من شيء فإن الضمير في "جاءوك" و "حيوك" للموصول في قوله: "الذين نهوا عن
النجوى" و قد عرفت أن في شموله لليهود خفاء.
و قوله: "و يقولون في أنفسهم لو لا يعذبنا الله بما نقول" معطوف على "حيوك" أو
حال و ظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، و هو تحضيض بداعي
الطعن و التهكم فيكون من المنافقين إنكارا لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله
وسلم) على طريق الكناية و المعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيك به الله و هم يحدثون
أنفسهم بدلالة قولهم ذلك - و لو لا يعذبهم الله به - على أنك لست برسول من الله
و لو كنت رسوله لعذبهم بقولهم.
و قيل: المراد بقوله: "و يقولون في أنفسهم" يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم
لبعض و لا يخلو من بعد.
و قد رد الله عليهم احتجاجهم بقولهم: "لو لا يعذبنا الله بما نقول" بقوله:
"حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون
بما أعد لهم من العذاب و هو جهنم التي يدخلونها و يقاسون حرها و كفى بها عذابا
لهم.
و كان المنافقين و من يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي و التشديدات نزل
قوله تعالى: "لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في
المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أين ما ثقفوا
أخذوا و قتلوا تقتيلا": الآيات الأحزاب: 61.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم و العدوان و
معصيت الرسول" إلخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع
الخطر و قد خوطب فيها المؤمنون فأجيز لهم النجوى و اشترط عليهم أن لا يكون
تناجيا بالإثم و العدوان و معصية الرسول و أن يكون تناجيا بالبر و التقوى و
البر و هو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، و التقوى مقابل الإثم ثم أكد
الكلام بالأمر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: "و اتقوا الله الذي إليه
تحشرون".
قوله تعالى: "إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا و ليس بضارهم شيئا إلا
بإذن الله" إلخ، المراد بالنجوى - على ما يفيده السياق - هو النجوى الدائرة في
تلك الأيام بين المنافقين و مرضى القلوب و هي من الشيطان فإنه الذي يزينها في
قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم و يشوش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلت بهم و
بلية أصابتهم.
ثم طيب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الأمر إلى الله سبحانه و أن
الشيطان أو التناجي لا يضرهم شيئا إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه و لا يخافوا
ضره و قد نص سبحانه في قوله: "و من يتوكل على الله فهو حسبه": الطلاق: 3 إنه
يكفي من توكل عليه، و استنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن
يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم.
و هذا معنى قوله: "و ليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله و على الله فليتوكل
المؤمنون".
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح
الله لكم" إلخ، التفسح الاتساع و كذا الفسح، و المجالس جمع مجلس اسم مكان، و
الاتساع في المجلس أن يتسع الجالس ليسع المكان غيره و فسح الله له أن يوسع له
في الجنة.
و الآية تتضمن أدبا من آداب المعاشرة، و يستفاد من سياقها أنهم كانوا يحضرون
مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيجلسون ركاما لا يدع لغيرهم من الواردين
مكانا يجلس فيه فأدبوا بقوله: "إذا قيل لكم تفسحوا" إلخ، و الحكم عام و إن كان
مورد النزول مجلس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم توسعوا في المجالس ليسع المكان معكم
غيركم فتوسعوا وسع الله لكم في الجنة.
و قوله: "و إذا قيل انشزوا فانشزوا" يتضمن أدبا آخر، و النشوز - كما قيل -
الارتفاع عن الشيء بالذهاب عنه، و النشوز عن المجلس أن يقوم الإنسان عن مجلسه
ليجلس فيه غيره إعظاما له و تواضعا لفضله.
و المعنى: و إذا قيل لكم قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى
فقوموا.
و قوله: "يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات" لا ريب في أن
لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى، و هذا قرينة عقلية على
أن المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم العلماء من المؤمنين فتدل الآية على انقسام
المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن و مؤمن عالم، و المؤمن العالم أفضل و قد قال تعالى:
"هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون": الزمر: 9.
و يتبين بذلك أن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم و
يبقى لسائر المؤمنين من الرفع الرفع درجة واحدة و يكون التقدير يرفع الله الذين
آمنوا منكم درجة و يرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات.
و في الآية من تعظيم أمر العلماء و رفع قدرهم ما لا يخفى.
و أكد الحكم بتذييل الآية بقوله: "و الله بما تعملون خبير".
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة" إلخ، أي إذا أردتم أن تناجوا الرسول فتصدقوا قبلها.
و قوله: "ذلك خير لكم و أطهر" تعليل للتشريع نظير قوله: "و أن تصوموا خير لكم":
البقرة: 184، و لا شك أن المراد بكونها خيرا لهم و أطهر أنها خير لنفوسهم و
أطهر لقلوبهم و لعل الوجه في ذلك أن الأغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يظهرون بذلك نوعا من التقرب إليه و الاختصاص
به و كان الفقراء منهم يحزنون بذلك و ينكسر قلوبهم فأمروا أن يتصدقوا بين يدي
نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس و إثارة الرحمة و الشفقة و
المودة و صلة القلوب بزوال الغيظ و الحنق.
و في قوله: "ذلك" التفات إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين خطابين
للمؤمنين و فيه تجليل لطيف له (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث إن حكم الصدقة
مرتبط بنجواه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الالتفات إليه فيما يرجع إليه من
الكلام مزيد عناية به.
و قوله: "فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم" أي فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به
فلا يجب عليكم تقديمها و قد رخص الله لكم في نجواه و عفا عنكم إنه غفور رحيم
فقوله: "فإن الله غفور رحيم" من وضع السبب موضع المسبب.
و فيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في
قوله: "فقدموا" إلخ، و وجوبه على الموسرين.
قوله تعالى: "أ أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات" إلخ، الآية ناسخة لحكم
الصدقة المذكور في الآية السابقة، و فيه عتاب شديد لصحابة النبي (صلى الله عليه
وآله وسلم) و المؤمنين حيث إنهم تركوا مناجاته (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفا
من بذل المال بالصدقة فلم يناجه أحد منهم إلا علي (عليه السلام) فإنه ناجاه عشر
نجوات كلما ناجاه قدم بين يدي نجواه صدقة ثم نزلت الآية و نسخت الحكم.
و الإشفاق الخشية، و قوله: "أن تقدموا" إلخ، مفعوله و المعنى: أ خشيتم التصدق و
بذل المال للنجوى، و احتمل أن يكون المفعول محذوفا و التقدير أ خشيتم الفقر
لأجل بذل المال.
قال بعضهم: جمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة
لأنه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الأمر و تقديم صدقات.
و قوله: "فإذ لم تفعلوا و تاب الله عليكم فأقيموا الصلاة و آتوا الزكاة" إلخ،
أي فإذ لم تفعلوا ما كلفتم به و رجع الله إليكم العفو و المغفرة فأثبتوا على
امتثال سائر التكاليف من إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة.
ففي قوله: "و تاب الله عليكم" دلالة على كون ذلك منهم ذنبا و معصية غير أنه
تعالى غفر لهم ذلك.
و في كون قوله: "فأقيموا الصلاة" إلخ، متفرعا على قوله: "فإذ لم تفعلوا" إلخ،
دلالة على نسخ حكم الصدقة قبل النجوى.
و في قوله: "و أطيعوا الله و رسوله" تعميم لحكم الطاعة لسائر التكاليف بإيجاب
الطاعة المطلقة، و في قوله: "و الله خبير بما تعملون" نوع تشديد يتأكد به حكم
وجوب طاعة الله و رسوله.
بحث روائي
في المجمع،: و قرأ حمزة و رويس عن يعقوب "ينتجون" و الباقون "يتناجون" و يشهد
لقراءة حمزة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي (عليه السلام) لما قال
له بعض أصحابه: أ تناجيه دوننا؟ ما أنا انتجيته بل الله انتجاه.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البزار و ابن المنذر و الطبراني
و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان بسند جيد عن ابن عمر: أن اليهود كانوا
يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم
يقولون في أنفسهم: "لو لا يعذبنا الله بما نقول" فنزلت هذه الآية "و إذا جاءوك
حيوك بما لم يحيك به الله".
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس: في هذه الآية
قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سام عليك
فنزلت.
أقول: و هذه الرواية أقرب إلى التصديق من سابقتها لما تقدم في تفسير الآية، و
في رواية القمي في تفسيره أنهم كانوا يحيونه بقولهم: أنعم صباحا و أنعم مساء، و
هو تحية أهل الجاهلية.
و في المجمع،: في قوله تعالى: "يرفع الله الذين آمنوا منكم - و الذين أوتوا
العلم درجات": و قد ورد أيضا في الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فضل
العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبي على العالم
درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، و فضل العالم على
سائر الناس كفضلي على أدناهم: رواه جابر بن عبد الله.
أقول: و ذيل الرواية لا يخلو من شيء فإن ظاهر رجوع الضمير في "أدناهم" إلى
الناس اعتبار مراتب في الناس فمنهم الأعلى و منهم المتوسط، و إذا كان فضل
العالم على سائر الناس و فيهم الأعلى رتبة كفضل النبي على أدنى الناس كان
العالم أفضل من النبي و هو كما ترى.
اللهم إلا أن يكون أدنى بمعنى الأقرب و المراد بأدناهم أقربهم من النبي و هو
العالم كما يلوح من قوله: و فضل النبي على العالم درجة، فيكون المفاد أن فضل
العالم على سائر الناس كفضلي على أقربهم مني و هو العالم.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن راهويه و ابن أبي شيبة و عبد بن
حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن علي قال: إن
في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي و لا يعمل بها بعدي آية النجوى "يا أيها
الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول - فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" كان عندي دينار
فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدمت بين
يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت "أ أشفقتم أن تقدموا بين يدي
نجواكم صدقات" الآية.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته
عن قول الله عز و جل: "إذا ناجيتم الرسول - فقدموا بين يدي نجواكم صدقة" قال:
قدم علي بن أبي طالب (عليه السلام) بين يدي نجواه صدقة ثم نسخها بقوله: "أ
أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات".
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر من طرق الفريقين.
|